تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 224
إلى صفحة: 258
النص الكامل للبحث: PDF icon 1-7.pdf
خلاصة البحث:

لابد لي وأنا أكتب شيئاً موجزاً عن أحمد بن يوسف الكاتب المتوفى سنة مائتين وثلاث عشرة للهجرة، وعما قاله بعض القدماء والمحدثين في اسلوبه من الآراء الفنية مع تحليل نصوص من رسائله.ولكي أكتب ذلك، فمن الجدير بي أن أكون مطلعاً على أكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع التي تتناول ذلك الكاتب، وقد توفر لي بعض ذلك، بيد أني عزفت عن الجانب التاريخي لقلة أخبار ذلك الكاتب، وقد توفر لي بعض ذلك، بيد أني عزفت عن الجانب التاريخي لقلة أخبار ذلك الكاتب وضياع معظم رسائله أو طمسها. ولذلك ستجدني في هذا البحث الموجز أنزع إلى الجانب التحليلي.

البحث:

المقدمة:

لابد لي وأنا أكتب شيئاً موجزاً عن أحمد بن يوسف الكاتب المتوفى سنة مائتين وثلاث عشرة للهجرة، وعما قاله بعض القدماء والمحدثين في اسلوبه من الآراء الفنية مع تحليل نصوص من رسائله.

ولكي أكتب ذلك، فمن الجدير بي أن أكون مطلعاً على أكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع التي تتناول ذلك الكاتب، وقد توفر لي بعض ذلك، بيد أني عزفت عن الجانب التاريخي لقلة أخبار ذلك الكاتب، وقد توفر لي بعض ذلك، بيد أني عزفت عن الجانب التاريخي لقلة أخبار ذلك الكاتب وضياع معظم رسائله أو طمسها.

ولذلك ستجدني في هذا البحث الموجز أنزع إلى الجانب التحليلي.

وهذا أمر يتناسب وواقع الحال والمقام، تاركاً الجوانب الأخرى للكاتب لظروف قادمة إن شاء الله، وسأقوم بجمع ما أجده من أخباره ورسائله وتوقيعاته وشعره ليكون كتاباً وتحت اشراف ومراجعة ودقة تحقيق.

وقد استعنت بأجهزة الاتصالات (الأنترنت) لمراكز البحوث في العالم، ومنها بحوث العمليات الدقيقة لكشف ما كتب عن هذا الرجل، فلم أجد من المحدثين من قام بدراسته أو تحليل نصوصه، ولذلك كان هذا البحث جديداً غير مدروس، ودليلي في ذلك ما جاء بنتائج بحوث عمليات مكتبة الكونغرس عنه في الكتب والدوريات باللغتين العربية والانكليزية، واجد المتلقي الكريم واثقاً من جدة هذا البحث إن شاء الله.

أحمد بن يوسف الكاتب:

هو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب (1)، وكنيته أبو جعفر، (من قرية من قرى الكوفة تعرف بِدُبا) (2)، وذكر أبو بكر الصولي بأن صبيحاً عبد لبعض بني عجل ثم اعتق(3).

ولم أجد من تحدث عن تاريخ ولادته، ولكن المصادر تشير إلى أنه ترعرع في عائلة امتهنت الكتابة، فجده وأبوه كانا كاتبين للدواوين (4)، فنشأ أحمد نشأة أحبت الكتابة واهتدت إلى خصائصها وموجباتها، وأنه فطن إلى أدوات الملك وآداب السلاطين، فختم بذكائه وسرعة خاطره شؤون المهنة، وشب على المروءة والكرم وكان له فيهما قصص (5)، ومضى صدى اسمه يشع في ساحة الأدب متكلماً وشاعراً، يتصف بجودة الكلام وفصاحة اللسان وملاحة الخط (6)، وكان قد عرف بحب المرح وتعاطى الشراب والأنس (7)، وله في ذلك مجالس (8).

وكان قد رآه عبد الحميد بن يحيى الكاتب فأعطاه ارشادات في تحسين الخط (9).

كل ذلك قد هيأ له الأدوات المرشحة من الخبرة والتجربة والثقافة والذوق ليكون كاتباً متمكناً بحق، فذاع خبره بين الناس بليغاً لا معاً.

المبحث الأول

1- أحمد بن يوسف والرسائل الديوانية

كيف ولي ديوان الرسائل؟ ذكرت المصادر (10) ان أول ما ارتفع به كان بعد مقتل الأمين العباسي سنة 198هـ مائة وثمان وتسعين، ذكرت روايتين، أولاهما: ان طاهر بن الحسين – كبير قواد المأمون- أمر الكتاب أن يكتبوا إلى المأمون فأطالوا، وحين وصف له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة، أحضره لذلك، فكتب "أما بعد، فان المخلوع قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرّق بينهما حكم الكتاب والسنّة في الولاية والحرمة بمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن اجماع المسلمين، لقول الله عز وجل فيما اقتص علينا من أنباء نوح وابنه )يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح(، ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة ما كانت في ذات الله، وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد انجز الله له ما كان ينتظر من سابق وعده، والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين بحقه، الكائد له فيمن خان عهده، ونقض عقده، حتى رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الدين بعد دروسها، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته" (11).

وأما الرواية الثانية، فتقول المصادر (12) بأن ذا الرياستين الفضل بن سهل _ وزير المأمون _، لما أدخل رأس الأمين على أخيه المأمون، أدخله على ترس بيده، فلما رآه سجد، ثم صدر الأمر من المأمون بانشاء كتاب يقرأ على الناس، فكتبت عدة كتب لم يرضها واستطالها، فكتب أحمد بن يوسف هذا الكتاب، فلما عرض النسخة على ذي الرياستين فاستساغها وطلب من أحمد أن يجلس في الديوان وليقعد جميع الكتاب بين يديه، وليكتب إلى الآفاق.

وسواء أصحّت الرواية الأولى أم الثانية، فان أحمد بن يوسف قد كتب ما ارتفع به نجمه، وولي ديوان الانشاء، والذي يهمنا في الأمر أن نتعرف على أسلوب تلك ارسالة وما حملته من مضامين:

والرسالة على دقة تعبيرها ووضوح مفرداتها، فقد بدأها بعبارة (أما بعد)، مصوّراً عرض الرسالة وهو عصيان الأمين الذي نازع أخاه، وخرج على اجماع المسلمين، فصوّر هذا الكاتب تلك المصيبة رابطا بين عصيان الأمين وعصيان ابن نوح، ومستشهداً بالآية القرآنية الكريمة التي دفعت عن نبوّة أبيه وقرابته، ولما جناه الأمين على نفسه لم تعد له ولاية ولا رحمة، فقد خرج من أهله ناكثاً عهد والده بولاية العهد لأخيه المأمون، وبهذا فقد نال جزاءه العادل، وعاد الحق إلى صاحبه لتجتمع كلمة الأمة بعد شتات، خاتماً الرسالة بالسلامة على امير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

ولقد أجاد أحمد بن يوسف في هذه الرسالة، ابتداءاً من الغرض ومعالجته باسلوب فني مستشهداً بآي من الذكر الحكيم ومستخدماً الأسلوب المنطقي في المحاجة، مستعملاً المصطلحات الدينية كــ: الكتاب والسنة، الحرمة، عصمة الدين، اجماع المسلمين، معصية الله، ذات الله...، مما لها وقع مؤثر في السامعين لكسب تعاطفهم، اضافة على التأنّق في اختيار الألفاظ واصيطاد العبارات الموجزة المعبرة المتصفة بالقوة والجزالة، وهنالك توازن (ازدواج) وتعادل للفقرات على نحو السجع بين: "عصمة الدين" و"اجماع المسلمين"، وبين "خان عهده" و"نقض عقده"، واستخدم التورية المبيّنة في (المخلوع) ويقصد به (الأمين) وذكر لازماً من لوازمه وهو "قسيم... في النّسب واللحمة" كما استخدم الاقتباس، وهذا ما تقتضيه الرسائل الديوانية.

مثال من رسائله الديوانية:

رسالة الخميس: وهي الرسالة التي وجهها أحمد بن يوسف إلى أهل خراسان بعد تولي المأمون الخلافة، قال (13): "من عبد الله الامام المأمون أمير المؤمنين إلى المبايعين على الحق والناصرين للدين، من أهل خراسان وغيرهم من أهل الاسلام: سلام عليكم، فان أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا اله الا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، أما بعد فالحمد لله القادر القاهر، الباعث، الوارث، ذي العز والسلطان، والنور والبرهان، فاطر السماوات والأرض ومابينهما، والمتقدم بالمنّ والطول على أهلهما، قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته، دليلاً هادياً لهم إلى معرفته، بما أفادهم من الألباب، التي يفهمون بها فصل الخطاب، حتى أقيموا على موارد الاختبار، وتعقّبوا مصادر الاعتبار، وحكموا على ما بطن بما ظهر، وعلى ما غاب بما حضر، واستدلوا بما أراهم من بالغ حكمته، ومتقن صنعته وحاجة متزايل خلقه ومتواصله إلى القوم بما يلمه ويصلحه على أن له بارئاً هو أنشأه وابتدأه، ويسّر بعضه لبعض، فكان أقرب وجودهم بما يباشرون من أنفسهم في تصرف أحوالهم، وفنون انتقالهم، وما يظهرون عليه من العجز عن التأنّي بما تكاملت به قواهم، وتمت به أدواتهم، مع أثر تدبير الله عزوجل وتقديره فيهم، حتى صاروا إلى الخلقة المحكمة، والصورة المعجبة، ليس لهم في شيء منها تلطّف يتيمّمونه، ولا مقصد يعتمدونه من أنفسهم، فانه قال تعالى ذكره )يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك في أي صولة ماشاء ركّبك( ثم ما يتفكرون فيه من خلق السموات وما يجري فيها من الشمس والقمر والنجوم مسخّرات، على مسير من تصاريف الأزمنة التي بها صلاح الحرث والنسل واحياء الارض ولقاح النبات الأشجار، وتعاور الليل والنهار، ومر الأيام والشهور والسنين التي تحصى بها الأوقات، ثم ما يوجد من دلائل التركيب في طبقات السقف المرفوع، والمهاد الموضوع، باتساق أجزائه والتئامها، وخرق الأنهار وارساء الجبال، ومن البيان الشاهد على ما أخبر الله عز وجل به من انشائه الخلق حدوثه بعد أن لم يكن، مترقيا في النماء، وثبوته إلى أجله في البقاء، ثم محاره منقضياً إلى غاية الفناء، ولو لم يكن مفتتح عدد، ولا منقطع أمد، ما ازداد بنشوء ولا تحيّفه نقصان، ولا تفاوت على الأزمان، ثم ما يوجد عليه منفعته من ثبات بعضه لبعض وقوام كل شيء منه يسّر له في بدء استمداده، إلى منتهى نفاده، كما احتج الله عزوجل على خلقه، فقال: )أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً(، وقال عز وجل )كل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام(، وكل ما تقدّم من الأخبار عن آيات الله عزوجل ودلالاته في سمواته التي بنى، واطباق الارض التي دحا، وآثار صنعه فيما برأ، وذرأ، ثابت في فطر العقول حتى يستجرّ أولي الزيغ ما يدخلون على أنفسهم من الشبهة فيما يجعلون له من الأضداد، والأنداد، جلّ عما يشركون. ولولا توحّده في التدبير، عن كل معين وظهير، لكان الشركاء جدراء ان تختلف بهم ارادتهم في الخلق، ولأمكن التخلّق فيه من إثبات وإزالة فيخلو من أحد وجهيه، وأيهما كان فيه فالعجز والنقص فيما ذرأه وبرأه، جلّ البديع خالق الخلق ومالك الأمر عن ذلك، وتعالى علواً كبيراً، كماقال سبحانه )ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون(

التحليل:لقد بدأ هذه الرسالة بشخص المرسل المأمون وأنه أمير المؤمنين، موجهّة إلى المبايعين له على الحق من أهل خراسان وغيرهم من بلاد الإسلام، واصلها بالسلام عليهم والحمد لله والصلاة على محمد عبده ورسوله، وفي هذا التقديم ذكر أحمد بن يوسف غرض الرسالة، وهو تأكيد بيعة الخراسانيين وغيرهم للخليفة العباسي المأمون. ثم دخل في المضمون بعبارة (أما بعد..) ثم جاء بالتحميد الذي جعله مقالة في الفلسفة وعلم الكلام، وأورد فيه بعض صفات الله تعالى والحجج على وجوده ووحدانيته، مستشهداً بالآيات القرآنية في أربعة مواضع لتقوية أفكاره وتثبيت مقاصده.

ومن أفكار هذه الرسالة: ارسال الأنبياء وتعاقبهم، خاتم الأنبياء محمد 9، حق العباسيين في الخلافة، الخوض في تأييد الدعوة العباسية، تأييد الدعوة للمأمون، ضرورة مواصلة نصرة الخراسانيين للخليفة الجديد وما ينبغي عليهم من مجاهدة الأعداء ليحقق لهم الخير والرعاية والجزاء المجزي.

ان رساة الخميس تقع في عشرين صفحة من كتاب جمهرة رسائل العرب، وذكرها الجامع منقولة عن كتاب (المنظوم والمنثور، ج12/173) (14)، وانك حين تعيد قراءتها، يتبين لك التوازن في عباراتها والتوسّع في استخدام السجع، وخاصة عندما كان يسجع بين كلمة وكلمة: القادر القاهر، الباعث الوارث، السلطان والبرهان، الاختبار والاعتبار، وظهر وحضر.. إلى غير ذلك من أنواع التنميق اللفظي والتلوين الصوتي بين عبارات الفقرات، مما جعل تلك الرسالة محكمة إحكاماً دقيقاً، وذات نفس طويل معلل بأحكام فلسفية وعلل كلامية.

إن هذا التفصيل مما يتوجب على الكاتب أن يطيل فيها التناسب والموضوع المكتوب فيه، وهو رسالة ديوانية في البيعات، والبيعة تقتضي التفصيل والإطالة والتأنّق.

وبقي أحمد بن يوسف على ديوان الرسائل إلى أن وزر للمأمون بعد وفاة أحمد بن ابي خالد، وله أخبار مع المأمون (15) يضيق المقام عند ذكرها، وقد روت لنا المصادر والمراجع بعضاً من رسائله الديوانية.

ولو عدنا إلى رسائله المختلفة، ديوانية كانت أم اخوانية، لعرفنا أن الرجل ذو أدب جمّ، وأسلوب بلاغي متمكّن، ولغة فياضة جميلة، وان طريقته العامة في انشائه هي اعتماد الترسّل أكثر من السجع المتعمّد، فهو يقصد إلى السجع في التحميدات التي يقتضيها الأسلوب الديواني آنذاك، ولأن التقليد فيها ضروري، وكذك الحال بالنسبة للإطالة والتأنّق اللفظي والتلوين الصوتي.

إن التزام طريقة الديوان أمر لابد منه – فالكاتب يكتب على لسان غيره – وهي قواعد يجدر بكاتبها أن يلتزم بها ويديمها، أما في الرسائل الاخوانية فاننا وجدنا الرجل يكتب لنفسه وما تميله عليه قريحته الشخصية مغلّباً جانب المعاني على الألفاظ، هادفاً إلى إبراز الخصائص البيانية البليغة مع الإيجاز في الألفاظ والعبارات.

كما أن توقيعاته تتصف بالقصر والإيجاز والبلاغة،مما يؤكد لنا ما كان لهذا الرجل من غزارة فكر وبراعة أداء وحضور بديهة وبلاغة أسلوب. وذلك ما سنجده في الصفحات القادمة التي سنبيّن فيها مجاهل نثر هذا الرجل البليغ وما يتصف به من ملكات لغوية ابداعية.

المبحث الثاني

الرسائل الإخوانية

وبعد هذه الرسالة الديوانية، وتحليل أفكارها وبيان فنّها وخصائصها، لابد من تناول شيء من الرسائل الإخوانية التي قالها أحمد بن يوسف ليكتب على لسانه ولنفسه، وقد أورد لنا الصولي بعضاً من تلك الرسائل قائلاً ومن كلامه يعتذر إلى بعض الأخلاء: "لي ذنوب إن عددتها جلت، وإن ضممتها إلى فضلك حسنت، وقد راجعت إنابتي، وسلكت طريق استقامتي وعلمت أن توبتي في حجتي، وإقراري أبلغ في معذرتي فهذا مقام التائب من جرمه، المتضمن حسن الفيئة على نفسه، فقد كان عقابك بالحلم عني، أبلغ من أمرك بالانتصاف مني، فان رأيت أن تهب لي ماستحققته من العقوبة، لما ترجوه من المثوبة، فعلت ان شاء الله" (16).

وذكر الصولي لابن يوسف: وكتب: "من قصر في الشغل عمره، قل في العطلة صبره وما من وجهة أؤمل فيها سد اختلالي الا دهمتني فيها خيبة تكسف بالي، وأنت من لا يتخطاه الأمل في أوان عطلته، ولا يجاوز رجاءه الحرمان في حين ولايته، وليس لذمّ عليك طريق، ولا إلى مدحك سبيل، لأني إذا قلت فيك ما لا تعرف به عورضت بالتكذيب، وان أتيت بما لم تولني طالبت حالي بالتحقيق. فلا يرى الناس فيها أثر تصديق، وقد صفرت يدي من فائدتك، بعد أن كنت ملأتها من عائدتك، فان رأيت أن تجيرني من الحدثان، وتقيلني من قيد الزمان، فعلت إن شاء الله" (17).

ولابد لنا من تحيل هذين النصين اسلوبياً للوصول إلى مستوياتهما الصوتية والتركيبية والدلالية، ومعرفة صورة التعبير أو هيئته.

فالنص الأول رسالة اخوانية بين أحمد بن يوسف (المرسل) والمتلقي الذي هو أحد أصدقائه. والرسالة نص اعتذاري تتضح معالمه من خلال العبارات والمفردات التي ينتظمها العنصر اللغوي وتتشكل في قنوات النص، فهو يعرض انابته إلى صديقه، ويعترف بذنبه تجاهه، مقراً بجرمه معلنا توبته طالباً الصفح والمعذرة وشاكراً له حلمه وصفحه. وإنك تلاحظ الحوارية الواضحة التي قادها المرسل وهو يلوّح بمفرداته وتراكيبه ليقدم لائحة من البيانات المنضبطة والمعلومات المستوثقة الرائقة لتصل إلى قلب مخاطبه مشرقة نابضة مؤثّرة، فجرس الألفاظ يدق ويرنّ من خلاها: (إن عددتها جلت... ان ضممتها حسنت) و(إنا بتي... استقامتي) و(توبتي... حجتي...معذرتي) و(جرمه .. نفسه) و(عنّي ... منّي) و(العقوبة ... المثوبة). فهنالك موسيقى هادئة تنضح من أصوات تلك المفردات وتوازن جلّ العبارات.

ومفردات اللغة بسيطة سهلة واضحة رقيقة، وتراكيبها تتصف بقصر وإيجاز العبارة. وانك تلاحظ توازن العبارات وهي تنساب رقراقة في النص.

وهنالك الجناس في مفردتي (العقاب والعقوبة)، كما هنالك الطباق في مفردتي (العقوبة والمثوبة).

وقد أطلّ علينا أحمد بن يوسف بجمل متنوعة من حيث شكل اللفظ المعبر عن المعنى، فهنالك الاسمية والفعلية. وهنالك الفصل والوصل، من حث العلاقة بين الجمل وعطف بعضها على بعض. وهي برمّتها تشكل المسند إليه والمسند وتجمعهما علاقة الاسناد. كما وجدت في هذه الرسالة مدحاً للمخاطب وإنه صاحب فضل ومقام،كما وحدت تفضيلا له حين كرر مفردة (أبلغ) في عبارة (كان عقابك بالحلم عني، ابلغ من أمرك بالانتصاف مني)، في حين كانت الأولى(أبلغ) تخصّ المرسل نفسه معترفاً: (وإقراري أبلغ في معذرتي). واختتم الرسالة بالشرط.

أما الرسالة الثانية التي هي اخوانية أيضاً، والمتلقي المخاطب فيها شخص مأمول وعالي الهمّة وذو فضل على ابن يوسف.

والنص فيه مدح غير منظور، فابن يوسف قد ذكر بأن يده ملأها من عائدة مخاطبة وأنه يمكن أن يجده من (الحدثان) ويقيله من (قيد الزمان). على أن في النص شيئاً من الإعتذار حين قال: (لأني إذا قلت فيك مالا تعرف به عورضت بالتكذيب ...)، فهو لا يريد أن يمدح بما ليس في مخاطبه لئلا يوصف بالتكذيب ويدعى إلى التحقيق من قبل الناس.

والنص فيه جرأة وقوة إرادة وصدق اعتراف، وإن المخاطب رجل في الدولة، متمكن من الاجارة والاقالة والولاية.

ان المرسل قد استخدم الحوار المباشر مفتتحاً خطابه بحكمة حياتية: (من قصر في الشغل عمره، قل في العطلة صبره) ونلاحظ فيهاتوازناً بين شقّيها، وموسيقى بين مفردتيها (عمره... صبره).

وهنالك توازن وايقاع في عبارتي (فيها سد اختلالي ... خيبة تكسف بالي) و(عطلته ... ولايته) و(فائدتك ... عائدتك) و(الحدثان ... قيد الزمان).

فهنالك تنوّع في الإيقاع وتغيّر في الألحان. وهذا يمثّل ترجمة تجربة المرسل لاختيار الكلمات التي من شأنها أداء المضمون وهنالك جناس في (أؤمل ... الأمل) و(العطلة ... عطلته) و(ولايته، لم تولني) و(يرى ... رأيت). وهنالك الطباق في (خيبة ... أمل) و(ذم ... مدح) و(تكذيب ... تصديق) و(صفرت ... ملأتها). وهنالك الترادف: (طريق... سبيل) و(تجيرني ... تقيلني). أما اليد التي صفرت من الفائدة فهي كناية عن الفراغ وعدم الاستفادة. وقد جعل للذم طريقاً وللمدح سبيلاً. وأنكر استخدامهما في مخاطبه، بعد أن أجاز لنفسه أن يسميهما في عباراته.

وإنّك تجد المرسل متماسكاً قوياً ينعم بعاطفة متوازنة لا تلفّه مزالقها ولا تزيغه مهاويها ورغائبها.

ولذا يستهويك النص بعناصره لغة وفاعلية وتأثيراً.

المبحث الثالث

التوقيعات

أما توقيعات أحمد بن يوسف فهي موجزة جداً بين سطر واحد وأربعة أسطر أو يزيد على ذلك، فالمهم فيها أنها توصف بالإيجاز وقصر العبارات ومحدودية الأفكار والموضوعات فالمخاطب فيها شخص يحتاج إلى التوجيه والعناية والإصلاح والتنبيه. ولذلك كتبها بهذا الشكل من الاختصار والكيفية.

"ومن توقيعاته: ماعند هذا فائدة، ولا عائدة، ولا له عقل أصيل، ولا فعل جميل" (18).

فالمتحدّث عنه لا ترجى منه فائدة ولا عود طيب، كما يفتقر للفكر الخلاق والعمل المبدع، فالتوازن والجناس موفور في (فائدة وعائدة) و(أصيل وجميل).

ومن توقيعاته أيضاً:"ووقع إلى رجل غصب رجلاً على ضيعة وكان غائباً فاستغلها سنين، وقدم الرجل فطالبه، فقال: الضيعة لي وفي يدي. فوقع إليه أحمد بن يوسف: الحق لا تخلق جدته، وإن تطاولت بالباطل مدّته، فإن انطقت بافصاح، وأزلت مشكلها بايضاح... فكثيراً ما أراها ذريعة الغاصب، وحجّّة المغالب، وفّر حقّك عليك، وسيق بلا كدّ اليك، وإن ركنت من البيان إليها، ووقفت من الاحتجاج عليها كانت حجته بالبينة أعلى، وكان بما يدعيه أولى، إن شاء الله" (19).

فهذا النص فيه تنبيه وتوجيه، ومخاطبه رجل غاصب لا ذريعة له أمام نور الحق بعد أن غصب واستغلّ ضيعة غيره.

ولابد للحق أن يعود لصاحبه بعد البيّنة الواضحة والمطالبة الراجحة.

فالتوازن ماثل في العبارات والمفردات (جدّته.. مدّته) و(إفصاح... إيضاح) و(الغاصب... المغالب) و(عليك ... إليك) و(إليها... عليها) و(أعلى ... أولى)، فالموسيقي تكاد تلازم النص من بدايته إلى نهايته.

والتراكيب موزونة مترابطة، اختارلها المرسل ألفاظاً سهلة فصيحة متآخية بنسيج مترابط جميل وتلوين بلاغي مرهف. وبداية النص جميلة خبرية، المسند فيها فعل منفي مبني للمجهول ثم يأتي الشرط المتوازن الذي يتابعه الفعل الماضي المبني للمجهول ويتكرر عليه هذا البناء للمسند ثم يتوالى الفعل الماضي المرتبط بتاء المخاطب، بعدها تكون الكينونة بـ(كانت) مرة وبـ(كان) مرة أخرى نتيجة حاسمة للاحتجاج.

وإنك تلاحظ الطباق واضحاً في مفردتي (الحق.. الباطل) و(عليك.. إليك) و(إليها.. عليها)، إضافة لما في بعضها من جناس، وفي (الاحتجاج.. حجته) و(أعلى ... أولى)، وجعل ابن يوسف للحجة يدا تزيل المشكل، كما جعل للحق أرجلاً يساق بواسطتها إلى صاحبه، فالحق لايساق ولكنه يعطى، وهذا تشخيص بيّن.

وخاتمة ما مرّ، لابد أن أشير إلى إعراق أحمد بن يوسف في الكتابة، وقد درست كتابته من خلال رسائله الديوانية والإخوانية والتوقيعات وقمت بتحليلها أسلوباً.

وابن يوسف يختزن معجماً لفظياً مشرقاً قد شعّ بظلاله عن أفكاره ومعانيه، وإن مسألة اختياره للألفاظ تتضح لدى المتلقي بكل وضوح، وكيف يستلّ اللفظة الملائمة من معجمه الواسع لتتجلى والنسق الصوتي الذي ينتظم الكلمات ليجعل منها نسيجا قوياً مؤثراً. وهذا ما يبرهن ثراء المرسل من اللغة وتراكيبها وأساليبها وبلاغتها. وإن الايقاع في نصوص هذا الكاتب يتصف بالتنوع والتوازن مما أعان لغته على أداء المضمون بتنسيق موسيقى يهتف بألفاظ العذوبة والجزالة والرقة ويمنح النفوس الأثر المتوهج والتوجيه الواعي. فتوازن العبارات والتعبير عن الحركة العاطفية مما له الحظ الأوفر من الموسيقى، وهي تنثال إليك مرسلة بلا تصنّع ولا تعقيد تحمل صفة إعراقها ورقّة صياغتها.

المبحث الرابع: آراء القدامى والمحدثين في رسائله

بعد أن قمت بجولة سريعة بين المصادر والمراجع التي وصلت إليها، لاحظت بعض الآراء والأحكام النقديّة الآتية:

1ـ الحسن بن سهل (ت236هـ): ذكر ياقوت الحموي أن الحسن بن سهل قد اختار أحمد بن يوسف الكاتب لديوان الإنشاء (لصبره على الخدمة والإعراق في الكتابة، والحسن في البلاغة، وكثرة العلم) (20).

2ـ أبو بكر الصّولي (ت 335 هـ): قال فيه" هو معرق في الكتابة والشعر" (21).

3ـ أبو الفرج الاصفهاني (ت 356 هـ): فذكر الاصفهاني بأنه" كان الناس يشهدون لاحمد بن يوسف بالتقدم وبغلبته الناس جميعاً وبحفظه وبلاغته وأدبه"(22).

4ـ ابن النديم (ت380هـ): وقد عدّه أحد بلغاء الناس العشرة (23)، وانه من الكتّاب المترسّلين ممن دوّنت رساله (24).

5ـ أبو هلال العسكري (ت 395هـ): قال: "وأوّل من افتتح المكاتبة في التهاني بالنوروز والمهرجان أحمد بن يوسف.."(25).

6ـ الثعالبي (ت429 هـ): "أحمد بن يوسف.. كان مذهبه الترسّلات والانشاء وله مكاتبات معروفة...) (26).

7ـ الحصري القيرواني (ت 453هـ): قال عنه" عالي الطبقة في البلاغة، ولم يكن في زمانه أكتب منه" (27).

8 ـ الخطيب البغدادي (ت463 هـ): قال:"كان من أفاضل كتّاب المأمون، وأذكاهم وأفطنهم وأجمعهم للمحاسن، وكان جيّد الكلام، فصيح اللسان، حسن اللفظ، مليح الخطّ..." (28).

9ـ أحمد فريد رفاعي (محدث): قال:" أما مكانته في الكتابة، فرسائله وتوقيعاته التي تحلّت بها صدور الادب، وتزيّنت بها كتب التاريخ، تجعله في مقدّمة الكتّاب ومن أئمتهم، وهي بما فيها من جودة وإحكام، وتخيّر للألفاظ، وسلاسلة في المعاني، تدلّ على أنه كان خصيب النفس، سريع الخاطر.. "(29).

10ـ محمد كرد علي (محدث): قال: "وطريقته في إنشائه الاعتماد على المرسل من الكلام، في طابع بريء من كل شائبة، خال من التعمّل، لا يعمد إلى السّجع إلا في بعض التحميدات" (30).

11ـ خير الدين الزركلي (محدث): قال فيه"وزير من كبار الكتّاب... وكان فصيحاً، قويّ البديهة، يقول الشّعر الجيّد، له ((رسائل مدوّنة)) (31).

12ـ د. شوقي ضيف (محدث): قال" وهو يعدّ في الذروة من كتّاب الدواوين في العصر العبّاسي الأوّل، لبلاغته ودقّة تفكيره وحسن تأتّّيه في الرسائل الديوانيّة السياسية والرسائل الاخوانية الشخصية" (32).

الهوامش

1ـ انظر في ترجمته: كتاب الوزراء والكتّاب، للجهشياري/ 304 واخبار الشعراء المحدثين، للصولي/ 206 ـ 236، والمنتحل لثعالبي، 300، تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ج5/216 ـ 218، والبداية والنهاية لابن كثير، ج1/269.

2ـ أخبار الشعراء المحدثين، للصولي/ 143، و(دُبا): موضع بظهر الحيرة، انظر: الروض المعطار للحميري/ 232.

3ـ أخبار الشعراء المحدثين، للصولي/ 144.

4ـ معجم الأدباء لياقوت الحموي، ج5/162ـ 172.

5ـ انظر هامش (1).

6ـ تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ج5/216.

7ـ نصوص ضائعة من كتاب الوزراء والكتّاب، للجهشياري، جمع وتحقيق ميخائيل عواد/ 47 ـ 48، وطبقات الشعراء، لابن المعتز/280.

8 ـ كتاب الإمتاع والمؤانسة، للتوحيدي، ج3/80، وطبقات الشعراء لابن المعتز 381 ـ 382.

9ـ تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ج5/216 ـ 217 .

10ـ الوزراء والكتّاب، للجوشياري/385. وتاريخ الطبري، ج10/214، زهر الآداب للحصري، ج2/38، ومعجم الأدباء لياقوت ج5/167، وجمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، ج3/375 ـ 377.

11ـ الوزراء والكتّاب/ 304، وزهر الآداب للحصري. ج2/130، ومعجم الأدباء لياقوت. ج5/167.

12ـ الوزراء والكتّاب/304، أخبار الشعراء المحدّثين/206، معجم الأدباء ج5/168، الوافي بالوفيات للصفدي ج8/280 ـ 282، واعيان الشيعة محسن الأمين العاملي، ج10/272.

13ـ كتاب الفهرست لابن النديم/ 140، وجمهرة رسائل العرب، ج3/317 ـ 334.

14ـ لم أجد المصدر الأصلي (المنظوم والمنثور)، ولكني وجدت: جمهرة رسائل العرب لأحمد زكي صفوت.

15ـ انظر: ديوان المعاني: للعسكري، ج1/95، كتاب خاص الخاص: للثعالبي/124، نثر النظم للثعالبي/154، كتاب البديع لابن المعتز/13، معجم الأباء، لياقوت ج5/168 و181، واعيان الشيعة، الامين العاملي. ج10/361.

16ـ اخبار الشعراء المحدّثين ـ للصولي/ 233.

17ـ م.ن./235.

18ـ م.ن./230.

19ـ م.ن./230.

20ـ معجم الأدباء ج5/163.

21ـ أخبار الشعراء المحدثين /206.

22ـ الأغاني، ج10/ 119.

23ـ الفهرست/ 140.

24ـ م.ن./135.

25ـ ديوان المعاني. ج1/95.

26ـ المنتحل/ 300.

27ـ زهر الآداب وثمر الألباب، ج1/ 435.

28ـ تاريخ بغداد أو مدينة السلام، ج5/216.

29ـ عصر المأمون، م1/434.

30ـ أمراء البيان/196.

31ـ الإعلام، ج1/272.

32ـ تاريخ الأدب العربي، ج3، (العصر العباسي الأول)/543.

المصادر والمراجع

1ـ أخبار الشعراء المحدثين من كتاب الأوراق، لابي بكر الصولي، عني بنشره ج.هيورث، دن. ط2، بيروت، دار المسيرة، 1339هـ/1979م.

2ـ الأعلام، خير الدين الزركلي، ط4، بيروت، دار العلم للملايين، 1979م.

3ـ أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين العاملي، دمشق، مطبعة ابن زيدون، 1357هـ/1938م.

4ـ الأغاني، أبي الفرج الاصفهاني، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة (مصور عن طبعة دار الكتب)، (د,ت).

5ـ الامتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، تصحيح وضبط وشرح: أحمد أمين وأحمد الزين، بييروت، دار مكتبة الحياة، (د,ت).

6ـ أمراء البيان، محمد كرد علي، ط3، بيروت، دار الأمانة، 1388هـ/1969م.

7ـ البداية والنهاية في التاريخ، لابن كثير، القاهرة، مطبعة السعادة، (1351هـ/1932م).

8 ـ البديع، لابن المعتز، تح: المستشرق كراتشكوفسكي، دمشق، دار الحكمة، (د.ت).

9ـ تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول)، د. شوقي ضيف، ط8، القاهرة، دار المعارف، 1979م.

10ـ تاريخ الرسل والملوك، للطبري، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1979م.

11ـ تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للخطيب البغدادي، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، (د.ت).

12ـ جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، بيروت، المكتبة العلمية، (1357هـ/1938م).

13ـ خاص الخاص، للثعالبي، تقديم حسن الأمين، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1966م.

14ـ ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، القاهرة مكتبة القدس، 1352هـ.

15ـ الروض المعطار في خبر الأقطار، محمد بن عبد المنعم الحميري، تح:د, احسان عباس، ط2، بيروت، مكتبة لبنان، 1984م.

16ـ زهر الآداب وثمر الألباب، للحصري القيرواني، تح: علي محمد البحاوي، القاهرة دار احياء الكتب العربية، (1372هـ/1953م).

17ـ طبقات الشعراء لابن المعتز، تح: عبد الستار أحمد فراج، ط4، القاهرة، المعارف 1981م.

18ـ عصر المأمون، د. أحمد فريد رفاعي، ط4، القاهرة، دار الكتب المصرية، (1346هـ /1982م).

19ـ الفهرست، لابن النديم، تح: رضاتجدد، طهران، مطبعة جامعة طهران، (1391هـ، 1971م).

20ـ معجم الادباء، ياقوت الحموي، بيروت، دار المستشرق، (د.ت).

21ـ المنتحل، للثعالبي، تح: أحمد أبو علي، الاسكندرية، المطبعة التجارية، (1319هـ/1901م).

22ـ نثر النظم وحل العقد، للثعالبي، بيروت، دار الرائد العربي، 1403هـ.

23ـ نصوص ضائعة من كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري، جمع وتحقيق ميخائيل عوّاد، بيروت، دار الكتاب اللبناني، (1384هـ/1964م).

24ـ الوافي بالوفيات، للصفدي، باعتناء محمد يوسف نجم، بيروت، دار النشر، فرانز شتاينر، (1391هـ/1971م)..

25ـ الوزراء والكتّاب، للجهشياري، تح: مصطفى السقّا، ابراهيم الابياري وعبد الحفيظ، شبلي، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (1357هـ/1938م).
 

إبن العميد (ت360هـ) بين التسجيع والمزاوجة

تمهيد

ابن العميد:

هو ابو الفضل محمد بن أبي عبد الله الحسين بن محمد الكاتب، والعميد لقب والده الذي كان وزيرا لمرادويج، وفي سنة 328 هـ وزير ابن العميد لركن الدولة البويهي، وكان محل تقديره وثقته، وفي سنة 359هـ خرج على رأس جيش لقتال الزعيم الكردي حسنويه، ولكنه توفي في الطريق في صفر سنة 360هـ (1)، وكان ممن اشتهر من وزراء بني العباس بالبلاغة(2).

ولم أجد من يذكر ولادته، الا إن ابن االأثير الجزري قد ذكر عمره قائلاً: ((وكان عمر ابن العميد قد زاد على ستين سنة يسيراً))(3)، مما يؤكد لناولادته في نهاية القرن الثالث الهجري(300هـ) على وفق هذا الرأي.

وكان الصاحب بن عباد قد سمي بالصاحب لأنه كان يصحب ابن العميد، وقد سأله مرة عن بغداد عن عودة الصاحب من العراق، فقال: ((بغداد في البلاد كالاستاذ في العباد))(4).

وكان ابن النديم (ت358هـ؟) قد ذكر ابن العميد بأنه: ((أبو الفضل، وله من الكتب: كتاب ديوان رسائله، وكتاب المذهب في البلاغات)) (5)، وحين أورد بلغاء الناس العشرة(6) لم يذكره معهم، كما لم يذكر عبد الحميد الكاتب (ت132هـ) أيضاً في حين لم يورده مع أسماء البلغاء (7) الذين أورد معهم عبد الحميد. ومن الجدير بالذكر أن المتنبي قد مدحه برائيته المشهورة:

باد هواك صبرت أم بعد تصبرا (8)                وبكاك ان لم يجر دمعك أو جرى

لوعدنا إلى المصادر التي ذكرت أبا الفضل ابن العميد، لوجدناها تسهب في ذكر صفاته، وانه كان عالما وأديباً، كاتباً شاعراً ومؤلفاً، حكيماً طويل الباع في الفلسفة والنجوم والميكانيكا (علم الحيل)، اضافة إلى كونه سياسيا محنكا ووزيرا، قاد الجيوش وفتح البلدان وقمع الفتن، اتسم بالعقل والحلم والكرم، فهو نجم لامع من نجوم القرن الرابع الهجري، والركن الركين الذي اعتمده بنو بويه في ادارة وسياسة أمور الدولة، كما ازدانت به صفحات تاريخ الأدب العربي..

وهكذا رجل ذاع صيته، وتعددت امكاناته  ومواهبه، ونمت شاعريته وكتابته باقتدار بلاغي محسوس، حتى وصلت رسائله الديوانية والاخوانية إلى مختلف الأمصار، وانتشر آثاره ومؤلفاته بين الدارسين والعلماء والمؤلفين، فنجد أن هذا الرجل الذي ذكرناه قد فقدت آثاره، وبخلت المظان علينا في إيراد رسائله وأخباره، ولولا بعض المصادر التي نقلت الينا القليل من أخباره لضاع منا امام من أئمة الأدب في العصر العباسي.

البحث الأول: آراء القدماء والمحدثين

والذي يهمنا أن نجد بعض كتب الأدب والتراجم تغدق عليه الآراء النقدية المختلفة، مما يدفعنا أن نتناول تلك الآراء بالاحاطة الممكنة من القدماء والمحدثين. وهذه طائفة منها:

1ـ ابن ثوابة (9) (ت 349هـ): قال: (أول من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه ان تبعه لحقه، وان تلاه ادركه، فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه) (10).

2ـ مسكويه (11) (ت 421 هـ): قال: (واما كتابته فمعروفة من رسائله المدونه، ومن كان مترسلا لم يخف عليه علو طبقته فيها) (12).

3ـ ابو منصور الثعالبي (ت 429 هـ): قال: (اوحد العصر في الكتابة، .. يدعى الجاحظ الأخير، والاستاذ، والرئيس، يضرب به المثل في البلاغة، وينتهي إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها، ... وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد) (13).

4ـ ابن الأثير الجزري (ت630هـ): قال: وكان أبو الفضل من محاسن الدنيا وقد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي اتى فيها بكل بديع (14).

5ـ ابن خلّكان (ت 681 هـ): قال: "وكان فيه فضل وأدب وله ترسّل" (15)، وقال: "وأما الأدب والترسّل فلم يقاربه أحد في زمانه، وكان يسمّى الجاحظ الثاني.. وكان يقال له الأستاذ" (16).

6ـ القلقشندي (ت 821هـ): قال حين تحدّث عن حسن الافتتاح في المكاتبات: "ان يكون الحسن فيه راجعاً إلى ما يوجب التحسين: من سهولة اللفظ وصحة السبك، ووضوح المعنى، وتجنّب الحشو، وغير ذلك من موجبات التحسين، كما كتب الأستاذ أبو الفضل بن العميد عن ركن الدولة بن بوية، إلى من عصى عليه، مفتتحاً كتابه بقوله "كتابي إليك" و"أنا متردد.." (17).

7ـ ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ): قال" كان آية في الترسّل والإنشاء" (18).

8 ـ أحمد حسن الزيّات (محدث): قال "كان أرقّ معاصرية طبعاً، وأقلّهم سجعاً، وأكثرهم نثراً للشعر وتلميحاً للأمثال.. وكان ابن العميد متفنناً في فنون الكتابة، متفوّقاً في ضروب الرسائل.." (19).

9ـ خليل مردم (محدث): قال "ان الأدب في نظر ابن العميد ضرب من ضروب التسلية والتلهّي والترفيه واظهار البراعة والغلوّ والاغراق والبعد عن الحقيقة في التصوير والامعان في التزويق"(20).

10ـ د. شوقي ضيف (محدث): قال "إن ابن العميد هو استاذ مذهب التصنيع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لأنه أول كاتب ـ فيما نعرف ـ احتكم إلى السجع في كتابته، كما احتكم إلى البديع من جناس وطباق وتصوير، وقد هيّأه لذلك أنه كان ذا عين تصويريّة.." (21).

11ـ د. زكي مبارك (محدث): قال " فإننا حين نقرأ نثره نجد أنفسنا أمام عظمة عقلية يخر لها الجبابر ساجدين... فليست الكتابة عند ابن العميد زخرفاً براقاً يلهو به ولا ثروة لغوية يكاثر بها الكتاب، ولكن الكتابة عنده ثورة عقلية أو وجدانية... وقد يرق فتحسب نثره نجوى حبيبين في هدأة الليل، وهو في رقيّه وجزالته وغضبه وحنانه عبقري.." (22).

12ـ محمد كرد علي (محدث): قال" كان إلى التسجيع والمزاجة أقرب" (23).

ومن هذه الآراء نتبين أن ابن ثوابة من القدامى وخليل مردم من المحدثين، كانا يريان خلاف ما كلان يراه جمهور النقّاد والأدباء في ابن العميد، لأنهما لم يقوما بالتحليل الدقيق لرسائله كي يتوصّلا إلى الحقيقة الناصعة، فهذا تراث انساني وحرام على الإنسان أن يضيّع عمل غيره بالحقد أو بالرأي المتجني، واجدني غير مقتنع بمعظم آراء نقّادنا المحدثين الذين من الضروري ان يكون رائدهم التحليل الدقيق والتفكيك المحدث للنصوص واستخدام الأساليب الحديثة للوصول إلى الحقائق وجواهرها، من خلال القراءات النقدية الدقيقة.

المبحث الثاني: رسائله الديوانية

وبهذا فسأختار رسالة مشهورة من رسائله الديوانية الثابتة المؤكّدة، ثم أقوم بتحليها أسلوباً وحواراً وإيقاعاً وتركيباً وفناً بلاغياً رفيعاً، لأَصِل إلى الحقيقة موقعياً..

تلك هي الرسالة التي ذكرها الثعالبي (ت 429هـ) في يتيمته.

رسالة ابن العميد إلى ابن بلكان ونداد ليستعيده إلى طاعة ركن الدولة:

قال: (24) "كتابي، وأنا مترجّح بين طمع فيك ويأس منك، وإقبال عليك، واعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعايةً ويقتضي محافظةً وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية وأدنى ذلك يحبط أعمالك ويمحق كل ما يرعى لك. لا جَرَم أنّي وقفت بين ميل اليك، وميل عليك، أقدّم رجلاً لصدّك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك ضناً بالنعمة عندك، ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلاً لفيأتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة إلى رخاء، وكان غمرة فإلى انجلاء.

وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك فلا بدع أن تأتي من احسانك بما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبح ما صنعت وسوء ما آثرت.

وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستبطاء والمطاولة ما أمكن، طمعاً في انابتك، وتحكيماً لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار وأرادفه من إنذار احتجاجاً عليك، واستدراجاً لك، فان يشا الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسددك: فإنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

وزعمت أنك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها، فنشدتك الله لما صدفت عما سألتك، كيف وجدت ما زلت عنه، وكيف تجد ماصرت إليه؟ ألم تكن من الأوّل في ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء عدي، وماء رويّ، ومهاد وطيّ، وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين، يقيك المتالف، ويؤمنك المخاوف، ويكنفك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان؟

عززت به بعد الذلّة، وكثرت بعد القلّة، وارتفعت بعد الضّعة، وايسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتسعت بعد الضيقة، وظفرت بالولايات، وخفقت فوقك الرايات، ووطئ عقبيك الرجال، وتعلّقت بك الآمال، وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاظر ذكرك، ففيم الآن أنت من الأمر، وما العوض عمّا عددت، والخلف مما وصفت، وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفّك، وغمست في خلافها يدك، وما الذي أظلّك بعد انحسار ظلّها عنك؟ أظلّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، قل نعم كذلك، فهو والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأرواحها في الآجلة، ان اقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود.

تأمّل حالك وقد بلغت هذا الفضل من كتابي فستنكرها، وألمس جسدك وانظر هل يحسّ؟ وأجسس عرقك هل ينبض؟ وفتّش ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك، وهل حلي بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهده وآخر شأنك بأوّله"..

التحليل:

أ ـ أسلوب الحوار في الرسالة: استخدم ابن العميد أسلوباً نفسياً بليغاً في رسالته هذه، فوصف نفسه بأنه متردد بين حالين من الإيجاب والسّلب في إمكان عودة (ابن بلكان ونداد خورشيد) إلى طاعة ركن الدولة، فقدّم امكانية الإيجاب في الطّمع، على السلب في اليأس، والإقبال على الإعراض، معللاً ذلك بماكان بينه وبين ركن الدولة  من التوثّق والمحبّة الحميمة والصّلة والقرب من سالف الدهر: "وأنا مترجّح بين طمع فيك ويأس منك..".

ومن خلال هذه الطريقة النفسية في المعالجة يبدأ بالتغلغل في مخيلة المخاطب، واصفاً ما له من رصيد من الأعمال والرعاية لدى ركن الدولة، ثم يصفه بالخروج والعصيان ذاكراً له ميله إليه أكثر مما عليه، مكرراً له مفردات الترغيب والترهيب: "لاجَرَم إني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك..، وتأميلاً لفيأتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك"، ومؤكداً له إمكانية عودة المياه إلى مجاريها: "ويضاع الرأي ثم يستدرك..، ويكدر الماء ثم يصفو"، وتناسي ما صنعته به الغفلة من القبح والسوء: "فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها..".

ويؤكّد ابن العميد صرامته على الصلح والإنابة وحسن الظّن بالمرسل إليه بين الإعذار والإنذار، موضحاً استدراجه له وداعياً له من الله ان يرشده ويسدده: "فإن يشأ الله يرشدك، و.."، ومذكراً بتلك الأيام الهانئة: "كيف وجدت مازلت عنه، وكيف..؟".

ثم يحاول بأسلوبه النفسي أن يجر (ابن بلكا) إلى الوراء تارة ويتقدم به إلى الأمام أخرى، مقارناً حاله قبل تعرفه بركن الدولة وما حصده خلال معرفته به من العزّ، الكثرة، الإرتفاع، اليسر، الثراء، السعة، الظفر، الأمر والنهي، ذيوع الصيت، والذكر الحسن، بعد أن يعيده بهذه المفردات المؤثرة التي فقدها (ابن بلكا)، ويلبسها له بشكل قشيب وفعّال تتخلله الأناة والدّقّة والصبر على تحمّل الموقف، ويجعل منه ذلك الشخص الذي وكأنه في مكانه الحقيقي مع صاحبه ركن الدولة.

وحينئذ فاجأه بالاستفهام عمّا أخرجه من الطاعة وأدخله في العصيان، وهو لا يزال تحت تأثير ذلك التنويم المغناطيسي الذي اجراه له ابن العميد بأسلوبه السحري العجيب، ثم أمره بأن يعود إلى رشده، وأن يختار بين الحياة والموت: "وهل حلي بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟".

لقد انغمس ابن العميد في نفسية المخاطب وتوجّس أحاسيسه وما يمكن أن يؤثره في خلجات قلبه من تفاعل بناء، فكانت عباراته معادلات مؤشاة ومغنّاة انتجت أثرها الفعّال والإيجابي، مما دفعت بالمخاطب أن يتراجع عن موقفه ويعود لمصافحة كنف ركن الدولة وطاعته.

وقال ابن بلكا: والله ماكانت لي حال عند قراءة هذا الفصل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردّي إلى طاعة صاحبه" (25).

ولذلك كانت الجمل المترادفة المتناغمة لابن العميد تمثّل تفنّناً راقياً في التعبير، يعمل على الترويح عن النفس، ويغمرها بوشي الازدواج والسجع والمعتدل.

ب ـ الإيقاع في النص: وحين تقرأ الرسالة تجد النبر الصوتي المتناغم والمنسجم يشيع فيها، فالمفردات تنثال عبر ميزان: (اقبال وإعراض) على وزن إفعال، (سابق وسالف) على وزن فاعل، (استبقاء واستصلاح) على وزن استفعال، و(انصراف وانعطاف) على وزن انفعال، وهكذا تجد أن المفردة تختار بالتوازي مع المفردة التي تقابلها في موقعها من العبارة الأخرى، فهنالك نظام متناسق لأبنية المفردات ضمن العبارة والفقرة، ثم تصب العبارات في ازدواج أو توازن تتعادل خلاله العبارة مع العبارة موسيقياً: "فإنك تدل بسابق حرمه، وتمتّ بسالف خدمه، أيسرهما يوجب رعاية ويقتضي محافظة وعناية" و"فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب"فنجد هذا الازدواج بين عبارة وعبارة مستخدماً المفردات المسجعة: "حرمه وحدمه، رعاية وعناية، يؤوب ويثوب"، وهذا السجع المتوازن معتدل وغير مقيّد، ويكاد قصر العبارات والفقرات أن يكون الميزة العامّة في الرسالة، مما يمنح ذلك النبر الصوتي المتقارب في تقطيع الجمل.

ان الإيقاع واضح في التوازن المتناغم، فقد يتقارب، كما في: "ظل ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء عديّ، وماء روي، ومهاد وطيّ  وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين، يقيك المتألف، ويؤمنك المخاوف، ويكنفك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان"، فقد لاحظت البراعة في التقاط النّغمة التي تتقارب ثلاثية في:"ظليل، عليل، وبليل،"، "عدتي، رويّ، ووطي" و"كنين، مكين، وحصين"، وسرعان ما تتحول إلى نغمة ثنائية، كما في "المتألف والمخاوف"، و"الزمان والحدثان" إن هذه الظاهرة الموسيقية كانت غير متكلّفة في هذه الرسالة، بحيث جعلت من انسجام ألحانها وترابط ألوانها قطعة فنيّة رائعة.

ج ـ البراعة في التركيب: استخدم ابن العميد الزمن في النص بكامل انساقه، منطلقاً من المضارع ـ الحاضر المعاش وما فيه ـ "وأنا مترجّح بين طمع فيك... فإنك تدلّ..." إلى الماضي مذكراً"ً... بسابق حرمه، وتمت بسالف خدمه" ثم إلى المستقبل موجهاً ومتمنياً: "وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك"، "وسأقيم... في الإبقاء..."، وهذا أسلوب وفّق فيه الكاتب في بلورة أكفاره ضمن انساق كل تحوّل من التحولات التي حدثت في أثناء النص، وضمن تحوّلات الفعل الذي عاشه المرسل إليه أيضاً.

كما برزت براعة متناهية في حسن استخدام حروف الجر: "طمع فيك، يأس منك، إقبال عليك، إعراض عنك، ... بسابق..."، وهذا يدل علىمعرفة غريزة في اللغة، يستخدم فيها تلك الحروف بمهارة ودقّة.

د ـ الفنون البلاغية في النص: ولو عدنا إلى قراءة نص الرسالة قراءة نقدية فاحصة، تجلّت لنا بلاغة الحس عند ابن العميد، فهو يمتلك من صفاء الذهن ورقة المشاعر وفنّية التلوين والمقدرة الفائقة في التركيب والانزياح ما يجعلنا نتحسس مواقع الضربة في النسج البليغ. ويمكننا أن نختار بعضا من تلك الوجوه البلاغية، فإنه يمعن في استخدام الطباق بشكل شائع في هذه الرسالة، فيكاد يكون الفن الأكثر استخداماً بين الوجوه الأخرى للبلاغة، ففي الفقرة الأولى من الرسالة: "فقد يغرب العقل ثم يؤوب، يعزب.. يثوب، يذهب... يعود، يفسد... يصلح، يضاع... يستدرك، يسكر... يصحو، يكدر... يصفو، الضيق والرخاء، الغمرة والانجلاء". وهذا هو الترادف والأطناب بعينه، كما الطباق أيضاً.

كما ذكر الطباق في الفقرة الخامسة: "العز والذلّة، الكثرة والقلّة، الارتفاع والضعة، اليسر والعسر،الإثراء والمتربة، السعة والضيق".

فقد جمع بين كل لفظين متقابلين متضادين في المعنى، فعلين كانا أم اسمين، وهذا التقابل في المعنى قد زاد الخطاب حسناً.

أما الجناس، فقد استخدمه بشكل ملف للنظر، كما في الفقرة الرابعة: "في ظل ظليل.. وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين"، وكذلك في الفقرة الخامسة أيضاً: "وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك"، وهذا من جناس الاشتقاق، وهو من المحسنات اللفظية.

وأما السجع، فقد استخدمه الكاتب بشكل غير مقيّد، ففي الفقرة الأولى وردت المفردات: "حرمه وخدمه، رعايه وعنايه، ورخاء وانجلاء" وفي الفقرة الثالثة وردت المفردات "إعذار وإنذار، قدير وجدير"، كما وردت مفردات مسجعة في الفقرة الرابعة بشكل واضح: "ظليل، عليل، وبيليل.." بين ثلاثية وثنائية، كما وردت ثنائية في الفقرة الخامسة "شعب ولهب، عنود وجحود"، والسجع من المحسّنات اللفظية أيضاً.

ومن وجوه البديع الواردة في الرسالة، فقد شاع الترصيع، فمنه ما كان فيه توازن في الألفاظ مع توافق في الإعجاز، نحو: "يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب" و"على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك" وهو محسّن لفظي أيضاً.

ولو أردنا إيضاح مواقع البيان في هذه الرسالة، لوجدنا المجاز يطرّز فقراتها، ففي عبارات من الفقرة الرابعة: "انك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها"، فابن العميد قد صور لنا الطاعة بصورة حيوان حلوب وليكن البقرة، وكيف يكون الإنسان البعيد من حليبها بعد أن كان غارقاً في كرمها وعطائها، وقد ذاكره في هاتين الحالتين من الجوع والشبع، ثم ذكره كيف كان يحلب ضرعيها، إذ جعل للطاعة اثداء كما هي أثداء البقرة. فهذا التشبيه الجميل البليغ للطاعة هو الاستعارة المكنية، فشبّه الطاعة بالبقرة، واستعار البقرة للطاعة وحذفها ورمز اليها بشيء من لوازمها وهي الأثدية التي حلبها، وهذه هي القرينة عليها، مما أوهمنا في تصوير الطاعة بالبقرة التي اخترع لها صورة الأثدية التي تعطي الحليب، وحينئذ تكون لفظة (الأثدية) التي تحلب (استعارة تخيلية) لأن المستعار له وهو (حلبت شطريها) أي أثداءها صورة تخيلية وهميّة.

وفي الفقرة الخامسة وردت عبارة "وما الذي اظلّك بعد انحسار ظلّها عنك؟"، إذ جعل الكاتب للطاعة مظلة يستظل بهاالآخرون، والحق بها ملاءة تتسع وتنحسر، فهذه الملاءة وهذا الظل هما صورة وهمية تشبه نجاعة الطاعة، وما تمنحه لشخص المطيع من منافع ومكارم، وهذه استعارة مكنية تفيدالتخييل.

كما وردت الكناية في "ظل ظليل..."، للدلالة على العيش الحر الكريم المرفّه، وكذلك عبارة "نفضت منها كفّك، وغمست في خلافها يدك"، فجعل الطاعة أمراً محسوساً ونفض كفّه منها: كناية عن تركها، وإعلان العصيان الذي هو خلاف الطاعة ليجعل منه سائلاً يغمس فيه يده، وهذه كناية أيضاً.

ويضاف إلى ذلك ما في الرسالة من اقتباس من القرآن:".. شعب.. اللهب"، ومن تضمين للأمثال والحكم: "وكل ضيقة...، وكل غمرة..."، ان ابن العميد قد تأثر بأسلوب الجاحظ، ولكنه تحاشى منه استطراده وعدم ترابط بعض معانيه، فخدم أبو الفضل في كتابته ترابط وتماسك عباراته، وجعلها محكمة متجانسة، كما أخذ ممن سبقه من كتّاب ديوان الإنشاء السجع ولكن دون تقيّد، كما كان لثقافته واستعداده الذاتي من تقسيم وتقطيع عباراته على فقر قصار مزدوجة ومتوازنة، وبمفردات متوافقة، وبعناية فائقة بتصوير المعنى وتقريبه للحس مستعيناً على ذلك بكثير من التشبيهات وبمختلف أنواع البديع.

وخلاصة القول، فإن طريقة ابن العميد هي النثر البديعي المسجع المعتدل..

وخير ما نختتم به هذا التحليل المتواضع أن تذكر رأي الثعالبي إذ قال: "وقد أجمع أهل البصرة في الترسّل على أن رسالته التي كتبها إلى ابن بلكا ونداد خورشيد عند استعصائه على ركن الدولة غرّة كلامه، وواسطة عقده، وماظنّك بأجود كلام، لابلغ إمام" (26).

المبحث الثالث: رسائله الاخوانية

كتب ابن العميد الرسائل الديوانية، كما كتب الرسائل الأخوانية، علماً أنهما تختلفان من حيث البناء والهندسة واختيار الألفاظ والاهتمام بالدلالة والتصوير والتلوين والفن والمساحة المواخاة طلولاً وعرضاً ومحوراً ومتناً.

ورسائله تضمها كتب التاريخ والتراجم والأدب، وقد ضاع معضمها كما تذكر لنا كتب الفهارس وقد تناولنا القسم الأول منها (الديوانية) بمثال؛ وحللناه تفصيلياً وخرجنا بنتائج نختلف فيها مع بعض النقاد والدارسين.

وهنا نحن الآن نتناول القسم الثاني من رسائله؛ ذلك هو (الرسائل الاخوانية)، إذ أفادنا الحصري القيرواني (ت 453هـ) بايراد بعض منها في زهر أدبه. ونختار الرسالة الآتية التي كتبها ابن العميد إلى بعض اخوانه؛ قائلاً:

(أنا أشكو إليك جعلني الله فداك دهراً خؤوفاً غدوراً، وزماناً خدوعاً غروراً، لا يمنح ما يمنح الا ريث ما ينتزع، ولا يبقي فيهما يهب الا ريث ما يرتجع، يبدو خيره لمعاً ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعاً ثم يمتنع. وكانت منه شيمة مألوفة، وسجية معروفة، أن يشفع ما يبرمه بقرب انتقاض، ويهدي لما يبسطه وشك انقباض، وكنا نلبسه على ما شرط، وان خاف منه وقسط، ونرضى على الرغم بحكمه، ونستئم بقصده وظلمه، ونعتد من أسباب المسرة أن لا يجيء محذوره مصمتاً بلا انفراج، ولا يأتي مكروهه صرفاً بلا مزاج، ونتعلل بما نختلسه من غفلاته، ونسترقه من ساعاته، وقد استحدث غير ما عرفناه سنة مبتدعة، وشريعة متبعة، وأعد لكل صالحة من الفساد حالاً، وقرن لكل خلة من المكروه خلالا.

وبيان ذلك جعلني الله فداك أنه كان يقنع من معارضته الإلفين بتفريق ذات البين، فقد إنثنى ممنواً فيك بجميع ما أوغره، وما أطويه من البلوى منك أكثر مما أنشره، وأحسبني قد ظلمت الدهر بسوء الثناء عليه، وألزمته جرما لم يكن قدره بما يحيط به وقدرته ترتقي إليه، ولو أنك أعنته وظاهرته، وقصدت صرفه وازرته، وبعتني بيع الخلق وليس فيمن زاد، ولكن فيمن نقص، ثم أعرضت عني إعراض غير مراجع، وأطرحتني اطراح غير مجامل، فهلا وجدت نفسك أهلا للجميل حين لم تجدني هناك، وأنفذت من حل ما عقدت من غير جريمة، ونكث ما عهدت من غير جريرة. فأجبني عن واحدة منها.

ما هذا التغالي بنفسك، والتعالي على صديقك، ولم نبذتني نبذ النواة، وطرحتني طرح القذاة؟ ولم تلفظني من فيك، وتمجني من حلقك، وأنا الحلال الحلو، والبارد العذب؟ وكيف لاتخطرني ببالك خطرة، وتصيرني من أشغالك مرة، فترسل سلاماً ان لم تتجشم مكاتبة، وتذكرني فيمن تذكر إن لم تكن مخاطبة؟ وأحسب كتابي سيرد عليك فتنكره حتى تتثبت ولا تجمع بين اسم كاتبه وتصور شخصه حتى تتذكر: فقد صرت عندك ممن محا النسيان صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك، ولعلك تتعجب من طمعي فيك وقد توليت، وإستمالتي لك وقد أبيت، ولا عجب فقد يتفجر الصخر بالماء الزلال، ويلين من هو أقسى منك قلباً فيعود إلى الوصال). (27)

التحليل:

لغرض الولوج إلى جو هذا النص النثري، فلابد من قراءة نفحص فيها أفكار النص التي ينتظمها بناؤه وتتميز فيه هندسته، ونحن إذ نتلمس الغرض واضحاً وهو العتاب والشكوك. نجد الرسالة خطاباً مباشراً بين المرسل والمتلقي، ذاكراً غدر الزمان وانتزاعه وقصر عمر لمعانة وشدة ظلمه عند حكمه ونزول دواهيه.

وأشار ابن العميد إلى إعراض صاحبه عنه بلا سبب ولا جريرة، طالبا منه الإجابة فيما ذكره في الرسالة من صور العتاب، معتبراً صديقه مغاليا بنفسه ومتعالياً على زميله، متمنياً أن تعود المياه إلى مجاريها، ويعود القلب القاسي إلى الوصال. فنلاحظ هندسة وتتابعا في النص، لأن أفكاره تسير في نسق من الترتيب والتطبيع مما يؤدي ويصب في الجانب الإيجابي المطلوب وهو التئام الجروح والعودة للوصال.

وهو يبتدئ رسالته بشكواه دهره المخيف ويتوسط ذلك القول جملة اعتراضية (جعلني الله فداك)، واصفا الأثر السلبي الذي يتركه خداع الزمان وغروره، ويأتي إلينا بفقرة جديدة يقول في بدايتها (وبيان ذلك جعلني الله فداك...) ليبين لنا من هو ذلك الزمان المشخص ويكرر جملته الاعتراضية، ثم يدخل علينا بفقرته الثالثة وهي عبارة عن بنية من الاسئلة والاستفسارات، وعلامات التعجب بـِ: ما ولمَ، وكيف؟ ثم يخاطبه بقوله: ولعلك تتعجب من طمعي فيك...) إذ أنا الحوار واضح في العبارة ثم يأتي الجواب من القلب ليقول فيه: (ولا عجب...) فينطق بالعبارة التي يرغب فيها ويرتضيها في سمة الوصال.

وإذا ما أردنا أن نتناول اختيار الجمل والألفاظ، قال: (دهراً خؤوفاً غدوراً) وقال (زماناً خدوعاً غرورا) تلاحظ الموازنة والمزاوجة في العبارتين، وكأنك تعيش أمام صورة من الوزن بمفردات تخضع لنظام من الاختيار الدقيق لثلاثيتين من المزاوجة في الحروف والكلمات والصوت والإيقاع. وكذلك في عبارتي (... الاريث ما ينترع) و(... الا ريث ما يرتجع). والحالة هذه كتلك مزاوجة لثلاثيتين تركيبا وإيقاعا. وكذا الحال في العبارتين: (يبدو خيره لمعا ثم ينقطع) و(يحلو ماؤه جرعا ثم يمتنع). فهاتان حماسيتان من المزاوجة والتقابل وزنا وتركيباً، فالفعل المضارع (يبدو) يقابل الفعل المضارع (يحلو). وإن مفردة (خيره) تقابل مفردة (ماؤه) من حيث الإسم والإضافة للضمير، وكذلك تقابل مفردتي (لمعاً) و(جرعاً). ثم التساوي التام بـِ (ثم). وبعد ذلك يأتي تأثير الفعل المضارع (ينقطع) مقابلا للفعل المضارع (يمتنع).

ثم تأتي الثنائيتات (شيمة مألوفة) و(سجية معروفة). وكذلك المفردتان (انتقاض) و(انقباض)، والمفردتان: (شرط) و(قسط). وكذا (حكمه) و(ظلمه). و(بلا انفراج) و(بلا مزاج). و(غفلاته) و(ساعاته). و(مبتدعة) و(متبعة) والمفردتان (حالاً) و(خلالاً). فهي تارة مزاوجة في المصدر أو الفعل أو الإسم المضاف للضمير أو الصفة والسجع ظاهر قصير الفقرات. أما حالاً وخلالاً فهو سجع المفعولية.

ثم يجري في الفقرتين الثانية والثالثة ليمزج السجع بغيره. فقد تحرر من السجع في الفقرة الثانية، وعاوده في الثالثة سائراً فيه إلى نهاية الرسالة: (الزلال) و(الوصال).

هكذا كان اختيار الألفاظ عند ابن العميد وما رافق ذلك من تسجيع ومزاوجة. وعما ذكره هذا الكاتب من ترادف، نجد: دهراً وزماناً، ينتزع ويرتجع، ينقطع ويمتنع، شيمة وسجية، يمنح ويهب، ويحلو والحلو، نختلسه ونسترقه، سنة وشريعة، أعنته وآزرته، إعراض واطراح، جريمة وجريرة، نبذتني وطرحتني، نبذ وطرح، نبذتني ولفظتني، من فيك ومن حلقك. فهو يريد أن يؤكد الأحداث والعبارات دون تكرار للألفاظ، ولذلك نجده يستخدم الترادف المؤدي الجميل.

وإذا ما فتشنا عن البديع البلاغي، فاننا نجده في فن الطباق، في مفردات: يمنح وينتزع، يهب ويترجع، الصلاح والفساد، أطوبة وأنشره، زاد ونقيض النسيان والتذكر، اللين والقسوة.. وهذا الطباق المتنوع المختلف يبرز الصورة الإيجابية للفكرة ثم يعرض ما يتناقضها ليجعل المتلقي بين اختيارين أحدهما حلو والآخر مر، ولابد من اختبار الأصوب.

وإذا ما تحولنا إلى فن الجناس، فنجده في: خلة وخلالا، بعتني وبيع، أعرضت وأعراض، أطرحتني وأطرح، نبذتني ونبذ، وطرحتني وطرح، كتابي وكاتبه ومكاتبته، تذكرني وتتذكر، تتعجب وعجب، وتخطرني وخطرة.

وإذا ما استوضحنا عن البيان في هذه الرسالة وجدنا شيئاً من المجاز والاستعارة والتشبيه غير المباشر.

فمن المجاز، قال ابن العميد؛ (أشكو دهراً...)؛ فالشكوى لا تقدم ضد الدهر؛ وأنما ضد الإنسان الغادر الخدوع المغرور. وهذا الدهر ليس له خير أو ماء؛ وأنما هو المجاز في الاستخدام. وقال:(لا يمنح مايمنح...) وهذا تشخيص. كما جعل للدهر شيماً وسجايا مثل ما هو لدى الناس، وجعله يشفع ويعطي ويهدي ويحكم ويظلم. وهذا من التشخيص، وجعل له غفلات تختلس وساعات تسترق، وكل هذا طبيعة صامتة ثم تحويلها من أمور معنوية إلى أشياء مادية يمكن لمسها ونقلها واختلاسها واستراقتها. وهذا تشخيص بلاغي.

وجعل البلوى تطوى كما تطوى المزادة، وقال: (ظلمت الدهر) و(الزمته جرماً...) فحوله إلى انسان مجرم وجان، وقال: (وبعتني) في مخاطبة صاحبه والإنسان لا يباع، وهذه كناية عن الترك والقطيعة، وكذلك الحال في عبارات: (تلفظني من فيك) و(تمجني من حلقك) و(محا النسيان صورته...).

فتشخيص المعنوي: (يتفجر الصخر بالماء الزلال) و(يلين من هو أقسى منك قلباً)، أي يلين الإنسان الجاف الملئ بالجفاء.

وهنالك صور تخدم افكار النص، ومنها: صورة اللمعان سريع الانقطاع، وصورة المزادة التي تطوى، وبيع الخلق، ونبذ النواة، وطرح القذاة، واللفظ من الفم أو الحلق، وتفجر الصخر بالماء الزلال.

وهذا التشخيص وتلك الصور؛ إنما هي نابعة من العاطفة الصادقة التي هي صدى لأفكار المرسل، وهي برمتها صور خيالية غير متكلفة، كما أنها متجانسة متألفة وقد انتقاها ابن العميد من الواقع للتعبير عن تجربته؛ فما أثارت ألواناً من العواطف؛ مما دعاها أن تكون أكثر قدرة على التعبير.

الهوامش

1. أنظر: الكامل في التاريخ، لابن الأثير. ج7/37 ـ 38، وفيات الأعيان، لابن خلكان. ج5/104، نهاية الأرب ـ للنويري. ج3/112، معاهد التنصيص العباسي. ج2/115 ـ 124، ودائرة المعارف الإسلامية ـ (النسخة العربية)، م1/354 ـ 355.

2. صبح الأعشى، للقلقشندي، ج1/93.

3. الكامل في التاريخ، ج7/37.

4. يتيمة الدهر، للثعالبي، ج3/158، وفيات الأعيان، لابن خلكان، ج1/417.

5. الفهرست لابن النديم/ 149.

6. (م.ن.)/ 140.

7. (م.ن.)/139.

8. وفيات الأعيان. ج5/104 ـ 105، ويتيمة الدهر، ج3/160 ـ 161.

9. هو: أحمد بن محمد بن ثوابه، من كبار المنشئين في العصر العباسي، وكان كاتب ديوان الرسائل لمعز الدولة (أحمد بن بويه) قبل أن يليه ابراهيم الصابئ، أنظر: النجوم الزاهرة، للأتابكي. ج3/ 324 والأعلام، للزركلي، ج1/200.

10. الامتاع والمؤانسة، للتوحيدي، ج1/66.

11. كان قيماً على خزانة كتب ابن العميد؛ وقد صحبه فترة طويلة، أنظر: الامتاع والمؤانسة، ج1/32، 35.

12. تجارب الأمم، مسكويه، ج2/277.

13. يتيمة الدهر، للثعالبي، ج3/158.

14. الكامل في التاريخ، لابن الأثير، ج7/37 ـ 38.

15. وفيات الأعيان وأبناء الزمان. ج5/103.

16. (م.ن.)، ج5/104.

17. صبح الأعشى، ج5/275.

18. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج3/31.

19. تاريخ الأدب العربي، للزيات، /235.

20. ابن العميد./48.

21. الفن ومذاهبه في النثر العربي، /209.

22. النثر الفني في القرن الرابع، ج2/245 ـ 246.

23. أمراء البيان، /508.

24, يتيمة الدهر للثعالبي، ج3/167 ـ 168. وقد نقل هذه الرسالة الأستاذ أنيس المقدسي؛ دون تحليل، أنظر: تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، ط3/257 ـ 260.

25. يتيمة الدهر، للثعالبي، ج3/169.

26. يتيمة الدهر، ج3/166.

27. زهر الآداب، للحصري القيرواني، القاهرة، المطبعة الرحمانية، 1925، ج2/244.

 

المصادر والمراجع:

1. ابن العميد، خليل مردم، دمشق، مكتبة عرفة، 1350هـ ـ 1931م.

2. الأعلام، خير الدين الزركلي، ط4، بيروت، دار العلم للملايين، 1979م.

3. الامتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي تصحيح وضبط وشرح: أحمد أمين وأحمد الزين، بيروت، مكتبة الحياة، (1373هـ ـ 1953م).

4. أمراء البيان، محمد كرد علي، ط3، بيروت، دار الأمانة، 1388هـ 1969م.

5. تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، ط26، بيروت، دار الثقافة، (د.ت.).

6. تجارب الأمم وتعاقب الهمم، أحمد بن محمد مسكويه، القاهرة، (د.ن.)، 1916م.

7. تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، أنيس المقدسي، ط3. بيروت، دار العلم للملايين، 1965م.

8. دائرة المعارف الإسلامية، اعداد وتحرير: ابراهيم زكي خورشيد واخرين. القاهرة، مطابع الشعب، 1969م.

9. زهر الآداب، الحصري القيرواني، القاهرة، المطبعة الرحمانية، 1925م.

10. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، بيروت، دار الفكر، 1988م ـ 1409هـ.

11. صبح الأعشى في صناعة الإنشا، أحمد بن علي القلقشندي، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة، (1383هـ ـ 1963م).

12. الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف. ط6 القاهرة، دار المعارف، 1971م.

13. الفهرست، لابن النديم، تح: رضا تجدد، طهران، مطبعة جامعة طهران، 1971م ـ 1391هـ.

14. الكامل في التاريخ: لابن الأثير الجزري، ط2، بيروت، دار الكتاب العربي، 1387هـ ـ 1967م.

15. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، عبد الرحيم بن أحمد العباسي، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، عالم الكتب، 1367هـ ـ 1947م.

16. النثر الفني في القرن الرابع، د. زكي مبارك، بيروت، دار الجليل، 1975م.

17. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي الاتابكي، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة، (د.ت.).

18. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهاب النويري، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1342هـ ـ 1924م.

19. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأحمد بن محمد بن خلكان، تح: د. إحسان عباس، بيروت، دار الثقافة، (1968م).

20. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، لأبي منصور الثعالبي، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة، (د.ن.)، 1947م.