تقدم الكلام في الآيات الشريفة الدالة على اشتراط العدالة في الحاكم من جهة التعبد والحكم التكليفي ومن جهة الأهلية والكفاءة والحكم الوضعي. وأما الروايات فهي طائفة أيضاً كبيرة ومتوافرة دلت على لزوم كون الحاكم عادلاً وعدم جواز أن يكون فاسقاً أو ظالماً بعضها ورد بصيغة الاستثناء والإثبات بعد النفي فيدل على الحصر منها ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) في أصول الكافي بسنده عن حناء عن أبيه عن الباقر (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال وقد عد من هذه الخصال بل أولاها ورع يحجزه عن محارم الله ومنها ما في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب في الحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة والمراد من قوله (عليه السّلام) ينبغي فيه احتمالان:

- أحدهما: الكراهة كما هو المشهور وفي بعض كتب اللغة ينبغي أن يندب ندباً مؤكداً لا يحسن تركه ولعله المشهور في اصطلاح الفقهاء أيضاً.

- ثانيهما: الحرمة خصوصا في ما نحن فيه وذلك إما لوجود القرينة وهو مناسبة الحكم والموضوع بلحاظ أن المقام هنا مقام الحكومة والرئاسة أو للظهور العرفي وربما يقال أنه في اللغة أيضاً كذلك ففي مجمع البحرين ما ينبغي أي ما يصلح وفي المصباح عن الكسائي وما يستقيم وما يحصر فإذا ضممنا إليه القرينة العقلية الحاكمة بأن ما نهى عنه الشارع بعنوان لا ينبغي معناه أنه لا يصلح لذلك فينضم إليه حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل أو الموهون في الموارد الخطيرة كمسائل الحكومة والدولة وما أشبه ذلك أو بضميمة حق الطاعة الذي ذهب إليه بعض الأصوليين من المعاصرين فإنه يفيدنا الوجوب وربما يؤيد ذلك طائفة من الآيات الشريفة والروايات التي استعمل فيها الفعل ينبغي وأريد منه النفي الحتمي أو النهي المؤكد منها قوله سبحانه وتعالى: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) وقال سبحانه: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وفي صحيحة زرارة المشهورة في باب الاستصحاب ورد قوله (عليه السّلام) فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً وقد استفاد الفقهاء والأصوليون من مثل هذه الصيغة هو عدم جواز نقض اليقين بالشك وكيف كان فدلالة الكلام على اعتبار العدالة واضحة. والظاهر أن قوله (عليه السّلام) وقد علمتم يفيد تحقيق العلم لكن في مصدر هذا العلم احتمالات:

- أحدها: علمتم من الآيات القرآنية التي وردت مؤكدة على وجوب اشتراط العدالة في الولاية وقد عرفت بعضها مما تقدم.

- ثانيها: من بيانات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيفيدان ضابطة شرعية.

- ثالثها: مما رأوه من أعمال من سبق الإسلام من سيرة عقلاء الناس فتفيدنا قاعدة عقلائية مستفادة من السيرة.

- رابعها: من المرتكز لدى كل سليم الفطرة أن الولاية والحكومة أمانة ورسالة وينبغي أن يكون الوالي جديراً ولائقاً بهما ومن كان ظالماً فاسقاً بخيلاً ونحو ذلك من رذائل الأخلاق ومساوئ الصفات لا يليق بهذا المقام فتفيدنا رابطة فطرية مرتكزة في النفوس من وجوب كون الوالي عادلاً لكونها الضد الثاني للفسق ومن الأخبار ما ورد عن مولانا سيد الشهداء (عليه الصلاة السّلام) فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائم بدين الله الحابس نفسه على ذات الله. ومنها ما عن مولانا جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفساق كناية عن القضاة الذين نصبوهم الحكام الظلمة لكونهم من الظلمة والفاسقين ومن الواضح أن إياكم تحذير فيستفاد منه الحرمة والرواية وإن كانت ظاهرة في باب حكومة القضاء ولكنها تدل على ما نحن فيه إما بالأولوية أو بفهم عدم الخصوصية أو فهم عدم الخصوصية.

ومن الروايات ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) اتقوا الله وأطيعوا إمامكم فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل ألا وأن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر والمستفاد منها أمور من أهمها اثنان:

- أحدهما: وجوب طاعة الحاكم العادل فتدل بمفهوم المخالفة أو باللازم العقلي على حرمة إطاعة الفاسق وإلا لزم تساوي العادل والفاسق وهو باطل عقلاً وشرعاً قال سبحانه: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون).

- ثانيهما: أن بين الحاكم والأمة علاقة متبادلة ومتكاملة في الصلاح والفساد فإن المستفاد من الباء الظاهرة في السببية في صدر الرواية وغيرها هو أن الرعية الصالحة لا تولي على نفسها إلا الصالحين والرعية الفاجرة لا تولي إلا الفاجرين كما أن الحاكم الصالح يبني رعية صالحة والفاجر يجمع رعية فاجرة ولذا فإن الأولى تنجو بالإمام العادل والثانية تهلك بالإمام الفاجر ولعل هذا هو المستفاد من طائفة أخرى من الأخبار منها ما في نهج البلاغة (ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهائها وتجارها فيتخذ مال الله دولاً وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً). وفي نهج البلاغة أيضاً خطاب لعثمان يقول (عليه السّلام) فاعلم أن افضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة وأن شر الناس عند الله إمام جائر ظل وظل به فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة وإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عادل يلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها إلى غير ذلك من الروايات.

ومن الروايات الدالة على شرط العدالة في الحاكم والسلطان ما رواه في الكافي بسند صحيح عن هشام ابن سالم وحفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: قيل له بأي شيء يعرف الإمام قال بالوصية الظاهرة وبالفضل إن الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج فيقال كذاب ويأكل أموال الناس وما أشبه هذا.

وفي تحف العقول عن مولانا الصادق (عليه السّلام) بيان تفصيلي لوجوه حرمة تولي حكام الجور والفسق وما أشبه ذلك وبخلافه لزوم تولي أئمة العدل من قوله (عليه السّلام) نذكر هذا المقطع قال فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته وولاية ولاته وولاة ولاته بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل الله به ولا نقصان منه ولا تحريف لقوله ولا تعد لأمره إلى غيره فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلل وحلال الكسب معهم وذلك أن في ولاية والي العدل وولاته إحياء كل حق وعدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعياً إلى طاعة الله ومقوياً لدينه وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته الرئيس منهم وأتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم باب من أبواب الولاية على من هو وال عليه والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرم معذب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأن كل شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرائعه فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة ولا يخفى عليك أن هذه الرواية أمارات الصدق والصحة والاعتبار عليها لائحة كما أنها مشهورة في العمل بها بين الفقهاء على ما يظهر من مكاسب الشيخ الأنصاري ومن تأخر عنه في المكاسب المحرمة. فالظاهر أن الرواية معتبرة من ناحية السند فضلاً عن ما ذكره في ديباجة تحف العقول الذي روى الرواية ما يؤكد على اعتبارها حيث قال وأسقطت الأسانيد تخفيفاً وإيجازاً وإن كان أكثره لي سماعاً ولأن أكثره آداباً وحكم تشهد لأنفسها إلى غير ذلك من أمارات الاعتبار فالظاهر أنه من ناحية السند لا ينبغي التوقف وأما من ناحية الدلالة فهي صريحة لا غبار عليها في أن أجهزة الحكومات بكل مراتبها ووظائفها وسلسلة الأجهزة والنظام الحاكم إن كان الحاكم الأعلى فيه ظالماً فلا يجوز التولي من كبار الوظائف إلى صغارها بخلاف ما إذا كان الحاكم عادلاً لما عرفت من توجيهات الحلية والحرمة في الرواية هذا مضافا إلى ما ورد من الأخبار المتضافرة مما يؤيد هذا المضمون منها رواية الفضل بن شاذان حيث جاء فيها أنه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً حافظاً مستودعاً لدرست الملة.

ومنها رواية السكوني عن مولانا الصادق (عليه السّلام) عن آبائه (عليهم السّلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة ومن لاقى لهم دواة أو ربط كيسا أو مد لهم مدة قلم فاحشروهم معهم.

وفي رواية أخرى عن كتاب وران عنه (عليه السّلام) إذا كان يوم القيامة نادى منادي أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى ما انبرى لهم قلماً ولاقى لهم دواة قال فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أن ولاية الفاسق في ذاتها حرام شرعاً كما أن تنصيب الأمة للفاسق عليها هو أيضاً حرام كما أن المعاونة والعمل معهم أيضاً حرام بخلاف الوالي العادل فيدل على أن العدالة شرط من شرائط شرعية الحكم والحاكم هذا بعض ما يرتبط بالآيات والروايات.

وأما الإجماع فهو الظاهر من كلمات الأعلام في مثل باب القضاء والحدود والتعزيرات ونحوها فيشمل الحكم والسلطة بالأولوية ولو نوقش فيه بعدم تعرض جمع من الفقهاء إلى المسألة فكيف توصلتم منها إلى الإجماع يقال فيه أن عدم تعرضهم لا ينفي اتفاقهم مع تصريحهم في باب القضاء ونحوه باشتراط العدالة فضلاً عن وجود النصوص الكافية في الاشتراط وما يقال من أنه حينئذ مستند أو محتمل الاستناد مردود من جهة القول بحجية الإجماع المستند فضلاً عن محتمل الاستناد من باب بناء العقلاء لا الكاشفية عن قول المعصوم وهو يكفي في حجيته المستقلة على ما حقق في الأصول وارتضيناه هناك أو يكون من باب الإجماع على الكبرى الجاري فيما نحن فيه أيضاً وعليه فالظاهر أن الإجماع مما لا إشكال فيه.

وأما العقل فيمكن الاستدلال به على اشتراط العدالة يمكن تقريبه من جهات عدة نذكر منها جهتين:

- إحديهما: انه بعد الإجماع على اعتبار العدالة في إمام الجمعة والجماعة والشاهد والقاضي وما أشبه فاعتبارها في الإمام والحاكم الذي هو القدوة في جميع الشؤون وبيده حقوق الناس وأعراضهم وأموالهم ويسلط على كل هذه الشؤون يكون آكد بل الحق أن تعيين إمام الجمعة والعيدين من شؤون الإمام الحاكم وهو الأحق بإقامتهما مع حضوره كما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) إذا قدم الخليفة مصراً من الأمصار جمع الناس ليس ذلك لأحد غيره إلى غير ذلك من الأدلة فيستفاد من الأولوية العقلية وجوب اشتراط العدالة.

- ثانيهما: أن إمامة المسلمين مقام إلهي شامخ فإن كانت من قبل الله تعالى فمن البعيد جداً عن مقتضى اللطف الإلهي بل يقبح ذلك عقلاً أن يرتضي الباري عز وجل أن ينصب على الأمة إماماً جائراً فاسقاً ويحكم بلزوم الانقياد والطاعة له وإن كانت بانتخاب الأمة فالعقل يحكم بقبح الحاكم الظالم الجائر وتسليطه على الدماء والأعراض والتسليم له وإطاعته وبذلك يظهر وجه الضعف فيما ذهب إليه جمهور العامة من وجوب إطاعة الحاكم الفاسق أو الجائر حتى لو تسلط على الحكم بالقوة والسيف فإنه مضافاً إلى منافاته للنص والإجماع والعقل مناف لما رووه أيضاً في جملة من المصادر من النهي عن إطاعة العصاة مطلقاً كما في بعض الأخبار منها ما في كنز العمال عن أحمد عن أنس لا طاعة لمن لم يطع الله. وفي بعضها النهي عن الطاعة في جهة المعصية كما في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ومثل هذا الخبر رواه في المصنف عبد الرزاق الصنعاني أيضاً وغيرهم من أعلام العامة وأي معصية أشد من تولي الظلمة والفسقة على شؤون الناس والدولة بالقوة والقهر.

- الشرط الثاني: من شرائط الترشيح هو العلم والفقاهة والمقصود منه الفقاهة والعلم بالإسلام وبمقرراته اجتهاداً فلا يصح إمامة الجاهل بالإسلام وبمقرارته أما شرط الفقاهة والاجتهاد فهو ما قامت عليه الأدلة الأربعة كما عرفت في أدلة ولاية الفقيه وعليه فلا إشكال في وجوب كون الحاكم مجتهداً لو كان الفقيه هو المتصدي للحكومة وأما لو تصدى لها غيره بالإذن أو التنصيب من قبل الفقيه الجامع للشرائط أو من قبل مجلس شورى الفقهاء فيكفي فيه العلم والكفاءة وأما في جواز تصدي المقلد مستقلاً ففيه قولان:

- الأول: العدم توقفاً في المورد على موضع النص والإجماع بل والعقل أيضاً لأن التقليد يوجب أن يكون تابعاً للغير في أخذ الاحكام وهذا يتناقض مع منصب الرئاسة العليا لأنه يقتضي أن يكون هو المتبوع وهو القدوة والأسوة لغيره فيتنافى مع الحكومة والرئاسة.

- الثاني: الجواز لجهة أن الملاك في الحكومة والحاكم هو تطبيق العدل والحق لكونهما مطلوبين لذاتهما ولا خصوصية للاجتهاد والفقاهة إلا الطريقية إلى ذلك فما دام الحاكم المقلد متبعاً لرأي الفقيه يكفي في تحقيق الغرض وربما يؤيده أنه يكفي في شرعية الحكم أن يكون صادراً عن الفقيه الجامع للشرائط والحكم أو القرار الصادر من المقلد كذلك مضافاً إلى التنظير بجواز تولي الحاكم غير الفقيه بإذنه أو نصبه لكون التقليد يتضمن الإذن ما دام المقلد ملتزم بفتوى الفقيه هذا وربما يمكن التفصيل بينما إذا كان المتصدي يرجع إلى الفقيه في تصريف شؤون الحكم والدولة فيجوز والاستقلال فلا يجوز إلا إذا كانت هناك ضرورة من جهة عدم وجود الفقيه أو عدم القدرة على الرجوع إليه وما أشبه فحينئذ ربما يقال بالجواز للعناوين الثانوية من أدلة الحسبة والميسور والأهم والمهم وحفظ النظام ودفع الضرر ونحوها وكيف كان فإنه يدل على اشتراط العلم مضافاً إلى ما مر من حكم العقل وبناء العقلاء الآيات والروايات من طرق الفريقين أما الآيات فطائفة منها قوله سبحانه وتعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) ويمكن تقريب الاستدلال في الآية من وجهين:

- أحدهما: عقلي وذلك من جهة أن الحق مطلوب لذاته بمقتضى العقل النظري وينبغي العمل به بمقتضى العقل العملي وحيث أن الحكومة طريق إليه وجب القيام بها وكذلك حيث أن الحاكم هو الموصل إليه وجب إطاعته لكن الحاكم في الوجود الخارجي على صنفين جاهل وعالم وفي مقام التفاضل فإنه لا مجال للمقارنة بينهما بداهة أن الجاهل هو فاقد للهداية وبحاجة إلى مهدي وفاقد الشيء لا يعطيه فيثبت وجوب نصب العالم والاقتداء به.

- ثانيهما: من جهة الذنب والاستنكار في ذيل الآية على من يساوي بين الفاقد والواجد والهادي والمهتدي وهو قبيح لأنه يستلزم مساواة النقص والكمال والفضيلة والرذيلة فإذا رجح الجاهل يستلزم ترجيح المرجوح وهو أقبح فيتعين نصب العالم واتباعه أيضاً هذا بناء على المشهور من انسلاخ صيغة التفضيل في الآية الشريفة من التفاضل تنظيراً لمثل قوله تبارك وتعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقوله عز وجل ( فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) وأما بناء على التفاضل فتشير الآية إلى قضية فطرية قامت عليها سيرة العقلاء في تقديم الأفضل والأكفأ والأعلم وذم تقديم غيره عليه ولو تقدم الغير وأخطأ أو أساء وجدوه مذموماً مستحقاً للعقاب وكذلك من اتبعه واقتدى به في ذلك بخلاف العالم الكفوء ولولا فهمهم الإلزام والوجوب لما حكموا باستحقاق العقاب وعليه فإنه حتى على القول بالتفاضل في الآية فإن الفطرة والسيرة يمنعان من الحمل على حق للجاهل في تولي الحكم فيتعين العالم لعدم الثالث بينهما.

ومن الآيات قوله تبارك وتعالى في قصة طالوت: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) وتقريب الاستدلال هو أن الاصطفاء بمعنى الاختيار والاستخلاص وهنا يحتمل أن يكون تشريعياً فيدل على النصب الشرعي ويحتمل أن يكون تكوينياً فيدل على الوضع والمؤهلات الذاتية ولكن الكلام في أن الاصطفاء هنا هل هو علة لزيادة العلم والجسم أو معلول احتمالان في المسألة يرجعان إلى الظهور أو القرينة العقلية ولا يبعد إمكان الجمع بينهما لجهة اقتضاء الحكمة الإلهية وأفعال الحكيم المعللة بالأغراض أن لا يقع الاختيار على عبد من العباد في مهمة ربانية أو وظيفة دينية ونحوها إلا بعد وجود المقتضي وانعدام المانع ومن خصوصيات المقتضي فيما نحن فيه هو العلم والكفاءة والقوة بداهة قباحة اختيار الجاهل والعاجز والضعيف ومن خصوصيات عدم المانع هو التعيين والتنصيب وعليه فإن وجود المقتضي علة للاصطفاء كما أنه لولا الاصطفاء لم يتعين للحكومة من اصطفيه لتوقف التعيين على انعدام المانع فيثبت توقف أحدهما على الآخر ولا يخفى ما في ذلك من الإشارة إلى لزوم توفر الشرائط مع الاختيار والانتخاب في شرعية الحكم والحاكم لكن كلاً بحسبه ولعل مما يعضد ذلك آيات أيضاً منها قوله عز وجل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) فإن المستفاد من الآية أن العالم مقدم على غيره وأن تقديم المفضول على الفاضل لا يصدر إلا من لا لب له لكونه قبيحاً هذا بعض ما ربما يمكن أن يستدله من الآيات لاشتراط العلم والإشكال عليه للخروج المورد لجهة أن الآيات واردة في شؤون المعصومين (عليهم السّلام) فقد عرفت جوابه مما تقدم من أن المورد لا يخصص الوارد خصوصاً على مبنى تفسير الآيات فيهم (عليهم السلام) من باب المصداق أو أظهر المصاديق.

وأما الروايات الدالة على اعتبار العلم بل الاعلمية في الحاكم فهي متظافرة ولا يبعد تواترها إجمالا أو معنى منها ما في نهج البلاغة أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبا قوا تلك والشغب تهييج الفساد لغة والاستعتاب هو الاسترضاء وقد عرفت الكلام في صيغة التفضيل ودلالتها على الإلزام فيما نحن فيه وبذلك يظهر وجه الإشكال فيما ورد في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي تفسيراً لهذا القول من قوله أن هذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول لأنه ما قال إن إمامة غير الأقوى فاسدة ولكنه قال إن الأقوى أحق وأصحابنا لا ينكرون أنه (عليه السّلام) أحق مما تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه (عليه السّلام) أحق وبين صحة إمامة غيره أقول فإنه يرد عليه أن تقديم غير الفاضل على الفاضل قبيح وحيث أن الباري عز وجل يتنزه عنه فلا مجال للقول بصحة ارتضاءه للمفضول مع وجود الفاضل وذلك لأن ما يلزم منه القبيح قبيح هذا مضافاً إلى القرينة الداخلية في الحديث الدالة على مقاتلة المشاغب الآبي عن قبول تقديم الأعلم والأفضل فإنه لولا حرمة ذلك وعصيانه بمخالفته لم يجز مقاتلته كما لا يخفى هذا والمستفاد من ذلك أيضاً أمور:

- أحدها: شرعية حكومة الأعلم والأفضل ووجوب إطاعته.

- ثانيها: أن الخروج عنه ورفض حكومته يعد بغياً فيجب قتاله إن لم يرجع إلى الحق والصواب قال سبحانه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بين أخويكم فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).

- ثالثها: أن تقديم المفضول على الفاضل يستلزم تراجع الأمة وتأخرها وهزيمتها وهذا ما يشير إليه وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما ولت أمة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا يعني الولاية كما وردت الرواية في كتاب سليم بن قيس وكذلك روى البرقي أيضاً في المحاسن عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال من أم قوماً وفيهم أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة والظاهر أنه لا وجه لحمل الخبر على خصوص إمام الجماعة بعد فهم عدم الخصوصية فيه أو عدم فهم الخصوصية فيه وعلى فرض الحمل عليه فإنه يدل على ما نحن فيه بالأولوية العقلية حينئذٍ والظاهر أن هذين الخبرين قد ورد مضمونهما في طائفة من الأخبار على ما يظهر من غاية المرام للبحراني عن مجالس الشيخ الطوسي بسنده عن علي بن الحسين عن الحسن بن علي (عليهم السلام) في خطيته بمحضر معاوية كما ورد أيضاً بسند آخر إلى غير ذلك ما يؤكد هذا المضمون هذا ولا يخفى أن المراد بالقوة في قوله (عليه الصلاة السّلام) إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه هو القدرة على الولاية المفوضة عليه بشؤونها المختلفة فتشمل كمال العقل والتدبير والشجاعة وحسن السياسة والإدارة وما أشبه ذلك من خصوصيات الحاكم والرئيس.

ومن الروايات ما أورده الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) في الاختصاص عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من تعلم علما ليباري به السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه يقول أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار ثم قال إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة وصيغة التفضيل في أعلم كاشفة عن مفروغية شرط العلم في الحاكم بل صريحة في وجوب تقديم العلم فضلاً عن القول بجواز تقديم الجاهل وما أشبه مما يستفاد منه من لزوم تقديم الأعلم فالأعلم إلى الرئاسة إن أمكن تحديده بالطرق المجعولة شرعاً وقد ذكر الفقهاء بعضها في كتاب الاجتهاد والتقليد من الفقه وإلا أخذ بالظن العقلائي لأنه اخذ بالاحتياط وبالسيرة الممضاة من قبل الشرع وبل والمنصوص عليها أيضاً كما في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى معاوية كما في شرح ابن أبي الحديج المعتزلي جاء فيه فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديماً وحديثاً أقربها من الرسول واعلمها في الكتاب وأفقهها في الدين وقد مر عليك في صحيحة العيص بن القاسم عن مولانا الصادق (عليه السّلام) قوله وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ومن الأخبار ما ورد في الغرر وتحف العقول وغيرها من المصادر سنتعرض إليها في البحث القادم إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..

المادة
الملف
fekeh_dawla 42.doc (78.54 KB)
mp3
fekeh_daola42.mp3 (10.49 MB)

Scientific activities and events