تصنیف البحث: الفن
من صفحة: 438
إلى صفحة: 464
النص الكامل للبحث: PDF icon 180530-221038.pdf
خلاصة البحث:

لازال حتى اليوم لا يقدر البعض قيمة الصورة بالعموم والصورة السينمائية بالخصوص، حيث يحاول البعض أنساب ما تمتلكه الصورة الى غير مجالها، ناسياً أو متناسياً إن لتلك الصورة من خصائص (حركة- واقعية- شاشة عريضة- ألوان- الشخصية الوجودية- الواقعية الفنية- الدور التعبيري- وحدة المعنى- تشكيلية الصورة) ما لا يمتلكه أي وسيط تعبيري في الفنون والآداب الأخرى، حتى أصبحت الصورة هي سيدة الثقافة اليوم فهي إذ تخاطب الإنسان البسيط في أقصى الأماكن بعداً عن متطلبات الحضارة البسيطة نجدها في الوقت نفسه تُشاهد من قبل أعتى المثقفين والمغرقين بالفلسفة والجمال بل عدت هي الأداة التي من خلالها يستطيع كل من يمتلك أدواته المنهجية الثقافية والجمالية من أن يطرح ما يريد عبرها، حتى أضحت حلماً للكثير منهم، ومن تلك المفاهيم القديمة الجديدة هي السينما الشاعرية أو الشاعرية كما يحلو للبعض تسميتها، وهي من سمات السينما ضمن اشتراطات الصورة وعجباً للبعض من أن يذهب تلك الواقعية الحلمية وحتى الانطباعية السريالية الى غيرها، في الوقت ذاته لا يعني هذا إن تلك الصورة في بداية نشأتها عدت ضمن بعض التصنيفات بأنها تنطوي تحت لواء (الفن السابع) الذي أحتوى الفنون السبعة، ولكنها اليوم وفي الأمس كانت هي التي أمتلكت عنوان العبقرية، في قدرتها على رسم كل ما يجول في داخل الإنسان من حلم وألم وخارجه في صراعه مع ذاته والآخر والطبيعة، من خلال اللوحة التشكيلية والصورة الشاعرية بمعمارية ونحت عالي الجمالية يتمايل كرقص الباليه في محاكاته للفعل داخل الصورة السينمائية.

تضمن الفصل الأول (الإطار المنهجي) مشكلة البحث والتي تحددت بالشكل الآتي " ما هي سمات السينما الشاعرية عند المخرج أندريه تاركوفسكي" ؟ متبوعة بالأهمية أيضاً. وكانت أهداف البحث تتمثل في "الكشف عن ماهية سمات السينما الشاعرية" أما حدود البحث فقد تمثلت بفلم (المرآة) كعينة قصدية.أما الفصل الثاني (الإطار النظري) فقد ضم مبحثين، كان الأول منها هو " السينما الشاعرية المصطلح والمفهوم وتناول هذا المبحث الشاعرية في السينما كفن إبداعي بعد اكتمال نضج السينما (اللون والصوت)، أما المبحث الثاني فقد تناول الشاعرية السينمائية في السينما عند المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي.

في الفصل الثالث والذي يضم إجراءات البحث بما فيه عينة البحث التي ضمت فلم (المرآة) المخرج الروسي (أندريه تاركوفسكي)، أما أداة البحث فكانت مؤشرات الإطار النظري، أما وحدة التحليل فكانت المشهد الفلمي كاملاً.

Abstract

Till now same do not correctly evaluate the value of the in general and the film image in particular, hence some claim that some of picture characteristics belong to something else, forgetting that the image has some special features such as, (realistic motion, wide screen, the colour of presence, artistic realism, expressive roles, unit meaning, image lineup) which are not found in any other artistic media. Because 0f that the image becomes the master of culture today. It addresses the man in any place beyond the need of civilization and at the same time it is seen by the most educated people and especially those who are fond of philosophy and beauty as well as it is considered the tool through it those who have their cultural tools presents what he wants.

One these old-new concepts is the poetic cinema or poetic as some like to call. At first it is not considered as one of the seven arts bat today it is, as it was in the past, who has the ability to present all what is inside man of dreams and pain and outside him in his struggle with himself, the other, and nature through the fine painting and poetic image.

The first chapter (methodoligical framework) includes the problem of the study which is as follow ''what are the features of poetic cinema according to the director Andrea Tarkovisky. This chapter also contains the importance of the features of the poetic cinema. This study is limited to (the woman) a film which is considered a deliberate sample. The second chapter (theoretical background) includes two parts. The first, the poetic cinema, the term and concept. This part sheds light on the poetic cinema to the russian director Andrea Tarkovisky. The second part deals with the life of the film director. The third chapter (procedures) sheds light on the sample of the study (the woman film). The tool of the study is what is mentioned in the theoretical background and unit of analysis is the whole film.

البحث:

الفصل الأول – الإطار المنهجي

  1. مشكلة البحث:

أن هذا العالم – عالم السينما - له من الإمكانات القدرة الكبيرة في توظيف الأشياء بما يخدم عالم الإنسان، ويغلفها بمسحة قد تفتقر إليها الفنون الأخرى، وبما أن كل الفنون تنطلق من مفهوم واحد ألا وهو (المحاكاة) إلا أنها تختلف بتوظيف تلك المحاكاة من خلال الرؤية والتقنية المتاحة لكل وسيط تعبيري لتلك الفنون، والشاعرية في السينما تحفل بمجموعة من الملامح الجمالية والتكوينية التي تنعكس من خلال الصورة المرئية ضمن توجهات صانع العمل، وبين تلك الشاعرية ورؤية صانع العمل يحاول الباحث استقراء إنجازات المخرج أندريه تاركوفسكي وتحديد سمات سينماه الشاعرية، ومن هنا كانت مشكلة البحث في (ما هي سمات السينما شاعرية في أعمال المخرج أندريه تاركوفسكي؟).

  1. أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في الكشف عن سمات السينما الشاعرية في أعمال المخرج (أندريه تاركوفسكي) وهو بحث يركز على الشاعرية في السينما وبذلك يقدم البحث الباكورة الأولى في هذا المجال ليكون مقدمة لبحوث قادمة.

  1. أهداف البحث:

تبلور هدف البحث بالشكل الآتي: الكشف عن سمات السينما الشاعرية في أعمال المخرج (أندريه تاركوفسكي).

  1. حدود البحث:

لا يوجد في البحث حد مكاني أو زماني، كون إن عنوان البحث قد حدد الباحث بالحد الموضوعي الذي هو (سمات السينما الشاعرية في أعمال المخرج اندريه تاركوفسكي).

الفصل الثاني

المبحث الأول: السينما الشاعرية / المصطلح والمفهوم

يبلغ عمر السينما اليوم قرناً ونيفاً وهو مقارنة بالفنون الجميلة الستة يعد في المهاد، ولازال حتى اليوم يبتكر ويطور آلياته الفنية والتقنية، وكل ذلك يتم من خلال التجريب المستمر في الشكل والمضمون، بالإضافة الى قدرته الكبيرة في صهر الفنون الأخرى في بوتقته، واستعارة واحتكاك أدوات اللغة والأدب، ليس لعدم اكتمال نضجه كفن وغياب وسيطه التعبيري الذي يعطيه الاستقلالية التامة عنها، بل لقدرته على توظيف تلك الفنون والآداب داخل كيانه الفلمي " بل وينبغي عليها أن تكون أداة رائعة للشاعرية الجديدة التي لم تكن آنئذ موجودة بالفعل... فعند ذلك الحين آخذ كانودو يتساءل حول دلالة وأبعاد هذا الفن الذي كان هو أول من أطلق عليه أسم (الفن السابع) كانت السينما تأتي بالنسبة الى كانودو لتضاف الى الفنون التقليدية: الهندسة، الموسيقى، الرسم، النحت، الشعر والرقص، إنها في الوقت نفسه اندماج الفنون التشكيلية والفنون الإيقاعية اندماج العلم والفن"([1]). بمعنى إن لقدرة هذا الوسيط من إن يحوي كل وسائط تعبير الفنون الجميلة الأخرى وتوظيفها بما يخدم هدفه إذن للسينما " كوسيلة تعبير مدى تعبيري غير اعتيادي. فهي تشترك مع الفنون التشكيلية في حقيقة كونها تكويناً مرئيا يسقط على سطح ذي بعدين، ومع الرقص في قدرتها على معالجة الحركة المنسقة ومع المسرح في قدرتها على خلق كثافة درامية للأحداث، ومع الموسيقى في قدرتها على التأليف في إطار الإيقاع والجمل الزمانية، كما يمكن تواجد الأغنية والآلة الموسيقية، مع الشعر في قدرتها على وضع صور الى جانب بعضها، ومع الأدب في قدرتها على الإحاطة بالتجريد المعروف في اللغة فقط – عموما عن طريق الشريط الصوتي"([2]) وليس خافياً إنه لا يمكن لأي فن من أن يكتسب درجة التخصص إلا إذا تبلور وسيطه التعبيري " وليس من قبيل الصدفة أن تعرف فكرة السينماتوغراف لحظة ولادتها عام 1894 في براءة الاختراع التي سجلها (بو. ج. و. ويلز) على النحو التالي " سرد القصص عن طريق عرض صور متحركة"([3])، تلك الصور المتحركة التي أذهلت العالم مثلما أذهلت المختصين في نفس المجال فبدأت التجريب والنظريات تتوالى في مجال هذا الوسيط التعبيري وتأثيره من خلال (السرد والشكل) خاصة بعد اكتمال نضج هذا الوسيط من (الصوت واللون) فدخلت السينما مرحلة التجريب من خلال تطبيق الرؤى المختلفة لصانعي العمل، ويلخص (غويدر اريستوركو) على النحو الآتي، النقاط الخمس التي تشغل بال منظرة (السينما المتكاملة):

  1. التعبير عن حركة مرتبطة بالإيقاع وحده.
  2. الإيقاع هو تطور الحركة المتشكلة من عنصر فيزيائي وعنصر عاطفي.
  3. ينبغي على العمل السينمائي أن يرفض كل جمالية خارجة عنه وأن يسعى للحصول على جماليته الخاصة.
  4. ان على الحركة السينمائية أن تكون هي حركة الحياة أو الحياة نفسها.
  5. ينبغي على العمل السينمائي ألا يقتصر على الشخصيات البشرية بل يمتد ليشمل مجال الطبيعة والحلم "([4]).

إن الأفلام الشاعرية انطوت تحت أسم السينما الطليعية، وإن اغلب هذه الأفلام تحتاج الى نحدد مفهومها حتى نستطيع أن نناقش منطق السينما الشاعرية. وحيث إن مفهوم الشاعرية لا يقتصر على السينما فقط بل يتعداه الى الفنون والآداب والتي سبقتها في قرون من التجريب مثل الفن التشكيلي والعمارة والموسيقى والمسرح والشعر...الخ، إن مصطلح التجريب الطليعي عند (إبراهيم فتحي) هو "مصطلح فرنسي عسكري الأصل، امتد ليشمل الحركة السياسية والفنية، وهو يعني في الأدب مجموعة الكتاب والشعراء الذين يكرسون جهودهم لفكرة ان الفن تجريب وثورة على التقليد، والفنانون هم قرون استشعار الجنس البشري، كما يقول "ازرا باوند" لذلك فأن عليهم واجباً ان يسبقوا العصر بالتجديد في الأشكال وموضوعات التناول"([5]).

لا مناص من القول بأن الفنون جميعاً تشتغل على كسر التقليد والجمود الذي ينتاب مجالها جميعاً، ولفرادة الوسيط التعبيري في السينما وللميزات الكبيرة التي يمتلكها من خلال الصورة نجد إن الفلم وصل الى مرحلة يعبر فيها عن نفسه، بمعنى أنه أصبح يهتم بالشكل " ان الشكل الفلمي القائم على التجريب ، يحتاج موضوعاً يتناسب معه مثلما يحتاج سرداً ينهض بهما معاً، وإلا أصبح الفلم مفتعلاً.ان موضوعة مثل "الملك لير" عندما تتحول إلى فلم سينمائي تجريبي فأنها تستحق شكلاً وسرداً فلميين يتناسبان وهذه الموضوعة حقا"([6])، وهذا يعني إن دراسة السينما الشاعرية تعني أن تدرس الفلم الذي أبدع اتجاها أو أسلوباً أو مدرسة مؤثرة في جماليات الفلم، مثلما هي مؤثرة في التلقي الجماهيري، وهكذا أخذت السينما الشاعرية، الطليعية، التجريبية، تأخذ حيزاً جديداً بموازاة الفنون الجميلة ، بالرغم من إنها لم تكن أسلوباً دائماً عند المخرجين بل يتخلل بعض أفلامهم بعض اللقطات أو المشاهد الشاعرية باستثناء من تخصص في هذا المجال ومنهم (أندري تاركوفسكي) موضوع البحث. "وهكذا اندثر تأثير "كلب أندلسي" و "المدرعة بوتمكين" و "المواطن كين" وأخذت لمحات بعيدة من هذه الأفلام تظهر هنا وهناك في بعض الأفلام تبدو وكأنها نوع من الحنين إلى ذلك التجريب، لكننا نستطيع القول ان التجريب الذي جاءت به السينما السوفيتية او السريالية تجمع كله في مفاهيم كلية وشمولية انتظمت في الواقعية الايطالية الجديدة مثلاً او الموجة الجديدة الفرنسية او سينما تحت الأرض، او السينما المباشرة وغيرها"([7]).

واليوم وقد تغير شكل العالم بعد الثورة التكنولوجية في الاتصال وشيوع الفضائيات والحاسوب وألنت، والذي هو نتيجة بحث الإنسان أصلاً وتوقه الى التطور ومعرفة المجهول وكشف أسرار المستقبل، وبالتالي تغير مزاجه فهو لم يعد بعد اليوم ذلك الحالم البسيط بإيقاع رتيب، بل أصبح العنف سمته مثلما هو سمة العصر والإيقاع السريع خصيصته من خلال اختصار المسافات والذي لعبت فيه (الصورة) الدور الأكبر، حتى يكاد المتلقي وهو جالس في بيته أن يسيح على شواطئ فلوريدا وغابات الأمازون وينتقل بالطائرات الى أقصى روسيا حيث الثلوج ويرجع الى خط الاستواء ليرى الحياة البرية والافتراس الذي هو القانون فيها.

ولم يعد "مصطلح (عبقرية الصورة) الذي كان كانودو قد أطلقه إنما يحدد السمة الشاعرية للأشياء والكائنات التي من الممكن لها أن تدخل دائرة الضوء وبشكل متميز عن طريق نمط التعبير الجديد. بهذا المعنى نجد أنت ديلوك ينضم الى.... (المذهب التعبيري) بوصفه مجموع عمليات الكتابة السينمائية التي تتوصل الى التعبير عن حالات الروح وعن الوقائع العاطفية. إن العناصر الأساسية لهذه الكتابة هي: الديكور، الضوء، الكثافة، والقناع (أي الممثل)"([8])، يأتي بمردود مالي يسد تكلفة الفلم في هذا الوقت والباحث لا يقف بالضد من رأي كانودو في عبقرية الصورة بقدر ما هو تثمين لرأيه في أهمية الصورة ودورها الكبير والمؤثر في حياة الإنسان ولكن ليس لخلق الأفلام الشاعرية فقط بقدر ما تقوم به من نقل الأحداث والوقائع الى بيته وعلى طبق من المجان وبطريقة ساحريه.

من خلال ما تقدم فإن الأفلام الشاعرية هي ليست تلك الأفلام التي تستهوي الجماهير، وبما ان السينما ذات تكلفة مالية كبيرة فإن الكثير من تلك الأفلام التي أنتجت لم تلق الرواج المطلوب ولم تحقق قيمة التكلفة، وبالتالي فهي تمثل في أغلب الأحيان وجهة نظر صانعيها، ونجد إن تلك الأفلام لا تحدها قوانين من ناحية الوقت فنجد أن بعض الأفلام لا يتجاوز الثلاثين دقيقة بمقابل أفلام تتجاوز الساعتين، وبالرجوع الى البحث العلمي من أجل تحديد مفهوم السينما الشاعرية نجد إن (لوي دي جانيتي) يعرف الفلم الطليعي: بقوله: "في السينما هنالك ثلاثة أصناف واسعة من الأفلام الخيالي والتسجيلي والطليعي. الطليعية تعني مقدمة الجبهة، في مقدمة الجسم الرئيسي. ("الجسم الرئيسي" في هذه الحال يعني الأفلام الروائية الطويلة التجارية) لقد سميت السينما الطليعية أسماء عدة ليست جميعها مؤدبة. في الثلاثينات والأربعينات كان المعروف هو "الفلم التجريبي" او "السينما الشاعرية" في الخمسينات كانت هذه الأفلام جزءا من "السينما المستقلة" وفي أمريكا خاصة كانت تدعى هذه السينما بمصطلح "تحت الأرض" ومنذ أوائل الستينات كان اغلب أفلام الموجة الطليعية في الولايات المتحدة يعد جزءا من السينما الأمريكية الجديدة"([9]).

ففي الوقت الذي يجد فيه (لوي دي جانيتي) صعوبة في تصنيف الأفلام الخيالية والأفلام الوثائقية، نجده يفتتح كتابه الذي ألفه في عام 1974، بالقول بدأت السينما تتطور باتجاهين رئيسيين هما الواقعية والانطباعية، ومن ثم يفرد فصلاً كاملاً للفلم التسجيلي ليستقر في نهاية كتابه الى إن الفلم في السينما ينقسم الى ثلاثه أصناف هما: الخيالي والتسجيلي والطليعي. ولا أعرف لماذا يفرد الطليعي عن الخيالي بشقيه (الواقعي والانطباعي)، إذ إن الأسلوب في الفن هو تجسيد لشكل طريقة الرؤية والتفكير عن الحياة، وهو في الوقت نفسه طريقة تعبير ضمن خلفية صانع العمل الثقافية والاجتماعية والسياسية...الخ، فهناك من يعبر عما بداخله وحوله بطريقة واقعية كما في السينما الواقعية الإيطالية وفي أفلام (امرأتان)* و (سارق الدراجة)**، وهناك من يصبغها بانطباعية كما في فلم (كلب أندلسي)*** للمخرج (لويس بيونل) والذي يعد رائد الأسلوب السريالي في السينما الانطباعية، الذي يبدأ بعمل غير معقول حيث يمسك رجل موس حلاقة ويشطر به عيني امرأة التي يحبها الى نصفين، وفي لقطات أخرى يضع صانع العمل رأس حمار على البيانو...الخ.

أما في معجم الفن السينمائي فإن الفلم الطليعي هو:" فلم جديد في نوعه، يتميز بالتعبير الجريء، يقوم به الفنان الذي يعارض الاتجاهات الجارية، ويميل الى إتباع أسلوب غير مألوف في عصره، وقد تأثر هذا النوع في بدايته بالتجريدية والتعبيرية، سواء في المضمون أو الشكل، ولقد بدأ ظهوره في فرنسا وألمانيا منذ عام 1916، وهو عبارة عن كل المحاولات والتجارب السينمائية التي ظهرت متأثرة بحركة الدادائية أو السريالية، مثل أفلام لويس ديلوك وجيرمن دولاك ومان راي وبعض أفلام كوكتو وبونويل، واليوم ظهرت في امريكا فئة من المخرجين يهتمون بهذا النوع من الأفلام مثل ستان براكيدج وكنيت أنجر وماركوبولس وغيرهم. ومن أنواع السينما الطليعية، نوعان ازدهرا منذ الخمسينات في أوربا وأمريكا:

  1. فلم المخرج المؤلف film dauteur وهو الذي ينفرد فيه شخص واحد بابتكار الموضوع، ومعالجته سينمائيا وإخراجه، وفي كثير من الاحيان، يقوم بتوليفه وإعداد الموسيقى التصويرية له، ويكون المسؤول الفني عن الفلم من جميع وجوهه الفنية، نسجا على منوال شابلن في أغلب أفلامه، أو روسيليني أحد مؤسسي الواقعية الجديدة، في بعض أفلامه.
  2. السينما السرية underground وهي تلك التي شاعت بالولايات المتحدة منذ الخمسينات حتى اليوم، ومن أهم روادها آندي وارهول وهذه التسمية أطلقت على الأفلام التي تستقل عن تمويل الشركات الكبرى، وتعتمد على رأس مال ضئيل وتستخدم أفلام 16 و8 مللي في معظم الاحيان. وهي غير ملتزمة إلا بمقتضيات التعبير الحر عن فكرة سياسية أو موضوع جنسي، أو مفهوم جمالي وقد تعرف بأسم (السينما المتحررة أو المطلقة)([10]).

أما صفات الفلم الطليعي فهي:

  1. الأفلام الطليعية عموما لا تعد جزءاً من صناعة التسلية كما هي الحال مع أغلب الأفلام الخيالية.
  2. الأفلام التجريبية يمكن أن تكون مثيرة وذكية واستفزازية.
  3. أغلبها تكون معقدة من الناحية التقنية وعسيرة على الفهم على الأقل في عرضها الأول.
  4. بعضها يستغرق ست أو ثماني ساعات بينما البعض الآخر يستغرق مجرد بعض ثوان
  5. أغلب هذه الأفلام صوراً بقياس 16 ملم وبعضهم تحول الى سوبر 8 ملم لكي يقلل النفقات.
  6. كل أفلام الموجة الطليعية تقريباً انطباعية.
  7. الأفلام الطليعية باستثناء القلة الملحوظة لا نصوص لها عموماً.
  8. الأبنية السردية التقليدية نادرة في هذه الأفلام.
  9. إن جذور الموجة الطليعية يمكن تتبع آثارها الى الدادائية وهي حركة فنية وضعت ثقلاً كبيراً على القيم الفوضوية واللامعقولة.
  10. السينما الطليعية تهتم بالذاتي والشخصي وفي بعض الأحيان بالأفكار والمشاعر الشديدة الخصوصية. إنَّ العديد من هذه الأفلام يرتبط أكثر بالفنون التجريدية كالموسيقى والرقص والرسم أكثر منها بالدراما والقصة الخيالية.
  11. المرئيات في أغلب هذه الأفلام التجريبية تشبه اللغة الشاعرية فهي شديدة الكثافة ومنحنية ولذلك فإنها في الأغلب أعقد من أن يتم هضمها في جلسة واحدة.
  12. العدسات والمرشحات تستخدم في هذه الأفلام بتحلل مسكر، التعريض المزدوج والمتعدد يتكرر والألوان تستخدم بشكل غير طبيعي.والمؤثرات الضوئية يمكن أن تكون مذهلة وفائضة، والمؤثرات الخاصة شائعة خاصة في الأفلام الطليعية الأمريكية"([11]).

وبعد أن تحددت صفات الأفلام الطليعية بقي أن نعرف كيف حدد أو قسم مؤرخو السينما عموما السينما الطليعية وفي أي فترة زمنية ظهرت ملامحها، حيث يقسم أولئك المؤرخون السينما الى:

  1. فترة الدادائية والسريالية وهي تقريبا من عام 1920 حتى عام 1931. ومركزها بالدرجة الأولى برلين وباريس.
  2. الفترة التجريبية والشاعرية وتمتد تقريباً من عام 1940 لغاية 1954 ومركزها في الأغلب الولايات المتحدة.
  3. الفترة السرية من عام1954 لغاية وقتنا الحاضر وكذلك مركزها بالدرجة الأولى أمريكا"([12]).

إن بزوغ السينما الشاعرية على أنقاض السينما الدادائية والسريالية وتزامناً مع الحرب العالمية الثانية كلها دلائل على إن هذا النوع من الأفلام ولد في ظروف غير صحية لبزوغ نوع جديد من السينما ضمن حتمية زمنية وضرورة اجتماعية يفرضها الواقع بقدر ما هو رغبات شخصية لبعض صانعي مثل هذه الأعمال، وبالتالي فإن عصر مثل هذه الأفلام كان لابد له أن ينطفئ وهذا ليس معناه غياب الشاعرية في الأفلام، بل غياب الموجة أو الظاهرة ككل، مثلما نقول إن سينما الواقعية الرمزية قد اختفت بعد أن ظهرت ضمن موجة السينما الواقعية الايطالية، وهذا ليس معناه اختفاء الرمز في السينما، إذ ان الرمز في السينما له وظائف تعبيرية حسية وذهنية، عندما يصبح اللون مثلاً رمزاً، أو زاوية التصوير رمزاً لفكرة ما، وقد تصبح الموسيقى رمزاً لفكرة أيضاً كما في فلم (ماما روما) للمخرج (بازوليني).

وبعد إن اتضحت الصورة بالنسبة للسينما الطليعية والذي ينطوي تحتها الفلم الشاعري، وحددت خصائصها مثلما حددت الفترة التي ظهرت فيها تلك السينما (أي الطليعية) وهي محصورة بين عام 1940 وعام 1954، بقي أن نعرف ما هي خصائص السينما الشاعرية، فقد كانت المخرجة (ديرن) منظرة مهمة للسينما الطليعية، لقد كتبت وتكلمت باستمرار، كانت تميز بين السينما الشاعرية والأفلام التجارية بالدرجة الأولى من خلال البناء وهي كالآتي:

  1. الأفلام الشخصية مثل القصيدة الغنائية تكون تحقيقات (عمودية) لموضوع أو موقف.
  2. صانع الفلم لا يهتم بما يحدث قدر اهتمامه بما يثيره الموقف من مشاعر أو ما يعنيه.
  3. يهتم المخرج بسبر أعماق وطيات المعنى في لحظة معلومة.
  4. لا يهتم الفلم الشاعري بالحركة كما هي وإنما يهتم (بالمضمون الميتافيزيقي للحركة)
  5. الأفلام الخيالية تشبه الروايات والمسرحيات – فهي في جوهرها (أفقية التصور).
  6. مخرج الفلم السردي يستخدم الأبنية المخططة ويجب أن يقفز من موقف لآخر ومن مشاعر لأخرى. ليس لديه الوقت الكافي ليستكشف دلالات عاطفية أو فكرة معلومة إذ عليه أن يجعل فلمه (يتحرك الى أمام) باستمرار.
  7. إن صانع الفلم الشاعري يهمل الزمان والمكان في حين يجب أن يهتم المخرج السردي (على الأقل في فترته) أكثر من ملاحظة بعض الأعراف الزمانية والمكانية التي تبتز الكثير من الزمن على شاشته.
  8. أغلب الأفلام الشاعرية قصيرة بالضبط لأنها مكثفة من الناحية العاطفية وأضيق أفقاً. بما أن هذه الأفلام لا تحاول أن تروي قصصاً تقليدية فإنها تتمكن من التركيز على شدة العاطفة والتي يصعب إسنادها لفترات طويلة من الزمن([13]).

والباحث هنا لا يناقش اشتراطات السينما الطليعية عموما رغم تحفظاته الكثيره عنها (ليست موضوع البحث) بقدر مناقشة سمات السينما الشاعرية التي شخصتها (ديرن) والتي أجد في أغلبها لا تطابق القوانين الفلمية واشتراطات السينما المعقولة، ففي النقاط (2،3،4) نجد إن صانع العمل لا يهتم بالمشاهد بقدر اهتمامه بقضيته الشخصية وهذا يخالف مفهوم السينما بكونها فناً جماهيرياً ذا صبغة عالمية، في النقطة (7) نجد إن الفنان الشاعري يهمل الزمن، وهنا يكمن التحفظ الكبير على هذا النوع من الأفلام الشاعرية، إذ كيف للمشاهد أن يجلس أمام الشاشة السينمائية لمدة ساعتين على سبيل المثال من أجل ملاحظة فلم يناقش مسألة تمت في ساعة واحدة في يوم واحد، أنه لضرب من الجنون، بالإضافة الى غياب المكان يجعل المشاهد في متاهة لا يعرف كنها، إذ إن من أوليات السينما أن يكون الواقع الفلمي محاكي للواقع الحياتي، حتى لو كان ذلك الواقع الفلمي يفترض مكاناً في الحلم أو الخيال، وفي النقطة (8) نجد أن أغلب الأفلام الشاعرية هي أفلام قصيرة، وبالتالي لا يمكن عرضها في دور السينما، وهي اقرب بذلك الى أفلام الطلبة في الأكاديميات والكليات المختصة في مجال الفنون، وفي المقابل إن ما يشفع لهذه الأفلام إنها أنتجت في غير زماننا، وبالتالي يكون حكمنا عليها في غير أوانه ؟ وبالمقابل فإن تلك التحفظات يريد الباحث أن يسحبها الى المنطق والعقل وفي هذا ربما مخالفة لسنن أولئك المخرجين من أمثال (أندريه تاركوفسكي وبازوليني وآخرون) والتي نجدها تتكرر في بعض الأفلام السينما العربية عند داود عبد السيد (سينما المؤلف) وهذا المخرج رغم التزامه بالزمن الفلمي المتعارف عليه إلا أن الباحث يجده على خطى أولئك من حيث ذاتية أفلامه كما في (الكيت كات) والنهايات المفتوحة أو المتعددة كما نجد أن أغلب شخصياته عصابية، وكذلك فأنه يخرج أفلامه التي يؤلفها كما في فلم (رسائل البحر والصعاليك...الخ).

وفي كل ما تقدم أعلاه كيف يتسنى للباحث إحاطة (السينما الشاعرية) بتعريف شافي إذا ما أخذنا في نظر الاعتبار إن السينما كوسيلة اتصال تشترط القانون الثلاثي (المرسل - الرسالة – المتلقي) وهذا القانون نراه يتحقق في بعض الأفلام دون أخرى، "ولذا فأن الحديث عن لغة سينمائية عليا وهو ما استهدفته السينما التجريبية ليس حديثا يستهدف وضع جدول بمفردات هذه اللغة، ولا عن المعادلات الموضوعية ما بين الاشياء والتعبير عنها على الشاشة، بل ان الحديث عن لغة سينمائية عليا إنما هو حديث عن كيف يمكن ان تكون هذه اللغة ذات فرادة ترتقي عن اللغة المعتادة، أي لغة الفلم التجريبي قياساً إلى غيره من الأفلام مهما كانت مؤثرة "([14]). وبالتالي إذا استطعنا أن نقول إن الفلم التجريبي: هو الفلم الذي يمتلك فرادة غير مسبوقة بالسرد والشكل واللغة السينمائية. فإن الباحث يميل الى تعريف الفلم ضمن السينما الشاعرية بأنه: هو الانزياح عن لغة المعيار يعمل خرقاً بالسائد ويمكن أن يحصل بالتعبيرية الألمانية والواقعية الايطالية والسينما الفرنسية والفلم الحديث على يد (تاركوفسكي)...الخ.

المبحث الثاني: الشاعرية السينمائية عند المخرج (أندريه تاركوفسكي)

لا مناص هنا من التوقف عند بعض الشذرات التاريخية لتضيء درب الحاضر لما يخدم بحثنا، فقد قسم أرسطو الفنون على أساس إنها تشترك في مفهوم المحاكاة، وتختلف في وسيطها التعبيري، وجعل (الشعر والموسيقى والرقص) تحت عنوان واحد أسمه الشعر الذي جوهره هو الامتداد الزمني تنطوي على أساس: "وسيلة المحاكاة، الموضوعات الخارجية التي تُحاكَى (بفتح الكاف)، طريقة المحاكاة، وإن وسيلة المحاكاة الملائمة هنا هي الوزن أو الإيقاع واللفظ والنغم، وإذا أجتمع الوزن واللفظ والنغم كان الشعر الغنائي وكانت التراجيديا والكوميديا"([15]).

وباختلاف مفهوم المحاكاة بين أفلاطون وأرسطو، حيث رأى الأول أنه يجب أن نحاكي المثل العليا مثل (العدل، الحق، الخير، الوجود...) وليس لنا غرض من محاكاة أشياء موجودة أصلاً في الواقع وهي بالتالي فهي محاكاة المحاكاة. بينما رأى أرسطو أنه يجب أن نحاكي الواقع من خلال إعادة صياغته برؤية الإنسان ذاته " فجعل المحاكاة محاكاة لا للأشياء المحسة – بل للشخصيات والانفعالات والأفعال، أعني أن محاكاة الفن للحقيقة عنده لا تكون محاكاة للعالم المحسوس، بل تكون محاكاة لدنيا الحياة العقلية داخل الإنسان"([16]). من خلال تجسيد الفعل عياناً على خشبة المسرح، حيث كانت تكتب كل النصوص المسرحية بلغة الشعر وتمثل كذلك، وكانت أغلب تلك النصوص تمثل الملاحم والأساطير التي تتداول بين الناس وهي التي حفظت للمجتمعات إرثها الإنساني ولأرسطو قول مشهور عن الشعر والتاريخ يقرر به: أن الشعر أسمى من التاريخ منزلة فلسفية وأخطر مضموناً، وذلك لأن أقوال الشعر أقرب في طبيعتها الى طبيعة الأحكام الكلية، على حين أن أقوال التاريخ تجيء عن أحداث جزئية فردية ذلك إن الشعر لا يستهدف أن يصور كائناً مفرداً، بل يستهدف أن يقدم صورة جديدة تتجسد فيها حقيقة كلية... (ضرورة الحدوث)... تجعل مصير الإنسان نتيجة لازمة عن شخصيته وطرائق سلوكه"([17])

ومن هذه المقارنة التي ينصف فيها (أرسطو) الشعر على التاريخ ويعلو ذاته لم يكن نابعاً من فراغ أو تعصب له دون أن يكون لهذا (الفن) من ضروب في جذر التاريخ والإنسانية، فمنذ أن عرف الإنسان اللغة وسما بها لتمثيل الأشياء السامية كان يتمثلها شعراً لأنه " مصدر وأساس اللغة والفن والتاريخ والكينونة والزمن والحقيقة. أنه التأسيس الأول والإنشاء الأول وتحديد المكان الأول والتسمية الأولى. أنه يخلق وينتج التفكير. لا شيء له وجود خارج الشعر، وبمعنى دقيق، لا وجود لـ(خارج الشعر)، بل حتى (اللاشيء) نفسه لا وجود له خارج الشعر، إن فكرة سجن اللغة التي وصلتنا عن طريق الشعر لا مهرب منها، إن الوجود نص خالص من البداية الى النهاية "([18])

من هنا يبدأ مبحثنا الثاني في مفهوم الشعر والشعرية وكيفية تجسدها، فالوزن هو المعيار الذي ينتظم فيه الشعر والذي يسمى القافية، والسؤال هل بقيت هذه القافية ومثلها الوزن على حاله ؟ والجواب أكيد كلا. لقد طرأ عليه تغيرات عدة نتيجة ضرورة اجتماعية ولغوية فتحولت قصيدة الشعر بعد أن كانت عمودية الى قصيدة الشعر الحر ومن ثم الى قصيدة النثر وصولاً الى النثر الشعري وبالنسبة للفظ والمقصود به (الشكل) فهو كذلك إذ لم يكن للشعر أن يتغير بإطاره العام دون أن يكون تغيير في الشكل حتى نكاد نرى في بعض القصائد هناك رسومات تتخلل الأبيات الشعرية ومثلها بعض الترسيمات الأكاديمية، أو بعض النقاط والنجوم...الخ

وبالتالي فإن النغم تلقائياً لم يبق على حاله هو الآخر، ولكونه جزء من التركيبة التي أشترطها أرسطو، فإنه هو الأخر قد أصابه التغيير، فلم يعد في أغلب قصائد النثر الحديثة له من وجود، ما يعني إن التركيب الرئيس الذي وضعه أرسطو لم يعد له من وجود أصلاً. وهذا ينطبق على اشتراطات الشعر العربي أيضاً، فهنالك الكثير من الحتميات الحياتية تنوجد ضمن الصيرورة تاريخية في كل المجتمعات.

إذن هذه الولادة جاءت لتلبي متطلبات الحياة ولتكون اللغة وسطية بين الفصحى والعامية، وربما كانت (سوزان برنار) هي الداعية الأولى لهذا الموضوع في كتابها (قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا) والذي وجهت أنظار الشعراء باتجاه قصيدة النثر إلا إن العامل الأقوى كان هو كسر القيود والمعوقات التي أشترطها الشعر " فبقدر ما كانت الهوّةَ سحيقة بين الشعر والنثر الفني من الناحية النظرية قديماً، أصبحت ضيقة جداً في العهود المتأخرة، حتى إن النظريات النقدية الحديثة تحاول في بعض مفاهيمها الجديدة إزالة الحواجز بين الصناعتين، فإذا الشعر نثر إذا كان نظماً، وإذا النثر شعراً إذا كان مشبعاً بالصور مثقلاً بالرؤى الشفافة محملاً على أجنحة الألفاظ ذات الخصوصيات الشعرية "([19]) وفي هذا يقول (علي جواد الطاهر) والذي أعتبر قصائد (حسين مردان) النثرية شعراً وبعض مقالاته لأنها احتوت على درجة ما من الشعرية " هذا النثر المركز شعراً آخر في روحه إذا آمنا بأن الشعر روح أولاً، تجديد فيه وعبر به، وصور، وسيجده من يتأمله جديراً بالدرس، وليس من ذنب حسين مردان إن أخفق الآخرون في قصيدة النثر، لنهم جاءوا اليه ناثرين، ولم يأتوا كما أتى شاعرين "([20]) ثم تجلت تلك الشعرية بوضوح في الرواية، كما في رواية (زوربا) ورواية (الساعة الخامسة والعشرون) ومثلها مسرحية (تشيخوف)...الخ، هكذا ظهر مفهوم (الشعرية) ليست قاصرة على الشعر، بل هي تشكل عنصراً مهماً من عناصر الرواية والمسرحية والسينما والقصة وحتى النقد، وبالتالي ظل التأكيد على هذه اللغة (أي اللغة الشعرية) من خلال الصور، الخيال، التكثيف، الرمز، بل وحتى الأسطورة.

من كل ما تقدم يؤكد الباحث على ان الشاعرية لم تكن حاجة كمالية أختلقها صانعوا الأفلام مثلما لم تكن حاجة اجتماعية، بل كانت ضرورة فكرية وجمالية وجدت من قبل صانعي العمل في البحث عن كل جديد، مثلما هي كانت ضرورة حتمية فرضتها ظروف الوسيط التعبيري للسينما بعد أن استهلكت أكثر أشكالها وأصبحت شبه نمطية، كذلك فإن التطور الذي حظي به الإنسان والوعي الذي أمتلكه يحتاج الى أن تسايره كل الفنون ومن ضمنها السينما " حيث يعد الفلم من أكثر الفنون تأثراً وامتصاصاً لمجمل التغيرات المعرفية والاجتماعية، فضلاً عن قدرته على تقديم هذه التغيرات والتحولات بشكل أكثر تميزاً من الفنون الأخرى "([21]) ولكن هل هذا التعميم يخدم البحث العلمي، وبالتالي لابد من معرفة تلك القدرة في امتصاص التغيرات المحيطة والقدرة على تقديمها.

إن الوسيط التعبيري يمتلك مجموعة من السمات لا يمتلكها أي وسيط في الفنون الأخرى يستطيع صانع العمل من خلال هذه الخصائص تطويع كل ما يحيط بالإنسان من الخارج مثلما يستطيع أن يصور كلما يعتلج داخل الذات البشرية، ففي فلم Inception))* نلاحظ أنه يعالج الفكرة التي أقام عليها العالم (سيغموند فرويد) نظريته في التحليل النفسي من خلال الطبقات الثلاث (الأنا والأنا الأعلى والهو) وكل ذلك من خلال الصورة، " إن لبنية السينما قدرات سعوية أكبر، فالصورة هنا هي قبل أي شيء صورة مرئية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالجانب الحسي بالطبقة السفلى من الوعي بل ومن اللاشعور فبوسعها أن تؤثر تأثير الأسطورة والموسيقى، فتثير ردود الفعل الفيزيولوجية والقطيعية: ويقبل صانعوا الأساطير المعاصرين برغبة كبيرة على استخدام السينما للتحكم بوعي الجماهير"([22]). فالبنى المزدوجة والمتداخلة والتي تشكل فيها الحدث الدرامي تشكلاً داخلياً تعكس طبيعة تداخلات الحركة الاجتماعية لمجتمع ما، "ان كيان العمل المرئي إنما ينطلق من استخدام مبدع لأدوات ووسائل التعبير – التصوير – في مقدمتها، يضاف لذلك بنية المعنى، فنحن ننشد إحالات جمالية ودرامية تشكل مدخلا للبناء الشعري في الفلم، الذي لابد أن يدرك ما تم انتقاؤه من المشهد المعاش، بمعنى ما تم تأطيره واقتطاعه من السياق الحياتي، ولذا سنكون أمام أهداف جمالية ودرامية تحكم هذا البناء الشعري للفلم"([23])، فلم يعد المتلقي يقنع بما هو رابض على سطح الخطاب، بل أنه يبحث في العمق عما يود أن يقوله الفلم السينمائي وهو يجد في عملية بحثه عن المعنى في هذا الفلم أو ذاك لذة ونشوة تخلقها عملية تشكيل المعنى الذي يتحقق من خلال قدرة المتلقي على إحداث شبكة من التواصل بينه وبين خطاب الفلم السينمائي والتي تقوم على أساس فك الشفرات الأسلوبية والتمفصلات الجمالية التي تحرك متن النص وبناه العميقة " وإذ يوافق بازوليني كلية على اقتراح (ايكن باوم) بأن لغة الفلم تشبه (حديثا داخليا) أكثر مما تشبه (كلمات مسموعة) فإنه يبدأ مقالته بتبيين سبب وأساليب اختلاف علامات اللغة السينمائية – التي يسميها im-signs أو imsigns اشتقاقا من علامات الصورةimage-sigins- عن علامات اللغة الشفاهية أي الكلمات فأولاً يقول بازوليني:الإشارات أو العلامات البصرية أي الصور السينمائية لا حدود لها فهي خلافٌ للكلمات لا يمكن تصنيفها في معجم.إن جذور الإشارات السينمائية ليست في الحديث المنطقي العقلاني بل في الذاكرة والحلم كلما حاولنا تذكر شيء ما تمر بتفكيرنا سلسلة من الصور المميزة.إن هذه السلسلة المرتبطة، بوضوح بلاوعينا تماثل أيضا الأحلام التي تتألف بشكل مشابه من سيالة حرة من الصور المقسمة بتحولات مفاجئة بالتكثيف وبإحلال شيء محل شيء آخر وبالاستعارة"([24]).

إن خصائص الصورة واللغة التي يحاول بازوليني تعريفها ضمن محددين لا تخضع لقوانين اللغة الطبيعية القائمة في المعاجم وتفسيراتها، لكونها بنية متحولة باستمرار ظلت تتقلب داخل العقل الإنساني وانتقلت منه الى الجدران والأقمشة والورق وصولاً الى الشريط السينمائي وبالتالي فقد حوت كل ذلك الخزين من اللاوعي في الحقيقة والحلم، ومن ثم يثير بازوليني المسألة النظرية الثانية الهامة للسينما الشاعرية بالقول " هل هناك معادل سينمائي لما هو معروف في الأدب الحديث بـ(الحديث الحر غير المباشر)، يجيب على ذلك (جيل دولز) في كتابه (الصورة – الحركة) بالقول: "ثمة شخصية تتصرف على الشاشة ومن المفترض إنها تشاهد العالم بطريقة من الطرق كذلك فإن الكاميرا تشاهد الشخصية وتشاهد عالمها من وجهة نظر أخرى إنها تفكر تعكس تنقل وجهة نظر الشخصية. يقول بازوليني: إن المؤلف السينمائي يستبدل برؤية للعالم من قبل شخص عصابي رؤيته الخاصة المسكونة بالنزعة الجمالية من المفيد بالواقع أن تكون شخصية عصابية لكي تعبر بنحو أفضل عن الولادة الشاقة لذات ما في العالم"([25])، وربما هذه إحدى الصفات التي تمتاز بها السينما الشاعرية، فقد استطاعوا أن يقتبسوا أكثر أعمالهم من الروايات، ويندر أن عدَّ سيناريو مسبقاً لتلك الأعمال، بالإضافة الى إن الرواية تسرد عن طريق الشخصيات فإن الصورة تسرد عن طريق الأشياء والأشخاص، وتجسد الفعل من خلال ذلك الكم الهائل من الصور المتحركة التي تطابق العقل البشري ليس من الناحية البصرية والعقلية ، بل ومن الناحية النفسية أيضاً حتى تكاد تكون صنواً له، ثم تتجاوز ذلك التطابق الى رؤية جديدة في داخلها وتنعكس هذه الازدواجية والتي أطلق عليها (بازوليني) (ذاتية غير مباشرة حرة)، فالكاميرا لم تعد تنقل لنا ما يدور أمامها حسب، بل عادة اليوم لتنقل لنا الإحساس بالأشياء من خلال حصرها داخل الكادر ثم الغور في أعماقها ثم مغادرته.

لقد استطاعت الكاميرا أن ترسم لنا تكوينات خاصة في الفضاء المفتوح في الغابات والسهول ما يثير البهجة والسعادة مثلما يثير الرغبة في الحياة من خلال إظهار جمال المكان، من خلال المناظر العامة القصدية من قبل صانع العمل، كذلك فإن اللقطات البعيدة والتي تحدد الموقع الجغرافي للمشاهدين، فإنها في نفس الوقت تخرج لنا صورة بصبغة جمالية، ففي فلم (المريض الانكليزي) المشفوع بالمناظر العامة واللقطات البعيدة نرى ذلك التيه في الصحراء، ومثله المناظر الجميلة في الكنيسة والأهم في كل ذلك هو إن هذه المناظر الطبيعية نراها تتوفر بكثرة داخل الأفلام الشاعرية والتي يقسمها جون آلتون لأهميتها كما يلي:

  1. مناظر الطبيعة الجميلة المقصود بها إظهار جمال المكان.
  2. اللقطات البعيدة التي تحدد الموقع الجغرافي للنظارة، وفي نفس الوقت نهتم فيها بجمال الصورة.
  3. اللقطات البعيدة أو المناظر العامة التي يجري فيها التمثيل وكل ما عدا التمثيل يكون ثانويا من حيث الأهمية.
  4. المناظر الشاعرية في الطبيعة حيث الجمال هو العنصر الأساسي المطلوب إبرازه.
  5. مناظر مواقف الرهبة، والتي يظهر فيها الغموض أو الشعور بالخطر"([26]).

وكذلك في فلم (الحب في زمن الكوليرا) حيث الأنهار هي رافد الحياة والغابات سمة البساطة والألفة، حتى تضفي على الفلم تلك السحرية الواقعية من خلال تغليفها بتلك المناظر العامة والطبيعية، بالإضافة الى شخصياتها العصابية، إذ يندر أن نرى شخصاً ينتظر حبيبته لأكثر من ثلاثين سنة وهو مضرب عن الزواج بانتظار موت غريمه (زوج حبيبته) حتى إذا ما سمع جرس الكنيسة يدق، ذهب أليها ليقول (كنت أنتظر هذا اليوم لأكثر من ثلاثين عام) ثم يعرض عليها الزواج، كل تلك المناظر البعيدة كان يتخللها بعض التكوينات المختارة بدقة من قبل صانع العمل لإظهار الوضع النفسي والدرامي والجمالي للشخوص "إن شعرية التكوين السينمائي عند (الآن كاستي) تقوم على ان الأساس في الفلم كبناء شعري هو الوصول الى (كينونة اللقطة) بوصفها وحدة بنائية فهي نتاج لاستخدام مبدع للتصوير كوسيلة من وسائل التعبير الفلمي وامتزاج ذلك بنسق المعنى الذي يتدفق به البناء الدرامي. ولابد من معرفة الهدف من وراء السعي لشعرية التكوين. يذهب (كاستي) الى ان هناك عنصرين متفقاً عليهما وهما: التأثير الجمالي الذي هو التأثير الكلي والشامل والإطار المتكامل الذي يتحرك في فضائه البناء الفلمي والتأثير الدرامي الذي هو أداة التواصل من قبل المتلقي"([27]).

وبالرغم إن تلك الشاعرية والتكوينات التي يسعى الى تكوينها صانعو الفلم، تمتاز بكونها لغة عالمية يفهمها الجميع، إلا إنها تصطبغ بصبغة شخصية، حيث يقوم صانع العمل بخلق قواعد خاصة به حتى يكاد يكون أسلوب خاص به. وهي في نفس الوقت مؤثر بالمشاهد وتخلق عنده اندماج يصل الى حد التماهي" إن التأثير البالغ للعمل الدرامي الذي يدفع بالمشاهد الى التأثر وفاعلية المشاركة هو مؤشر البنية الشاعرية العميقة، القدرة على صنع صور تعبيرية عميقة موازية تحقق ذلك الانجذاب "([28])، وبالمستوى نفسه تعمل البنية السمعية على خلق وانصهار ذلك التأثر المعروض على الشاشة بدمجه مع الصوت، سواء أكان عن طريق الحوار المباشر، أو الداخلي، أو صوت من خارج الكادر، أو عن طريق الموسيقى " من الطبيعي أنه ينبغي على السينما ان تنحو مباشرة باتجاه الحلم والمخيلة. السينما شاعرية في جوهرها. بيد أن هذه الشاعرية لا يمكنها أن تعبر عن نفسها كليا إلا عبر وعيها لتآخيها مع الشاعرية الموسيقية"([29]).

مؤشرات الإطار النظري

  1. السينما الشاعرية هي السينما التي تنزاح عن التقليد من خلال تقديمها بأسلوب خاص يتمثل باستخدام عناصر اللغة السينمائية والتكوين بطريقة جديدة، كاستخدام الأشياء والأشخاص بطريقة غريبة.
  2. إن صانع الفلم الشاعري يهمل الزمان والمكان ويهتم بما يثيره الموقف من مشاعر.
  3. تعبر السينما الشاعرية عن ذاتية المؤلف، لذلك فهي لا تروي قصصاً تقليدية، بل هي أقرب الى النزعة الذاتية وبالتالي فهي أفلام جمالية.

الدراسات السابقة

السينما الشاعرية بالخصوص والمخرج الروسي (أندريه تاركوفسكي) بالعموم، وكلاهما تحت عنوان (سمات السينما الشاعرية عند المخرج أندريه تاركوفسكي) لم يدرس أبداً، ولكن الباحث وجد بعض الدراسات التي تهتم بالسينما بالعموم تتطرق الى خصائصها، ومن ثم تتطرق الى السينما الطليعية وبالقدر الضئيل الى السينما الشاعرية كشذرات مضيئة عند هذا المخرج أو ذاك.

في أطروحة الدكتوراه للباحثة (بان جبار الربيعي) والموسومة (المعالجات الفنية لعناصر التعبير الفلمي في السينما التجريبية) والتي درست الفلم السينمائي منذ أن أكتمل وسيطه التعبيري بمعنى إنها استثنت (الفلم الصامت والفلم الأبيض والأسود وكذلك الفلم القصير) كانت قد تطرقت الى السينما التجريبية ومن ضمنها الفلم الطليعي، ولكن بشكل بسيط جداً الى الفلم الشاعري) وكانت أهداف بحثها يتمثل في الكشف عن ماهية التجريب والمنطق الذي تتحرك فيه كعرف فلمي متجسد على الشاشة، وكذلك تبيان التجريب في السينما والفنون المجاورة. وما عدا ذلك لم يجد الباحث من رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه تتطرق لموضوعته.

في ما يخص البحوث فقد نشر الأستاذ الدكتور طه الهاشمي بحثاً تحت عنوان (شعرية السرد) حاول أن يزيل اللبس الموجود حول مصلح (الشعرية) من خلال تفريقه بين السينما الشعرية التي تنتمي الى الشعر كنوع إبداعي له خصائصه، وبين السينما الشعرية التي تترسم خطى الشعرية كمنهج أدبي، وقد وجد الباحث أن هذا البحث بعيد كل البعد عن موضوع بحثه الموسوم (السينما الشاعرية عند المخرج أندريه تاركوفسكي).

الفصل الثالث – إجراءات البحث

أولا: منهج البحث:

يعد منهج دراسة الحالة من أفضل المناهج البحثية في مثل هذا البحث، لأنه يتيح للباحث الوقوف على أغلب تفاصيل الفلم، مثلما يبيح له فصل العناصر الفلمية بغية بحثها، وبالتالي يجد الباحث ضرورة اعتماد هذا المنهج في القراءة والمشاهدة لتحليل العينة حتى يستطيع الباحث الخروج بنتائج هي عصارة بحثه مثلما يخرج باستنتاجات وتوصيات للباحثين من بعده في هذا المجال.

ثانيا: مجتمع البحث

إن مجتمع البحث كان قد حدد مسبقاً من خلال عنوان البحث وحدوده، ولذلك فلقد تم بحث الأفلام الخاصة بالمخرج (أندريه تاركوفسكي) داخل الإطار النظري، واختيار فلم (المرآة) كمجتمع للبحث لما يراه الباحث في هذا الفلم من توفر لكل اشتراطات الفلم من سرد وشكل وعناصر اللغة السينمائية والتي كلها توسم الفلم بلمسة شاعرية وهذا هو غاية البحث.

ثالثا: عينة البحث

أختار الباحث فلم (المرآة) لأنه يلبي متطلبات البحث. إضافة الى الأسباب الآتية:

  1. يمثّل فلم (المرآة) منعطفا في السرد السينمائي، فهو من أكثر أفلامه تعقيداً لجهة الأفكار والبناء الدرامي. البطل (ألكسي) لا يظهر على الشاشة، لكننا نسمع صوته، ونرى يده مرة واحدة فقط. هنا الحياة مغبّشة ومبهمة، كما لو أنّها مقطع من رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود", الفقدان إذا هو مركز عمل (تاركوفسكي) وأفلامه تتمحور حول استعادة الزمن المنهوب وتسجيله.
  2. استخدم المخرج (تاركوفسكي) لمقطوعات شعرية لوالده في الفلم كما انه تفنن في نقل المؤثرات البصرية لأرقى مراتب الابداع وروح الفنان الحقيقي.
  3. الفلم هو انعكاس داخلي عن ما يجري امام اعيننا وما نؤمن به داخل عقولنا انعكاس المرآة هو انعكاس لذاتنا الأخرى التي تحرسنا وتقوم على اشعال ضمائرنا باستمرار, فلم عظيم للغاية تحفة فنية خالده وقطعة فنية نادرة.
  4. فلم (المرآة) يناقش ثلاثة أجيال.. جيل الطفل وجيل الرواي وجيل والده, وهي أجيال ما قبل الحرب وخلالها وما بعدها على صعيد الوطن. لكن لا وضوح عام أو فروقات زمنية بين سرد الأحداث, الأمر الذي يجعل القارئ في حيرة شديدة مع مشاهدة الفيلم للمرة الأولى إلى أن يحذف العامل الزماني التسلسلي, فتأخذ الأحداث عندها اتجاه الحلم أو الذكريات, فنحن خلال ذكرياتنا وأحلامنا لا نتذكر الأمور بتسلسلها الزمني ولا نحلم بالشخوص متفرقة حسب الزمن.

رابعا: أداة البحث

ان أداة البحث هي المؤشرات التي أسفر عنها الإطار النظري، وقد وضعت بأيدي الخبراء* الذين اطلعوا عليها، وبعد التداول معهم تم الاستقرار على المؤشرات الآتية:

مؤشرات الإطار النظري

  1. السينما الشاعرية هي السينما التي تنزاح عن التقليد من خلال تقديمها بأسلوب خاص يتمثل باستخدام عناصر اللغة السينمائية والتكوين بطريقة جديدة، كاستخدام الأشياء والأشخاص بطريقة غريبة.
  2. إن صانع الفلم الشاعري يهمل الزمان والمكان ويهتم بما يثيره الموقف من مشاعر.
  3. تعبر السينما الشاعرية عن ذاتية المؤلف، لذلك فهي لا تروي قصصاً تقليدية، بل هي أقرب الى النزعة الذاتية وبالتالي فهي أفلام جمالية.

خامسا: وحدة التحليل

كانت وحدة التحليل الأساسية هي المشهد الفلمي الكامل الذي يتفق والمؤشر المعني به، وإذا كان الحديث شاملا أحيانا للقصة الفلمية او الفلم ككل أو بعض اللقطات، فإنها عرضية لان الباحث قام بدراسة المشهد كما هو متبع في التحليل الفلمي.

تحليل العينة الفلمية على ضوء المؤشرات

فلم (المرآة - 1974): سيناريو: الكساندر مشيرين واندري تاركوفسكي، أخراج: اندري تاركوفسكي، تصوير:غيورغي ريدبيرغ، الإخراج الفني: أندري تاركوفسكي، موسيقى: ادوارد ارتيميف، مهندس الصوت: سبيمون ليفيذوف الأدوار: في دور الأم وناتاليا مرغاريتا يتربخوفا، أ. دانيلتسيف، ل. ناركوفسكايا ، أ. ديميدوفا ، أ. سولونيتسين ، ن. غرينكو، ت. اوغورودنيكوف، يو. ياكوفسكي، بو سفينتيكوف، ت. ريشيتنيكوفا، قراءة النص: أ. سموكتوفسكي، أشعار لارسيني تاركوفسكي، تعزف في الفلم موسيقى: لا. س. باخ، بير غوليزي ، بيرسل.

فلم (المرآة - 1974)

القصة هي عبارة عن تداعيات لأم وولديها وهي تتذكر قسوة زوجها عليها، وشعور ذلك الزوج بالذنب اتجاه أمه ومن ثم اتجاهها، هي أقرب الى الإنثيالات الشخصية منها الى قصة التي فيها حبكة حقيقية بغض النظر عن طريقة سردها وشكلها، أما بطل الفلم فله ثلاث مراحل الأولى هي الطفولة المبكرة، والثانية هي مرحلة النضج والتنافر من الآخرين والثالثة عندما لا يستطيع العيش مع الآخرين فيموت ليكون آخر ما قاله إن الملاك في شكل الشجيرة المحترقة قد ظهر للنبي موسى الذي قاد شعبه عبر البحر – لماذا لم يظهر لي شيء مثل هذا، أردت أن أكون سعيداً ؟

  1. السينما الشاعرية هي السينما التي تنزاح عن التقليد من خلال تقديمها بأسلوب خاص يتمثل باستخدام عناصر اللغة السينمائية والتكوين بطريقة جديدة، كاستخدام الأشياء والأشخاص بطريقة غريبة.

يبدو أن استخدام أدوات السينما ابتداءً من عناصرها ومروراً بالسرد والشكل الفلمين، وكل ما يدخل في علاقة تجاور وتداخل، لا تميز ذلك الفنان سوى أنه يندرج في خانة من اشتغلوا في مجال السينما دون أن يكون له أثر، لكن ما يميز الأفلام الشاعرية للمخرج (أندريه تاركوفسكي) في أنه أستطاع أن يخط لنفسه سبيلاً يختلف عن الآخرين، من خلال نظرته للدين والحياة والعلاقات التي تربط الإنسان مع كل منهما، ومع ذاته، وحيث أن الولوج لعالم الفن يختلف عن باقي المجالات الأخرى، في أنه يستطيع أن يلج الى الآخر من خلال ذاته، كون الفن هو لغة يحاول الناس بواسطته أن ينفذ أحدهما الى الآخر، وأن يخبر أحدهما الآخر عن نفسه، وأن يستحوذ كل منهما على تجربة الآخر، بل أن أغلب أفلام هذا المخرج ترتقي الى مستوى الفلسفة في طرحها للمواضيع ومناقشتها، إذ أن تصورنا للدين كمجموعة معتقدات تصب في النهاية من أجل الله ذلك الخالق الكبير نتقبلها من خلال تقبلنا للصور الذهنية التي ترسمها الكتب المقدسة كالجنة والنار والثواب والعقاب وما الى ذلك من مبادئ، ولكن تحويل تلك الصور وذلك الوجود الإنساني الى صور متحركة يبدو أنها هي مفرق الطرق التي تميز بها مخرجنا (أندريه تاركوفسكي) موضوع البحث.

فقد عمد هذا المخرج ومن خلال فلمه (المرآة) الى قذف المشاهد في وسط تساؤلات ليس لها من نهاية عن ذلك الذنب الذي يؤنب البطل داخل نفسه وزوجته، فقد كان البطل في هذا الفلم ضعيفاً وأنانيا وغير قادر على منح الحب النزيه حتى لأقرب الناس له، ويبرر ذلك بمعاناته الروحية التي قاسى منها في حياته، ولكن الفلم في بدايته، وقبل ظهور الأسماء يبدأ بشاب يتجاوز العشرين من عمره في عيادة الطبيب من أجل علاجه من التأتئه تسأله الطبيبة عن أسمه فيجيب أنه: يوري جاري من مدينة خاركوف ويدرس في المدرسة التقنية، وبعد علاج طبيعي، يتخلص من التأتئه، ويتكلم بشكل طبيعي.

ومثل هكذا أفلام يصعب تفريغ الصورة على شكل سيناريو أو لقطات لذلك حاول الباحث ومن أجل التحليل الأكاديمي العلمي أن يفرغ الصور كما بدت من أجل مناقشتها وتحليلها وصولاً الى ذلك الشكل الخاص والأسلوب الذي تميز به وتفرد عن الآخرين به.

يبدأ الفلم بصوت من خارج الكادر يحدد الأب القادم الى الدار، إذا انعطف حول النبتة في وسط الحقل المفتوح من غيره، ثم تدخل الأم الى البيت (الكوخ) فيعود الصوت من جديد يقرأ صوت من خارج الكادر ليقرأ ترتيلة شعرية من الحكم ، وهي تنظر الى أبنائها فيأتي الصوت بالآتي:

إننا احتفلنا بكل لحظة للقائنا، كأنها لحظة عيد ظهور الرب، وكنا وحيدين في الدنيا كلها، وكنت أكثر خفة وأكثر نشاطاً من جناح الطير، وكنوبة دوار.

فأنت تهبطين بالسلم وتقودينني عبر نبتة عطر الليلج الرطبة.الى أراضيك التي تقع وراء زجاج المرآة.

عندما حل الليل.

منيت برحمة، وافتتحت أبواب المحراب، وكان العري يشرق في الظلام، وتمايل بصورة بطيئة.

وعندما صحوت من النوم قلت: لتكوني مباركة ! وكنت على علم إن بركاتي جسيمة: لأنك تغطين في نوم عميق، وكي يلامس جفنيك زرقة الكون.

كان يناسب عطر زهرة الليلاج من الطاولة، وكان جفنيك الزرقاوين هادئين ويدك كانت دافئة.

وداخل كرة من الكرستال كانت تنبض الأنهر. وتتنفس الجبال دخاناً وتتبلج البحار. وكانت الكرة من الكرستال على كفك. وأنت نائمة على العرش.

يا ربي العادل ! أنك كنت لي.

أنك قد أفقت وغيرت قاموس الإنسانية العادية، وامتلأ الحديث بالقوة. وانكشفت كلمة أنت عن معناها الجديد بمعنى ملك. حتى الأشياء العادية كالطست والإبريق وهذا لما كانت تقف بيننا كجرس مياه مطبقة وجامدة.

واقتدينا في اتجاه غير معروف وانشقت مدن أمامنا كسراب تم إنشاؤها بطرق سحرية. وكان النعناع ينبسط تحت إقدامنا ، فكانت الطيور تشاركنا في الطريق، وكانت الأسماك تتصاعد في النهر، وانفضت السموات في عيوننا عندما لاحقنا مصيرنا كمجنون مع شفرة بيده. انتهى

وبالرغم من إن ترجمت أي شعر من لغة الى لغة يفقده خصوصيته وخاصةً الشعرية والمعنى حتى يبدو كأنه مفكك إلا أننا نجد ذلك الحوار الفلسفي لازال يعتصر داخل النص ويطرح نفس الأسئلة التي أراد الإجابة عليها صانع النص، إن هذا الحوار الذي يدخل من قلب الشاشة وربما من ذات الأم، أو من روح المخرج ليقتحم المشاهد بترنيمة حوارية بين القائل ومن يستمع وربما مع الأم ذاتها أو هو أقرب الى حوار داخلي يريد المخرج إسماعنا إياه، أن هذا الحوار الشعري ينقل المشاهد الى حيث العالم الآخر حيث الأسماك تتصاعد في النهر، والطيور تشارك الآخرين في طرقات، أن (أندريه تاركوفسكي) هنا منحاز الى السينما دون أن يكون موضوعي في طرحه لتلك الأفكار التي يحملها، لذالك نجده يميل الى الصورة أكثر مما يميل الى الأفعال داخل الصورة، وهذه ميزة قليلاً ما تجدها عند الآخرين.

وبعد ذلك يحدث حريق في كوخ المخزن الحشائش.كان ذلك الصوت من خارج الكادر يتدفق مثل المياه من فوق شلال والأم تبكي حتى إذا ما انتهى وسكت بدأت أصوات الحيوانات كالكلاب والقطط. طفل يفز من نومه فتتحول الصورة الى أبيض وأسود، وتهب ريح على الأشجار مصحوبة بصوت صغير والطفل يقول بابا، ثم ينهض من فراشه، قطع الأب يسقط الماء على رأس زوجته – زوجته ترفع رأسها من الطست وقد غطى شعرها وجهها، ثم يبدأ السقف بالتساقط وينزل الماء من السقف على الجدران، ثم صورة الجدة التي سوف نراها في آخر الفلم، ينتهي الحلم أو الرؤيا التي تداعت من خلال الأم وهي تقف في ركن الغرفة تنظر الى أبنيها.

إنَّ أفلام (أندريه تاركوفسكي) أقرب الى التداعيات منه الى أفلام حتى الحديثة منها والتي تتفرد سواء بالشكل أو التي تنطوي تحت (تيار الوعي) أو حتى بالقصة التي تسردها، فهي أفلام شعرية، بلمسة روحانية عرفانية هائمة في ملكوت الكون، وتحمل الخطيئة الكبرى دون البشرية، من أجل إنقاذها، يقول (أندريه تاركوفسكي) عن هذا الفلم " لقد كان العالم بالنسبة لي مرتبط بأمي، لم أدرك هذا عندما كانت على قيد الحياة، لكنها عندما ماتت، أدركت الأمر فجأة وبوضوح شديد، لقد أخرجت الفلم (المرآة) وكانت أمي لا تزال على قيد الحياة، وقد خيل اليّ أنني أتحدث عن نفسي في هذا الفلم، لكنه كان وكما أتضح لي فيما بعد، مكرساً لحياة أمي، وأزيد على هذا القول هو أن الروح الإنسانية المعذبة والمليئة بالخيبات لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الهائم والغريب عن ملكوت الدنيا.

من السمات الأكثر بروزاً في الفلم هو التداخل الغرائبي للأحلام مع الواقع، فعندما تعود الأم بالتداخل مع ذلك الصوت الذي ينشد شعراً تتحول الشاشة بعده الى الأبيض والأسود ونجد زوجها يسكب الماء على رأسها وهي منحنية داخل الطست ومن ثم يبدأ المطر يتساقط داخل الغرف وربما هذه من الميزات الأخرى التي تميز أفلامه عن الآخرين، أما المرآة والتي إختص هذا الفلم بها فنجدها في كل تفاصيل الفلم، فمرةً تدخل الأم في حوار مع زوجها من خلال المرآة ومرةً تدخل في حوار مع نفسها ومثلها أبنها الذي يجلس صامتاً أمامها دون أن ينبس ببنت شفة، إن الأشياء عند هذا المخرج تكتسب درجة إنسانية عالية عندما تكون جزء من الحدث مرةً ومرةً عندما تكون هي الحدث ذاته، فكثيراً ما نرى الطبيعية ومن خلال الرياح تتحرك، وتصدر أصوات لذلك يغلف على أفلامه المناظر الخارجية.

كذلك من السمات التي برزت في هذا الفلم هو تداخل ودمج بعض المشاهد التسجيلية التي حدثت في الماضي، ولكن المخرج أستطاع أن يوظفها لتكون جزء من الحاضر والتي هي خصيصة رئيسة للصورة السينمائية في كونها تشتغل في (الحاضر)، وليس من قبيل الصدفة أن نجده يدرج بعض الأحداث الأسبانية، من خلال القصف العنيف للسكان الآمنين ومن ثم هرع الأطفال الى الملاجئ، مقروناً ذلك ببعض المناطيد ورجال يقودونها، ومن ثم هجرة بعض الأسبان الى روسيا واقترانهم بهم ومن ثم تكوين أسر فيها حتى أنه في أحد المشاهد نجد أحدهم يفزع مهرولاً نحو أحداهم وهي ترقص الرقصة الأسبانية الفلكلورية المشهورة ومن ثم تؤدي بعض الحركات الخاطئة بأن يصفعها على وجهها، مطالباً إياها بأن تتقن حركاتها.

ومن ثم يتم استعراض الوحشية البشرية من خلال الانفجار الكبير في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية في (هيروشيما وناكازاكي) ، مروراً بالصين، وبعض اللوحات التشكيلية.

أن الفلم بغرائيبيته وتداخله يقدم مشكلة عانتها أغلب البشرية وهي غربة الذات والمكان، أنها غربة الوطن والتي تمثلت ابتداءً بالزوج ومن ثم من خلال الصور الوثائقية للأسبان ومن ثم اليابان وصولاً الى السعادة الحقيقة الى يقولها في النهاية الأب "إن الملاك في شكل الشجيرة المحترقة قد ظهر للنبي موسى الذي قاد شعبه عبر البحر – لماذا لم يظهر لي شيئاً مثل هذا، أردت أن أكون سعيداً ؟

  1. إن صانع الفلم الشاعري يهمل الزمان والمكان ويهتم بما يثيره الموقف من مشاعر.

لربما يتعجب القارئ من هذا القول وهو كيف بصانع العمل من أن له أن يهمل الزمان والمكان، وحيث إن المقصود هنا بالزمان ليس هو ذلك الصباح أو المساء، ومثله المكان في أن يكون داخل بيت أو شركة أو في ريف، وإنما المقصود بإهمال الزمان والمكان هنا هو غياب الزمن الدرامي الذي يتحدد بلحظة نشوء الفعل وتطوره وصولاً الى الذروة ومن ثم يتهاوى وصولاً الى النهاية ومثله المكان.

والمخرج (أندريه تاركوفسكي) يعمد الى عدم الاهتمام بقيام دراما أرسطية قائمة على الاشتراطات التي حددها وكذلك التطورات التي لحقت بها من بعد ذلك، فهو يؤسس له عالماً خاصاً وبقوانين فنية خاصة همها الوحيد هو تسجيل التجربة الإنسانية، بكل ما يحيطها من شقاء وصعوبات، وإذ تجد ذلك جلياً في أفلامه المعدودة التي أخرجها على مدى حياته القصيرة، فهو يوغل بهذه الذاتية فيعمد الى تسجيل تجاربه الشخصية التي عاناها طيلة الفترة التي كان يستطيع فيها أن يعبر عن ذاته، وقد أنعكس ذلك جلياً في فلم (المرآة) ففي اتصال بين الابن والأم يقول: الابن: لقد شاهدتك في الحلم، في أي زمن غادرنا أبي.

الأم: في عام 1935... لماذا تريد أن تعرف هذا؟

الابن: ومتى أحترق مخزن الحشائش المجففة؟

الأم: في نفس العام....لقد توفيت ليزا.

الابن: من هي.

الأم: التي كانت تعمل معي في المطبعة.

الابن: متى حصل ذلك.

الأم: الآن في الساعة السابعة.

في هذا النموذج البسيط من الحوار نجد إن الزمن يتداخل ويتداعى منذ عام 1935 وحتى تاريخ إنتاج الفلم، ومثله في مشهد آخر وبعد أن يسلط المخرج الكاميرا على ألبوم صور للفنان اليوناردو دافنشي ، وبعد أن تخرج الأم من الدار توصي أبنها أن لا يعبث بالأغراض، وما أن يغلق الباب خلفها ويرجع الى الداخل يجد إن هناك امرأة جالسة على المائدة وإن هناك خادمة وقد جلبت لها القهوة، فتتحدث معه وتطلب منه ان يجلب كتاباً من المكتبة في الرف الثالث ويقرأ من حيث توجد الإشارة فيقرأ:عن أخلاقية الناس قال روسو: إن انقسام الكنيسة قد عزلنا عن أوربا ولم نشاركها في الأحداث العظيمة التي غزتها لكنه كتب علينا بشكل خاص إن روسيا بالرغم من رحابتها الواسعة قد ابتلعت الغزو المنغولي، لم يجرأ التتار أن يجتازوا حدودنا الغربية، وانسحبوا الى بواديهم وتم إنقاذ الحضارة المسيحية ومن أجل إحراز ذلك الهدف كنا مضطرين أن نحتفظ بشكل خاص بشيء من الحياة التي وإن أبقتنا مسيحيين إلا أنه جعلت منا غرباء عن العالم المسيحي، أما بالنسبة لضآلتنا التاريخية فلا يمكنني أن أتفق معك ألا تجد شيئا هاماً في أوضاع روسيا الراهنة، ما الذي سيدهش المؤرخ في المستقبل على الرغم من تعلقي الصميم بالقيصر، أنا بعيدٌ من أن أبتهج بكل ما أراه من حولي، بكوني أديباً أنني متهيج ومتأذ لكنني أقسم لك أنني ما أردت أن أبدل وطني لقاء أي شيء في الدنيا أو أن يكون له تاريخ آخر ما عدا تاريخ أجدادنا أي التاريخ الذي منحه لنا ربنا المقتطف من رسالة بوشكين الى تشاعدايف 19/10/1836.

وبعد أن يتم القراءة، يذهب ليفتح الباب بطلب من المرأة التي وجدها داخل البيت – يفتح الباب فيجد أمامه امرأة تقول أنا آسفة يبدو أنني قد توهمت- يرجع الى الداخل فيجد إن المرأة وقد اختفت ثم ينظر الى المائدة فيجد بقايا قطرات ماء عليها.

إن كل هذا مدعاة للاستفهام والتساؤل، عن هذا التداخل الكبير بين الزمان ووقوعه في آن واحد، مع تداخل الغرباء داخل المكان الأليف ومن ثم القيام برحلة سياحية في بطون التاريخ يبدأ منذ غزو المغول قبل أكثر من (800) عام الى أوربا ومن ثم روسيا وانسحابه منه لكبر مساحتها، والرجوع الى اللحظة الآنية عندما يرن جرس الهاتف ويكلمه والده من الجهة الثانية عن الحب فتتراءى أمامه حبيبة والده، بل حتى المكان الذي ظل يحن له الأب ويشتاق له هو المكان الضمني الذي كان يحلم به وكونه في الخيال، كون إن طفولته قاسية، كل ذلك جعل من تلك الأمكنة والأزمنة موجودة في الخيال وليس الواقع.

في أحد المشاهد، نجد الأب وهو جالس قرب زوجته واضعاً يده عليها، ومن ثم يختفي وتصعد الأم الى الأعلى فيخرج طائر أبيض من الجهة اليسرى فوقها ومن ثم يختفي، إن هذا التداخل بين الواقع والحلم وبين الوعي والخيال لايترك مجال شك عن إن قيمة الزمان والمكان تكاد تكون معدومة فالمخرج يسلط جلَّ جهده على الأفعال الأنسانية، التي تضرب بالأنسان وتحطمه، في مشهد آخر وهو الأخير وبعد أن تهب ريح فتحرك الأشجار الصغيرة والحشائش، - لقطة للطفل وهو يفتح الباب – صوت من خارج الكادر يستمر بقراءة الشعر – ريح تهب الى داخل البيت فترفع الشراشف الى الأعلى – ثم تنعكس صورة الطفل في المرآة وهو يحمل بيده أبريق حليب. نفس الطفل يسبح في الماء بالاتجاه المعاكس من الكاميرا والأم تنشر الملابس على حبل في وسط الغابة – تدخل الكاميرا الى البيت ثم تخرج من الشباك الى حيث الأم وأبنها الثاني – وإذا بها الجدة – قطع الى الطبيب والأم والجدة – يقول الطبيب ماتت فجأة أمه وزوجته وطفله... بل يوجد الضمير والذكرى.. ثم لقطة عامة وطويلة الى الغابة الشاسعة – نزولا الى الأم وزجها صوت الموسيقى يعزف بقوة – ثم الجدة – ثم لقطة لبعض الأشجار الساقطة – بئر ضحل فيه بعض الأغراض المتروكة – لقطة للأم وزوجها وهو يسألها هل تريد ولد أم فتاة ثم الجدة وأحفادها الاثنين – ثم لقطة الأم واقفة بقرب عمود كهرباء وحدها في الفضاء المفتوح صوت الطفل كأنه طرزان يصيح – لقطة للجدة وهي تأخذ أحفادها – لقطة لجذوع الأشجار.... انتهى. إن هذا التداخل الذي يبعث الارتباك والحيرة لدى المشاهد هو في الوقت نفسه يصبغ مثل هكذا أعمال، بصبغة جمالية، وشعرية، إن تلك الأصوات من خارج الكادر تتدفق مثل المياه من فوق شلال معجونة بدموع الأمهات وصياح الحيوانات بالتوازي مع (أشعار لارسيني تاركوفسكي) مع الموسيقى للمؤلف (باخ). كلها تجتمع لتعزف لنا سمفونية الحياة ولكن من خلال أنين المخرج (أندريه تاركوفسكي).

  1. تعبر السينما الشاعرية عن ذاتية المؤلف، لذلك فهي لا تروي قصصاً تقليدية، بل هي أقرب الى النزعة الذاتية وبالتالي فهي أفلام جمالية.

إن الأفلام السبعة التي أخرجها (أندريه تاركوفسكي) أزعم أنها تمثل المراحل النفسية والصراع الذي عاشه هذا المخرج في فترة حياته حتى الأشعار التي كانت تتلى داخله كانت من تأليف والده (أرسيني تاركوفسكي)، ففي الفلم (المرآة) يصور المخرج ذكرياته الباطنة وتصوراته عن العالم الخارجي المحيط به والعالم الداخلي الذي يعتلج فيه مستعيناً بأشعار والده والتي تواكب الفلم كله لتعطيه إيقاعاً فلسفياً خاصاً به: لست أخشى لا من الهواجس والوشاية ولا من السم، لست أهرب ، فلا وجود للموت في هذا العالم، كل شيء أبدي أبدي، لا يجب أن نخشى الموت لا في السابعة ولا في السبعين. توجد فقط حقيقة ونور، لا ظلام في هذا العالم، ونحن الآن جميعاً على الشاطئ البحري، وأنا أحد الذين يختارون شباكهم.

ولا يخفى على المطلعين على حياة هذا المخرج (اندريه تاركوفسكي) يجده متأثراً بشكل كبير بشخص المخرج (لويس بونويل) صاحب فلم (الكلب الأندلسي) وحيث أفلام الأخير هي كانت ضد السائد برغم من ان السينما كانت في بواكير نشأتها إلا أن أفلامه بقت عالقة في الذهن السينمائي، ومثله المخرج موضوع البحث نجد أن فلمه (المرآة) وفي بعض الترجمات الأخرى (المرايا) هو أقرب للسريالي منه الى الواقعي، كونه يعرض مختلف المراحل التي مر بها المخرج مشحوناً بالذكريات والهواجس والأوهام الغامضة، بل إن في أغلب أفلامه نجد هناك ركائز تكاد تكون ثابتة وهي عناصر الطبيعة (الماء والهواء والتراب والنار) والتي بمجموعها تكون لنا لحناً خالداً في الذاكرة الانسانية، وإذ تتغلف هذه العناصر بروحية هذا المخرج إلا أننا نجدها في الأصول الأولى للفلسفة اليونانية، ومع ذلك فهي تأخذ لنا منحىً جديداً من خلال الصورة السينمائية لتعبر عن ذاتية المؤلف وما يعتصر في داخله.

وفي فلم (المرآة) يقدم المخرج لنا علاقات متقابلة غير متوازية ممزوجة بالتاريخ من خلال الأرشيف، والكوارث الإنسانية التي تحققت بسبب جشعه ولكن من خلال منظوره الشخصي مقرون بالشعور بالذنب.

إن النار الملتهبة داخله هي في الحقيقة ذلك الضمير المتقد في جوهر الإنسانية، والذي يحاول أن يعكسه الى الخارج، في ذات الوقت يحاول المخرج ومن خلال هذه الصورة السينمائية التي امتلكت ناصيتها من أن تتوازى مع ذلك الإبداع الذي يتمخض داخله، وإذ يعمد الباحث الى بعض الصور لأنه في بعض الأحيان تقف الكلمات عاجزة عن التعبير لما يريد قوله المخرج ذلك ما قاله المثل الصيني (الصورة تعادل ألف كلمة) ومن ثم تبعه أهل الحداثة بالقول (الصورة تعادل مليون كلمة)، إن اللوعة الإنسانية التي تستعر داخل هذا المخرج ربما نتيجة لتنشئته القاسية وربما للظروف المحيطة به جعلت منه كومة رماد ليس أمامه سوى الصورة السينمائية ليعبر عما يؤرقه، ويقلق إنسانيته، ونجد كذلك ومن خلال الذاتية المُغْرقة داخل الفلم التماهي بين الشخصيتين، الأم زوجته والأم والدته، فكثيراً ما تتداخل هذه الشخصيتين حتى يجد المشاهد من الصعوبة التفريق بينهم، مثلما يستعير المخرج بعض المتشابهات في الشخصيات فأنه يترك الكثير من الأسئلة دون جواب ففي المشهد قبل الأخير ودون أن تظهر صورة الأب وهو على فراش الموت في عيادة الطبيب، وقد أمسك (فرخ عصفور) صغير مع بعض الغثيان الأخير بقوله كنت أريد أن أكون سعيداً، يقترن ذلك بالرجوع من جديد للأم مع زوجها في الفضاء الفسيح داخل الغابة في بداية زوجهما وهو يسألها: تريدين فتاة أم ولد، ترفع رأسها الأم فتجد أن أم زوجها وقد اقتادت أولادها الى المجهول.

إن الفلم هو أقرب الى مجموع الصور المتقاطعة منه الى الفلم الطبيعي، حيث يرتقي الى الفن السينمائي الخالص، الذي يصب كل ما في داخله نحو الصورة السينمائية الخالصة، وإذ يسخر المخرج هذه الإمكانيات من أجل تصوير ذاتياته فأنه قد أنجب لنا مجموعة من الأفلام النادرة التي صعب أن تعاد من جديد، في ذات الوقت هناك حضور لمجموعة القيم الكلية التي حاول أن يناقشها في كل أفلامه، فمفهوم (الحب والعدل والخير والحياة والحلم...) كلها مفاهيم تجدها في تلك الأفلام.

في فلم (المرآة) نجد الأم تعمل في مطبعة (مصححة) للأخطاء الإملائية، في أحد المرات تشعر أن هناك مطبوع سيدخل مرحلة الطباعة دون أن تؤشر وتصحح الأخطاء الإملائية فتهرع الى المطبعة في وسط المطر حيث الشوارع فارغة، وصولاً الى المطبعة ومن ثم الى دولاب الكتب لتجده وقد صححته ولكنها قد نسيت ذلك، ومثله الصراع الذي يعيشه زوجها وعقدة الشعور بالذنب مع والدته، إن موضوعة الصراع داخل الفلم لا تكمن بين هذه العائلة والآخرين أو العالم ولكن الصراع يكمن بين ذوات الشخصيات نفسها من خلال حملها للألم الإنساني ككل وهو البحث عن السعادة، إن الإنسان بالنسبة لتاركوفسكي هو الكائن الأكثر تعقيداً في الحياة، ومحاولة المخرج اكتشاف قدرته على التحمل وتمتعه بالأيمان واليقين وهل لديه الرغبة في الحياة أو لا؟

النتائج

  1. عدت الطبيعة المنبع الرئيس لتوالي الصور ذات الطبيعة الشاعرية من خلال واقعيتها الطبيعية، كالمطر داخل الأماكن المغلقة والماء والبحر والنار والمرآة والحلم والحيوانات وهي ميزات ثابتة داخل الفلم.
  2. عُدَّ إحساس صانع العمل هو الدليل الأول في دمج تلك المشاعر وحركة الكاميرا في رصد الأشياء والأشخاص، ومن خلال خصائص الوسيط التعبيري للسينما يعمل المخرج (أندريه تاركوفسكي) على خلق نمطية خاصة به.
  3. تغلف الفلم الشاعري عند المخرج (أندريه تاركوفسكي) بالنزعة الذاتية وبالتالي فهو فلم جمالي ما يعني إنه لا يلقي رواجاً عند الجمهور.
  4. ناقش الفلم الشاعري عند المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي الكليات مثل (الوجود، العدل، الميعاد، الخير...الخ)
  5. النظرة السوداوية والنهاية المأساوية لبطل الفلم في فلمه.

قائمة المصادر

  1. آجيل هنري ، علم جمال السينما، تر، ابراهيم العرس، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980.
  2. ارسطوطاليس، في الشعر، تر، ابي بشر متى بن يونس القنائي، حققه، شكري محمد عياد، القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1967.
  3. آلتون جون، الرسم بالنور، تر، ثريا حمدان، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ب، ت.
  4. جانيتي لوي دي، فهم السينما، تر، جعفر علي، بغداد، دار الرشيد للنشر، 1981.
  5. حمودة عبد العزيز، المرايا المحدبة، الكويت، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، العدد(232)، 1998.
  6. دولز جيل، الصورة – الحركة، تر، حسن عودة، دمشق، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، 1997.
  7. الربيعي بان جبار، المعالجات الفنية لعناصر التعبير الفلمي في السينما التجريبية، كلية الفنون الجميلة، أطروحة دكتوراه غ.م ، 2010.
  8. الطاهر علي جواد، من يفرك الصدأ، بغداد، دار الشؤون العامة، 1987.
  9. عبد العزيز علاء، ما بعد الحداثة والسينما، دمشق، منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما، 2001.
  10. عبد مسلم طاهر، الخطاب السينمائي من الكلمة الى الصورة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2005.
  11. غرين نومي ، بييرباولو بازوليني السينما كبدعة، تر، سميرة بريك، دمشق، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، 2001.
  12. فتحي ابراهيم، معجم المصطلحات الأدبية، القاهرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، 2000.
  13. لوتمان يوري ، مدخل إلى سيميائية الفلم، تر، نبيل دبس، مراجعة قيس الزبيدي، دمشق، المؤسسة العامة للسينما، 2001.
  14. مرتاض عبد الملك، النص الأدبي من أين الى أين، بيروت، دار الحداثة، 1986.
  15. مرسي احمد كامل مجدي وهبة، معجم الفن السينمائي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973.
  16. alan casty: the dramatic art of the film. Faber and faber –london -1990,pp.65

 

 

 

[1] - هنري آجيل، علم جمال السينما، تر، ابراهيم العرس، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980، ص10.

[2] - لوي دي جانيتي، فهم السينما، تر، جعفر علي، بغداد، دار الرشيد للنشر، 1981، ص11.

[3] - يوري لوتمان، مدخل إلى سيميائية الفلم، تر، نبيل دبس، مراجعة قيس الزبيدي، دمشق، المؤسسة العامة للسينما، 2001، ص 61.

[4] - هنري آجيل، علم جمال السينما، المصدر سابق، ص16.

[5] - ابراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، القاهرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، 2000، ص 159.

[6] - بان جبار الربيعي، المعالجات الفنية لعناصر التعبير الفلمي في السينما التجريبية، كلية الفنون الجميلة، أطروحة دكتوراه غ.م ، 2010، ص14.

[7] - المصدر نفسه، ص 20.

[8] - هنري آجيل، علم جمال السينما، مصدر سابق، ص12.

[9] - لوي دي جانيتي، فهم السينما، المصدر سابق، ص495- ص496.

* - فلم (إمراتان): إخراج: دسيكا، بطولة ،صوفيا لورين، تم إنتاجه عام 1960، حصل على اوسكار أحسن ممثلة 1961 لـصوفيا لورين و جائزة أحسن ممثلة من مهرجان كان 1961 لـصوفيا لورين أيضاً.

** - فلم (سارق الدراجة): إخراج دي سيكا، إنتاج 1948.

*** - فلم (كلب اندلسي): إخراج لويس بونويل، سيناريو لويس بونويل وسلفادور دالي، إنتاج 1929.

[10] - احمد كامل مرسي مجدي وهبة، معجم الفن السينمائي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973، ص24.

[11] - ينظر لوي دي جانيتي ، فهم السينما، فصل الطليعيون، ص495.

[12] - لوي دي جانيتي، فهم السينما، المصدر سابق، ص503.

[13] - لوي دي جانيتي، فهم السينما، المصدر سابق، ص524 – ص525.

[14] - بان جبار الربيعي، المعالجات الفنية لعناصر التعبير الفلمي في السينما التجريبية، المصدر سابق، ص42.

[15] - ينظر ارسطوطاليس، في الشعر، تر، ابي بشر متى بن يونس القنائي، حققه، شكري محمد عياد، القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1967، ص هـ- ص و.

[16] - المصدر نفسه، ص و.

[17] - ارسطوطاليس، في الشعر، مصدر سابق، ص ز.

[18] - عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، الكويت، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، العدد(232)، 1998، ص303.

[19] - أنظر: عبد الملك مرتاض، النص الأدبي من أين الى أين، بيروت، دار الحداثة، 1986، ص26.

[20] - علي جواد الطاهر، من يفرك الصدأ، بغداد، دار الشؤون العامة، 1987، ص241.

[21] - علاء عبد العزيز، ما بعد الحداثة والسينما، دمشق، منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما، 2001، ص11

* - فلم((Inceptio: إخراج كريستوفـر نولانسينـاريو وكتـابة، كريستوفـر نولانموسيقـى تصوير، هـانس زيمـر بطـولة، ليونـاردو ديكابريو، ماريون كوتيلارد، اليـن باج، إنتاج 2010.

[22] – المصدر نفسه، ص 388.

[23] - طاهر عبد مسلم، الخطاب السينمائي من الكلمة الى الصورة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2005، ص18.

[24] - نومي غرين، بييرباولو بازوليني السينما كبدعة، المصدر سابق ، ص140.

[25] - جيل دولز، الصورة – الحركة، تر، حسن عودة، دمشق، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، 1997، ص106.

[26] - جون آلتون، الرسم بالنور، تر، ثريا حمدان، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ب، ت، ص 242 – ص243.

[27] - alan casty: the dramatic art of the film. Faber and faber –london -1990,pp.65

[28] - طاهر عبد مسلم، الخطاب السينمائي من الكلمة الى الصورة، مصدر سابق، ص29.

[29] - هنري آجيل، علم جمال السينما، مصدر سابق، ص37.

* - تكونت لجنة الخبراء الذين أقروا مؤشرات الإطار النظري من السادة:

1- أ.د عقيل مهدي. كلية الفنون الجميلة. جامعة بغداد

2- أ.د علي حسين صفوك. كلية الفنون الجميلة. جامعة بغداد

3- أ. م. د متي عبو بولص. كلية الفنون الجميلة. جامعة بغداد

4- أ. م. د محمد عبد الجبار. كلية الفنون الجميلة. جامعة بغداد

5- أ. م. د طارق الجبوري. كلية الفنون الجميلة. كلية الفنون الجميلة