المادة: أصول الفقه
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 023.doc

مشروعيّته

لأنّنا عرفنا من خلال عرضنا لرأي السيّد المرتضى ورأي الشيخ‏ الطوسي ودليل كلّ منهما ، الخلاف في حجيّة خبر الواحد ومشروعيةالعمل به سوف نحاول - هنا - الاقتصار على ما ذكره المتأخّرون‏ والمعاصرون في شرعيّة العمل بخبر الواحد بالرجوع إليه كمصدرتشريعي.

يقول اُستاذنا السيّد الخوئي :( وقع الخلاف بين الأعلام في حجيّة خبرالواحد:

- فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى عدم حجيّته ، بل ألحقه بعضهم‏بالقياس في انّ عدم حجيّته من ضروري المذهب).

وقد عرفنا هذا مفصّلاً في بحثنا عن وقوعه.

- ((وذهب المشهور إلى كونه حجّة )).

وعرفنا أيضاً انّ المسألة اكتسبت هذه الشهرة من عهد المحقّق الحلّي.

والآن لنكن مع أدلّة الطرفين المنكرين للحجيّة والمثبتين لها ، ممّاعرضه المتأخّرون ومتأخّروهم والمعاصرون.

  •     (أدلّة المنكرين) :

استدلّ القائلون بعدم جواز العمل بخبر الواحد بما يلي :

1 - الإجماع :

ويريدون به اتّفاق فقهاء الإماميّة على ذلك .. وهو ما ادّعاه الشريف‏المرتضى - كما تقدّم.

 ونوقش :

بأنّ الإجماع المدّعى غير تام ، لوقوع الخلاف في المسألة - كما تقدّم -يقول الشيخ الأنصاري في ( الرسائل ) :

(( لم يتحقّق لنا هذا الإجماع‏والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد ، مع معارضته لدعوى الشيخ‏المعتضدة بدعوى اُخرى الإجماع على حجيّة خبر الواحد في الجملةوتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخّرين )).

2 - الكتاب :

وذلك بالآيات الناهية عن العمل بغير علم ، أمثال قوله تعالى : ( ولا تقف‏ما ليس لك به علم )وقوله : ( إنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً ).

ويناقش الإستدلال بهما بما حاصله :

في هاتين الآيتين وأمثالهما دعوةً إلى التثبّت وعدم الإيمان بالشي‏ءحكماً أو موضوعاً ، سلباً أو إيجاباً ، إلّا بعد العلم به ، أي معرفته على‏حقيقته وبواقعه ، وهو المبدأ العام الذي يعتمد عليه نظام حياة الإنسان.

والتمسّك بخبر الثقة والعمل على وفقه هو من نوع الأخذ بالعلم ، وذلك‏لثبوت مشروعيّته بالدليل القطعي ، فالأخذ به - في الحقيقة - أخذ بدليله ،وهو من نوع العلم ، فلا يكون من غير العلم الذي نهى القرآن عنه.

ونوقش ببيان آخر اعتمد فيه المناقش تطبيق القواعد الاُصوليّة فقال :

(( أوّلاً : انّ مفاد الآيات الشريفة إرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل‏العلم بالمؤمن من العقاب وعدم جواز الاكتفاء بالظنّ به ، بملاك وجوب دفع‏الضرر المحتمل إن كان اُخرويّاً ، فلا دلالة لها على عدم حجيّة الخبر أصلاً.

وثانياً : على تقدير تسليم أنّ مفادها الحكم المولوي ، وهو حرمة العمل‏بالظنّ، فانّ أدلّة حجيّة الخبر حاكمة على تلك الآيات ، فانّ مفادها جعل‏الخبر طريقاً بتتميم الكشف ، فيكون خبر الثقة علماً بالتعبّد الشرعي ،ويكون خارجاً عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعاً.

هذا بناءً على انّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الطريقية ، كماهو الصحيح.

وأمّا بناء على أنّ المجعول هو الحكم الظاهري مطابقاً لمؤدّى الأمارة ،وانّ الشارع لم يعتبر الأمارة علماً ، تكون أدلّة حجيّة خبر الثقة مخصّصةللآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، فانّ النسبة بينها وبين الآيات هي‏العموم المطلق ، إذ مفاد الآيات عدم حجيّة غير العلم من خبر الثقة وغيره‏في اُصول الدين وفروعه ، فتكون أدلّة حجيّة خبر الثقة أخصّ منها.

وبالجملة ، أدلّة حجيّة خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة أمّابالحكومة أو بالتخصيص ))(1).

3 - السنّة :

وذلك بنوعين من الروايات :

أ - الروايات الناهية عن العمل بالخبر الذي لم يعلم صدوره عن‏المعصوم إلّا إذا اقترن بقرينة معتبرة من القرآن أو السنّة القطعيّة.

(( مثل ما رواه في ( البحار ) عن ( بصائر الدرجات ) عن محمّد بن عيسى‏قال : أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه‏السلام وجوابه عليه السلام بخطّه، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن‏آبائك وأجدادك-صلوات الله عليهم أجمعين - قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف‏العمل به على اختلافه؟

فكتب عليه السلام بخطّه : ما علمتم انّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه‏فردّوه إلينا )).

ب - الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر الذي لا يوجد عليه شاهد أوشاهدان من القرآن أو السنّة القطعيّة.

أو قل : الذي لا يوافق الكتاب والسنّة القطعيّة.

مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما جاءكم عنّي ممّا لا يوافق القرآن فلم أقله ).

وقول أبي جعفر وأبي عبدالله 8 : ( لا يصدق علينا إلّا ما يوافق كتاب الله‏وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم (.

وقوله عليه السلام : ( إذا جاءكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهداً أوشاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى نبيّن‏لكم).

وهذه الروايات - كما يقول اُستاذنا الخوئي - كثيرة ومتواترة إجمالاً.

ووجه دلالتها - أيضاً - واضح ، إذ من المعلوم انّ أغلب الروايات التي‏بأيدينا ليس عليها شاهد من كتاب الله ولا من السنّة القطعيّة ، وإلّا لمااحتجنا إلى التمسّك بالخبر.

وردّ قدس سره الإستدلال بها بقوله : » انّ الروايات الواردة في الباب‏طائفتان :

- ( الطائفة الاُولى ) : هي الأخبار الدالة على انّ الخبر المخالف للكتاب‏باطل أو زخرف ، أو اضربوه على الجدار ، أو لم نقله ، إلى غير ذلك من‏التعبيرات الدالّة على عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسنّة القطعيّة.

والمراد من المخالفة في هذه الأخبار هي المخالفة بنحو لا يكون بين‏الخبر والكتاب جمع عرفي ، كما إذا كان الخبر مخالفاً للكتاب بنحو التباين‏أو العموم من وجه.

وهذا النحو من الخبر ، أي المخالف للكتاب أو السنّة القطعيّة بنحوالتباين أو العموم من وجه ، خارج عن محلّ الكلام ، لأنّه غير حجّة بلا إشكال‏ولا خلاف.

وامّا الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة بنحو التخصيص أو التقييدفليست مشمولة لهذه الطائفة ، للعلم بصدور المخصّص لعمومات الكتاب، والمقيّد لإطلاقاته ، عنهم عليهم السلام كثيراً ، إذ لم يذكر في الكتاب إلّاأساس الأحكام بنحو الإجمال ، كقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (، وأمّا تفصيل الأحكام وبيان موضوعاتها فهو مذكور في الأخبار المرويّةعنهم عليهم السلام.

- ( الطائفة الثانية ) : هي الأخبار الدالّة على المنع عن العمل بالخبر الذي‏لايكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنّة نبيّه صلى الله‏عليه وسلم.

وهذه الطائفة وان كانت وافية الدلالة على المدّعى ، إلّا انّه لا يمكن الأخذبظاهرها للعلم بصدور الأخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنّة.

بل هي مخصّصة لعموماتهما ومقيّدة لإطلاقاتهما - على ما تقدّمت‏الإشارة إليه.

فلابدّ من حمل هذه الطائفة على صورة التعارض ، كما هو صريح‏بعضها ، ولذا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح انّ موافقة عمومات الكتاب‏أو إطلاقاته من المرجّحات في باب التعارض.

أو ( حملها ) على الأخبار المنسوبة إليهم عليهم السلام في اُصول الدين ،وما يتعلّق بالتكوينيات ممّا لا يوافق مذهب الإماميّة.

وقد روي هذا النوع من الأخبار عنهم عليهم السلام كثيراً ، بحيث انّ‏الكتب المعتمدة المعتبرة عندنا كالكتب الأربعة ونظائرها ، مع كونهامهذّبة من هذا النوع من الأخبار ، يوجد فيها منه قليل. ومن هذا القليل ما في (الكافي ) الدالّ على انّه لو علم الناس كيفية خلقهم لما لام أحد أحداً.

فانّ هذه الرواية صريحة في مذهب الجبر ، ومخالفة لنصّ القرآن لأنّ‏الله تعالى يلوم عباده بارتكاب القبائح والمعاصي.

هذا مضافاً إلى انّ هذه الطائفة معارضة بما دلّ على حجيّة خبر الثقة ،لأنّ مفاد هذه الطائفة عدم حجيّة الخبر الذي لا شاهد له من الكتاب والسنّة ،سواء كان المخبر به ثقة أو غير ثقة ، ودليل حجيّة خبر الثقة أخصّ منها ،فيقيّد به إطلاقاتها ، وتكون النتيجة بعد الجمع عدم حجيّة الأخبار التي لاشاهد لها من الكتاب والسنّة إلّا خبر الثقة «.

والحقّ ، انّ الذي يفهم من هذه الروايات هو وضع ضابطة ، أو مبدأ عام‏من قبل المعصوم لقبول الرواية أو رفضها من حيث الدلالة لا من حيث‏السند.

وهذه الضابطة هي : انّ كلّ ما وافق الكتاب والسنّة القطعيّة فهو من‏الشريعة الإسلاميّة ، وكلّ ما خالفهما ليس من الشريعة.

ذلك أنّ في القرآن والحديث المقطوع بصدوره ما يفهم منه الإطار العام‏للتشريع الإسلامي ، وهو المقصود بالموافقة حيث يدخل الخبر المروي‏داخل هذا الإطار العامّ ، ومن جهة الدلالة أيضاً.

فهي - في واقعها - غير ناظرة إلى تقييم السند ، فلا علاقة لها بمسألتنا لامنعاً للعمل بخبر الثقة ، ولا تجويزاً له.

  •     ( أدلّة المثبتين ) :

استدلّ المثبتون لحجيّة خبر الثقة وصحّة التعبّد به وجواز العمل على‏ وفقه بالعقل والنقل.

ومنهجيّاً علينا أن نبدأ باستعراض الدليل العقلي لأنّه الأساس الذي‏بني عليه البحث ، فالنصوص الشرعيّة التي استدلّوا بها هنا ما هي إلّاإمضاء وتطبيق للسيرة الاجتماعية العقلائية.

وعليه نقول :

استدلّوا على الجواز بسيرة العقلاء ببيان انّ المجتمعات البشرية من‏يوم أن كانت وحتّى يوم الناس هذا ، وعلى اختلاف أنماطها السلوكيّة ،تعتمد في معظم شؤون حياتها على خبر الثقة.

وهكذا ظاهرة بهذه الشموليّة ، وبهذا الوضوح لا يمكن التعلّق بذيل‏إنكارها.

وما كان عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عصور الأئمّة عليهم‏السلام من بعده ، سائرة على غير هذا.

وشاهده الوفود التي كانت تفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخبارمجتمعاتها ، والبعوث التي يبعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتبلّغ‏الأحكام ، أمثال : معاذ بن جبل إلى اليمن ، ومصعب بن عمير إلى المدينة ،وقيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ومالك بن نويرة إلى عشائرهم ، وأبان‏بن سعيد بن العاص إلى البحرين.

وللدعوة إلى الإسلام فقد بعث صلى الله عليه وآله وسلم إثني عشر رسولاً لإثني عشر ملكاً.

وفي ( الرسالة ( للإمام الشافعي : » أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن‏عطاء بن يسار : انّ رجلاً قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك فدخلت على اُمّ سلمة اُمّ المؤمنين فأخبرتهافقالت اُمّ سلمة:

انّ رسول الله يقبل وهو صائم ، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته‏ فزاده ذلك شرّاً ، وقال : لسنا مثل رسول الله يحلّ الله لرسوله ما شاء ،فرجعت المرأة إلى اُمّ سلمة فوجدت رسول الله عندها ، فقال رسول الله : مابال هذه المرأة؟ فأخبرته اُمّ سلمة ، فقال : ألا أخبرتها أنّي أفعل ذلك ، فقالت ‏اُمّ سلمة قد خبّرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرّاً ، وقال: لسنامثل رسول الله يحلّ الله لرسوله ما شاءه ، فغضب رسول الله ، ثمّ قال :والله إنّي لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده ).

قال الشافعي : في ذكر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( ألا أخبرتها أنّي أفعل ذلك ) دلالة على انّ خبر اُمّ سلمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ممّا يجوز قبوله لأنّه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، إلاوفي خبرها ما تكون الحجّة لمن أخبرته .. وهكذا خبر امرأته ان كانت من ‏أهل الصدق عنده )) (2) .

ومن شواهده أيضاً ما كان يدور في مجتمع المدينة المنوّرة بمرأى‏ ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من بعده ،ورواة الحديث الذين كانوا ينتشرون بين المسلمين في مختلف أماكنهم ‏ينقلون إليهم الأحاديث ويتلقّاها المسلمون ويعملون بمفادها.

فهي - كما يقول اُستاذنا الخوئي - : (( انّ العمل بالحجج العقلائيّة القائمةعلى العمل بها سيرة العقلاء لا يكون عملاً بغير العلم في نظر العرف‏والعقلاء.

ولذا لم يتوقّف أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم في العمل‏ بالظواهر (ظواهر الألفاظ ) ، مع انّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ‏بمرأى منهم ومسمع، وهم من أهل اللسان ، وليس ذلك إلّا لأجل أنّهم لا يرون‏ العمل بالظواهر عملاً بغير العلم بمقتضى قيام سيرة العقلاء على العمل‏بها.

وحال خبر الثقة هي حال الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به )).

ـــــــــــــــــ

الهامش

1- مصباح الاُصول 152 - 1151/2.

2- ص‏406 ط2 .