تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 272
إلى صفحة: 281
النص الكامل للبحث: PDF icon 180526-162545.pdf
خلاصة البحث:

الملخص

ثمة مجموعة من المباديء العقلية يمكن استثمارها في الدرس الصوتي بحكم التصاق هذهِ المباديء بنظرية المعرفة مما يولد تبعاً لهذا مجموعة من المفاهيم يقود التأمل فيها إلى وجود ألفة بينها واللغة بعد أن يتم ربط صور التمثيل بأحداث الكلام المادية وبإعتماد مايمتلكه اللغوي من حق في إقتراح الفرضيات المبنية على الوضوح والدقة يقود التوجه نحوها الى تأثيرات تجريبية تخص تلك التعابير.

وفي ظل هذا المستوى من التعامل سنتوصل إلى تفسير معقولِ لسبب إرتباط المباديء العقلية بالظواهر اللغوية ووجودها على إنها قدراتٍ طبيعية للإنسان تُنتج خطوطاً منهجية تعزز وجود المعنى الذي يصطبغ بصبغة مظاهر الحياة إذ ما قيسَ بالواقع عبر قدرة الذات الصوتية وهي قدرة فطرية.

Abstract:

There are a set of mental principlescan be exploited in the phonetic subject as these principles are adhered with Knowledge theory, A group of concepts are consequently generated, These are correlated with language when representation aspects attached with the material events of speech and through adopting the faculties of linguist right in presenting hypo theses based on clarity and accuracy which lead to empirical effects concerned to those expressions.

Thanks to this level of treatment, we may reach to a reasonable explanation to the cause of connectivity of the mental principles with linguistic aspects and existence, and they are natural faculties of man producing systematic trends confirming presence of meaning which is mixed with the dye of life aspect, if compared with reality, via one's phonetic faculty, which is a native one.

البحث:

توطئة:

يمثل كتاب سيبويه نظرية الدرس النحوي العربي, في أهم مبادئها وأجراءاتها التطبيقية التي أجريت على اللسان العربي, ويقع الدرس الصوتي من بين المستويات اللسانية, موقع الاهتمام والمعالجة كما هو الحال مع سائر المستويات في هذا الكتاب, ومن يتوقف عند المستوى النظري لهذه المستويات, ومن يتأمل فيما كتبه سيبويه في الجانب الصوتي, سيجد أن هذا الرجل ترك زوايا النظر في هذه الإجراءات الصوتية, متداخلة بعضها في بعضها الآخر ؛ فلأجل استنباط مستوى نظري في الدرس الصوتي, علينا أن نحسب أن العمليات الإجرائية في هذا المستوى, تقع بالضرورة – دون الاحتمال– من ضمن الحمولات النظرية التي يتعامل بها صاحب الكتاب ؛ لبيان المستوى اللساني المعين لها.

إن مثل هذا العمل جدير بأن يقارن بالمستويات النظرية المعاصرة لعلم الصوت, ويعرض الباحث لانموذج منه وهوالمدرسة الوظيفية.

المبحث الأول: ماهي الوظيفية ؟

ابتداءً من سوسير صار لموضوع القيمة اتجاهاً جديداً, فعلل ظهور القيمة الإجتماعية للعلامة اللغوية, بما سماه بالقيم الخلافية, وعلى أساس التعارض الكائن في بنية الموجودات, تبنت المدرسة الوظيفية مبدأ السمات التمييزية بين الأصوات.

فهم إذن على إتفاق تام على وجود مبدأ التعارض الذهني الذي يؤسس حقيقة القيمة اللسانية في مستواها الصوتي, وفي المستويات الأخرى.

ولكن هذا الاتفاق في البراهين الصغيرة لم يدم طويلاً, ففي مدرسة براغ, كشف جاكبسون عن تعددية متزامنة للملامح الفارقة في الصوت اللغوي, وخلاصة نظريته تذهب إلى " إمكانية نطق عنصرين في زمن واحد "([1]).

إن هذه المقولة على بساطتها قلبت مسار البحث الفونولوجي الذي بدأه سوسير فهذا الاخير يرى, أن العلاقة بين العناصر اللغوية والفروق المميزة بينها, تقع في " الاشتراك في حدود وهمية تفصل بين العنصر والعنصر الاخر" ([2]).

يقول سوسير: ((إن العناصر التي نحصل عليها عند تقسيم السلسلة المنطوقة تشبه الحلقات في السلسلة, فهي لحظات لا يمكن اختصارها, كما لا يمكن دراستها خارج الوقت الذي تشغله))([3]).

والملاحظ أن سوسير يذهب إلى أن السمات الصوتية الوظيفية تحمل قيماً وظيفية في سلسلتها الكلامية فحسب, ويفصل في هذه المسألة بقوله: فالصوتانta مثلاً يتألفان دائماً من لحظة زمنية بعد أخرى, من جزء من الطول بعد جزء آخر.

أما الصوت t إذا أخذناه وحده فيمكن دراسته بصورته المجردة خارج الزمن([4]) وعلى أية حال فإن المتأمل في الرأيين, سيجد أن جاكسبون " يجرد من الصوت المباشر البسيط مركباً من المستويات المضمرة, ومن ثم لم يعد الحرف p أو الحرف k أو الحرفt شبيهاً بالنغمة الموسيقية المفردة, بل صار شبيهاً بالنغمات المتآلفة "([5]).

سيكون بعد هذه المقارنة الدرس الوظيفي معلوماً, وخطوطه واضحة, فالملاحظة الأولى تكشف عن أن الصوت يحدد أولاً بعامل السمع, ومن ثم بعامل النطق بالدرجة الثانية, لأن ذلك ينسجم وطبيعة الدرس الوظيفي الذي يجعل من المرسل إليه مركزاً لفعل النطق.

إن هذه القاعدة صارت قاعدة قياسية عند سوسير, على الرغم من أن الانطباع السمعي عنده " له وجود لا شعوري عند المرء, يسبق دراسة الوحدات الفونولوجية "([6]) وهو يقصد هنا السبق الوجودي الحسي.

إذن فالمستوى الصوتي الحسي, محمول على الانطباع السمعي في التحليل عند سوسير والعكس صحيح أيضاً, ولأن كثيراً من الخصائص الصوتية لا تظهر في السمع, قرن سوسير تقسيم الأصوات في السلسلة المنطوقة بالانطباعات السمعية, وأما وصف هذه الأصوات, فلا تكون إلا على أساس عمل فعل النطق([7]).

يريد سوسير هنا أن يصل إلى الوحدة الصوتية المجردة, لتكون فاعلة في التحليل الصوتي, أو مايسميه وصف هذه الاصوات, بحيث تنسجم مع الانطباع السمعي اللاشعوري, ولتتناغم مع مبدئه الأول وهو: أن الانطباع السمعي أساس أية نظرية صوتية([8]).

فيعرف (الفونيم) بأنه " الحصيلة النهائية للانطباعات السمعية وحركات النطق, وهو الأثر المتبادل للوحدات السمعية والوحدات المنطوقة, إذن هو وحدة مركبة لها جذر في السلسلة المنطوقة, وآخر في السلسلة السمعية "([9]) وبمعنى آخر, فإن سوسير يريد أن ينبهنا إلى أن في الانطباعات السمعية تكمن عملية تزامن إدراكي لهذه الانطباعات مع عمليات السلسلة المنطوقة, علماً أن السلسلة المنطوقة تعتمد باعترافه على التعاقب الزمني, الذي اعترض عليه جاكبسون كما رأينا في أعلاه.

ونلاحظ أيضاً أن تجريد العينات الصوتية أمر متاح في ظروف معينة وغير متاح في ظروف أخرى, بل يمكن أن يكون التجريد نفسه عاملاً للكشف عن عمليات صوتية مضمرة.

أما الملاحظة الأخيرة التي تجلب الانتباه, فهي أن البنية الصوتية المضمرة ذات علاقة تامة بالتمثيلات الصوتية الحقيقية, ونوع الربط بين التجريدات والتمثيلات الواقعية تحدده الملامح الصوتية الظاهرة في السلسلة الكلامية, وبمعنى أخر, فإن ما يظهر من السمات الصوتية متحققاً أو متأثراً بالسلسلة الكلامية, هو من يحوز صفة التجريد, وتكون لمستوياته انعكاسات مباشرة في البنية المضمرة.

وأخيراً أنبه إلى أن الوظيفيين يؤمنون بأن ليس في اللغة إلا التقابلات, وهنا تنشأ دلالة هذه التقابلات على أساس أن المعنى الذي يربطها هو معنى نفسي, يتم وظيفياً بعملية إشتراك بين مستويين متقابلين في إستدعاء الصورة الذهنية, وإذن فهم خير من تبنى نظرية الانعكاس بشروطها الإشارية المعرفية([10]).

المبحث الثاني: الوظيفية والدرس الصوتي العربي

لدى مراجعة سلسلة العمل الوظيفي نجد ان الوظيفيين تركوا أثراً مهماً في الدرس الصوتي, كونه يمثل لديهم المستوى الاول في علم اللغة, وأقصد رتبته, وما تبقى من المستويات الأخرى هي مستويات مستمدة منه, ومؤسسة على وفق بياناته المعرفية.

وأما من ناحية الدرس العربي, وهو درس باعتراف الجميع قدم نظرية صوتية, تحمل تفسيرات لم تخطأ إلى اليوم, فإن النظام اللغوي فيه لايبدأ بالصوت, لكي تتأخر عنه البنية المجردة, فإذا حملنا عليه وقدمناه على مايفعل الوصفيون, أو أخرناه كما يفعل التوليديون, فإن النتيجة تبقى واحدة, وهي أن نظرية الانعكاس مبعدة تماماً في الدرس العربي, وأن احتمالات التفسير القائمة على البنى المجردة هي أقرب لوصف عمل هذه النظرية.

وإذن فإن السمة المولدة للقدرة الصوتية, بإمكانها الكشف عن مضامين العمل الصوتي, بمعزل أو بمرافقة السياق, فكلا الأمرين متاح في هذه النظرية, ولكن الأقرب منهما هو إحتمالات التفسير المقرونة بنماذج تامة للغة, يمثلها النظام النحوي العربي.

إن موضوع تمام اللغة كان هاجساً متفرداً عند النحاة العرب, لذلك تبدو أوجه الكلام التي أحصاها سيبويه, مبنية على نماذج تامة متحققة في صورها النطقية, وكل تعامل مع ثابت وتام وكلي, لا بد أن يهمل الوظيفة التي تتعلق بالصور المتغيرة بتغير الكلام, وعلى الأرجح فإن سيبويه كان واعيا تماماً لما يفعل, حين قدم النحو وأخر الصوت في كتابه.

وعلى أية حال فإذا سقنا هذا المثل بهدف التقرب من المعرفة التفسيرية التوليدية المعاصرة, التي تمثلها مدرسة جومسكي, فإن الأمر قد يكون كذلك, مضافاً إليه ماهو أهم من هذه المقاربة, وهو أن سيبويه بعمله تعامل مع الصوت بعد أن ارشد إلى طرائق الدلالة النحوية في النظام اللغوي, وبعد أن تم له ذلك, في قواعد اللغة, وما ترشح من الكلام عنها, التفت بعد ذلك إلى النظام الصوتي.

ربما تعني هذه المقدمة أن سيبويه لا يمكن أن يقارن عمله بنظرية الانعكاس, لأن القواعد النحوية سابقة في الوعي العربي للدرس الصوتي, ومن دونه كانت المدونات مفهومة في الأوساط المعرفية العامة ؛وقد وصفه سيبويه لتفسير جانب ما يفهم الكلام العربي يمثله باب "ما يطرا على الكلام من تغيير" الذي ظهر منه في جانب البنية الصرفية او السلسلة الصوتية عبر ظواهر عرفت بالادغام والابدال والقلب وغيرها.

ومن ثم فإن الصوت لم يمثل ضرورة في ولادة القاعدة النحوية, هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن القاعدة النحوية عند سيبويه تمثل خطوة واضحة لوضع نظرية دلالية متزامنة ومترابطة مع وضع القاعدة النحوية, وما دام هذا النوع من الدلالة لا يعير أهمية تذكر للعلاقات الصوتية في بناء الدلالة, فإن مستوى انعكاس الدلالة النحوية في المستوى الصوتي, مسألة فيها نظر عند سيبويه.

وأما انعكاس المستوى النحوي في المستوى الصوتي, كما يريد أصحاب النظرية الوظيفية, فهذا أمر متحقق في عمل سيبويه نفسه, وسيتبين ذلك أكثر في المستوى التحليلي الذي سنعرض له لدعاة المدرسة الوصفية من الباحثين العرب.

وقبل أن نخوض غمار ذلك ننوه إلى ما فيه من الأهمية, وهو أن النظرية النحوية عند سيبويه, لم تلق اهتماماً ملموساً, ولا فهماً موسعاً في الدرس العربي المعاصر, قبل صدور كتاب مفهوم الجملة عند سيبويه, للدكتور حسن عبد الغني الاسدي, وبناء على ذلك ننوه إلى أن كثيراً من الأفكار المعتمدة في توصيف نظرية النحو الدلالي عند سيبويه تعود إلى هذا الكتاب, إلا ما يتم الإشارة إليه في هذاالبحث.

المبحث الثالث: سيبويه والمدرسة الوظيفية

حينما نما الوعي بالمنهج اللغوي الوصفي, وبمقولات سوسير حصراً لجأ بعض الباحثين العرب إلى محاولة إعادة النظرة في التراث العربي عبر هذا المنهج, ولعل إستقصاء هذه المحاولات أمر لا يعنينا هنا, إلا أن من الضروري أن نرصد بعض ما دار من وجهات نظر معاصرة في الدرس الصوتي القديم, يقول الباحث المصري الدكتور عبد الصبور شاهين: " إن من النادر أن نجد في كتب النحو القديمة من يشير الى الارتباط بين ظاهرة نحوية, وأخرى صوتية, مع أن الكثير من ظواهر النحو لا يمكن تفسيره إلا على أساس صوتي "([11]).

لقد وجدت هذه المقولة ترحيباً واسعاً في الدرس الصوتي المعاصر, وخير دليل على ذلك مالاقاه البحث الذي كتبه الدكتور طارق الجنابي من إقبال في هذا الميدان بالذات, كان عنوان البحث " قضايا صوتية في النحو العربي "([12])وقد كانت أثار هذا البحث واضحه في كثير من الرسائل العلمية([13]), الأمر الذي يعني من قريب أو بعيد أن تراث هذه الامة بقي معلقاً على نظرية العامل و دون أن ينتبه المعاصرون إلى أن مفاهيم الصوت ارتبطت بنظرية سيبويه النحوية, والعامل فيها يشابه بل يفوق في تقنيته, مايعرف اليوم بالسلسلة الكلامية, ويمكن لمن يطلب المزيد حول هذا الموضوع أن يراجع كتاب مفهوم الجملة عند سيبويه.

وبناء على هذه الجدة في موضوع الجملة عند سيبويه, يمكننا أن نقول إن التمثيل أو قدرة التفسير في الجملة تتمثل بعدد من الاستدعاءات الحاصلة في النظام الذهني للجملة, وهذه الاستدعاءات تشمل مكوناتها جميعاً, وتشمل أيضاً الانتقال بين مستويات اللغة الدلالية والصرفية والصوتية.

إن هذا الترتيب في عملية تحقق الجملة عبر الانتقال بين مستوياتها, أعني به مانص عليه سيبويه قد يشابه كثيراً ما فرضته على الجملة القواعد التفسيرية في النحو التوليدي التحويلي.

ناهيك عن أن نظرية النحو العربي أخذت الطابع العقلي في متونها النظرية منذ سيبويه, وقد تنبه الى أهمية البحث عن الأصل المعرفي للنحو العربي الباحث " كريم عبيد علوي "([14]), وإشارة هذا الباحث في البحوث التطبيقية المقارنة تكاد تكون يتيمة في مجالها في الدرس العراقي المعاصر.

وإذن فإن الصوت هو المظهر المتحقق في بنية الجملة, أي المظهر النهائي أو الأستدعاء الأصغر في حساب المدرسة النحوية, وهذا يعني أنه لايوجد خلط دلالي في الطبيعة الخطية للجملة العربية من منظور سيبويه ونظريته النحوية ؛ ليستدعى فيها الصوت أو القرائن الأخرى لتفسيره أو توضيحه, كما يزعم الوصفيون, هذا من جهة, ومن جهة أخرى, فأن إظهار مفهوم الصوت في المدرسة النحوية بمظهره الوصفي التجريبي, سواء على المستوى الوصفي للصفة الصوتية وأجزائها, أم على مستوى المقطع, من شأنه أن يعيد للأذهان اعتباطية العلامة النحوية, حيث يكون المستوى الصوتي في الجملة هو الذي يمثل اعتباطية الدلالة النحوية, إذا أمكن أن يوصف هذا المستوى بأنه حصيلة للانطباعات السمعية النفسية مقرونة تجريبياً مع سلسلة صوتية منطوقة للمتكلم كما وجهها سوسير في أعلاه, وهذا مارشح فيما بعد أن تكون العلاقة بين الصورة النفسية – وهي مبعثها الانطباع السمعي للمنطوق كما رأينا – للدال (المنطوق) التي تربطه بالمدلول المتصور, أن تكون دلالة أعتباطية, وكما هو مشهور في نظرية سوسير.

إن هذه النتيجة الأخيرة مهمة للغاية, لأن سيبويه جعل المنطوق أساس القاعدة الصوتية في نظريته النحوية, وكل عوامل الإثارة التي لحقت نظرية سوسير لا تقابل بأي حال من الأحوال عمل سيبويه النظري في اللغة.

مما ينعكس نتيجة لذلك حرص سيبويه على بناء النحو الدلالي للجملة على وفق إيقاع الدلالة الخارجية للخبر, فعلى سبيل المثال جعل سيبويه تصنيفه للفعل بناءً على كونه واقعاً أو غير واقع, فلم يتطرق ابتداءً إلى مسألة زمن الفعل في هذا التصنيف, وتركه في غير مرة إلى المستوى السياقي للكلام.

ونجد هذا الموقف واضحاً في الباب الأول في تقسيم الكلام, واستمر على هذا المنوال كلما صارت الحاجة الى التذكير به([15]).

وقد أهملت هذه الفكرة على أهميتها في الدرس النحوي بعد سيبويه, وهذا الاهمال كان بسبب تعارض الافكار مع سيبويه ؛ فلم نجد لها مناصراً إلا في شروح الرضي على الكافية, وسنبين ماجاء فيها.

يشير الرضي في شرحه على الكافية في باب المدح والذم, إلى دلالة الجملة الإنشائية, والخبرية, وهو في موضع الرد على مذهب جمهور النحاة, في قولهم: إن الجملة الإنشائية توجد معنى في الخارج لم يكن موجداً قبل اللفظ([16]), يقول الرضي ((.. أنك إذا قلت: نعم الرجل زيد, فإنما تنشيء المدح وتحدثه بهذا اللفظ, وليس المدح موجوداً في الخارج في أحد الأزمنة مقصوداً مطابقة هذا الكلام إياه, حتى يكون خبراً, بلى, تقصد بهذا الكلام مدحه على جودته الموجودة خارجاً, ولو كان إخباراً صرفاً عن جودته خارجاً لدخله التصديق والتكذيب))([17]) وفيما يقول الرضي في هذا الباب أمور, منها أن الإنشاء لا يتوافر على المطابقة مع الخارج, إلا أن يكون فيه معنى الخبر.

فالدلالة الإنشائية مسحوبه من الخبر, وكل جملة إنشائية من ناحية الدلالة لها وجهان, أولهما عدم قبولها لمعياري الصدق والكذب من جهة إيقاع الفعل, والثاني قبولها لهما في جزئها الخبري, وهذا يعني أن الفعل يحرز هنا جهتين من الدلالة وهذا غير ملحوظ في دلالة الجملة, ولذلك أرجح أن مذهب سيبويه الذي يتضح في عمل الرضي, قائم على أن الاشتراك في جهتي الدلالة حاصلة في المعين من الفعل, لا في الفعل نفسه, وكلمة فعل هنا تطلق على الكلام أو الجملة, وليس المراد منها الفعل النحوي.

ولعل هذا يتضح أكثر في الجملة الخبرية, وهي منقسمة أيضاً إلى جهتين دلاليتين عند الرضي, ويوضح ذلك الدكتور مصطفى جمال الدين الذي يذهب إلى أن الرضي يقيس هذه القاعدة على الجملة الانشائية ويحملها على الخبرية كذلك, ((لأن جملتي (زيد أفضل من عمرو) أو (زيد قائم) فيها جزء لايقبل التكذيب هو إيجاد المتكلم التفضيل في الأولى والإخبار في الثانية, وفيها جزء يقبل التكذيب هو (ثبوت الأفضلية أو ثبوت القيام خارجاً)))([18]).

وهكذا يمكننا أن نثبت أن الوعي العربي وتحديداً في مفكريه المؤسسين, لم يكن وعياً تفاضلياً ناتجاً في إنعكاسات القيمة, فهو يعمل على مجاورة القيم أكثر مما يعمل على تناقضها وتضادها, وحقل التأسيس هذا ينطبق على الميدان الصوتي كما ينطبق على المستويات الأخرى في العمل النحوي.

وبناء على ما تقدم نجد أن مسوغات ربط الدرس الصوتي العربي, بالمستوى الوظيفي الذي تتحدث عنه بالمدرسة الوظيفية, غير مسوغ بالمطلق, وإذا كنا مضطرين لأن نخضع لمصطلح الفونولوجيا, لكونه يمثل النظام الوظيفي للصوت, - وهو اضطرار قد يزول في المستقبل – فإن كان لابد من ذلك, فإن الوظيفة التي تعني توظيف الصوت في اللغة, لا يعني بحال من الأحوال, افتراق القاعدة التي يعمل عليها الصوت في اللغة, عن المبادىء النظرية التي تؤسس عليها قواعد هذه اللغة, وإذن فلأي حاجة نفكر بإقحام الفونولوجيا على علاتها في الدرس العربي القديم ؟.

وعلى أية حال, فإن لسوسير رأيا مهما في هذا المجال, فقد تساءل " هل يمكن أن يكون للغة كيان مستقل عن التغييرات الصوتية ؟ الجواب نعم فالتغييرات الصوتية لا تؤثر إلا في المادة التي تتألف منها الكلمات, وإذا أثرت في اللغة من حيث أنها نظام من الإشارات فإن هذا التأثير غير مباشر, ويأتي من خلال التغييرات في التفسيرات التي تعقب ذلك"([19]).

وعلى الرغم من أن باطن قوله يدين التفسيرات اللغوية, فإن فيه من جهة أخرى نزعة نحو النظر إلى جملة التفسيرات على أنها جزء مهم من اللغة, حيث يكون الوعي باللغة له أثر في وجودها كما اللغة نفسها, بمعنى أن الفارق بين اللغة والوعي باللغة تذوبه الطرائق التفسيرية المرافقة لوجود اللغة دائماً, وهكذا نخلص إلى أن قواعد اللغة قاربت أن تكون ضرورة من ضرورات وجودها, وهذا ينطبق تماماً على عمل سيبويه, وعلى اللسان العربي بالدرجة نفسها.

إن النظرية العربية تلتفت إلى تحقق الصوت في الواقع, والصوت عند سيبويه يوصف بما يتحقق به, ودواعي التحقيق معروفة, فهو عامل مهم في أداء المعنى, وأما حبس الصوت على نظرية الإدغام العربية, ففيه تأكيد على أن تجعل أسباب النطق حاضرة في المستوى الأدائي والسمعي والإفهامي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يتم ذلك ؟ الجواب: إن نظرية المطابقة الإشارية للفعل مع الخارج تمثل مضامين علمية مهمة, أهمها أن اللغة ليست أداة تواصل في فكر سيبويه, وإنما هي أداة تفهيم وتعهد وإلتزام, فإرادة اللفظ مقرونه بهذه الوسيلة, وأما أن تكون اللغة أداة تفكير, فذلك أمر آخر, وبناءً على ذلك فإننا أمام ثلاث نظريات مهمة ما زالت تمتد الى اللغة العربية, الأولى لسيبويه وهي النظرية العربية التي تقول إن اللغة مقياس مطابقة وأداة تفهيم وتعهد والتزام, والثانية ورائدها سوسير تقطع بإن اللغة أداة تواصل, وأما الأخيرة فتقول إن اللغة أداة تفكير وهي مقرونة بقواعد وأفكار يحملها المتكلم غريزياً هي النظرية التوليدية التحويلية.

ومن هنا يتبين أن النظرية العربية لها خصوصية في وضع النظام الصوتي, وهذا يعني أن طريقة الأداء الصوتي, وعملية تحقيق الفعل النطقي, لها أثر في الدلالة القياسية التي يدعو إليها سيبويه, ولذلك فإن قواعد النظام اللغوي, وأخص منها النحوية, لا يمكن أن تقود بمفردها إلى ذلك, فالجانب الإيقاعي ليس جزءاً مؤثراً في التواصل, بقدر ماتقع عليه مهمة المطابقة وتوقيع المعنى في الخارج, فإذا كان هذا يتم على النحو الاتفاقي المسبق, فهو متحقق بالحركة الإعرابية, ولكن تبقى فسحه التمثيل الواقعي القياسي للغه تكمن في التحقق الصوتي على نحو الإطلاق.

إذن فإن مساحه التغيير النطقي في الصفات الصوتية والمخارج كبيرة في العربية, ولا أدل على ذلك من الأختلاف الذي حصل في قراءة القرآن, وعلى هذا الوصف يكاد يكون الحرف العربي صورة عقلية لما يمكن أن تنتج عنه صورة نطقية فعلية متحققة في عملية النطق([20]).

وإذن فإن سيبويه لم يخطيء حين وضع الصوت في باب الإدغام, ليمثل فيها لأهم عملية نطقية في الكلام العربي بل وأوسعها, ففي الإدغام تجري المماثلة الصوتية في كل مستويات الصوت من الصفة إلى المخرج, وفضلاً عن ذلك كله ففي هذا الباب هناك تمثيل لوحدة صوتية مجردة مع كل وصف يخرج به الصوت عن القاعدة التي تعارف على وجوده فيها, إن الذي ينظر إلى الاسهامات الوصفية المعاصرة والمتنوعة في تحليل ظاهرة الإدغام, يقر أن هذه الظاهرة اللغوية, تشترك فيها الخواص الصوتية النظرية التي بثها سيبويه, وفصل فيها المعاصرون([21]).

نتائج البحث

يمكن ان نخلص عبر ما سبق الى مايأتي:

  1. إنَّ الصوت يحدد بعامل السمع أولاً ومن ثم بعامل النطق.
  2. إن تجريد العينات الصوتية أمر متاح في ظروف معينة, وغير متاح في ظروف أخرى ويمكن أن يكون التجريد عاملاً للكشف عن عمليات صوتية مضمرة.
  3. إن البنية الصوتية المضمرة ذات علاقة تامة بالتمثيلات الصوتية الحقيقة.
  4. إن التمثيل أو قدرة التفسير في الجملة تتمثل بعدد من الإستدعاءات الحاصلة في النظام الذهني للجملة وتشمل مكوناتها جميعاً.
  5. إن النظرية العربية لها خصوصية في وضع النظام الصوتي أي إن طريقة الأداء الصوتي لها أثر في الدلالة القياسية التي يدعو إليها سيبويه.

المصادر

1

الأصوات اللغوية / أبراهيم أنيس - مصر, د.ت.

2

البحث النحوي عند الأصوليين / د. مصطفى جمال الدين, بغداد, 1980.

3

شرح الرضي على الكافية (النسخة الألكترونية).

4

علم الدلالة / بير جبرو, ت: د.منذر عياشي, دمشق, 1992.

5

علم اللغة العام / دي سوسير / ت: يوئيل يوسف عزيز, بغداد, 1985.

6

فرديناند دي سوسير / جونثان كلر – ت: عز الدين اسماعيل.

7

الفونيم بين النحو العربي القديم وعلم اللغة الحديث, د. عبد المنعم الناصر / م: أفاق عربية (آب 1990).

8

قضايا صوتية في النحو العربي / د. طارق عبد عون الجنابي, مجلة المجمع العلمي العراقي / ج2, 3 / مج 38, شوال 1407 هـ, حزيران 1987 م.

9

الكتاب لسيبويه / ت: عبد السلام محمد هارون, ط3, عالم الكتب, القاهرة, 1983.

10

منهاج التوجيه الصوتي في دراسة النحو العربي, علامات الاعراب والبناء أنموذجاً, عقيل رحيم علي, رسالة دكتوراه, جامعة بغداد, 2002 م.

11

المنهج الصوتي للبنية العربية, رؤية جديدة في الصرف العربي, د. عبد الصبور شاهين, ط1, مطبعة جامعة القاهرة, والكتاب الجامعي,1977.

12

النظرية التوليدية التحويلية في الدراسات النحوية العربية, كريم عبيد علوي, رسالة ماجستير, الجامعة المستنصرية, كلية التربية, 1999.

 
 

[1]- فرديناند دي سوسير, جونثان كلر, ت. عز الدين اسماعيل, مقدمة الترجمة, 17.

[2]- المصدر نفسه: 18.

[3]- علم اللغة العام, سوسير, ت.يوئيل يوسف عزيز, بغداد, 1985, 58.

[4]- المصدر نفسه: 58.

[5]- فرديناند دي سوسير, جونثان كلر, ت. عز الدين اسماعيل, مقدمة المترجم, 17.

[6]- علم اللغة العام, 56.

[7]- المصدر نفسه: 58.

[8]- المصدر نفسه: 56.

[9]- المصدر نفسه: 58.

[10]- علم الدلالة بيير جيرو, ت.د.منذر عياشي, دمشق, 1992, 28 – 29.

[11]- المنهج الصوتي للبنية العربية, رؤية جديدة في الصرف العربي, د. عبد الصبور شاهين,ط1,مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي 1977, ص 9.

[12]- قضايا صوتية في النحو العربي: د. طارق عبد عون الجنابي, مجلة المجمع العلمي العراقي, ج 2,3, مج 38, شوال 1407 هـ, حزيران 1987 م.

[13]- منها التوجيه الصوتي في دراسة النحو العربي, علامات الإعراب والبناء إنموذجاً, عقيل رحيم علي, رسالة دكتوراه, جامعة بغداد, 2002 م.

[14]- النظرية التوليدية التحويلية في الدراسات النحوية العربية, كريم عبيد عليوي, رسالة ماجستير, الجامعة المستنصرية, كلية التربية, 1999, ص 58.

[15]- ينظر: مثلاً في قوله, وأما بناء ما لم يقع, سيبويه ت. عبد السلام محمد هارون, ط3, عالم الكتب, القاهرة, 1983, 1/12.

[16]- ينظر: في تلخيص مذهبهم, البحث النحوي عند الأصوليين, د.مصطفى جمال الدين, بغداد, 1980, 267.

[17]- شرح الرضي عل الكافية, 2/ 238, النسخة الالكترونية.

[18]- البحث النحوي عند الأصوليين, 268 – 269.

[19]- علم اللغة العام: 37.

[20]- لدينا هنا إشارة مهمة من تراثنا أشار لها الدكتور عبد المنعم الناصر, نقلها عن كتاب الحروف للرازي وهو تقسيمه الحروف إلى: فكرية ولفظية وخطية: الفونيم بين النحو العربي القديم وعلم اللغة الحديث, د.عبد المنعم الناصر, آفاق عربية, آب, 1990, 82.

[21]- ينظر على سبيل المثال, الأصوات اللغوية, إبراهيم أنيس, مصر, د.ت., 106 وما بعدها.