تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 61
إلى صفحة: 83
النص الكامل للبحث: PDF icon 180423-084203.pdf
خلاصة البحث:

يُعد الجواهري في الطليعة من بين كبار الشعراء العرب في العصر الحديث، استطاع بموهبته الفذة التي أسهمت البيئة النجفية المتميزة في صقلها، فضلا عن جده ومثابرته في الدراسة والقراءة والحفظ أن يحظى بلقب شاعر العرب الأكبر, بعد أن كتب هذا الكم الكبير والجميل من الشعر بأغراضه المتنوعة.

وهذا البحث دراسة في قصيدة (الراعي)، وهي قصيدة نظمها الشاعر بتأثير من البيئة التي كان يعيش فيها وقتذاك حينما كان  يعمل  بالزراعة في وقت من أوقات حياته الطويلة، وهي دراسة تحليلية في اللغة والافكار والرؤى التي شكلت موضوع القصيدة الرئيس (الراعي) وقفنا فيها على أهم المرتكزات التي اعتمد عليها الشاعر في نسج هذه القصيدة  التي استطاع  فيها برهافة حسه وبمقدرته الفنية المتسامية وقدرته اللغوية العالية؛ أن يصور الراعي وقطيعه وحياته بأروع ما يكون.

البحث:

المقدمة:

الراعي: عنوان لقصيدة نظمها الجواهري في قضاء (علي الغربي) في لواء العمارة، حين عمل مزارعاً في مرحلة من مراحل عمره الطويل.

لقد لفت انتباهي عنوان القصيدة وأنا اتصفح الديوان، وتوقعت أنها لابد أن تكون زهرة جميلةً من بين الزهور الفواحة التي عطرّ أريجها روضة شعره الغناء، فكان ما رأيت وأنا اقرأ القصيدة وأتأمل ما قرأتُ. لقد كانت بحق لوحة رائعة رُسمت بريشة فنان ماهر، أوهي بالاحرى معرض لأكثر من لوحة استطاع فيها الشاعر أن يصور الراعي وحياته  ببراعة وبأروع ما يكون. وهو ما كان وراء اختيارنا لهذه القصيدة لتكون موضوع بحثنا هذا، الذي اشتمل على ملخص ثم هذه المقدمة التي أعقبناها  باثبات القصيدة كما جاءت في الديوان.

وفي دراستنا لهذه القصيدة وجدنا مناسباً ونحن نتتبع تحليلياً مراحل تشكيلها أن نقف على أهم المرتكزات التي استندت عليها عملية تشكيلها, فكانت على النحو الأتي:

1ـــ  بداية الرحلة الرعوية:

2- علاقة الراعي بالقطيع. 

3ـــ  حياة الراعي.

4ـــ  مدح الراعي. 

5ـــ  مستلزمات الراعي.  

   وقد كانت لنا وقفة مع الايقاع فيها، وفيه استرعى انتباهنا ظاهرة التدويرالتي تجاوزت أكثر من ثلثي أبياتها, ثم أعقبنا ذلك بخاتمة استعرضنا فيها أهم النتائج المتحصلة.

القصيدة:                           

الراعي

لَــفَّ العَـبـاءَةَ واسـتـقَـلاَّ               بـقـطـيعـِـهِ عَـجَـلاً ومَــهْـلا

وانصاعَ يَسـحَـبُ خَـلفَـهُ               رَكْـــبَاً يُـعَـرِّس حيثُ حَـــلاَّ

أوْفَـى بـهــا صِــلاًّ  يُـــزا                حِمُ في الرمالِ السُّمْـرِصِلاَّ

يَــرْمِي بهـا جـبـلاً فــَتـَتــْ               بَعُ خَـطْوَهُ ويَـحُـطُّ سَـهْــلاَّ

أبــداً يـقـاسـمُها نَــصِــيـ               با من شَظيف العَيـْشِ عَدْلاَ

يَصْلَى كما تَصْلَى الهجيـ               رَويســتقي ثَمـــدَاً وضَحْــلاَ

يُــومِي فَــتَـفْهَـمُ ما يُــرِيـ              دُ ويَرْتَمِــي فَـتَهُــبُّ عَجْـلَـى

وتـكـادُ تُـعْــرِبُ بـالثـُـغَــا               ءِ هَـــلاَ  وَحَـيِّهَـلاَ  وَهَـــــلاَّ

يَـقْـفُو بِعَـيـْنِ الـنَّسْـرِ- تَـر                قُـــبُ أَجْــدَلاً - ذئـبـــاً أَزَلاَّ

وَيَـحُـوطُ كالأَسـَـدِ ٱجْـتـبى              أشــبـالَــهُ جَــدْيَــاً وَسَـــخْـلاَ

أَوْفَـى عـلى رَوْض الـحـيا              ة يَـجُــوبُــهُ حَــقْـلاً فَـحـَقْــلاَ

وٱرْتَــدَّ يَـحْمِـلُ مـا يَـصُــو               نُ ذَمَــاً ومـا أَغْـنَـى وقَـــلاَّ

نَــايَــاً يَـــذُودُ بــهِ الــوَنَـى               وَيُـلَـوّن النَّـسَـــقَ الـمُـمِــلاَّ

وعَـصَـاً يَـهُــشُّ بـهـا ويــَر               قــى ذروةً ويُــقِـيـمُ ظِــــلاّ

* * * * *

يـا رَاعِـيَ الأغْـنـامِ أَنْــــ                 تَ أَعَـزّ مـمـلـكـةً  وأَعــلى

لـلــهِ مُــلْـكُـــكَ مَــا أَدَقـْـ                 قَ وَمَــا أَرَقَّ وَمَـــا أَجـــلاَّ

يـرْوِيـكَ مِـنْ رَشَــفَـاتِــهِ                   قَـــمَـرُالسَّــمَـاءِ إذا أَطَـــلاَّ

ويـقِيكَ في وَعْـثِ السُّرَى                وَهَــجُ الـمَـجَرَّةِ أَنْ تَـضِــلاَّ

وتَـلُـمُّ في الأَسْحَارِعــنــْ                  قـــود الـنُّـجُـومِ إذا تَــدَلَّـــى

أبـداً تَـشــيـمُ الـجَـوّ تَــعْــ                رفُ عـنـدَهُ خـِصْبَـاً ومَـحْـلاَ

وتـكــادُ تَـغْـــرِفُ وابِــــلاً                 حذقَاً وَتَـرْشِـفُ مـنهُ  طَــلاَّ

تُزْهَى بأنَّ الأرضَ خضرا                  ء زَهَـــتْ نَــبْــتَـاً وبَــقْـلاَ

وَتَـوَدُّ لَـوْ حـَنَـتِ الـفـصـُـو                 لُ على الـرَّبِـيعِ فَكُنَّ فصْلاَ

وَلَـوَأَنَّ كـُلَّ الـناسِ مـِثْـــــْ                لُـكَ مـن غَـضَـارَتِها  تَـمـلَّى

أُعـطِـيتَ نَـفْسـَاً لَـمَّـتِ  الـ                 أجــزاءَ حـتّى صــِرْنَ كُـــلاَّ

وأَسَــلْـتَ بَـعْــدَاً في غِـمَـا                رِالـذكــريـاتِ فــعـادَ قــَـبــْلاَ

عُـرْيَانُ مـن عُـقَـدِ النـفـو                س عَـصِلْـنَ فٱستعصينَ حَـلاَّ

لـم تَـرْعَ مـن شـجرِالتَّـكَـا                 لُــبِ وارفـــاً حـقــداً وَغـــلاّ

وجهـلْـتَ مُـتْـرَفَةَ الـحـيـــا                 ةِ تَـــذَوَّبَـــتْ كــَســَـلاً وذُلاَّ

لم تَخْشَ بُـؤْسَ غَـدٍ يـُشَـوْ               وهُ مـن جـمـالِ الـيـومِ شَـكْلاَ

لا تـعــرفُ الأشــباحَ رَعْــ                 ناء الخُطَى شـَوْهَـاءَ خَجـلَى

أَطْـيَـافُــكَ الــزَّهْــرُالـنَّــدِيــْ               يُ شَــذَاً  وألــوانَـــاً وظِــــلاَّ

وَمَـطَــارِحُ الــِمعْــزَى تـعـا                  ودُ عــنـدَها وَطَـنَـاً وأَهْــلاَ

وَكَسـَرْحـكَ الــرَّاعِـي تَعِــنْـ                نُ رُؤَاكَ مُـعْــلَـمَـةً وَغــُفـْـلاَ

تــرْتَـادُ مُـعْـجَـمَـةَ  الـدُّنَـى                 وَتَـجُـوسُـهَا فَـصْـلاً فَـفَـصْلاَ

وتُــسـَامِرُالنَّـجْــوَى تَـعُــبْ                 بُ بِـكـأْسِــهَــا نَـهـَـلاً وَعـلاَّ

وَتَـرَى مُــلَـوَّنَــةَ الـطـبـيـ                   عـــــة إِذْ تَـغـُــمُّ وإذْ تَـحَـلَّــى

غُــوْلَ الـظَّــلامِ إذَا تَــعَـلَّـى                وَسَــنَا الــصَّبَـاحِ إذَا تَـجَــلـَّى

* * * * *

حيِّـيتَ رَاعِي الضَّأْنِ يَـــــرْ                 عَــى ذِمَّــــــةً كَــــبُــرَتْ وإِلاَّ

تــلـكَ الأمــانــةُ أَوْدَعَـــتْ                  أثــقــالَـهَا كــــُفُـوَاً وَأَهْـــــَلا

كـــانــــتْ لــــهُ غَـــــلاًّ وَآ                  خَـرُشـَـاءَهَــا لـلنـاسِ غُـــلاَّ

مــا أقــبــحَ الــدُّنــيــــا إذا                 ضلَّ الـرُّعاةُ وما أَضلاَّ([1])

 

* * * * *

بدايةالرحلة الرعوية:

   يبتدئُ الشاعر قصيدته برسم صورة الراعي في البيت الاول، وهما بالاحرى صورتان توزعتا على الشطرين إذ يقول:

لَـــفَّ الـعَـبـاءَةَ واسـتـقَـلاَّ           بـقـطيعـِهِ عَـجَلاً ومَـهْـلا

فقد تضمن الشطر الاول صورة الراعي بهيأته، وهو يتهيأ ليبدأ رحلته في الرعي  فها هو قد لفَّ عباءته ومضى. أما الشطر الثاني فتضمن صورة القطيع وهو يتبعهُ ويحذوه في المهل والعجَل. لقد كان الجواهري بارعا وهو يستهل قصيدته بهذا المطلع إذ جعله سهلا رقيقا، واضحا في معناه، مستغنيا عما تلاه، مناسبا لما عناه([2]).

   ثم يستمر الشاعر في تصويره لمراحل رحلة الرعي هذه. ففي البيت الثاني يصور مسيره وهو متبوعُ بقطيعه الذي يمتثل لارادته، فيكف عن المسير ويمكث حيث يمكث هو. بعد ذلك يرسم لنا الشاعر صورة القطيع وهو يسير خلف الراعي فيقول:

أوْفَـى بـهــا صِــلاًّ  يُـــزا          حِمُ في الرمالِ السُّمْـرِصِلاَّ

   وهي صورة حسية بصرية متحركة مؤسسة على التشبيه، فالشاعر يشبه مسير القطيع على الرمال في تزاحمها بحركة الصلال الرشيقة المنسابة على تلك الرمال السمر. إن تكرارالشاعر حرف الالف في الكلمات: أوفى، بها، يزاحم، الرمال، صلا، قد ولّد تناسقا صوتيا ممتدا يشي بحركة الصلال على الرمال، وفي هذاتتجلى "فاعلية الأصوات في قدرتِهَا على إضافة طبقة دلالية من خلال الطبقة الصوتية، وهي في ذلك كأَنَّهَا

 إيماءٌ مُكَثَّفٌ يختزلُ إضافات وصفية أو تشبيهية، فكأَنَّها لذلك معنًى فوقَ المعنى([3]).

   ثم يذهب الشاعر لتحديد طبيعة المكان لتأكيد مطاوعة القطيع في المسير خلف الراعي فيقول:

يَــرْمِي بهـا جـبـلاً فَتـَتـ            بَعُ خَـطْوَهُ ويَـحُـطُّ سَـهْـلاَّ

فهي تتبع خطوه وهو يتجاوز الجبل وتحط في السهل اذا ما حطّ فيه. وهذه إنما هي بداية لتشكيل صورة العلاقة بين الراعي وقطيعه.

 العلاقة بين الراعي والقطيع:

   لقد أراد الشاعرأن يصور شعرياً تلك العلاقة الحميمية بين الراعي وقطيعه، فهو كما يقول:

أبــداً يـقـاسـمُها نَــصِـيـ          بـاً من شَظيف العَيـْشِ عَدْلاَ

يَصْلَى كما تَصْلَى الهجيـ        رَ ويســتـقي ثَمــــدَاً وضَحْـلاَ  

فالشاعر ينبئنا عن ضيق في العيش وعسرة وهو يتقاسم مع قطيعه ذلك العسر الحياتي، فهو يكتوي بحر الهاجرة كما هي، وإذا ما عطش فانه يشرب من الماء الضحل القليل الذي يشرب منه القطيع.

إن هذه العلاقة الحميمية بينهما، جعلت القطيع يفهم إيماءة الراعي وإشارته، فيستجيب لما يريد، واذا ما رمى صوبها الحجارة أوغيرها لامر يبغيه فانها تعرف أيضا قتلبي مسرعة ما قصدَ

يُـومِي فَـتَـفْهَـمُ ما يُـرِيـ         دُ ويَرْتَمِــي فَـتَهُــبُّ عَجْـلَـى

وتـكــادُ تُـعْـرِبُ بـالثُـغَـــا       ءِ هَـــلاَ  وَحَـيِّهَـلاَ  وَهَـــــلاَّ

 فالشاعر في تصويره لعلاقة الراعي بقطيعه، لم يرسم استجابة القطيع لمطلب الراعي على المستوى الحركي فقط، وانما صور لنا الاستجابة على المستوى الصوتي أيضاً، فها هو القطيع يستجيب بالثغاء معرباً عن تلبيته، ويحدد الشاعر ألفاظ التلبية بـ (هلاً) و (حيهلا) و (هلاّ) وهي الالفاظ التي تحمل الدلالة الترحيبية عند الانسان، وكأن الشاعر أراد أن يؤكد الاتفاق الدلالي للاصوات بين الانسان والحيوان، وان اختلفا على المستوى الصوتي  " إن الإحساس الجماليّ بالمفردة اللّغويّة، هو الذي يُحَوّلها إلى مفردة شعرية، وتبقى المفردة، في إطارها القاموسي مادامت لم تَتَلَقَّح بالإحساس الجماليّ أي ما دامت مستقلة عن الدفق الجماليّ الذي تغذّيها به الذات الشعرية([4]).

   ثم ينتقل الشاعر لبيان خصيصة أخرى من الخصائص التي تصور جانباً آخر من جوانب تلك العلاقة الحميمية بين الراعي وقطعيه فيقول:

يَـقْـفُو بِعَـيـْنِ النَّـسْرِ- تَـر         قُـــبُ أَجْــدَلاً - ذئـبـــاً أَزَلاَّ

  فهو يرسم هنا صورة الراعي وهو يحمي قطعيه، فها هو يرقب ويتتبع كلَّ ما من شأنه أن يلحق الضرربقطيعه

, فهو على المستوى البصري يراقب بعين كعين النسر حركة الذئاب التي تحاول النيل من القطيع، وليس هذا فحسب وانه كما يصوره الشاعر بتصوير آخر:

َيَـحُـوطُ كـالأَسـَـدِ ٱجْـتـبى      أشــبـالَــهُ جَــدْيَــاً وَسَـــخْـلاَ

فالشاعر يصور الراعي على مستوى آخر من مستويات توفير الحماية لقطيعه، فيرسم لنا صورة حسية بصرية، إذ يشبه الراعي وهو يحيط بقطعيه الذي يحدده بين الجدي والسخل، يشبهه بالأسد الذي يجتمع بأشباله فيحيطهم. والشاعرإنما أراد بهذا التصويرإظهارشجاعة ومنعة

الراعي في ذوده عن قطعيه.

لقد استطاع الجواهري أن يرسم هذه الصورة الجميلة بقدرة فنية فائقة، إن براعته الفنية هي ماجعله مميزا عن غيره من شعراء عصره, فهو" فحل من فحول الشعراء المعاصرين وهو في التعبير الشعري أميل الى النهج الكلاسيكي من النهج المولد الحديث على أن الكثير من صوره ومعانيه جديدة، فهو من القادرين على وضع الخمر الجديد في الزقاق القديمة([5]).

مستلزمات الراعي:

 ثم يتطرق الشاعر وهو يصور الرحلة الرعوية الى الراعي وهو يجوب الحقول التي يسندها الى الحياة بالاضافة لتأكيد دلالتها على المستوى الرمزي فيقول:

َوْفَـى عـلى رَوْض الـحـيا       ة يَـجُــوبُــهُ حَــقْـلاً فَـحـَقْــلاَ

فالحقول بلونها الاخضر هي رمز للعطاء واستمرار الحياة، وهي على المستوى الاجرائي تمد الانسان والحيوان بأسباب العيش والبقاء. أما مستلزمات الراعي التي لابد أن ترافقه كما يرى الشاعر فهي: الناي والعصا، فضلاً عن ما يسدُّ به رمقه من قليل الغذاء وأيسرهُ فيقول:

وٱرْتَــدَّ يَـحْمِـلُ ما يَـصُـو         نُ ذَمَــاً ومـا أَغْـنَـى وقَـــلاَّ

نَـايَـاً يَــذُودُ بــهِ الــوَنَـى         وَيُـلَـوّن النَّـسَـــقَ الـمُـمِــلاَّ

وعَـصَـاً يَـهُـشُّ بـهـا ويــَر        قــى ذروةً ويُــقِـيـمُ ظِــــلاّ

في البيت الاول من هذه الابيات الثلاثة يشير الشاعر الى المستوى القيمي لهذه المستلزمات، فهو يحمل من الغذاء البسيط ما يسدُّ به رمقه كما أسلفنا، وهو فضلاً عن ذلك يحمل ما سهل حمله وغلا ثمنهُ، وفي البيتين الثاني والثالث يذكرهذا القليل الغالي موضحاً تصويرياً دوره أو وظيفته في الرحلة الرعوية هذه.

فيبدأ بالناي ويسند له وظيفتين على المستوى الاجرائي، ويقرن هاتين الوظيفتين بالفعلين المضارعين (يذودُ، يلونُ) وهذا المستوى الاجرائي للفعلين مقترن بمستواهما الصوتي، فهو في الاول (يذود) يدفع الضجر والكلالة عن نفسه بوساطة الناي عندما تعزف أنامله ألحانه المفضلة، وفي الثاني (يلون) ذلك إن هذه الالحان تطرزالافق ماحول الشاعربأنغامها الجميلة فتبعث النشاط والتجديد وتدفع السأم والمللَ.

   ثم يأتي الى ذكر العصا، فيسند لها ثلاث وظائف تتحصل من اسناد ثلاثة أفعال مضارعة تتحدد بوساطتها تلك الوظائف على المستوى الاجرائي هي: (يهش، يرقى، يقيم) والشاعر في هذا البيت يتناص إقتباسياً مع القران الكريم، وهو تناص لفظي ودلالي. مع قول الله تعالى في جواب نبيه موسى  عليه السلام {قال هي عصاي أتوكؤُا عليها وأهشُّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أُخرى} ([6]). فهو على المستوى اللفظي قد استعمل الفعل يهش بصيغته المضارعة كما جاء في القران الكريم. أما الفعل يرقى فهو على المستوى الاجرائي يكون مساوياً للفعل أتوكؤُا ذلك أن الراعي يستعين بعصاه وهو يصعد أو يتسلق المرتفعات. أما الفعل يقيم في قوله (ويقيمُ ظلا) فهو تناص دلالي مع قوله تعالى (ولي فيها مآرب أخرى). ذلك إن بعض المفسرين ذهب الى ان من بين تلك المآرب, استعمال النبي موسى  عليه السلام عصاه في تكوين ظل وقت ما شاء، ونرى أن نقول هنا: إن الشاعر كان موفقاً في التناص الاقتباسي، إذ إنه بوساطته استطاع أن يشكل في هذا البيت ثلاث صور شعرية: مثلت الاولى صورة الراعي وهو يهش بعصاه على غنمه فيتساقط من الشجر ما تتغذى منه، وهي صورة حسية بصرية حركية، والثانية مثلها حين يصور الشاعر الراعي وهو يتؤكؤُا على عصاه ليتسلق ما علا من الارض. أما الصورة الثالثة فتمثل الراعي وهو يستعمل العصا في تكوين ظل يستظل به، وهنا تتجلى براعة الجواهري, فهوكما وُصِفَ "عملاق الشعر العربي الحديث، عبّاسیّ الديباجة، طويل النفس، يرصّ كلماته وأشطره رصاً فتجيیء قصائده كالصرح الممرّد أوالطود الشامخ، ويكسومعاينه أثواباً مؤنقة من جزل الألفاظ. قرض الشعر يافعاً وجوّل في آفاقه وجلی في حلباته وتفنّن في أغراضه من غزل ووصف وإجتماعيات وسياسيات ووطنيات، وله من القصائد آيات بيّنات([7]).

 حياة الراعي.. الرؤية والتصوير:

   بعد ان فرغ الشاعر من ذكر وتصوير مستلزمات الراعي، انعطف الى الحديث عن حياته وصوَّرها على وفق رؤيته الشعرية، فبدأ بمخاطبة الراعي  بحرف النداء قائلا:

يـا رَاعِـيَ الأغْـنـامِ أَنْــ            تَ أَعَـــزّ مــمـلـكــةً  وأَعـلى

لقد أحالت الرؤية الشعرية راعي القطيع ملكا لديه مملكة عزيزة عالية الشأن، ثم ياتي الشاعرالى وصف تلك المملكة، فيصفها بالدقة والرقة والجلال فيقول:

لـلـــهِ مُــلْـكُــكَ مَــا أَدَقـْ           قَ وَمَـــا أَرَقَّ وَمَــــا أَجَــــلاَّ

لقد أعجبت حياة  الراعي الشاعر, فهذا هو يغبطه ويعجب، ويتشكل عجبه على أكثرمن مستوى, فهوعلى

المستوى اللغوي قد امتد من أول البيت الى آخره، فاستعمل الاسلوب التعجبي مُبتدِاً بيته بــ (لله ملكك) وهوهنا قد جاء بما يمكن أن نسميه (المعادل الاستبدالي) إذ انه استبدل اللفظ (درُّك) المبتدأ المؤخرالمقترن استعمالا بخبره المقدم لفظ الجلالة (لله) استبدله بلفظ (ملكك) وذلك ليساوي بينهما في درجة التعجب، وهوتعجب سماعي في  أصله.ثم انتقل الى نوع آخر هو أسلوب التعجب القياسي فجاء ب (ما) التعجبية سابقةً لصيغة التعجب (أفعلَ) فقال: (ما أدقّ) التي عطف عليها صيغة أخرى تماثلها فقال: (ما أرقَ) تم جاء بالصيغة نفسها معطوفة أيضا لتكون خاتمة البيت فقال: (ما أجلّ). وهكذا تشكل البيت كله بالاسلوب التعجبي.

أما المستوى الآخرالذي تبدّى لنا، فهو المستوى النفسي الذي نرى أنه كان المثيرالرئيس الذي تشكل بسببه البيت الشعري بمستوياته كلها أولنقل المملكة بأبياتها كلها. ذلك أن التعجب في أساسه انفعال نفسي يثيره الاندهاش.

وأما الثالث من المستويات فهوالمستوى الموسيقي، الذي تأتّى من تكراربعض الالفاظ، فقد تكررت (ما) التعجبية ثلاث مرات وتكررحرف العطف الواو ثلاث مرات أيضا، فضلاعن ما أحدثه الجناس الناقص من تناغم موسيقي في صيغتي التعجب المنتهيتين بحرف القاف، (أدقّ) و(أرقّ) وما أحدثه التدويم الذي تحصّلَ من تساوي  صيغ التعجب الثلاث في الوزن.

لقد كان لهذه المستويات بتنوعها تأثيرها الكبير في تعزيز فكرة ايجاد مملكة الراعي، وتشييد صروحها على وفق رؤية الشاعر الشعرية فــ " لكل تجربة شعرية ناحيتان: الأفكار والخواطر المجردة وهذه طبيعتها لاشعرية ثم العملية الشعرية نفسها التي تقوم على وضع هذه الأفكار في قوالب خاصة معتمدة على تكرار الوزن والنغمة والقافية والحركة الموسيقية مع مزاوجتها بتلك الأفكار والخيالات والعواطف([8]).

بعد ذلك يأتي الى تفصيل تلك الصفات واظهارسمات الجمال التي تتزين بها مملكة الراعي على وفق رؤيتة الشعرية فيقول:

يـرْوِيـكَ مِـنْ رَشَــفَـاتِــهِ           قَـــمَـرُالسَّــمَـاءِ إذا أَطَـــلاَّ

هنا يذهب الشاعر الى الطبيعة، فيستعير منها ما هو جميل ليوظفه في تزيين حياة الراعي التي استحالت مملكة كما يرى.

لقد استعار الشاعر القمر ليجعله يقوم بعملية إرواء الراعي، وهو لم يقصد إرواء من ظمأ، إنما أراد إشراك ماهو جميل في الطبيعة في تشكيل صورة حياة الراعي، فها هو قد أنسّنَ القمر

ليجعله يؤدي عملية الارواء بمستواها الاجرائي حين خلع عليه فعلاً إنسانياً، ولكنه في الحقيقة

تصوير تخيلي قصد به الشاعر ما أسلفنا قوله.

   ثم يذهب الى عنصر جامد آخر من عناصر الطبيعة، ليشركه في تشكيل تلك الصورة فيقول:

ويـقِيكَ في وَعْـثِ السُّرَى        وَهَــجُ الـمَـجَرَّةِ أَنْ تَـضِــلاَّ

فهو يجعل ضياء النجوم يضئ عسير طريقه، إذا ما جنَّ الليل، فيقيه من أن يضل، إذا ما سار ليلاً. ويبقى الشاعر في المنطقة التي اختارها، فيوظف النجوم ولكن في وقت آخر، يكون فيه القمر قد أفلَ أو أوشك على ذلك إذ يقول:

وتَــلُـمُّ في الأَسْحَـارِعــنـْ          قــودَ الـنُّـجُـومِ إذا تَــدَلَّــى

هنا يشكل الشاعر صورة تجريدية حركية قائمة على أساس زماني محدد  في وقت السحر، الذي يمثل على المستوى الزمني مرحلة أخرى أعقبت المرحلة الاولى من المسير الليلي التي كان فيها وهج نجوم المجرة يضئ طريق الراعي، ففي وقت السحر يصورالنجوم وكأنها عنقود تدلى، وما على الراعي سوى أن يجمع حباته ممثلة بالنجوم، وهذه صورة أخرى من صور مملكة الراعي الجميلة التي رسمتها ريشة الجواهري الفذة، ذلك أن " كل شعر عظيم لايكتفي بالرؤى والصور الجميلة,وإنما يحاول بشكل عفوي أن يوجد علاقة بين الشعر والصور والتخيلات والفكر والوجود الإنساني([9]). وفي هذا تتجلى براعة التصويرالشعري، التي ينمازُ بها شاعرعن غيره من الشعراء " إن غرابة الصورة الشعرية مصدرها رغبة الشاعر في أن يجمع كثيراً من الأشياء في عبارة واحدة. ولهذا ينشئ بينها من العلاقات مالا يوجد في الواقع وما لا يمكن بدونه أن تجتمع([10]). وهذا ما أردنا تأ كيده في تصويرالجواهري حين جعل الراعي يلم حبات عنقود النجوم حين تدليه وقت السحر.

ثم يتناول الشاعر جانباً آخر من جوانب الطبيعة ليرسم لوحة أخرى تصور جانباً آخر من حياة الراعي فيقول:

أبـداً تَـشِـيـمُ الجَـوّ تَـعــْ                رِفُ عـنـدَهُ خـِصْبَـاً ومَـحْـلاَ

وتـكـادُ تَـغْـرِفُ وابِـــلاً          حـذقَاً وَتَـرْشِـفُ مـنهُ  طَـــلاَّ

فهو يتحدث هنا عن حذق الراعي وخبرته في مجال عمله، فهو بحسب ما يرى متفحص ماهر يجيل نظره في أسفل الجو وأعلاه، لذا فهو يعرف عن دراية ما هو ممرع من الارض وما ممحل، كما أنه بحذاقته وبخبرته في معرفة أحوال الطقس، يستطيع بنظرته المتفحصة الى السماء معرفة سقوط المطر ودرجة كثافته.

   ثم يتجه الشاعر لرسم صورة الراعي من الداخل بعد ان رسمها من الخارج فيقول:

ـزْهَى بأنَّ الأرضَ خضرا        ء زَهَـــتْ نَــبْــتَـاً وبَـقْـــلاَ 

تَـوَدُّ لَـوْ حـَنَـتِ الـفـصـُو        لُ على الـرَّبـيعِ فَكُنَّ فصْلاَ

لَـوَأَنَّ كـُلَّ الـناسِ مـِثْـــ         لُـكَ مـن غَـضَارَتِها  تَـمـلّى

في هذه الابيات يصور الشاعر الراعي على المستوى النفسي، فيرسم لنا صورةً أسهمت الطبيعة في تشكيلها بصورة جلية، ذلك أن الراعي يشعر بالزهو والانشراح حين يرى الارض كستها الخضرة النضرة، وقد زهت بما نبت فيها من عشب وبقل، إنه زهو مشترك أو متعالق، فالراعي يشعر بالزهو حين تزهو الارض بخضرتها

فزهوه إنما قد جاء بتأثير زهو الارض وهي تزدان بثوبها الاخضر الجميل.

 لقد شكل الشاعرهنا صورة حسية بصرية لونية أساسها اللون الاخضر, فهو" لون الحقول الخصبة، ولون الأمل بمحاصيل ثمينة. لذا يرمز اللون الأخضر إلى الأمل...واللون الاخضر... يدلّ على الحياة والشباب ويحرّر النفس ويوجّه الشعور نحو الشيء الأبدي([11]). إن اعتماد الشاعرالرمز اللوني في تشكيل الصورة الشعرية يُثري صوره، ويُعلي من درجة تشكلها على المستوى الفني لأنّ " الرمزيستحضرألفاظاً خاصّة به، تساعده على تعميق مجراه،وهي بدورها تخصب الصورة، وتغني مناخها([12]).

لقد كان للزمن تأثيره الواضح في تشكيل هذا التصوير، إنه فصل الربيع فصل الخير والجمال والخضرة، حيث ترسم الطبيعة بريشتها الملونة أجملَ لوحاتها الطبيعية، وهنا يتحدث الشاعرعن انشراح الراعي وتمنيه لو أن الفصول الاخرى من السنة تحن على فصل الربيع وتتآزر معه لتجتمع فتكون فصلاً واحداً هو فصل الربيع.

   وفي البيت الثالث من هذه الابيات يصور الشاعر أمنية أخرى من أمنيات الراعي، وهي أمنية تصورالجانب الانساني لدى الراعي،إذ إنه يتمنى لوأن كل الناس يصيرون مثله, ويتمتعون بما يتمتع به من طيب العيش ونقائه.

ثم يقول على المستوى نفسه:

أُعـطِـيتَ نَـفْسـَاً لَـمَّتِ  الـ        أ جـزاءَ حـتى صـِرْنَ كُــلاَّ

وأَسَـلْـتَ بَـعْـدَاً في غِـمَـا         رِالـذكـريـاتِ فـعـادَ قــبــْلاَ   

فهو يصور ذات الشاعر ونفسه المستقره الهائنة القانعة الواحدة غير المتجزأة التي ترفض التجزئة وتدعو الى الاندماج والتوحد، فهي تعيش في حدود ما أتاحته الطبيعة لها، فليس من غايات وأهداف أخرى غير متحققه تسعى الى تحقيقها،فكأن كلَّ ماهومنتظرُفي الغد (بعد) قد جرى وتحقق (قبل) وهذا ما يجعل نفس الراعي طيبة وهانئة، ولذلك فهو كما يراه:

عُـرْيَانُ مـن عُـقَـدِ النـفـو     س عَـصِلْـنَ فٱسـتعصينَ حَـلاَّ

لـم تَـرْعَ من شـجرِالتَّـكَـا         لُـبِ وارفــاً حـقــداً وَغــلاّ

فالراعي بحسب رؤية الشاعر ذو سريرة طيبه ونفس مستقره قد سلمت من العقد الشديدة التي تصيب نفوس بعض من الناس، فتستحكم فيها حتى يستعصي حلها، وهو لذلك كما يصوره لم يرعَ من شجر التكالب ما يثمر الحقد والبغض، وقد استعمل الشاعر الاستعارة المكنية لتشكيل هذه الصورة إذ جعل للتكالب شجراً حين أسند التكالب للشجر بالاضافة فقال (شجرالتكالب) وقد قصد شجر العداوة الذي لا يُثمر سوى الحقد والبعضاء،وهذه هي النتيجة المتحصلة من استعماله الاستعارة المكنية (شجر التكالب) الذي أراد له أن يكون نضرا وارفاً ثم مثمراً، وهذا ما تحقق بسبب  الانزياح اللغوي الذي أحدثه التشكيل الاستعاري، فــ" الاستعارة الشِّعريّة هي انتقال من اللغة ذات اللغة المطابقة إلى اللغة الإيحائية، إنتقال يَتَحقّق بفضل استدارة كلام معيّن، يفقد معناه على مستوى اللغة الأول،لأجل العثورعليه في المستوى الثاني([13]).

وإذا ما تأملنا التشكيل اللغوي للبيت المذكوروما سبقه من الابيات، تتجلى لنا شعرية التشكيل الفني لدى الجواهري، فالشعرية كما يقول كمال أبو ديب " خصيصة علائقية، أي أنها تجسّد في النصّ لشبكة من العلاقات، التي تنمو بين مُكَوِّنات أولية، سمتها الأساسية أن كلاًّ منها يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعرياً، لكنّه في السياق التي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى، لها السمة الأساسية ذاتها، يتحوّل إلى فاعلية خلق للشعرية، ومؤشِّر على وجودها([14]).

   وعلى أساس من الجانب العملي يصور الشاعر حياة الراعي فيقول:

جهـلْـتَ مُـتْـرَفَةَ الـحـيـا         ةِ تَـــذَوَّبَـــتْ كــَســَـلاً وذُلاَّ

فهو لم يعرف ترف الحياة ونعومة العيش، وهذا ما ينتج الكسل ويورث الذل، فهو الدؤوب الساعي لكسب قوته بجدّه وكدّهِ.

وعن اطمئنانه لغده الاتي يقول:

لـم تَخْشَ بُـؤْسَ غَـدٍ يـُشَـوْ       وهُ من جمالِ الـيـومِ شَـكْلاَ  

لقد اتسمت حياة الراعي بحسب رؤية الشاعر بالبساطة والدأب، وهو على وفق هذه الرؤية يعيش حاضراً بهياً جميلا تحصَّل من ذلك الدأب وتلك البساطة، ولذلك فهو مطمئن لغدهِ، ولا يخشى عليه من شدة أو فقر يشوهان صورة الحياة الجميلة التي اعتادها. وهو بتأثير من جمال تلك الحياة كما يرى الشاعر:

تـعـرفُ الأشـباحَ رَعـْ            نَـاءَالخُطَى شـَوْهَـاءَ خَجــلَى

طْـيَـافُـكَ الـزَّهْـرُالـنَّـدِيـْ          يُ شَـــذَاً  وألـــوانَــاً وظِــــلاَّ

فهو اذن ينامُ هانئ النفس، مستريح الفكر, لاتعرف الأحلاُم المزعجة طريقاً اليه، ولا تكون

أطيافه إلأ زهراً ندياً ملوناً يفوح أريجه ويتعالى شذاه.

لقد وظف الشاعر العنصر النباتي من بين عناصر الطبيعة، واختارمنه ما يوصف بالرقة والجمال (الزهر) فشبه به أطياف الراعي ليضفي عليها مابه من الجمال والرقة، وهو بحذفه أداة التشبيه جعل المشبه متصلا بالمشبه به وبذلك قد ساوى بينهما في درجة التشابه، ولكي يرفع من درجة التشابه وصف الزهربـ (الندي)، ولم يكتف بهذا بل أضفى على الزهرما يزيد من روعته وجماله، فشمل مكوناته أو أجزاءه: الشذا واللون والظل، ليرفع درجة الشبه بين أطياف الراعي والزهرالى مايريد, فالشاعرالمبدع "لا يركّب الجملة ليعبّربها عن معنى تقريريّ مألوف. وإنما يتعامل مع اللغة بطريقة تفجّر فيها خواص التعبير الأدبيّ، وتجعل للعبارات والأنساق والجمل قوّة، تتعدّى الدلالة المباشرة، وتنقل الأصل إلى المجاز، لتفي بحاجة الفنّ في التعبير والتصوير([15]).

ثم يتحدث الشاعر عن القطيع فيقول:

َمَـطَـارِحُ الـمِعْـزَى تعـا           وِدُ عــنـدَها وَطَـنَـاً وأَهْــلاَ

 فالشاعرحين يذكر(المعزى) هنا إنما اراد بذكرها القطيع بكل أنواع الحيوانات من البهائم، وهويشيرهناالى تلك العلاقة الحميمية التي تربط بين الحيوان والارض والانسان، فللقطيع مواضعه التي يعود اليها التي تُعد بمثابة الوطن كما أن له أهله الذين يعدونه أحد مكونات حياتهم الاساسية.

 ويرجع الشاعرالى الحديث عن الراعي فيقول:

تَـرْتَـادُ مُـعْـجَمَةَ الـدُّنَـى           وَتَـجُـوسُهَا فَـصْـلاً فَـفَـصْلاَ  

وَتُـسَامِرُالنَّـجْوَى تَعُـبـْ           بُ بِـكــأْسِــهَا نَــهـَـلاً وَعَــلاَّ

فهو يتحدث عن همة الراعي ويصوّر سعيه، وهو يبحث ويتقصى في الاراضي التي لم يكن قد عرفها وخبرها من قبل بحثاً عن الكلأ والماء، وإن تقصيه هذا يتجدد كل فصل ليوفر لقطيعه ما يعتاش عليه. وهو عندما يجن الليل يجدُ في النجوم سميراً له، فهو متآلف معها يبثها أسراره وعواطفه، وقد توحد معها، وازدادَ شرباً بكأسها، فها هو يُتبعُ الكاس بالكاس.

لقد أحال الشاعر النجوى سميرا أنيسا للراعي يشرب بكأسها فيرتوي، فلا أنيس ولا سمير سواها، وبذلك شكّل صورتين تجريديتين هما: صورة مسامرة النجوى وصورة الشرب بكأسها " فالشعر يرتبط بالظواهر النفسية والاجتماعية والفكرية والطبيعية... ولكنه ليس ارتباط سبب بنتيجة كما يحدث في العلم. فالشاعرلا يشغل باله بالمسببات، وفهم الظواهر المتغيرة من حوله,  ولا يبحث عن أدلتها وقوانينها وطبيعتها وجوهرها كما يفعل العالم.فالشاعر يعيش ذلك كله وتختلج نفسه بمشاعر دافعة، فيمزج في مخيلته جزئيات العالم الداخلي بكل أثر موضوعي وخارجي، فتخرج صوره الشعرية مثيرة للبهجة والمتعة والدهشة ([16]).

ثم يشير الى علاقة الراعي بالطبيعة، وما يميز تلك العلاقة فيقول:

وَتَـرَى مُـلَـوَّنَـةَ الـطبيــ           عـــــةِ إِذْ تَـغـُـمُّ وإذْ تَـحَـلَّـى

غُـوْلَ الـظَّلامِ إذَا تَـعَـلَّى           وَسَــنَا الــصَّبَـاحِ إذَا تَـجَلـَّى

   فالشاعر يُظهر الراعي بما يُغبطُ عليه، فهو أمام الطبيعة وجهاً لوجه، يراها على أيّة حالة تكون، في ليلها وفي نهارها، فهو يراها بألوانها المختلفة وبحالاتها المختلفة أيضاً، حين تغتم وحين تصحو وتحلو. وكذلك حين يغمرها ظلام دامس وحين يطرزُ أفقها سنا صباح جميل.  

الراعي ممدوحاً:

في المقطع الاخير من القصيدة يذهب الشاعر الى مدح الراعي والثناء عليه، وكأنه أراد أن يكافئه على سعيه

وحرصه على قطيعهِ وعلى تفانيه وهو يؤدي عملاً تواصلياً مع الحياة فيقول:

حُيِّيتَ رَاعِي الـضَّأْنِ يَـرْ           عَــى ذِمَّــــةً كَــبُـرَتْ وإِلاَّ

 تــلـكَ الأمـانـةُ أَوْدَعَـــتْ           أثــقــالَـهَا كــُفُـوَاً وَأَهْـــلاَ

 كـــانــتْ لــــهُ غَــــلاًّ وَآ            خَـرُشـَـاءَهَا لـلنـاسِ غُـلاَّ

 مـــا أقـبـحَ الــدُّنـيــا إذا             ضـلَّ الـرُّعـاةُ ومـا أَضـلاَّ  

يبدأ الشاعر بتحية الراعي لرعايته ما ذُمَّمَ به، فتولي مسؤولية رعي القطيع ذمة كبيرة، وعهد يجب أن يُصان، ويبدو أن الشاعر هنا قد تناص مع القران الكريم فوظف قوله تعالى:

{لا يرقبونَ في مؤمن إِلَّا ولا ذمّةً وأولئكَ هم المعتدون} ([17]). ومعنى الإل بكسرالهمزة  كما جاء في اللسان: الحلف والعهد ([18]).  

   ونرى أن نشير هنا الى ان الجواهري تمكن ببراعة أن يوظف من القران الكريم في ما ذهب اليه مما يستعصي على الكثيرمن الشعراءغيره، ويبدو ان للدراسة الدينية في الطورالاول من حياته التأثيرالكبيرفي ذلك. 

وتأكيداً لما ذهب اليه في البيت الذي تحدثنا عنه يؤكد في البيت الذي يليه كفاءة الراعي وأمانته، فهو أهلٌ لتلك الامانة الثقيلة التي أُودعت لديه.

   وهو بدافع من حسه الانساني كما يراه الشاعر في البيت الذي يليه أراد ان يكون قطيعهُ مصدر رزق يمدَّ الناس باسباب العيش، وأرادها أن تكون نعمة مبسوطة غير منقبضة خلاف ما أرادها غيره ممن لا يحملون رهافة حسه وعظم انسانيته.

   ثم يختتم الشاعر قصبدته بقوله:

 مــا أقـبـحَ الــدُّنـيــا إذا             ضـلَّ الـرُّعَـاةُ ومـا أَضَـلاَّ  

   نرى جديراً أن نقف عند هذا البيت لنشير الى هذه الالتفاتةِ الذكية للشاعر, وهو يحكم نسيج هذا البيت الجميل الذي لم ينقص من عذوبته لفظ أقبح الذي تصدره، بل زاده جمالاً، فهو للمرة الاولى منذ أن بدأ القصيدة يستعمل لفظ الراعي بغير الدلالة التي كان قد قصدها، فالرعاة في هذا البيت هم الساسة الذين يتولون شؤون الناس، فهم إذا ما اهتدوا واتّبعوا القيم والمعاييرالانسانية في ولايتهم على الناس، فانهم سيصنعون حياة جميلة، أما اذا ضلوا وابتعدوا, فانهم بضلالهم هذا سيجعلون حياة الناس قبيحة ليس فيها من سمات الجمال ما يُرى، ويبدو أن الشاعر أراد أن يكون ختام القصيدة مسكاً، فكان هذا البيت ختامها.

   ونرى أن نقول في خاتمة بحثنا، لقد تجلت في هذه القصيدة كما في شعره قدرة الجواهري الفنية الفائقة وهويتناول موضوع الراعي وقطيعه من مطلع القصيدة حتى انتهائها برؤيته الشعرية المتفردة فــ"أحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على نحو ما ينسقه قائله، فإن قدّم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض تأليفها بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها([19]).

إيقاع القصيدة:

 أولا ــ البحر الشعري:

  نظم الشاعرقصيدته على بحرالكامل المجزوء و"هو من أكثرالبحورالقصيرة شيوعا في الشعرالعربي([20]). ويبدو إن سبب ذلك يرجع الى أن هذا البحريتميز" بغنائية وحيوية لا نجدها في البحرالأصل (الكامل) الذي يتسم بالرتابة والصلادة، والمجزوء منه يتميز بالحركة النشطة ([21]). وهذا مانعزو اليه سبب نظم الجواهري القصيدة على هذا الوزن، فضلا عن أنه استعمل الترفيل في أضرب القصيدة، فمدَّ ذلك في طول التفعيلة، بتحول (متفاعلن) (م م م ا م م ا) الى متفاعلاتن (م م م ا م م ا م ا) باضافة سبب خفيف (م ا) الى ما هو مُنتهٍ بوتد مجموع (م م ا) وفي هذا مناسبة لما يتضمنه موضوع القصيدة  بتفاصيله المتنوعة. كما إن هذا البحر ينسجم مع ماذهب اليه الشاعرمن مدح للراعي ووصف " أما المدح فليس من الموضوعات التي تنفعل لها النفوس، وتضطرب لها القلوب، وأجدر به أن يكون في قصائد طويلة وبحوركثيرة المقاطع, كالطويل والبسيط والكامل، ومثل هذا يمكن أن يقال في الوصف بوجه عام([22]).

  ثانيا ــ  القافية:

 قفى الجواهري القصيدة بقافية مطلقة جعل حرف اللام رويا لها، واللام من الاصوات المجهورة المتوسطة بين الرخاوة والانفجار, فهوصوت مائع ليس في خروجه تفجراواحتكاك، وقد أورده الجواهري في هذه القصيدة مُرققا ومفخما، ومن صفات صوت اللام أيضا الانفتاح والوضوح، وهو صوت يتصف بالانحراف عن مخرجه، وهذا ما يسهل اتصاله بمخرج الأصوات الاخرى. ونرى أن نقول هنا: لابد أن الجواهري مدرك لما لهذا الصوت من صفات فجعله رويا لقصيدته، وليس هذا حسب بل هو ابتدأ القصيدة به وصرّع أيضا ثم ضعّفه في أكثرمن نصف القوافي، والتضعيف يوحي بمعاني الشدة والقوة، وهذه من صفات الراعي التي أثبتها الشاعرله، ثم أشبع اللام بألف الاطلاق فزاده مدا  وفي هذا يقول ابن جني: " وإذا فعلت العرب ذلك أنشأت عن الحركة الحرف من جنسها‏ ([23]).‏ 

 وهو حين يتحدث عن المد فإنه يجد في الألف من الخصائص ما لا يجده في سواه، فهو يرى" أن أصل المد وأقواه وأعلاه وأنعمه وأنداه إنما هو للألف‏([24]).‏ أما حرف اللام ففيه من الدلالة ما يتناقض والدلالة التي يتضمنها حرف الألف، واقتران الألف باللام  بالصورة (لا) "على الرغم من التناقض بين معاني حرفيها فلقد كان لها المزيد من المعاني والاستعمالات التراثية وذلك يعود فيما نرى إلى مرونة صوتي (اللام، والألف اللينة) بمعرض التكيف في النطق بهما تعبيراً عن المزيد من تلونات المعاني إيحاءً فطريّاً([25]).

فعلاقة القافية بسواها من مكونات القصيدة الاخرى علاقة امتزاجية، فهي تنشأ كغيرها من المكونات الاخرى في ذات الشاعروتُولد متأثرة بما فيها، فهي متصلة غير منفصلة خلاف ما يرى البعض ممن يحسبها إضافة خارجية على القصيدة. فهي" لاتوضع اعتباطاً وكيف ما اتفق، بل تكون ملتحمة با لبيت بشكل جوهري، مكملة له، تسبغ عليه موسيقى خارجية وداخلية، وتكون ذات سياق محكم باتقان، تتساوق فيه ضمن الحروف والحركات، وإن كانت تشكل بحد ذاتها مقطعاً صوتياً إيقاعياً منسجماً متماثلاً منتظماً في مجالي الموسيقى والزمن، فضلاً عن تأثيرالطابع النفسي لها([26]).

  ثالثا ــ الموسيقى الداخلية:                       

حفلت قصيدة الراعي بعدد من الظواهرالايقاعية التي عززت البناء الموسيقي لهذه القصيدة، وسنشير الى نماذج منها بعد إثباتها، ولكننا سنقف عند أبرزها.

لقد كان من بين تلك  الظواهرالجناس كما في قوله:

لـلــهِ مُــلْـكُـــكَ مَــا أَدقـْـ                  قَ وَمَــا أَرَقَّ وَمَـــا أَجَـــلاَّ

وفي قوله:

كـــانــتْ لــهُ غَــــلاًّ وَآ                   خَـرُشـَـاءَهَا لـلنـاسِ غُـــلاَّ

وفي قوله أيضا:

مــا أقـبـحَ الــدُّنـيــا إذا                    ضـلَّ الـرُّعَـاةُ ومـا أَضَـلاَّ

وحين يقول:

يَصْلَى كما تَصْلَى الهجيـ                   رَ ويسـتقي ثَمــدَاً وضَحْلاَ

وكذلك في قوله:

وتـكـادُ تُـعْــرِبُ بـالثـُـغَــا               ءِ هَـــلاَ  وَحَـيِّهَـلاَ  وَهَـــــلاَّ

 وكذلك

تُزْهَى بأنَّ الأرضَ خضرا                ء زَهَـــتْ نَــبْــتَـاً وبَــقْــلاَ

 ومن الظواهرالايقاعية الاخرى التقسيم  كما في قوله:

وَيَـحُـوطُ كالأَسـَـدِ ٱجْـتـبى             أشــبـالَــهُ جَــدْيَــاً وَسَـــخْـلاَ

أَوْفَـى عـلى رَوْض الـحـيا             ة يَـجُــوبُــهُ حَــقْـلاً فَـحـَقْــلاَ

وٱرْتَــدَّ يَـحْمِـلُ مـا يَـصُــو             نُ ذَمَــاً ومـا أَغْـنَـى وقَــــلاَّ

نَــايَــاً يَـــذُودُ بــهِ الــوَنَـى             وَيُـلَـوّن النَّـسَـــقَ الـمُـمِــلاَّ

وعَـصَـاً يَـهُــشُّ بـهـا ويــَرْ             قــى ذروةً ويُــقِـيـمُ ظِــــلاّ

  وكذلك:

 وتـكـادُ تُـعْــرِبُ بـالثـُـغَــا               ءِ هَـــلاَ  وَحَـيِّهَـلاَ  وَهَـــلاَّ

  وكان من بين تلك الظواهرالايقاعية الطباق كما في قوله:

 لَــفَّ العَـبـاءَةَ واسـتـقَـلاَّ                 بـقـطيعـِهِ عَـجَلاً ومَـهْـــلا

   وكذلك:

 غُــوْلَ الـظَّـلامِ إذَا تَـعَـلَّـى               وَســنَا الـصَّبَـاحِ إذَا تَجَلـَّى

وكذلك في قوله:

 وَتَــرَى مُــلَــوَّنَــةَ الـطـبـيـ              عـــةِ إِذْ تَـغـُـمُّ وإذْ تَـحَـلَّـى

   وفي قوله:

لـم تَخْشَ بُـؤْسَ غَـدٍ يـُشَـوّ              هُ مـن جـمـالِ الـيـومِ شَـكْلاَ

   وكذلك:

وأَسَـلْـتَ بَـعْـدَاً في غِـمَـارِ                الـذكــريـاتِ فــعـادَ قــَـبــْلاَ

ومنه أيضا:

 أبــداً تَـشِــيـمُ الـجَـوّ تَــعْ               رِفُ عـنـدَهُ خـِصْبَـاً ومَـحْـلاَ

وقد كان من بينها التصريع كما في قوله:

 لَــفَ العَـبـاءَةَ واسـتـقَـلاَّ                 بـقـطيعـِهِ عَـجَـلاً ومَـهْـــلا

وفي قوله:

 غُــوْلَ الـظَّـلامِ إذَا تَــعَـلَّـى                 وَسَــنَا الـصَّبَـاحِ إذَا تَجَلـَّى

ومنها المقابلة كما في قوله:

  يُــومِي فَــتَـفْهَـمُ ما يُــرِيــ               دُ ويَرْتَمِــي فَـتَهُــبُّ عَجْـلَى

وقوله:

   وأَسَـلْـتَ بَـعْـدَاً في غِـمَـارِ              الـذكــريـاتِ فــعـادَ قــَـبــْلاَ

وكذلك في قوله:

   لـم تَخْشَ بُـؤْسَ غَـدٍ يـُشَـوّ            هُ مـن جـمـالِ الـيـومِ شَـكْلاَ

   وفي قوله أيضا:

   يَــرْمِي بهـا جـبـلاً فــَتـَت               بَعُ خَـطْوَهُ ويَـحُـطُّ سَـهْـلاَّ

وكذلك:

 غُــوْلَ الـظَّـلامِ إذَا تَــعَــلَّـى              وَسَــنَا الــصَّبَـاحِ إذَا تَـجَلـَّى

 

ومن الظواهرالايقاعية أيضا التكرارفي البيت الواحد وقد تجلى بنوعين: تكرارللألفاظ، وتكرار للحروف، فمن تكرارالألفاظ:                                                 

أوْفَـى بـهــا صِــلاًّ  يُـــزا               حِمُ في الرمالِ السُّمْـرِصِـلاَّ

  وكذلك في قوله:           

أَوْفَـى عـلى رَوْض الـحـيا              ة يَـجُــوبُــهُ حَــقْـلاً فَـحـَقْــلاَ

  وفي قوله:

تَــرْتَـادُ مُـعْـجَـمَـةَ الــدُّنَـى             وَتَـجُـوسُــهَا فَـصْـلاً فَـفَـصْلاَ

  وفي قوله أيضا:

وَتَــرَى مُــلَــوَّنَــةَ الـطـبـيــ            عـــةِ إِذْ تَـغـُــمُّ وإذْ تَـحَـلَّــى

  أما بخصوص تكريرالحروف، ففي تتبعنا لأبيات القصيدة، وجدنا أن كل أبياتها قد تضمنت تكريرا حرفيا،

وسنأتي على ذكرأكثر ما تكررمنها في قسم من أبياتها، وقد اخترنا الأبيات التي تكررت فيها الحروف ثلاث مرات فأكثر وبعملية احصائية، فكان عددها (سبعة وعشرين) بيتا كما مبين في الجدول التالي:

البيت الأول

الألف  4

العين  3

اللام  6

 

البيت الثاني

الألف  3

الحاء  3

اللام  3

الياء  3

البيت الثالث

الألف  6

اللام   6

الميم  3

 

البيت الرابع

الألف  3

الهاء  3

الياء  3

 

البيت السادس

الألف  5

اللام  4

الياء  4

 

البيت السابع

التاء   3

الميم  4

الياء  6

 

البيت الثامن

الألف  5

اللام  6

الواو  3

الهاء  3

البيت الحادي عشر

الألف  5

الحاء  3

اللام  4

الواو  3

البيت الثاني عشر

الألف 5

اللام  3

الميم  4

الواو  4

البيت الثالث عشر

الألف  4

اللام  6

النون  4

الياء  3

البيت الرابع عشر

الألف  4

الواو  4

الياء  3

 

البيت الخامس عشر

الألف  4

العين  3

اللام  3

 

البيت السادس عشر

الألف  4

اللام  5

الميم  4

 

البيت السابع عشر

الألف  3

الراء  3

اللام  3

الميم  3

البيت الثامن عشر

اللام    4

الواو  3

الياء   3

 

البيت التاسع عشر

الألف  3

اللام  4

الميم   3

الواو  3

البيت الحادي والعشرون

الألف  4

التاء  3

اللام    3

الواو  3

البيت الثالث والعشرون

الفاء  3

اللام  5

الواو  3

 

البيت الرابع والعشرون

اللام  6

الميم  3

النون  3

 

البيت السابع والعشرون

العين  4

اللام  4

النون  5

 

البيت التاسع والعشرون

التاء  4

اللام  5

الواو  3

 

البيت الثلاثون

الشين  3

اللام  4

الميم  4

 

البيت الرابع والثلاثون

الألف  3

الراء  3

العين  3

 

البيت الخامس

والثلاثون

الألف  5

التاء  3

الفاء  3

اللام  3

البيت السابع والثلاثون

التاء    5

الميم  3

اللام  4

 

البيت التاسع

والثلاثون

الألف  3

التاء  3

الراء  3

اللام  3

البيت الأربعون

الألف  4

التاء  3

اللام  4

الواو  3

 

 

   وقد تبين كما هو ظاهر في الجدول أن حرف اللام الذي كان رويا للقصيدة في اثنتين وأربعين بيتا، قد تكرر(ستا وخمسين) مرة في حشوها وأعاريضها وأضربها، فبلغ مجموع تكراره (ثمان وتسعين) مرة, فكان أكثر حروف القصيدة تكرارا، وحرف اللام من مخرج لثوي، وله  ست صفات: الجهر، التوسط، الاستفال، الانفتاح, الإذلاق، الانحراف.ومن معانيه الإلصاق والإلتصاق مما يفيد الجمع والإلزام, وهنا تتجلى صورة الالتصاق أوالارتباط الطبيعي بين الثلاتي المترابط: (الراعي ــ القطيع ــ الطبيعة).

وبعد اللام جاء الألف الذي تكرر(سبعا وسبعين) مرة، والألف تبتدئ من جوف الفم وتتجه الى الأعلى بتحرك الفك العلوي, وفي هذا الأرتفاع إيحاء بالعلو والامتداد, فضلا عن أن صور المد المتكررة في انتصابها على حرف اللام في روي القصيدة، وامتدادها الصوتي يجعلها أنسب وأقدر على تصوير ذات الراعي بعلوها وعنفوانها في مملكته الرعويه.

   وبعد الألف جاء الواو وقد تكرر (اثنتين وثلاثين) مرة ومخرجه  شفوي، وله خمس صفات عندما يكون متحركا: الجهر, الرخاوة، الاستفال، الانفتاح، الأصمات، أما إذا جاء ساكنا بعد فتح، تُزاد له صفة أخرى هي (اللين) وصوته يوحي بالفعالية والاستمرار, وهذه من السمات التي يتصف بها الراعي.

وبعد الواو جاء الميم الذي بلغت مرات تكريره (احدى وثلاثين) وهذا الحرف من مخرج شفوي, لخمس صفات: الجهر, التوسط، الاستفال، الانفتاح، الإذلاق، ومن معانيه الجمع والضم والمص والاستخراج، وهذا مما يتناسب وأركان القصيدة الثلاتة: (الراعي ــ القطيع ــ الطبيعة).

ثم جاء الياء الذي تكرر(ثمان وعشرين) مرة، والياء من مخرج غاري من معانيه الانخفاض وله خمس صفات عندما يكون متحركا: الجهر, الرخاوة، الاستفال، الانفتاح، الأصمات، أما إذا جاء ساكنا بعد فتح، تُزاد له صفة أخرى هي (اللين)  وهذا الصوت  أقدر على التعبيرعن حالات الانفعال المؤثرة في الذات,كما انه يوحي بما هو متجذرفي أعماق الانسان من الخصائص  والصفات.

وبعد الياء جاء التاء وقد تكرر(أربعا وعشربن) مرة، والتاء من مخرج (أسناني لثوي), وله خمس صفات: الهمس،الشدة، الاستفال، الانفتاح، الإصمات. وهو حرف لمسي، صوته لين يتصف بالرقة والضعف، ويعد من الحروف الانفجارية, وفي معرض حديثه عن هذا الحرف وهو يتحراه في المعجم الوسيط، يثبت له (حسن عباس) الرقة والضعف في بعض مصادره، والشدة والغلظة والقساوة والقوّة في مصادر أخرى، وما يدل في معناه على مشاعر إنسانية كالحزن والخوف والاشتياق في أخرى([27]).

 وتلا التاء العين الذي تكرر(ثلاث عشرة) مرة، وهذا الحرف من مخرج حلقي من معانيه: الظهور والارتفاع والشمول والمصاحبة والميل، وله خمس صفات: الجهر, التوسط، الاستفال, الانفتاح، الإصمات، ومن ايحاءات هذا الصوت: الارتفاع والفعالية والشدة والوضوح، كما أنه مناسب للتعبيرعن

المشاعرالانسانية المختلفة كالعزة والرفعة والمحبة والنخوة، وهذا ما يتناسب وشخصية الراعي كما رسمها الشاعر, ومما نرى جديرا ذكره هنا ماقاله (حسن عباس) وهويرجع نشأة هذا الحرف الى المرحلة الرعوية,إذ يقول:" باستقراء معاني ألوف من المصادر والمشتقات التي تبدأ بحرف العين في محيط المحيط لوحظ أن معظمها يتعلق بشؤون المرحلة الرعوية، أو يصلح للتعامل الحياتي فيها. بينما لم أعثر على أي معنى منها يتعلق صراحة بالمرحلة الزراعية، فلا شيء منها لأعمال الفلاحة والحفر أو الزراعة والبستنة، أو السِقاية والجِني، وما إليها. وكأني بهذا الحرف الرعوي قد نشأ وترعرع في البادية، فلم يشأ  أن يفارق خيامها  وإبلها  ورُعاتها  وعاداتها  وأحوالها إلى الحياة  الزراعية طوال آلاف الأعوام([28]).

ثم جاء النون وقد تكرر(اثنتا عشرة) مرة، والنون مخرجه لثوي, من معانيه الدخول والنفاذ والرقة، والاهتزازوالانبثاق والاستقراروتكرارالحركة، وله خمس صفات: الجهر, التوسط،الاستفال,الانفتاح, الإذلاق، ومن مميزاته: الاحاطة والرنين والاهتزازواللين والاناقة والجمال والرقة، وفيه مايدل على المشاعر الانسانية  كالحزن والمرح والحنين  والاطمئنان، وفي هذا ما يتواءم وحياة الراعي.

 وبعد النون جاء الراء الذي تكرر(تسع) مرات، والراء من مخرج لثوي له سبع صفات: الجهر, التوسط، الاستفال, الانفتاح، الإذلاق، الانحراف, التكرير, ومن معانيه: الحركة والترجيع والتموضع والرقة والارتباط  والضم، وهذا ما يتناسب وحياة الراعي.

وقد تساوت الحاء والفاء والهاء في تكريرها، إذ تكرركل منها (ست) مرات وهناك ما يجمع بين هذه الاصوات، فهي من الاصوات الرخوة، المهموسة،المرققة، ويشترك الحاء والهاء في الصفات الخمس نفسها وهي: الهمس، الرخاوة، الاستفال، الانفتاح, الأصمات. ومن معاني الحاء: الرقة والجمال والنقاء والتماسك, وفيه مايدل على المشاعرالانسانية كالحب والخوف والحسد والحنين ومن معاني الفاء:الرقة والفرح والانفراج والتوسع والابتعاد والانتشار أما الهاء فمن بين معانيه مايدل على: الفعالية والشدة  والصفاء والحركة السريعة، ومنها مايدل على المشاعر الانسانية:كالحزن والخوف والفرح والاشتياق, وهذه الصفات والخصائص التي تجمع بين هذه الاصوات تتناسب وحياة الراعي بتفاصيلها المتنوعة.

   وجاء أخيرا حرف الشين الذي تكرر(ثلاث)مرات فقط، ومخرجه حنجري وله ست صفات:الهمس, الرخاوة، الاستفال، الانفتاح,الإصمات، التفشي ومن معانيه: الانتشار والتبعثروالخشونة والجفاف والخلط، ومن معانيه الانسانية السلبية الفزع والحيرة والارتعاش حزنا، وهذا مالا يتناسب وشخصية الراعي كما رسمها الشاعر, ولعله كان السبب في قلة إيراده في هذه القصيدة.

   ولابد من الاشارة الى الصفات المتنافرة للحرف الواحد أوللحروف المنتظمة في سياق التركيب اللفظي,

 ومسوغ هذا الامر موقع ذلك الحرف من الكلمة " وهذا ماعناه ابن جني عندما أخذ يشرح قاعدته الذهبية: (تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني). فالعربي بعد أن يختار الحروف التي تتوافق أصواتها مع الحدث الذي يريد التعبيرعنه، يقوم بترتيبها في اللفظة على أساس أن يقدم الحرف الذي يضاهي (أي يماثل) أول الحدث، ويضع في وسطها مايضاهي وسطه، ويؤخرما يضاهي نهايته. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد) ([29]).

 وفي هذا يربط حسن عباس بين المعاني التي تؤديها الالفاظ وبين ماتوحي به أصوات الحروف فيقول:" فإذا كانت معاني الألفاظ تتردد بداهة بين ما يدل على ملموسات وذوقيات وشميات وبصريات وسمعيات ومشاعر إنسانية، فإنه لابد لأصوات الحروف أن توحي إذن بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية ([30]).

 ويقول بهذا الخصوص أيضا: " أما إذا كانت أصوات الحروف العربية صالحة فعلا للإيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية (لمس - ذوق - شم - بصريات - سمعيات)، وبمختلف المشاعر الإنسانية، فإن الأصوات نفسها لابد أن تكون صالحة أيضاً للإيحاء بالأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. فالحروف العربية قبل أن تنتمي إلى القطاع اللغوي تنتمي أصلاً إلى القطاع الصوتي ([31]).

رابعا ــ التدوير:

 مما يلفت النظر في هذه القصيدة استعمال الشاعر التدويرفي عدد كثيرمن أبياتها، فقد بلغ عددالأبيات المدورة ثلاثين بيتاًمن عدد أبياتها الذي بلغ أربعة وأربعين, وهذاما استدعى الوقوف لاستجلاء الدوافع التي كانت وراء استعمال الشاعرالتدوير بهذا القدرالكبيرمن أبيات القصيدة.

 وتُرجع نازك الملائكة ظاهرة التدويرفي الشعرإلى الارتقاء بالمستوى النغمي فتقول:" للتدوير في نظرنا فائدة شعرية وليس مجرد اضطرار يلجا إليه الشاعر. ذلك انه يسبغ على البيت غنائية وليونة لانه يمده ويطيل نغماته ([32]).

 وهي اذ تتحدث عن البحوروالمواضع التي ينبغي للشعراء تحاشي التدوير فيها تسوغ مجيء التدوير في مجزوء البحر الكامل ولا تسوغه في التام منه" انه وهو لا يسوغ في البحر الكامل، يسوغ في مجزوء الكامل، لا بل يضيف اليه موسيقية ونبرة لينة عذبة ([33]).

 وفي استكناه للمستوى الدلالي لظاهرة التدويرفي هذه القصيدة رأينا أن نتحرى ذلك في قسم من

الأبيات التي جاء فيها التدويربوصفه جسرا يربط بين ضفتي البيت ليس على المستوى الموسيقي

حسب، وإنما على المستوى الدلالي أيضا.  ففي البيت الذي يقول فيه الشاعر:

أوْفَـى بـهــا صِــلاًّ  يُـــزا               حِمُ في الرمالِ السُّمْـرِصِلاَّ

نجد أن التدويرحصل في كلمة يزاحم، فهي صلال متزاحمة في الرمال والمزاحمة تستوجب التواصل على المستوى الاجرائي ولذا كان التدويرأنسب.

 وفي البيت الذي يقول فيه:

 يَــرْمِي بهـا جـبـلاً فــَتـَتْـ               بَعُ خَـطْوَهُ ويَـحُـطُّ سَـهْـلاَّ

يحصل التدويرفي كلمة فتتبع،فهناك سابق وهناك لاحق،هناك متبوع وتابع خلفه والتبعية تعني الاتصال.

وفي قوله:

يَصْلَى كما تَصْلَى الهجيـ              رَ ويســتقي ثَمــــدَاً وضَحْـلاَ

وقع التدوير في كلمة (الهجير) فهذا البيت مؤسس على التشبيه فهنا، مشبه ومشبه به يشتركان في وجه الشبه الذي وقع التدوير فيه، وهذا الاشتراك استوجب الاتصال لا القطع

 وفي قوله:

 يُــومِي فَــتَـفْهَـمُ ما يُــرِيـ             دُ ويَرْتَمِــي فَـتَهُــبُّ عَجْـلَـى

 يتحقق التدوير في كلمة يريد وهذه الكلمة تتضمن غاية تستوجب الفهم، والفهم يستوجب التواصل.

 وحين يقول:

 وتـكـادُ تُـعْــرِبُ بـالثـُـغَــا             ءِ هَـــلاَ  وَحَـيِّهَـلاَ  وَهَـــــلاَّ

يُدّوَرالبيت بكلمة بالثغاء والثغاء صوت فيه امتداد والامتداد يستوجب التواصل والاستمرار.

 وتكون كلمة (ترقب) تدويرا في البيت:

 يَـقْـفُو بِعَـيـْنِ الـنَّسْـرِ- تَـر              قُـــبُ أَجْــدَلاً - ذئـبــاً أَزَلاَّ

ففي البيت متابعة ومراقبة، والمتابعة والمراقبة يستوجبان الاستمراروالتواصل, لكي تتحقق سلامة القطيع

  وحين يقول:

أَوْفَـى عـلى رَوْض الـحـيا            ة يَـجُــوبُــهُ حَــقْـلاً فَـحـَقْـلاَ

حصل التدوير في كلمة الحياة، والحياة وجَوْبُ الحقول يستدعيان التواصل لا الانقطاع

  وفي البيت الذي يليله:

وٱرْتَــدَّ يَـحْمِـلُ مـا يَـصُــو             نُ ذَمَــاً ومـا أَغْـنَـى وقَـــلاَّ

يكون التدويرفي كلمة يصون, وصونُ الذمة يعني الحفاظ عليها وهذا ما يستوجب الاستمرار.

   وحين يقول:

وعَـصَـاً يَـهُــشُّ بـهـا ويــَر             قــى ذروةً ويُــقِـيـمُ ظِــــلاّ

يجعل التدوير في كلمة يرقى, ورَقْي الذروة يعني الصعود اليها والصعود يستوجب التواصل.

   وعندما يقول:

 يــا رَاعِـيَ الأغْـنـامِ أَنْـ                  تَ أَعَـزّ مـمـلـكـةً  وأَعـلى

يحصل التدويرفي كلمة أنت وهوضمير للراعي المخاطب يمثل ذات الراعي التي أوجدالشاعرلها مملكة, فأراد لها ممثلة ً بالضمير أنت أن تتصل بمملكتها العزيزة

  وفي قوله:

لـلــهِ مُــلْـكُـــكَ مَــا أَدقْـ              قَ وَمَـــا أَرَقَّ وَمَــــا أَجَــــلاَّ

 يقع التدوير في كلمة أدق والدقة تستوجب انعام النظر الذي يستوجب التواصل فضلاً عن أن اسم التفضيل أدق قد تلاه عطفان لاسمي تفضيل أيضا هما أرق وأجل والعطف يستوجب الاتصال لا الانفصال.

  وفي البيت:

وتَــلُـمُّ في الأَسْحَـارِعــنـ                 قــودَ الـنُّـجُـومِ إذا تَــدَلَّــى

يدوّرُ الشاعر البيت بكلمة عنقود التي كانت أساساً في تشكيل الصورة الشعرية في البيت حين أسندها بالإضافة الى النجوم فقال:(عنقود النجوم). فاتصال المضاف بالمضاف اليه هنا استوجب التواصل ليكتمل تشكيل الصورة، فضلاً عن أن الشاعرأراد بالعنقود على المستوى الدلالي حالة الاجتماع وهواجتماع للنجوم. كما أنه بدأ البيت بالفعل المضارع تلمُّ الذي يحمل دلالة الاجتماع أيضاً، وهذا كله يوجب الاتصال لا الانفصال.

  وحين يقول في البيت الذي يليه:

أبــداً تَـشِــيـمُ الـجَـوّ تَــعْـــ               رِفُ عـنـدَهُ خـِصْبَـاً ومَـحْـلا

يجعل التدوير في كلمة تعرف. والمعرفة تتأتى بالتواصل والمثابرة.

  وحين يقول:

تُزْهَى بأنَّ الأرضَ خضرا                ء زَهَـــتْ نَــبْــتَـاً وبَــقْــلاَ

يقع التدويرفي كلمة خضراء وقد جاءت خضراء صفة للأرض وهي صفة لونية رسم بوساطتهاالشاعر صورة حسية بصرية مثلت امتداداً للون الأخضروهذا الامتداد اللوني يستوجب الاتصال لا الانفصال.

  وفي البيت:

وَتَـوَدُّ لَـوْ حـَنَـتِ الـفـصـُو               لُ على الـرَّبِـيعِ فَـكُنَّ فصْلاَ

يُدوّرُالشاعر البيت بكلمة الفصول التي أراد لها أن تجتمع لتكون فصلاً واحداً هو الربيع، واجتماع الفصول هنا يستوجب الالتئام والاتصال.

  وعندما يقول:

وَلَـوَأَنَّ كــُلَّ الـناسِ مـِثــْ               لُـكَ مـن غَـضَــارَتِـها  تَـمَلَّى

يكون التدويرفي (مثلك)التي هي أداة تشبيه ومشبه به، وهنا أراد الشاعراتصال أداة التشبيه بالمشبه به الضمير(ك) الذي جاء في الشطر الثاني وكذلك وجه الشبه.

   وفي البيت الذي يليه:

أُعـطِـيتَ نَـفْسـَاً لَـمَّتِ  الـ                أَ جــزاءَ حـتّى صــِرْنَ كُـــلاَّ

وقع التدويرفي كلمة الأجزاء في قوله: أُعطيتَ نفساً، فالشاعر أراد للاجزاء أن تجتمع فتتحد لتصبح كلا, واجتماع الاجزاء يوجب اتصالها ببعضها.

  وفي قوله:

وأَسَـلْـتَ بَـعْـدَاً في غِـمَـا                   رِ الـذكــريـاتِ فعـادَ قـَـبــْلاَ

حصل التدويرفي كلمة غمارالتي تتضمن في دلالتها الاتساع والامتداد وهذا ما يوجب الاتصال أيضا.

  وفي البيت الذي يقول فيه:

عُـرْيَانُ مـن عُـقَـدِ النـفـو                 س عَـصِلْـنَ فٱسـتعصينَ حَـلاَّ

وقع التدوير في كلمة النفوس التي وقعت في تركيب ثلاثي (عُقد النفوس عَصَلّنَ) تكوّنَ من مضاف ومضاف اليه ونعت (عصلن) والعصل الاعوجاج الشديد وهذا التركيب اللغوي فضلا عن مجيَ النفوس بصيغة الجمع يستوجب الاتصال.

وحين يقول:

وَتُــسـَامِرُالنَّـجْــوَى تَـعُــبـْ             بُ  بِـكــأْسِــهَــا نَــهـَـلاً وَعَــــلاَّ

يحصل التدويرفي كلمة تَعب ُّوتعني الشرب المتصف بالشراهة والاكثاروالاندفاع وهذايستوجب الاستمرار فضلا عن أن الشاعرأراد أن يجعل الفعل (تعبُّ) متصلا بأداته التي وقعت في الشطرالثاني وهو الكأس.

ونرى أن نقول وقد تتبعنا ظاهرة التدوير في عشرين بيتا من عدد الابيات المدورة البالغ  ثلاثين  بيتا

نؤكد ما ذهبت اليه نازك الملائكة في أن التدويرليس اضطرارا يلجا اليه الشاعركما سبق ذكره، وانما نرى فيه مايدل على تمكن الشاعرومقدرته على ايرادالالفاظ المؤدية لما هو مناسب من المعاني والدلالات التي يريدها الشاعر فضلا عن الامتداد النغمي الذي يتحقق من اتصال الالفاظ بين الشطرين " فقد بان من

خلال التدوير وهو ملمح ايقاعي ان اتصاله بالدلالة يجعل الايقاع جزءا من الابداع وليس حلية شكلية له ([34]). وكذلك فان " في ظاهرة التدويراحساس بان القصيدة العربية ليست مفككة العُرى مقطوعة الاوصال. فالصلة داخل البيت تروم وحدة الدلالة والنحو وهذا ما تلمسناه في التضمين. فالتدوير علاقة اتصال والتئام بين الاشطر([35]).

الخاتمة:

وفيها نستعرض أبرز النتائج التي توصلنا اليها وكانت:

1ـ إن اختيار عنوان القصيدة وموضوعها إنما هو إفصاح عن الحس الانساني العالي لدى الشاعر، واهتمامه بالناس الذين يعيشون في محيطه.

2ـ في تناصه مع القران الكريم استطاع الشاعر أن يوظف ما أراد توظيفاً مناسباً أسهم في إثراء القصيدة

3ـ أفصح المعجم الشعري الذي استقى منه الشاعر ألفاظه التي شكلت نسيج القصيدة، عن المقدرة اللغوية العالية للشاعر الجواهري.

4ـ استطاع الشاعر أن يوظف الطبيعة بنجاح باهر، فجعلها تسهم اسهاماً فاعلاً في تشكيل قصيدته.

5ـ أظهرالشاعرمقدرة فنية عالية مكنته من النجاح في تشكيل القصيدة على المستوى اللغوي والتصويري.

6ـ استطاع الشاعر بمهارة فائقة أن يصور تلك العلاقة الحميمية بين الراعي وقطيعه.

7ـ أظهر الشاعر قدرة فنية عالية في تشكيل صورة الراعي واستبطان سريرته.

8- إن تكرير الشاعرللحروف، لم يكن لإثراء الجانب الموسيقي في القصيدة حسب، وإنما كان مرتبطا بالمستوى الدلالي أيضا، وكذلك الأمر فيما يخص التدوير الذي استعمله الشاعر في أكثر من ثلثي أبيات القصيدة.

المصادر والمراجع:

  • القرآن الكريم.
  • أسئلة الشعر: أحمد عبد المعطي حجازي، ط 1, منشورات الخزندار، جدة، 1992.
  • الألوان نظرياً وعمليا: ابراهيم دملخي، ط1، حلب،1983.
  • بنية اللغة الشعرية: جان كوهن، ترجمة محمد الولي، ومحمد العمري، ط1، دار توبقال للنشر, الدار البيضاء،86 19.
  • التدويرفي الشعر, دراسة في النحو والايقاع والمعنى: أحمد كشك، ط1, القاهرة،1989.
  • جماليات القصيدة المعاصرة: طه وادي، ط2، مطبعة دارالمعارف بمصر، القاهرة، 1989.
  • جواهرالبلاغة في المعاني والبيان والبديع: أحمد الهاشمي، داراحياء التراث العربي، بيروت، د,ت.
  • حروف المعــاني بين الأصـالة والحـداثة: حسن عباس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000.
  • الخصائص: إبن جني، تحقيق محمد علي النجار, عالم الكتب، بيروت.
  • خصائص الحروف العربية ومعانيها: حسن عباس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998.
  • ديوان الجواهري، الأعمال الشعرية الكاملة، دار الحياة، القاهرة، د، ت.
  • الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الاسلام: صاحب خليل إبراهيم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000.
  • الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا: عبد الله عساف، ط 1، دار دجلة،  القامشلي، 1996.
  • عزف على وتر النص الشعري:عمرالطالب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2000.
  • عيار الشعر: محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي، تحقيق وتعليق محمد زغلول سلام، ط1، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977.
  • في الشعرية: كمال  أبو ديب، ط 1، مؤسسة الأبحاث العربية، 1987.
  • قضايا الشعر المعاصر: نازك الملائكة، ط5، دار العلم للملايين، بيروت، 1978.
  • القول الشعري، منظورات معاصرة: رجاءعيد، منشأة المعارف، الاسكندرية 1995.
  • لسان العرب: إبن منظور, ط1, دار صادر, بيروت.
  • المسبار في النقد الادبي: حسين نعمة، دراسة في نقد النقد للأدب القديم وللتناص، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.
  • مطارحات في فن القول: محيي الدين صبحي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق, 1978.
  • موسيقى الشعر: ابراهيم أنيس، ط4, مكتبة الانجلو المصرية، 1972.
  • النقد الأدبي الحديث: محمد غنيمي هلال، دار الثقافة، دار العودة، بيروت، 1973.
  • وعي الحداثة: سعد الدين كليب، ط 1، دراسة جمالية في الحداثة الشعرية، اتحادالكتاب العرب،

دمشق، 1997.

 

[1]-ديوان الجواهري, الاعمال الشعرية الكاملة , دارالحياة , القاهرة , د, ت , ج4, ص22-24.

[2]-ينظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: احمد الهاشمي , داراحياء التراث العربي , بيروت , د , ت , ص419.

[3]- القول الشعري، منظورات معاصرة: رجاءعيد، منشأة المعارف , الاسكندرية ,1995, ص 109.

[4]- وعي الحداثة: سعد الدين كليب، ط 1، دراسة جمالية في الحداثة الشعرية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق , 1997, ص304.

[5]- الشعر العراقي الحديث: جلال الخياط , ص99.

[6]- سورة طه: الآية 18.

[7]- الشعر العراقي الحديث: جلال الخياط , ص98.

[8]- النقد الأدبي الحديث: محمد غنيمي هلال , دارالثقافة، دارالعودة , بيروت , 1973,ص 384.

[9]- مطارحات في فن القول: محيي الدين صبحي ,منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق , 1978, ص24.

[10]- أسئلة الشعر:أحمد عبد المعطي حجازي، ط 1, منشورات الخزندار، جدة , 1992, ص 204.

[11]- الألوان نظرياً وعمليا: ابراهيم دملخي، ط1، حلب،1983, ص81-82.

[12]- الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا: عبد الله عساف، ط 1، دار دجلة , القامشلي ,1996, ص268.

[13]- بنية اللغة الشعرية: جان كوهن , ترجمة محمد الولي، ومحمد العمري، ط1، دار توبقال للنشر, الدار البيضاء , 86 19, ص129.

[14]- في الشعرية: كمال  أبو ديب، ط 1، مؤسسة الأبحاث العربية , 1987, ص14.

[15]- جماليات القصيدة المعاصرة: طه وادي , ط2، مطبعة دارالمعارف بمصر، القاهرة، 1989, ص 25.

[16]- المسبار في النقد الادبي: حسين نعمة , دراسة في نقد النقد للأدب القديم وللتناص , منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 2003, ص82.

[17]- سورة التوبة: الآية 10.

[18]- لسان العرب: إبن منظور, ط1, دار صادر, بيروت , ج11, ص23.

[19]- عيار الشعر: محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي , تحقيق وتعليق محمد زغلول سلام , ط1، منشأة المعارف , الإسكندرية، 1977، ص126.

[20]- موسيقى الشعر: ابراهيم أنيس, ط4, مكتبة الانجلو المصرية ,1972, ص107.

[21]- عزف على وترالنص الشعري:عمرالطالب,اتحاد الكتاب العرب , 2000 , ص222.

[22]- موسيقى الشعر: ابراهيم أنيس , ص 178.

[23]- الخصائص: إبن جني , تحقيق محمد علي النجار, عالم الكتب , بيروت , ج 3, ص 121.

[24]- المصدر نفسه: ص 127.

[25]- حـــروف  المعــاني بين الأصـالة والحـداثة: حسن عباس  منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 2000 , ص43.

[26]- الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الاسلام: صاحب خليل إبراهيم , منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 2000, ص199.

[27]- ينظرخصائص الحروف العربية ومعانيها: حسن عباس , منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 1998, ص56-57.

[28]- خصائص الحروف العربية ومعانيها , ص221.

[29]- المرجع نفسه: ص37.

[30]- المرجع نفسه: ص 29.

[31]- المرجع نفسه: ص29.

[32]- قضايا الشعر المعاصر: نازك الملائكة , ط5, دار العلم للملايين , بيروت , 1978, ص114.

[33]- المرجع نفسه: ص 115.

[34]- التدوير في الشعر, دراسة في النحو والايقاع والمعنى: أحمد كشك , ط1, القاهرة , 1989, ص 123.

[35]- المرجع نفسه: ص  123.