تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 104
إلى صفحة: 116
النص الكامل للبحث: PDF icon 180421-134835.pdf
خلاصة البحث:

   ربما لم نبالغ إذا قلنا إن استدعاء الشخصيات والرموز التراثية، و توفير البنية الدرامية في التعبير عن التجارب الشعرية المعاصرة هو إحدى الظواهر اللافتة للانتباه في الشعر العربي الحداثي، بل أهمها، إذ قراءة سريعة في دواوين البياتي و سعدي يوسف، محمود درويش، سميح القاسم، أدونيس، أمل دنقل و....، بهدف وضع قائمة لاستحضار الشخصيات و الرموز التراثية عند هولاء الشعراء، قد تغني القاريء لاثبات هذا الادعاء. و يعتبر أمل دنقل(1940م) في هذا الجانب، أحد الشعراء الكبار المعدودين الناجحين في استخدام الشخصيات التراثية، إذ كان التراث في مجال التعبير عن الرؤية و الموقف هو أحد المرتكزات الرئيسة في قصائده، فاستعان بعشرات من الشخصيات التراثية من مختلف المصادر، كسبارتاكوس، وعنترة، و أبي نواس، والمتنبي، و كليب، وزرقاء اليمامة و...... تهدف هذه الدراسة إلى تناول قضية توظيف الشخصية التراثية في شعر أمل دنقل بصفة عامة، و دراسة شخصية "المتنبي"  بصفة خاصة، حيث استخدمها في قصيدة طويلة بعنوان "من مذكرات المتنبي في مصر"  عام (1968)، أي بعد سنة من هزيمة 1967، واحتلال اليهود الصهاينة الأراضي العربية في مصر و الاردن و سوريا، يريد الشاعر من خلال تقمص شخصية المتنبي أن يشير إلى ضعف القوى و السلطة المصرية مقابل العدو آنذاك.كان دنقل شاعرا مسكونا بروح التمرد و الرفض، واقتراب شخصية "المتنبي" في كونه شاعرا و رافضا في الماضي يعين دنقل للتعبير عن رؤياه في الحاضر.

البحث:

المقدمة:

يلعب الأدب كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المتميزة دوراً هاماً وأساسياً في تعبئة وتحريض وتثوير الشعوب والأمم التي تناضل من أجل انعتاقها، و في صياغة الوجدان الشعبي العام، وبلورة الوعي الثوري والحضاري لدى الجماهير، هذا بالإضافة إلى وظيفته الجمالية باعتباره قيمة فنية مضافة للحياة تساهم في إعادة صياغتها وإنتاجها جمالياً.

و من جوهر الشعر-ككل الفنون الأدبية الأخري- أن يتنوع في الاشكال التعبيرية إستجابة لذوق المتلقي و لمتغيرات الحياة، بوصفه جنساً أدبيا يلعب دوراً  كبيراً في تشكيل الهوية الحضارية على مر العصور. بدأ الشعر العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر يقبل ضروباً كثيرة من التغيير و التطوير، فحاول أن يتلمس وسائط تعبيرية في الأحداث الاجتماعية و الذكريات التاريخية و الأسطورية على يد جماعة الديوان، و من ثم شعراء المهجر و رواد الشعر الحر. فمند أن أحس  الشعراء المعاصرون بأن الأساليب الشعرية القديمة لا تقدر أن تنهض بمهمة التعبير في مجتمعهم الذي يرزح تحت وطأة تناقظات كيانية و صراعات واقع المجتمع، بحثوا عن أشكال و تكنيكات تعبيرية  جديدة؛ لتلائم الخبرات الاجتماعية و الثقافية،  و تكون قادرة على الاحاطة بصراعات الواقع‏  و تجاربهم الشعرية المعاصرة. تأتي حركة الشعر الحر (التفعيلة) في مقدمتها  فإن حركة الشعر الحر في أصلها كانت "ثورة على  تحكم الشكل في الشعر([1])" لكن هذا لا يعني إنها كانت مجرد "ثورة على الشكل" القديم لإن الشعر في هذه المرحلة و إن  تحرر من قيد البحور الخليلية و اطراد القافية باعتماده على تفعيلة واحدة، لكن أهم ما يميزه كان "هو التعبير بالصورة تعبيرا بنائيا ناميا، و المزج بين الذاتي و الموضوعي، و الاستعانة بالأساطير و الرموز الدينية و التراثية و الشعبية، و احتدام و تأجج القيم الوطنية و القومية، و الاجتماعية التقدمية ".([2])

 توفرت القصيدة الحديثة على تقنيات تساعد في تخفيف الغنائية المترتبة على هيمنة (أنا الشاعر) و وقوفه موقف المباشرة والخطابية. فإن أحد الأسباب التي جعلت النماذج الشعرية الحديثة كثيفة الصور ومثقلة بالرموز هو تحقيق هذه السمة في الشعر، فهذه العناصر عند الشاعر المعاصر أصوات يسوق الشاعر من خلالها آراءه وعواطفه فيستطيع أن يعبر بواسطتها عن أفراحه بأجلي معاني السرور، وعن هزائمه بأحر البكاء و أفجعه، و أن يتغني للحرية أعذب الغناء، و أن يثور على الظلم و القهر ويقول «لا» في وجه من قالوا «نعم»، وفي وجه من فرضوا على الجميع أن يقولوا «نعم»، أن يقول «لا» في وقت كان فيه «من يقول لا، لايرتوي إلا من الدموع([3])» كما قال أمل دنقل على لسان الشخصية التراثية.

 و إن الشاعر عندما يستدعي هذه الرموز التراثية للتعبير عن تجاربه الشعرية، و«يفسح المجال في قصيدته للأصوات التي تتجاوب معه والتي مرت ذات يوم بنفس التجربة وعانتها كما عاناها الشاعر نفسه»،([4]) فإنه يضفي على عمله الشعري عراقة وشمولية ويمثل نوعاً من امتداد الماضي في الحاضر، و من ثم يجعل رؤيته الشعرية تتخطي حدود الزمان والمكان، و تكتسب تجربته الشعرية نوعاً من الأصالة الفنية.إن التعامل مع التراث واستدعاء عناصره في الشعر الحديث علاوة على اكساب القصيدة لوناً من الشمولية و توفير طاقات تعبيرية في الإيحاء والتأثير، يحقق نزعة الشاعر الأُخري وهي «إضفاء نوع من الموضوعية والدرامية على عاطفته الغنائية، فقد ظل شعرنا العربي رَدَحاً طويلاً من الزمن يعاني من طغيان الجانب العاطفي الذاتي عليه حيث كانت القصيدة العربية دائماً تعبيراً غنائياً عن عاطفة ذاتية، ولقد أصبحت تجربة الشاعر في العصر الحديث أكثر تشابكاً وتعقيداً من تلك التجربة الذاتية البسيطة التي تتسع لها القصيدة الغنائية وتستوعبها، فحاول الشاعر المعاصر أن يضفي على الشكل الفني لتجربته لوناً من الدرامية والموضوعية»([5]) تتوفر هذه الامكانيات الثلاثة أي الرمزية و الدرامية و الموضوعية في تقنية القناع. وقد تأتي هذه الدراسة لتتناول موقف أمل دنقل تجاه التراث بوجه عام و تحاول أن تقف عند كيفية توظيف شخصية "المتنبي"من بين تراثيات الشاعر الهائلة، هادفة إلى أن تكشف دلالات الشخصية الأدبية المستدعاة، و أن توضح مدي نجاح الشاعر في توفير التكنيكات الحديثة في قصيدته. ولم اتبعنا منهجا محددا، فتمت الاستعانة بمناهج مختلفة كالمنهج التاريخي و الاجتماعي و... في دراسة الموضوع،محاولين الاتكاء الاكثر على أدوات المنهج التحليلي لإدراك الآليات والقوانين المحكمة لبناء نص القصيدة. و أما فيما يخص الدراسات السابقة حول إستدعاء التراث عند أمل دنقل، فهناك كتاب "التراث الانساني في شعر أمل دنقل" لجابر قميحة، و"البنيات الدالة في شعر أمل دنقل" لعبدالسلام المساوي، و"إستدعاء المتنبي في الشعر العربي المعاصر" لثائر زين الدين، و "صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث " لخالد الكركي،.... فهذه الدراسات كانت بالنسبة لنا نصوص مساعدة تساهم في إضاءة جوانب متعددة من عالم الشاعر و لكنها بسبب طبيعة مواضيعها لم تقف عند استخدام شخصية المتنبي عند دنقل بصورة خاصة، بل تطرقت إليها في أطر كلية ضمن مباحثها. هذا و إننا اذ نتطرق إلى دراسة هذه الشخصية لايعني عدم توفر شخصيات صالحة و ناجحة أخري للتعبير عن مواقف و رؤي أمل  دنقل، حيث هناك العديد من الشخصيات و الرموز الفنية خلال نصوص الشاعر في هذا المجال، كزرقاء اليمامة و كليب و سبارتاكوس وعنترة و سيزيف و..... على سبيل المثال.

 

 المتنبي و الشعر العربي بعد عصر النهضة

 يحضر ابوالطيب المتنبي في الشعر العربي بأبعاد مختلفة، فمنذ عصر النهضة برزت صورة المتنبي ك"نموذج"،حاول  شعراء التجديد و في طليعتهم محمود سامي البارودي، و شوقي،  و الجواهري  أن يصوغوا على طراز صياغة المتنبي، و أن يعارضوه في قصائدهم. و بعد انبثاق الرومانسية العربية الجديدة على يد جماعة أبولو و الشعراء المهجريين لم يعد المعاصرون يعارضونه، بل ظهر المتنبي بثوب آخر فهو "البطل" و هؤلاء سعوا إلى بيان مكانته وبطولته و كبريائه في أشعارهم، لكن لاتزال شخصية المتنبي لا توظف رمزا، و لا يتعدي حضوره إلا سردا لبطولاته و حاجة الأمة في نهضتها إليه.هذا و إن استحضار المتنبي في النصف الثاني من هذا القرن و خاصة عند شعراء التفعيلة(أمل دنقل، البياتي، سميح القاسم، عبدالرحيم عمر، محمود درويش و.....)([6]) أخذ شكلا متطورا، فاصبح أداة فنية  "قناعا"، يتمكن الشعراء من قول ما هم محرومون من إعلانه في مجتمع يعيش في حالة الانحدار السياسي، و قمع الحريات، و الصراع بين الثوار و السلطة.([7]) ولعل المتنبي كان أكثر طواعية للشاعر المعاصر وقدرة على إستيعاب تجاربه المعاصرة، خاصة لبيان المواقف السياسية من بين بقضايا عديدة أخري، حيث عايش المتنبي هذه القضايا السياسة نفسها آنذاك؛ فهو عاصر سقوط بغداد واحتلالها بأيدي القرامطة، وشاهد مرحلة الصراع الاسلامي - الرومي، و كثيراً من الأحداث والنكسات التي عصفت بالعالم الاسلامي وأثّرت فيه.و دنقل، إذ ينهل من مخزون تجربة المتنبي، و يروم حواراً متخيّلاً مع كافور، فهو يشكل "همزة وصل" بين ماضي المجتمع العربي وحاضره، ويسلّط ضوء المكاشفة و المساءلة على ما يشهده الواقع العربي المعاصر من القلق و الانهيار و السقوط، و ينبّه إلى ما قد يتهدد مصير العرب.فهو عاصر عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته. إن أمل دنقل ولد في بداية الحرب العالمية الثانية، وترعرع في ظل احتدام الصراع السياسي و الإجتماعي في مصر مابعد الحرب، وفي وقت كان أبناء مصر يسعون إلى نيل الحرية والإستقلال والتخلص من الإستعمار البريطاني، ومن ثم مجيء الثورة في مصر على يد جمال عبدالناصر سنة 1952. كما أنه شاهد المد اليساري وتقارب مصر من المعسكر الشيوعي، و رحيل جمال عبدالناصر، و مجيء السادات الذي اقترب من الولايات المتحدة واتفق مع إسرائيل.و كانت هذه كلها بمثابة هزائم حزينة و مؤلمة تركت بصماتها على أمل دنقل، و قد تمتع بحس سياسي فذ و كان مناضلا ثوريا حقا فوقف في حياته في وجه السلطة و ممارساتها مدافعا عن جيله الذي سماه «جيل الهزائم». و عكس كل هذه الأحداث في شعره، و عبر عن تطلعات شعبه في فترة كانت فترة الهزيمةِ والإهتراء لمصر و للعرب. فحاول أن يتناول كل هذه  الأزمات في عصره في وقت كان يهرب معاصروه الشعراء من مواجهة تلك القضايا([8]). فهو يري أن الشاعر إن اراد أن يخدم وطنه وشعبه، فعن طريق كشف تراثه، و ايقاظ احساس أفراد الأمة يستطيع النهوض بهذه المهمة، لا عن طريق الشعارات السياسية، و ليس عن طريق الصياح والصراخ.([9]) بل يري أن الخيار المناسب أمامه «للتواصل» مع شعبه هو الإستعانة بالتراث العربي في هذا الجو القاتم والأوضاع السياسية المتمردة،؛ فيسوق آراءه دون أن يتعرض إلى العقاب والمطاردة.

هذه القصيدة حوار بين المتنبي و كافور، لا يناجي فيها الشاعر الماضي فحسب، بل يرى الحاضر ويستشرف المستقبل من خلال التصاقه بالماضي، وينطلق في أغوار النفس البشرية وأحاسيسها وانفعالاتها من خلال توغله في نفس المتنبي. ولعل تشابه تجربة أمل و المتنبي تبدو أكثر وضوحاً حيث  كان المتنبي من الشعراء القليلين" الذين يمتلكون رؤية كونية فذة و مدهشة، كانت في الوقت نفسه هي القضية و الموقف"([10]). فإن "......... المتنبي جمرة الثورة في شعرنا....إنه طوفان بشري من هدير الأعماق، و الموت هو أول شيء يموت في هذا الطوفان"([11]) فإن مثل هذه القضايا مازالت قائمة حتي الآن وتحتاج إلى دراسات عديدة لكي ترسم جوانبها و هواجسها.فإن نص ديوان أمل بناء فني ضخم،فيه أصوات تراثية متعددة، يحتاج إلى تدقيق لفهم أبعاده و رؤاه، ولا يمكن من خلال  توظيف شخصية واحدة، و في نصٍ واحد أن نحيط بشعرية شاعر كبير كأمل دنقل.

 أمل دنقل و استخدام التراث

  حينما رجع أمل دنقل إلى التراث وجد أمامه كماً هائلاً من المصادر التراثية السخية، فأقبل عليها ينهم منها محاولاً استغلالها في شعره حسب تجاربه المعاصرة.استنطق أمل عدداً كبيراً من الشخصيات والرموز التاريخية و الأسطورية و الشعبية. إن الحديث عن هذه الروافد التي أغنت شعره صعب، و لايمكن لنا أن نلم به في صفحات مثل هذه لتعددها واختلاف طبيعة مصادرها. و لكن ينبغي لنا أن نشير إلى تلك المكونة الثقافية الخاصة التي كانت لدي أمل بالنسبة إلى التراث- بالاضافة إلى استلهامه الواسع للتراث-حيث انه قرأ كتب التراث منذ وقت مبكر وبحث عن القيم الجوهرية التي يوحي بها التراث([12]) هذه هي أرملّة الشاعر عبلة الرويني تشهد أن دنقل كان يطالع التراث العربي أحياناً كثيره؛ فتقول: «.... قرأ العديد من كتب التراث والملامح والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها بعد ذلك مرات عديدة، وفي طبعاتها المختلفة، ….ـ كان يبحث عن الجزء المصري فيها، والآخر البغدادي، والآخر الذي يرجع إلى مماليك تيمورلنك. ».([13]) كان أمل من الشعراء المقلين و انقطع عن قول الشعر في فترة من حياته(سنة 1962 حتى سنة 1966) للتعرف على التراث، فعمل باحثاً فيه وناقداً له، فقد كتب بحثاً تاريخياً حول قبيلة قريش بعنوان «قريش عبر التاريخ»، و إهتم بدراسة «جذور اللغة العربية» و نظّر فيها، فارجع بنية المفردات العربية  إلى أصلها الثنائي، و قام بنشر مقالاته في مجلة «أوراق» المصرية. و يري أحد دارسي شعره أن دنقل في ما ذهب إليه من آراء أخطأ، بل و في أحكامه نقاط ضعف عديدة([14]) مما لا داعي لنا أن نفصل القول فيها،لإن هذه المآخذ، حسب تقديرنا، لا تنقص من قدر شعرية أمل دنقل.من جانب آخر فإن ثقافته، و بخاصة العربية،كانت جيدة، حيث انه قال في مقابلة، قبل وفاته بأسابيع: «اكتشفتُ انه لا يكفي للإنسان ان يكون شاعرا و قادرا على كتابة الشعر، فهناك كثير من التيارات الفكرية والثقافية التي كانت تموج في ذلك الوقت (أي في الستينات من القرن الماضي)، وكان لا بدلي من الإلمام بها. وهكذا انقطعتُ عن قول الشعر من سنة 1962 حتى سنة 1966، وكرست هذه الفترة للقراءة»([15]). فهذا الإهتمام بالتاريخ والدين صار مصدراً ثرياً هاماً في توظيفه وابداعه الشعري، إذ جعل شعره يزخر بالتراث القومي العربي والإسلامي، و إن هذا التراث يغلب على الأنماط الأخري، إذ نري يكسر انتماءه للميثولوجيا الفرعونية والرومانية بعد ديوانه الاول (زرقاء اليمامة)في شعره. وبذلك يختلف عن شعراء الجيل الأول أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وأدونيس والبياتي الذين يكثرون من هذه الرموز، وهناك اسباب عدة تكمن وراء رجوع الشاعر إلى الرموز العربية والتراث القومي و اسقاط دلالاتها على الواقع المعاصر،منها؛ إن القارئ العربي ليس لديه خلفية ثقافية للميثولوجيا والأساطير الأجنبية مع أن التراث العربي يعيش في وجدان الأمة العربية، فهو يبحث عن أرضية مشتركة بينه وبين متلقي شعره.([16])

يقول الشاعر في إحدي مقابلاته الصحفية، متحدثاً عن استدعاء التراث العربي: «إنه جزء هام من تطوير القصيدة العربية.......... ويلعب دوراً هاماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه، ولكن يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لايجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل به إلى الحاضر واستشراف للمستقبل. لقد تأثرتُ في بداية حياتي بالتراث الإغريقي، وكتبتُ أيضاً قصائد استلهمت فيها التراث الفرعوني، لكن تواصلي مع الناس لم يبدأ إلا عندما استخدمت التراث العربي».([17])

كما أنه يهدف من وراء استخدامه  لهذا التراث، تربية الحس القومي. كما يصرّح هو بذلك في قوله: «إن استلهام التراث في رأيي ليس فقط ضرورة فنية. ولكنه تربية للوجدان القومي، فإنني عندما استخدم أُلقي الضوء على التراث العربي والاسلامي الذي يشمل منطقة الشرق الأوسط بكاملها، فإنني أنمي في المتلقي روح الإنتماء القومي وروح الإحساس بحضارة عريقة، لاتقلّ إن لم تزد عن الحضارات اليونانية أو الرومانية».([18])

هذا و إن دنقل منطلقا من رؤيته المعاصرة تجاه التراث و محكوما بقدرة الشخصيات التراثية على "إفراز الدلالات  والقيم الاجتماعية و السياسية و الانسانية التي يحرص عليها"، يختار فترات تاريخية خاصة، "فترات الصراع و الحرج و الدرامية.....أو بتعبير آخر فترات تتسع رقعتها للجدلية التي تحكم علاقته مع هذا التراث، مبتعداً عن فترات التسطيح و الهدوء لتلك الشخصيات" ([19]).  فهو اختار من العصر الجاهلي شخصية كليب في حرب البسوس التي استمرت فيها المقاتلة لأخذ الثأر أربعين عاما، و أبا موسي الأشعري من العصر الإسلامي و أحداث الفتنة بين علي (ع) ومعاوية وما نتج عنها من الصراع و الدمار، و مقتل الحسين عليه السلام ومعركة حطين، ومن العصر العباسي اختار المتنبي في بلاط كافور الإخشيدي في فترة كان كافور قد ضيق عليه وكانت أحرج أيامه في مصر. ([20])

 و فيما يخص الشخصيات، نستطيع أن نقول إن الشاعر يعتمد على أشكال مختلفة من الاستدعاء؛ فهو إما أن يستدعيها بالعلم (علم الشخص، الكنية، اللقب) أو بالدور، أو بالقول و إما يستدعيها استدعاءً عرضياً أو استدعاءً كليا.ففي الاستخدام الكلي يخصص الشاعر قصيدة بكاملها أو ديواناً كاملاً للشخصية التراثية، هذا هو ما نراه في شعر أمل دنقل في نماذج متعددة إذ يفرد الشاعر قصائد كاملة لمجموعة من الشخصيات التي ماتزال ملامحها محفورة في الوجدان العربي الإنساني. وهو يتتبع مواقفها التاريخية والأسطورية والقيم الاجتماعية والحضارية التي تمثلها، و الخيوط الممتدة من حدودها القديمة إلى الحاضر([21]).فهناك قصائد تحمل عناوينها أسماء هذه الشخصيات مثل قصيدة «من مذكرات المتنبي» و و«مراثي اليمامة» و «أقوال اليمامة» و «خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين» و «بكائية لصقر قريش» أو كما نرى أن بعض أسماء هذه الشخصيات يصبح عنواناً لديوان الشاعر مثل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة».

هذه هي الحال عند توظيف شخصية المتنبي في قصيدة «من مذكرات المتنبي في مصر»، تعد هذه القصيدة إحدي القصائد المشهورة في ديوان أمل دنقل الشعري، بدءاً بهذا القول إن شخصية المتنبي شخصية مملوءة بالدلالات والأبعاد، و لكن البعد السياسي من بينها كان أكثر إجتذاباً للشعراء المعاصرين.فهذا أمل دنقل و هو«أهم شاعر سياسي مصري تجسدت فيه قيم الحرية في إبداعه»([22])يستعيرها لتمثيل تجربته و رفضه السياسي غير المباشر بطريقة "المفارقة" و السخرية المريرة بمهارة فائقة.

قام أمل دنقل بتخصيص قصيدة طويلة لهذه الشخصية واستدعاءها على مساحة نصه في إطار الاستغراق الكلي، لا في صورة جزئية أو كشخصية غير محورية تساعد في إسهام الجانب التعبيري للقصيدة.و استقطبت هذه الشخصية  كل الأبعاد النفسية في رؤياه الشعرية؛ فلها موقف هام لايستهان به. ويمكن أن يكون اتخاذ هذا الموقف راجع إلى شخصية المتنبي كشاعر معروف ومعتز بنفسه، ذلك الشاعر الذي طاف بين أمراء عصره لنيل غايته، و الذي كان عصره عصر الاضطرابات السياسية وانقسام الدولة العباسية إلى دويلات وإمارات يبدو للقارئ أن الخلفية الكامنة لشخصية المتنبي لاتوافق استدعاء هذه الشخصية كصوت لإدانة الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، حيث كما يقول التاريخ لنا كان المتنبي وصولياً و مادحاً لأمراء عصره للوصول إلى الولاية. إلا أن مكوث الشاعر في بلاط كافور، و هجاءه في داليته الشهيرة يعتبر نوعاً من الانتقام من كافور الذي لم يفِ بوعوده.([23])

هذا و يحاول أمل دنقل في هذه القصيدة أن يكشف القناع عن حقيقة القوي الضعيفة المهزومة في مصر؛ تلك القوي التي تحاول ممارسة السلطان على رعاياها في داخل البلد، و أن تغطي انهيارها وضعفها أمام العدو، و تسعى باختلاق أمجاد دعائية زائفة على ألسنة شعرائها، أن تغطي فشلها في صنع أمجاد حقيقية.([24])

إن دنقل من البداية، و منذ عنوان القصيدة يحاول أن يضع القارئ في حالة شعورية و عقلية تناسب فضاء قصيدته، إذ يهييء له العنوان هذه الحالة.حيث جعل قسما من العنوان-"في مصر"-بين قوسين لكي يلفت القاريء  إلى أن هذه "المذكرات" هي في فترة حياة المتنبي عندما كان في مصر.كما يورّخ القصيدة في النهاية-(حزيران 1968) ليعبر عن  رفضه و ادانته للوضع العربي الذي يعيشه بعد عام 1967.

يقوم الشاعر في هذه القصيدة بعملية «التقابل» في أجزاءها، «التقابل» بين شخصية يكرهها الشاعر وهو «كافور» وبين شخصية اُخرى يتوافق معها وهي شخصية «سيف الدولة»، والتقابل بين الماضي والحاضر والحلم والواقع([25]). يتقنع الشاعر بشخصية المتنبي، و يتكلم بأقوى الضمائر للاتحاد و الامتزاج بقناعه، و هو ضمير المتكلم، و يبدأ قصيدته بإبراز كرهه لحياة يعيشها في القصر حيث أصبح «ببغاءً» في يد السلطة و يبدأ التقابل منذ أول القصيدة إذ هو يكره «الخمر» و لكن يدمنها استشفاء ودواءً!

«أكرهُ لونَ الخمرِ في القنِّينة

لكنني أدمنها... استشفاءا.

لأنني منذ آتيت هذه المدينة

وصرتُ في القصورِ ببغاءاً:

عرفتُ فيها الداءا!»([26])

 وفي المقطع  الثاني يمضي الشاعرفي إبرازهذا الكره، معتمدا على تقابل أكثر عمقا،هو تقابل بين المتنبي/دنقل وبين كافور/ السلطة، فيصور مشهد حالة المتنبي/القناع في معية كافور و هو يسخر منه و يصفه بأبشع الصفات، و يعتبره حاكما منقادا لا يرى فيه أملا لتحقيق آمال العرب و يعتبره رمزا للسلطة المهزومة:

أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور

ليطمئن قلبه؛ فما يزال طيره المأسور

لا يترك السجن ولا يطير!

أُبصر تلك الشفة المثقوبة

و وجهه المسود، و الرجولة المسلوبة

.. أبكي على العروبة!([27])

ثم يتكلم عن تصرفه مع «كافور» في القصر وعن طلبه من الشاعر أن يقول له شعراً و «يستنشده» مكرهاً، فيقول:

يوميءُ، يستنشدني: أنشدُهُ عَنْ سيفِهِ الشجاع

وسيفُهُ في غِمدِهِ.. يأكُلُه الصدأ!

وعندما يسقُطُ جَفناهُ الثقيلانِ، وينكفيء

أسيرُ مثقلَ الخُطى في رَدهاتِ القَصر

أبصرُ أهلَ مصر...

ينتظرونَهُ... ليرفعوا إليهِ المظلماتِ والرِقاع»([28])

فيرسم الشاعر في هذا المقطع من القصيدة صورة زائفة تتقابل فيها الصورة الحقيقية للبلد وملك قصره، فهناك شعبٌ يتوهم أن كافور يمثل النموذج الأعلى للحاكم القوي والشجاع. فتعلقت آماله به وتقدم إليه بالمظلمات والرقاع و لكن لم يلبث أمل دنقل/المتنبي  يصور الصورة الحقيقية للتعامل مع كافور من خلال كلامه مع جاريته:

.. جاريتي من حلبَ، تسألنُي «متى نعود؟»

قلتُ: الجنودُ يملآونَ نُقطَ الحدود

ما بينَنَا وبينَ سيفِ الدولة

قالتْ: قد سئمتُ من مصرَ، ومن رخاوةِ الرُكود

فقلت: فقد سئمت – مثلك-القيام و القعود

بين يدي أميرها الأبله.

لعنت كافورا

و نمت مقهورا...»([29])

و هنا يجري ديالوج بين المتنبي و جاريته الحلبية التي ترغب في العودة إلى حلب، فيستعين دنقل بتقنية الديالوج لترسيم حالة الوطن العربي وضجر المتنبي من مكوثه كرها بين يدي حاكمها الأبله.وثمة حدث تاريخي آخر يسعى الشاعر أن يعبر من خلاله عن رفضه و إدانته للسلطة المصرية، و هو قصة المرأة العربية التي وقعت في أسر الروم، و استنجدت بالمعتصم بصرختها المشهورة "وامعتصماه"  فأنجدها المعتصم و حرر عمورية، و أما دنقل فيروي قصته على لسان فتاة عربية هي " خولة" حبيبة المتنبي، وقعت في أسر الروم، و لكن  كافور لايقدر أن يحررها فيسخر منه الشاعر، و يقول إزدراء في بيان موقف كافور:فصاح  في غلامه أن يشتري جارية رومية تجلد كي تصيح:" واروما واروماه".فهو يسلك إلى هذه المفارقة الساخرة باسلوب فني بارع دون أن يصرح باسم المعتصم:

"خولة "تلك البدوية الشموس

لقيتها بالقرب من "أريحا"

سويعة، ثم افترقنا دون أن نبوحا

........

(ساءلني كافور عن حزني

فقلت إنها الآن تعيش في بيزنطة

شريدة..كالقطة

تصيح " كافوراه.. كافوراه"

فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية

تجلد كي تصيح "واروماه.. واروماه .. "

.. لكي يكون العين بالعين

و السن بالسن!)([30])

فبعدما «أنشده عن سيفه الشجاع» لعنه نهائياً (لعنت كافوراً ـ ونمتُ مقهوراً(وهكذا يريد أن يصرح الشاعر (المتنبي) كرهه للسلطة وإن يتظاهر بالرضاء لها خوفاً من بطشها، و هذا نمط آخر من التقابل الموجود في القصيدة.

و في مقطع آخر من القصيدة يرسم لوحة يصور فيها تصوير الحاضر لكافور (الحاضر المهزوم) في تقابل واضح مع تصوير سيف الدولة (رمز المجد العربي القديم) الذي يستدعيه الشاعر«من خلال رؤيا المتنبي-الذي يحمل بدوره إلى جانب دلالته التراثية دلالة أخرى رمزية، حيث يرمز إلى صاحب الكلمة المعاصرة-ليقابل بينه و بين شخصية كافور بدلالتها التراثية»([31])مرة أخري:

«في الليل؛ في حضرة كافور؛ أصابني السأم

في جلستي نمت.. و لم أنم

حلمت لحظت بكا

وجندُكُ الشجعانَ يهتفونَ: سيفَ الدَولة».

وأنتَ شمسٌ تَختفي في هالةِ الغبارِ عندَ الجَولة

ممتطياً جوادَك الأشهبَ، شاهراً حسامَكَ الطويلَ المُهلكا

تَصرخُ في وجهِ جنودِ الروم

بصيحةِ الحربِ، فتسقطُ العيونُ في الحلقومِ

تخوضُ، لاتُبقي لهم إلى النجاةِ مسلكا

تَهوي، فلا غيرَ الدماءِ والبكاء

ثمَّ تعودُ باسماً... ومُنهَكاً

والصبيةُ الصغارُ يهتفونَ في حلب:

«يا مُنقِذَ العرب»

«يا مُنقِذَ العرب»([32])

فابوالطيب يحلم في غفوته بسيف الدولة، رمز الرجولة الباسلة و لكنه يصحو بعد غفوته ليصطدم بالواقع الكئيب الذليل المثير للسخرية:

حلمت لحظة بكاء............يبتسم الخادم

و من ثم يعكس هذه المفارقة بين الواقع  المهزوم و الماضي الشامخ (المتمثلين في كافور وسيف الدولة) في صورة مضحكة بين الصورة الحقيقية للشعب المصري، و صورته المزيفة التي ينسجها الشاعر في قصائده:

«...تسألُني جاريتي أن أكتَري للبيتِ حُرَّاساً

فقَد طغَى اللصوصُ في مصرَ.. بلارادِع

فَقلتُ: هذَا سيفي القاطِع

ضَعيهِ خَلفَ البابِ... مِتراساً!

(ما حاجتي لِلسيفِ مشهوراً

مادمتُ قد جاورتُ كافوراً؟»([33])

فكما رأينا أن دنقل في هذه القصيدة يقدم الأفكار و المواقف عن طريق توظيف الشخصية التاريخية(المتنبي) رمزا فنيا و قناعا تاما ينتشر في القصيدة كلها. ومن ثم يلجأ في معمارية قصيدته إلى ملامح البناء الدرامي الموجود في قصائد القناع؛كتتابع اللوحات و المشاهد، و تعدد الأصوات و اختلاف المواقف و تصارعها.فكانت في القصيدة شخصية مركزية، و هي المتنبي وشخصيات أخري(سيف الدولة، كافور،المعتصم، خولة و جارية المتنبي) تتقاسمها و تحمل معها عبء النهوض بمهمة التعبير.و يعتمد أمل دنقل في آخر القصيدة على بيتين من المتنبي و يستبدل بعض ألفاظها لتناسب موقف الشاعر وتمكنه من توضيح رؤيته السياسية.حيث يقول ساخراً:

«..عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟

بما مضَي؟ أم لأرضَي فيكَ تهويد؟

«نامتْ نواطيرُ مصرَ» عن عساكِرها

وحاربتْ بدلاً منها الأناشيد!

ناديتُ: يا نيلُ هَلْ تَجري المياهُ دما

لكي تُفيضَ، و يصحُو الأهلُ إن نُودوا؟

«عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟»([34])

أنشد أمل دنقل هذه القصيدة عام (1968) أي بعد سنة من هزيمة 1967، واحتلال الصهاينة الأراضي المصرية، وكما أشرنا في الصفحات السابقة فإن الشاعر يريد أن يشير إلى ضعف القوى المصرية تجاه العدو، و السلطة المصرية في ذلك الوقت تشبه الحارس النائم الذي يبدو مخيفاً، و لكن لايملك القدرة في الدفاع عن نفسه في واقع الأمر، فبدلاً  من أن يدعم الجيش وينمّي كفاءته، يكتفي في مواجهة العدو بسلاح الأناشيد التي تختلق أمجاد دعائية زائفة على لسان الشعراء. لهذا يرى الشاعر أن الطريق الوحيد أمام الشعب المصري للخروج من الأوضاع السياسية الفاشلة الراهنة آنذاك هو الثورة و الوصول إلى الحرية:([35])

«ناديتُ: يا نيلُ هل تَجري المياهُ دما

لِكي تفيضَ ويصحو الأهلَ إن نُودوا »([36])  

وكما تقول عبلة الرويني؛ فالحرية كانت هدفه الأكبر و مطلبه الدائم، و كينونته الحقيقية التي ظل يبحث عنها، و يكسر كل شيء من أجلها، وهي الغاية، و المنتهي...و المستقبل([37]).

 و لقد إختتم قصيدته بشطر من المتنبي/القناع:

«عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟»

 ويذكرنا بما قاله في البيت السابق:

«عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟»

بما مضَي؟ أم لأرضَي فيكَ تهويد؟

فالشاعر إستبدل بعض العبارات بالاُخرى حيث غير عبارة «أم لأمر فيك تجديد» بعبارة «أم لأرضي فيك تهويد» ولفظة «ثعالبها» بـ «عساكرها» في البيت الثاني يغير عَجزه كله و ينشد رداً، و حاربت بدلاً منها الأناشيد» ولكن كما نرى قد استطاع هذان البيتان بحليتهما الجديدة أن يخرجا المتلقي من سرح الماضي وأحداث عصر المتنبي وسجن الزمن إلى مسرح الحاضر الحيّ وأن يبلغا التأثير المطلوب في القاريء برسم صورة البيئة التي كانت مصر تعيشها بعد النكسة بسبب هجمة الصهاينة وتخاذل الحكومة العسكرية.([38]) فهو يحور النص الشعري القديم لكي يعبر بهذا التحوير عن الواقع الجديد.

و اذا عدنا إلى القصيدة لوجدنا أنها تبدأ بالجملة الفعلية التي هي تدل على حركية القصيدة، و كلما تقدمنا فيها تتصاعد الجمل الفعلية التي تكشف عن  حركة الصراع و التوتر.و المهم أن الأفعال هي من نوع  الفعل المضارع، الحامل الأكبر للتوتر و القلق و الذي هو عماد الفاعلية النفسية المشحونة بالإضطراب الداخلي في الشعر المعاصر. و هذا يتوافق مع نفسية أمل دنقل، و يمكننا أن نشير إلى دور علامات التعجب و التنصيص و النقاط و الأقواس الواردة في القصيدة، هي لا تخلو من دلالة الصراع الداخلي ومعاناة الوجود في داخل الشاعر، و يستخدمها دنقل لغرض التهكم و التشكيك أو هي" عناصر تشير في الحقيقة إلى أمر هام و هو أن هناك صوتا آخر غير الصوت الذي تعبر عنه العلاقات الصوتية المباشرة، هذا الصوت هو صوت المعلق على ما يقال، هذا رغم أنه نابع من الشاعر ذاته، وليس صوتا اخر،بمعنى أنه ليس آتيا من خارجه"([39])فالشاعر هنا منقسم إلى صوتين صوت يرصد الحركة الخارجية، و صوت يعبر عن الذات و الموقف النفسي الذي يراقب هذه الحركة. و أما فيما يتعلق بالبياضات الموجودة في النص الشعري، فهذه طريقة أخرى سلكها الشاعر في أكثر من قصيدة للتعبير عن مواقفه.فالبياض يتدخل في وسط أو أواخر السطر الشعري، و قد يستغرق سطرا كاملا عند دنقل  كما نرى في النموذجين التاليين:

" في جلستي نمت..... و لم أنم

حلمت لحظة بكاء

يبتسم الخادم.....!

.....تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حراسا"

و:

"يرتعدون جسدا و روحا

لايجرؤؤن أن يغيثوا سيفها الطريحا

......    ....................."([40])

فعندما نواجه هذه الأبيات نجد أن المعايير السائدة تنقص عن تعيين حدودها، كأننا«أمام الجسد المقطّع الذي يخترق عقلانية القواعد بدلا من الجسد الملتئم الخاضع للمعدود و المقيس». فهذه الفراغات تستدعي تفاعل المتلقي مع النص الشعري، أو قل إنها« إعلان عن تفاعل الصمت مع الكلام و تفاعل البصري مع السمعي في بناء إيقاع النص». و نستطيع أن نقول إن النص الشعري لم يبدأ لينتهي، بل بدايته تجدد باستمرار القراءة عند القاريء، و القاريء وحده يستطيع مليء الفراغ كل مرة يقرأ النص، و بتعدد القراءة يتعدد فعل الكتابة أيضا.([41]) ومن ثم« فيصبح البياض كلاما بليغا غير مرئيا يمكن للمتلقي أن يكتنه دلالاته إنطلاقا من سياق الكلام المرئي الذي يسبقه أو يتلوه في الترتيب. فبقدر ما يحضر البياض تحضر كثافة الإيحاء و يقوم عمق الدلالة»([42]).

الخاتمة:

عالجت هذه الدراسة موضوع التراث و أسباب توظيفه عند أمل دنقل، ثم ركزت على توظيف شخصية المتنبي بوجه خاص في شعر دنقل حيث استدعاها قناعا فنيا ومعادلا موضوعيا لنفسه. لقد كان أمل شاعرا متمردا و ثائرا، و يتطلع دائما إلى تحقيق النضال و الثورة ضد الحكام و الساسة، لما يشاهد من نقض الحريات و حث الناس على الخضوع و الاستسلام و المصالحة مع العدو من أجل البقاء في الكراسي من قبل هولاء  الحكام. فهو حاول عن طريق ابراز الفارق بين الماضي و الحاضر في قصيدته أن يعيد في متلقى شعره بناء الواقعة التراثية في سياق الحاضر، و لا يستحضر الماضي بهيئته التاريخية، بل على ثياب الواقع الراهن. و إذا عدنا إلى القصيدة وجدنا أن هناك مفارقة شاملة في القصيدة حققت قيمة جمالية و أثرا ملحوظا في القاريء، حيث يبدو له أن دنقل بحسه الحاد أدرك قضايا الكون بما فيها من تناقضات وأضداد بسهولة وعبر عنها بتكنيك المفارقة، و من ثم أعاد صياغتها بمهارة فائقة للمتلقي. والمفارقة هي من سمات الأدوات التعبيرية عند أمل دنقل، يعتمد عليها استهزاء و استخفافا على كسر التناسب بين الواقع والحاضر و محاولا إثارة الشعور و التحريض ضد السلطات و القوي الظالمة. إن أمل دنقل يعبر من خلال أصوات تراثية مختلفة ومتنوعة في قصيدة واحدة، ولكن هذه الشخصيات تتآزر جيمعاً في بيان موقف الشاعر. و تعدد هذه الأصوات يوفر الإمكانيات التي تبرز في القصيدة المعاصرة، وهي الحوار بنوعيه(المونولوج والديالوج) والمشهد المسرحي.

المصادر والمراجع:

1- أدباء عرب معاصرون، جهاد فاضل، دارالشروق، بيروت، ط1، 2000م.

2- إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، علي عشري زايد، دار غريب، القاهرة، 2006م.

3- أشكال التناص الشعري، دراسة في توظيف الشخصيات التراثية، أحمد مجاهد،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2006م.

4- الأعمال الشعرية الكاملة، أمل دنقل،مكتبة مدبولي،القاهرة، ط الثالثة، 1987،ص 111.

5- أمل دنقل، شاعر على خطوط النار، د.أحمد الدوسري، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، ط2، 20004م.

6- أمل دنقل عن التجربة والموقف، حسن العزفي، مطابع إفريقيا الشرق، المغرب، 1985م.

7- أمل دنقل، الإنجاز و القيمة، سلسة أبحاث المؤتمرات، مجموعة من الباحثين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،

8- البنيات الدالة في شعر أمل دنقل،،عبدالسلام المساوي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1994.

9- التراث الانساني في شعر أمل دنقل، جابر قميحة، دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولي، 1987.

10- سيرة أمل دنقل،الجنوبي، عبلة الرويني، دار سعاد الصباح، القاهرة، ط1، 1992م.

11- الشعر العربي الحديث،الشعر المعاصر،محمد بنيس، دار التوبقال، المغرب، ط3، 1990م.

12- الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عزالدين اسماعيل، دارالثقافة، بيروت، بدون تاريخ.  

13- الصائح المحكي، صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث، د.خالد الكركي، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت،ط الاولي،1999م.

14- عن بناء القصيدة العربية الحديثة، علي عشري زايد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط5، 2008م.

15- في البحث عن لؤلؤة المستحيل، دراسة لقصيدة أمل دنقل؛ مقابلة خاصة مع ابن نوح، سيد البحراوي، دارالفكر الجديد، بيروت، ط1، 2000م.

16- قراءة الصورة وصور القراءة، صلاح فضل، دارالشروق، القاهرة، 1997م.

17- قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت،ط السابعة،1983م.

18- مقدمة للشعر العربي،أدونيس، دار العودة، بيروت، ط الأولي، 1971م.

 المجلات والجرائد:

1-الإزدواج الثقافي وأزمة المعارضة في مصر (حوار أجراه ابراهيم منصور مع الشاعر) مجلة السفير، 14/6/1981، ص 13.

2-أزمة الشعر الجديد، والبكاء بين يدي زرقاء اليمامة، جلال العشري، الفكر المعاصر،ع23، يوليو،1969.

3-معلقات محمد عفيفي مطر، محمود أمين العالم، مجلة إبداع، القاهرة، العدد السادس، يونيو 1991م.

4-مقابلة أجراها كاظم جهاد مع أمل دنقل،جريدة  «القبس»، 7 مايو، 2008 السنة 37 العدد12549.

 

[1]- ينظر: قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت،ط السابعة،1983،ص 63.

[2]- ينظر: معلقات محمد عفيفي مطر، محمود أمين العالم، مجلة إبداع، القاهرة، العدد السادس، يونيو 1991، ص17.

[3]- الأعمال الشعرية الكاملة، أمل دنقل،مكتبة مدبولي،القاهرة، ط الثالثة، 1987،ص 111.

[4]-ينظر: الشعر العربي المعاصر ، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عزالدين اسماعيل، دارالثقافة، بيروت، بدون تاريخ، ص 307.

[5]- ينظر: استدعاء الشخصيات التراثية، علي عشري زايد، دار غريب، القاهرة، 2006م،ص 20.

[6]- راجع قصائد "من مذكرات المتنبي في مصر" لأمل دنقل و"موت المتنبي" للبياتي و "رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش و "بين يدي ّالمتنبي" لعبدالرحيم عمر.

[7]-ينظر: الصائح المحكي، صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث، د.خالد الكركي، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت،ط الاولي،1999م، ص 15 و ما بعدها.

[8]- ينظر: أزمة الشعر الجديد، والبكاء بين يدي زرقاء اليمامة، جلال العشري، الفكر المعاصر،ع23، يوليو،1969.

[9]- ينظر: أمل دنقل، التجربة و الموقف، حسن الغرفي،مطابع افريقياالشرق، المغرب، 1985، ص63.

[10]-ينظر:  أمل دنقل، شاعر علي خطوط النار، د.أحمد الدوسري، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، ط الثانية، 2004م، ص 199.

[11]-ينظر:  مقدمة للشعر العربي،أدونيس، دار العودة، بيروت، ط الأولي، 1971، ص55-57.

[12]-ينظر:  البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، ،عبدالسلام المساوي، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق،1994.ص 141.

[13]- ينظر: سيرة أمل دنقل، الجنوبي، عبلة الرويني، دار سعاد الصباح، القاهرة، ط1، 1992م، ص 71.

[14]- لمزيد من التفصيل راجع: التراث الانساني في شعر أمل دنقل، جابر قميحة، دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولي، 1987، ص72 إلى 81.

[15]- من مقابلة أجراها معه كاظم جهاد، جريدة «القبس» الاربعاء 2 جمادى الأولى 1429 هـ ، 7 مايو، 2008 السنة 37 العدد12549.

[16]-ينظر:  البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، ص 142.

[17]- حديث مع أمل دنقل في مجلة (التضامن) نشر عام 1983. نقلاً عن الرموز التراثية العربية في الشعر الحديث،خالد الكركي دارالجيل، بيروت، 1989 ص 89. هذا وقصة أمل دنقل مع التراث قصه إقبال وإدبار فهو في بادئُ الأمر استخدم التراث الفرعوني متأثراً بشعراء عصره فكتب قصيدة استخدم فيها قصة «الأخوين «باتا» ـ وهي قصة مشهورة في الأدب الفرعوني ـ علي طريق الإستلهام وليس المباشرة. ثم عرضها علي الدكتور لويس عوض ، و هو أكثر المتحمسين لفرعونية مصر ـ لكن انغلق فهمها علي الدكتور فيسأله عما يريد أن يقول، فيقول أمل دنقل عن ذلك: «استوقفني الدكتور عوض عند المقطع الذي استلهمت فيه القصة الفرعونية، وسألني عما اُريد أن أقول. وعندما فسرت له خلفية القصيدة، تنبه عندئذٍ فقط لاستخدامي للقصة الفرعونية. ومن هنا فقد ترك عندي يقيناً بأن التراث الفرعوني لايعيش في وجدان ا لناس».راجع: الإزدواج الثقافي وأزمة المعارضة في مصر (حوار أجراه ابراهيم منصور مع الشاعر) مجلة السفير، 14/6/1981، ص 13 .

[18]-ينظر: أمل دنقل عن التجربة والموقف، حسن العزفي، مطبع افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1985م، ص 33.

[19]- ينظر: «التراث الانساني.....»ص 168، بتصرف قليل.

[20]- ينظر:قصائد "مقتل كليب"،"مراثي اليمامة"و"حديث خاص مع أبي موسي الأشعري"و "من مذكرات المتنبي في مصر"، في هذه الصفحات من الديوان:323،341،180،186.

[21]-ينظر: البنيات الدالة.....، ص 165.

[22]-ينظر: أمل دنقل، الإنجاز و القيمة، سلسة أبحاث المؤتمرات، مجموعة من الباحثين، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة، 2009، ص124.

[23]-ينظر: البنيات الدالة ….، ص 174.

[24]-ينظر: إستدعاء الشخصيات التراثية، ص 139.

[25]-ينظر:أشكال التناص الشعري، دراسة في توظيف الشخصيات التراثية، أحمد مجاهد،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2006م.ص 274.

[26]-الأعمال الشعرية الكاملة، ص 186. و هذا البيت تتناص مع مطلع قصيدة "أبي نواس" المشهورة:

« دع عنك لومي فان اللوم إغراء       و داوني بالتي هي التي الداء » ديوان أبي نواس، دار الكتاب العربي، بيروت،1984،الجزء الأول،ص 6.

[27]- الأعمال الشعرية الكاملة، ص 186. و هنا يشير دنقل إلى أبيات من قصيدة المتنبي و هي:

« و أن ذا الأسود المثقوب مشفره      تطيعه ذي العضاريط الرعاديد

من علم الأسود المخصي مكرمة     آباؤه البيض أم أجداده الصيد»    راجع: ديوان المتنبي، الجزء الثاني،شرح عبدالرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت ، ص 139-145

[28]- المصدر نفسه ، ص 186.

[29]- الأعمال الشعرية الكاملة، ص186.

[30]- أقتبس الشاعر السطرين الأخيرين من قوله تعالي: "و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن" سورة المائدة، الآية 45.

[31]- ينظر: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، علي عشري زايد،مكتبة الآداب،القاهرة،ط الخامسة،2008،ص148.

[32]- الأعمال الشعرية الكاملة، ص 187.

[33]- الأعمال الشعرية الكاملة ص 190.

[34]- الأعمال الشعرية الكاملة ص 190.

[35]- أُنظر: أشكال التناص الشعري، ص 274 ومابعدها.

[36]- الأعمال الشعرية الكاملة، ص190.

[37]- ينظر: سيرة أمل دنقل، الجنوبي، ص 15.

[38]-ينظر: البنيات الدالة.... ،ص 192.

[39]- ينظر: في البحث عن لؤلؤة المستحيل،دراسة لقصيدة أمل دنقل؛مقابلة خاصة مع إبن نوح، سيد البحراوي، دارالفكر الجديد، بيروت، ط1، 1988، ص44.

[40]- الأعمال  الشعرية الكاملة،ص 118.

[41]-ينظر: الشعر العربي الحديث،الشعر المعاصر،محمد بنيس، دار التوبقال، المغرب، ط3، 1990، ص127 و 128.

     [42]- ينظر: البنيات الدالة...، ص273.