المادة: أصول الفقه
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 010.doc

ويرشد الى هذا قول أبي عبدالله عليه السلام في ذم المخالفين: (( انهم ضربواالقرآن بعضه ببعض, واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ, واحتجوا بالخاص وهم يظنون أنه العام, واحتجوا بالاية وتركوا السنة في تأويلها ولم ينظروا الى ما يفتح به الكلام والى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره اذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا )).

وبالجملة فالانصاف: يقتضي عدم الحكم بظهور الاخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع في سائر الادلة, خصوصاالاثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام, كيف, ولو دلت على المنع من العمل على هذا الوجه دلت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم السلام .

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام: (( ان أمرالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل القرآن, منه ناسخ ومنسوخ, وخاص وعام ومحكم ومتشابه, وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام,يكون له وجهان, كلام عام وكلام خاص, مثل القرآن )).

وفي رواية أسلم بن مسلم: (( ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن )).

هذا كله مع معارضة الاخبار المذكورة بأكثر منها, مما يدل على جوازالتمسك بظاهر القرآن: مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين, وغيرهما, مما دل على الامر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه, وعرض الاخبار المعارضة بل ومطلق الاخبار عليه, ورد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود والاخبار الدالة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسك بالكتاب.

مثل قوله عليه السلام, لما قال زرارة: (( من أين علمت ان المسح ببعض الرأس ? فقال عليه السلام: لمكان الباء )). فعرفه مورد استفادة الحكم من ظاهرالكتاب.

وقول الصادق عليه السلام, في مقام نهي الدوانقي عن قبول خبر النمام: (( انه فاسق, وقال الله: (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا), الاية )).

وقوله عليه السلام: لابنه اسماعيل: (( ان الله عزوجل يقول: يؤمن باللهو يؤمن للمؤمنين, فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم )).

وقوله عليه السلام, لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء,اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله: (( أما سمعت قوله الله عزوجل: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا) )).

وقوله عليه السلام, في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا: (( انه زوج, قال الله عز وجل: (حتى تنكح زوجا غيره) وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع: انه تعالى قال: (فان طلقها فلا جناح عليهما) )).

وتقريره عليه السلام, التمسك بقوله تعالى: (والمحصنات من الذين اوتواالكتاب), وأنه نسخ بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات).

وقوله عليه السلام: في رواية عبدالاعلى, في حكم من عثر, فوقع ظفره,فجعل على اصبعه مرارة: (( ان هذا وشبهه يعرف من كتاب الله: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). ثم قال: امسح عليه )) فأحال عليه السلام, معرفةحكم المسح على اصبعه المغطى بالمرارة الى الكتاب, موميا الى أن هذا لايحتاج الى السؤال, لوجوده في ظاهر القرآن.

ولا يخفى أن استفادة الحكم المذكور من ظاهر الاية الشريفة مما لايظهر الا للمتأمل المدقق, نظرا الى أن الاية الشريفة انما تدل على نفي وجوب الحرج, أعني المسح على نفس الاصبع, فيدور الامر في بادي النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح, فهوبظاهرة لا يدل على ما حكم به الامام عليه السلام, لكن يعلم عند التأمل ان الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح فهو الساقط دون أصل المسح,فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح, فيمسح على الاصبع المغطي.

فاذا أحال الامام عليه السلام استفادة مثل هذا الحكم الى الكتاب, فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء, عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهرالاية المذكورة, أو غير ذلك من الاحكام التي يعرفها كل عارف باللسان من ظاهر القرآن, الى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم السلام .

ومن ذلك ما ورد من: (( أن المصلي أربعا في السفر ان قرئت عليه آيةالقصر وجب عليه الاعادة, والا فلا )). وفي بعض الروايات (( ان قرئت عليه وفسرت له )).

والظاهر ولو بحكم أصالة الاطلاق في باقي الروايات أن المراد من تفسيرهاله بيان أن المراد من قوله تعالى: (لا جناح عليكم أن تقصروا), بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيا على التخفيف, فلا ينافي تعين القصرعلى المسافر وعدم صحة الاتمام منه, ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج الى التفسير بلا شبهة.

وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامام عليه السلام: (( ان الله تعالى قال: (لا جناح), ولم يقل: افعلوا, فأجاب عليه السلام, بأنه من قبيل قوله تعالى: (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما).

وهذا أيضا يدل على تقرير الامام عليه السلام لهما في التعرض لاستفادة الاحكام من الكتاب والدخل والتصرف في ظواهرة.

ومن ذلك استشهاد الامام عليه السلام بايات كثيرة, مثل الاستشهاد لحلية بعض النسوان بقوله تعالى: (واحل لكم ما وراء ذلكم), وفي عدم جواز طلاق العبد بقوله: (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء).

ومن ذلك الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: (قل لا أجد فيمااوحي الي محرما), الاية )), الى غير ذلك مما لا يحصى )).

 

  •  

ذكرنا أن أدلة الفقه هي الكتاب والسنة والاجماع والعقل.

وهنا قد يثار التساؤل: هل هذه الادلة على مستوى واحد من حيث الرجوع اليها والاستدلال بها أو أنها مترتبة في الاخذ بها?.

يتفق العلماء المسلمون في أن القرآن الكريم له الرتبة الاولى, أي يرجع اليه أولا ثم السنة ثم الاجماع فالعقل.

يقول استاذنا الشيخ المظفر: (( ان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينامحمد صلى الله عليه وآله وسلم والموجود بأيدي الناس بين الدفتين هو الكتاب المنزل الى الرسول بالحق, (لا ريب فيه هدى ورحمة), (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله).

فهو اذن الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى التي لا شك ولا ريب فيها,وهو المصدر الاول لاحكام الشريعة الاسلامية بما تضمنته آياته من بيان ماشرعه الله للبشر.

وأما ما سواه من سنة أو اجماع أو عقل فاليه ينتهي ومن منبعه يستقي )).

السنة

وهي الدليل الثاني من أدلة الفقه, وتأتي أهميتها بعد أهمية القرآن ورتبتها بعد رتبته, وتشترك معه في أنها نصوص لفظية يصدق عليها من حيث الدلالة ما يصدق عليه من قواعد وضوابط وملابساتهما.

  •  

ذكر المعجميون العرب للفظ السنة أكثر من معني, وما يلتقي منها وموضوعناهو: العادة والطريقة والسيرة.

وقالوا:

 سنة الله: حكمه في خليقته.

 وسن الله سنة: بين طريقا قويما.

 وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما ينسب اليه من قول أو فعل أو تقرير.

وهو التعريف العلمي الشرعي للسنة, والمتفق عليه بين علماء الشريعةالاسلامية.

وبسبب المنهجين العلميين اللذين ولدا في بداية الدرس الاسلامي, عندالمسلمين, وتحولا فيما بعد الى مدرستين علميتين في دراسة التشريع الاسلامي, وهما: مدرسة الصحابة ومدرسة أهل البيت(1) توسع في مفهوم السنة, فأصحاب مدرسة الصحابة بحثوا ما يروى عن الصحابة من أقوال في مجال التشريع, هل هو سنة كسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأصحاب مدرسة أهل البيت بحثوا ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام, هل هورواية عن النبي أو سنة كسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذا ما نأتي على ايضاحه تحت عنوان (سنة الصحابة) وعنوان (سنة أهل البيت عليهم السلام) للوقوف على حدود مفهوم السنة الشريفة,بعد أن نستوضح ماذا يراد بالقول والفعل والتقرير, وبعد بيان حجية السنة.

 

  •  

ونحدد المقصود بهذا العنوان من خلال الاجابة عن التساؤل التالي:

هل السنة كلها وحي من الله تعالى?

أو بعضها وحي من الله وبعضها الاخر اجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقره الله عليه?

ذهب الى القول بأنها كلها وحي من الله تعالى أصحابنا الامامية لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم معصوم في جميع سلوكه تبليغا وغيره فلا يعرض له الخطأ ولا يتعرض لما يحتمل فيه الخطأ .. والاجتهاد بطبيعته كاجتهاد معرض للاصابة والخطأ.

وذهب الى القول بأنها وحي من الله في بعضها, واجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعضها الاخر, علماء أهل السنة, يقول الشيخ علي الخفيف في كتابه (أحكام المعاملات الشرعية)(2): (( وكذلك كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض له من الحوادث والوقائع, يقضي فيها بما نزل عليه, فان لم ينزل عليه فيها شيء اجتهد ونظر فيما نزل حتى يصل الى حكم الله المطلوب فيقضي به ويقره الله عليه.

وحكمه في هذه الحال هو النوع الثاني من السنة.

فالسنة اما أن تصدر عن وحي, واما تصدر عن اجتهاد أقره الله عليه.

وكلا النوعين واجب أن يتبع.

وهي في الحالين لا تخرج عن قول أو فعل أو اقرار أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم )).

ويأتي نظير هذا في الحديث عن سنة أهل البيت, وهناك نتبين التشابه من جانب والفرق من آخر بما يلقي الضوء على المسألة بشكل أجلى وأوضح.

 

  •  

تقسم السنة الشريفة على أساس الاسلوب الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيانا للحكم الشرعي الى:

1- السنة القولية:

نسبة الى القول وهو الكلام الصادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتضمن للحكم الشرعي.

2- السنة الفعلية:

نسبة الى الفعل وهو السلوك العملي الذي يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

3- السنة التقريرية:

نسبة الى التقرير الذي هو اقرار وامضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقول أو الفعل الذي يصدر من الاخرين بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وآله وسلم .

 

  •  

استدل لحجية السنة بالادلة الفقهية الاربعة: القرآن والسنةوالاجماع والعقل.

  •  

استدل بمجموعة من الايات الكريمات, أكثرها منصب على اثبات حجيةالسنة القولية, وهي أمثال:

(وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا).

(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول).

(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).

(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله).

ومنها ما شمل السنة بأنماطها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية,وهو قوله تعالى: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).

ومنها ما هو ظاهر في أن السنة هي الاخرى وهي من الله تعالى الا أنهاليست بقرآن للفوارق التي ذكرناها في تعريف القرآن, وهو قوله تعالى: (وماينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى).

  •  

استدل بالسنة على حجية السنة غير واحد من علماء أهل السنة, وأهم ما استدلوا به:

 ما جاء في خطبة حجة الوداع من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبدا: كتاب الله وسنة نبيه) على رواية.

 اقراره صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل لما قال: (أقضي بكتاب الله فانلم أجد فبسنة رسوله).

وعلق عليه استاذنا السيد الحكيم في (الاصول العامة للفقه المقارن) بعد أن ذكر استدلال بعض علماء السنة على حجية السنة بالسنة بقوله: (( وهذاالنوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه لان حجية هذه الادلة موقوفة على كونها سنة, وكون السنة حجة, فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزوم الدور )).

الا أن هذا الاشكال لا يرد على من يستبعد المنهج الفلسفي من دراسته لاصول الفقه, وذلك لان أمثال هذين الحديثين اللذين استدل بهما انما جاءا بعدثبوت حجية السنة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه, وهي تشير الىذلك وتخبر عنه, فالاستدلال بهما لانهما يشيران الى هذا ويخبران عنه لا بما هما سنة, وكل ما نحتاجه للاستدلال بهما هو اثبات صدورهما من النبي صلى الله عليه وسلم .

ومتى تمت صحة صدورهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترتب علىهذا ثبوت حجية السنة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو دليل متين وبمستوى قوة الدليل القرآني.

  •  

واختلفوا في دائرة شموله سعة وضيقا بين قصره على اتفاق الصحابة, والتوسع به الى اتفاق المسلمين.

يقول الشيخ خلاف في كتابه (علم أصول الفقه): (( أجمع المسلمون على انما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير, وكان مقصودا به التشريع والاقتداء, ونقل الينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين, ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الاحكام الشرعية لافعال المكلفين, أي أن الاحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الاحكام الواردة في القرآن قانونا واجب الاتباع )).

ويقول الاستاذ محمد مصطفى شلبي في كتابه (أصول الفقه الاسلامي):((والدليل على حجية السنة: القرآن الكريم واجماع الصحابة والمعقول ...وأما اجماع الصحابة فقد اتفقت كلمتهم على العمل بالسنة )).

ووقف أصحابنا الامامية من الاستدلال بالاجماع على حجية السنة موقفهم من الاستدلال بالسنة على حجية السنة لان الاجماع عندنا لا يرتفع الى مستوى الاعتبار الا اذا كان كاشفا عن رأي المعصوم, فهو على هذا من السنة, والاستدلال بالسنة على السنة يلزم منه الدور كما مر.

ومن التزم المنهج العلمي كما قلت آنفا لا يرد عليه هذا الاشكال لان الاجماع هنا يراد به الاجماع العملي لا القولي, وهو ان المتشرعة كانوا يرجعون الى السنة باعتبارها مصدرا تشريعيا, ويعتمدونها في معرفة الاحكام, ولايزالون كذلك, ومنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام والصحابة (رض), وهذا واف في تحقيق المراد.

وأما اولئكم الذين أنكروا حجية الاجماع من أساسه استغنوا عنه بالكتاب والسنة, ومر بيان الاستدلال بهما على حجية السنة.

ـــــــــــــــــ

الهامش

1- أنظر: كتابي (تاريخ التشريع الاسلامي) و (دروس في فقه الامامية).

2- أحكام المعاملات الشرعية ص8 / ط1 سنة 1417هـ 1996م .