المادة: أصول الفقه
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 035.doc

بينما ركّز الفقهاء في تعريفهم للحكم على المرحلة الأخيرة.

فعرّف بعض الفقهاء الحكم بأنّه (( ما ثبت بالخطاب )).

أي انّه الأثر أو المعنى الذي يستفيده الفقيه من الخطاب ، قال بهذا ابن ‏عابدين من فقهاء الحنفيّة. أو قل : (( الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في‏ الفعل كالوجوب والحرمة والإباحة )).

اُصول الفقه لخلاّف(1) .

وعرّفه ابن عثيمين في كتابه ( الاُصول من علم الاُصول(2) ) بقوله : (( مااقتضاه خطاب الشرع المتعلّق بأفعال المكلّفين من طلب أو تخيير أووضع )).

ولكنّه لم ينصّ على انّه التعريف الفقهي للحكم الشرعي بما قد يتوهّم ‏انّه يريد به التعريف الاُصولي.

وعرّفه جمهور الاُصولية بأنّه (( خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين‏ اقتضاءً أو تخييراً )).

 

وأشكل عليه بما يلي :

1 - اقتصاره على مرحلة الخطاب ، أي انّه لم يشمل جميع مراحل الحكم.

2 - انّ الخطاب تبليغ للحكم ، أو قل : الخطاب هو النصّ الذي يحمل في‏ طيّاته الحكم الشرعي ، فليس هو الحكم ، لأنّ الحكم هو أثر الخطاب‏ المستفاد منه ، أي المعنى المستنبط من نصّ الخطاب.

3 - انّ التعريف بصياغته هذه هو تعريف للحكم التكليفي الذي هو أحدقسمي الحكم الشرعي ، أي انّه غير شامل للقسم الثاني للحكم الشرعي‏ وهو الحكم الوضعي ، وذلك لأنّ قيد الاقتضاء الذي هو الطلب يدخل ‏الوجوب والندب والحرمة والكراهة ، وقيّد التخيير يدخل الإباحة ، ويبقي‏ الحكم الوضعي خارج حريم التعريف ، مع انّه داخل في مفهوم الحكم.

ولهذا أضاف غير واحد ممّن عرفوا الحكم من الاُصوليين إلى التعريف المذكور قيّد ( الوضع ) ، فقالوا : الحكم هو خطاب الله المتعلّق بأفعال‏المكلّفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً.

ومع هذا - فيما يبدو لي - يبقى التعريف قلقاً من ناحية فنيّة ، لأنّ‏ الأحكام الوضعيّة لا تتعلّق بفعل المكلّف مباشرةً وإنّما عن طريق منشأ انتزاعها ، أو بمتعلّق متعلّق فعل المكلّف - كما سيأتي بيانه.

ولهذا عدل بعضهم عن التقييد بالاقتضاء والتخيير والوضع إلى‏التقييد بالتعلّق المباشر أو غير المباشر ، كما في التعريف القائل : إنّ‏ الحكم هو (( الاعتبار الشرعي المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مباشراً أو غيرمباشر )).

ويعني بالمتعلّق المباشر الحكم التكليفي وغير المباشر الحكم‏ الوضعي.

ولا يرد على هذا التعريف ما أشكل به على سابقيه من عدم الشمول‏ لجميع مراحل الحكم لأنّه يمتلك الشموليّة لجميع المراحل بعدوله من (الخطاب ) إلى (الاعتبار ).

لكن يشكل عليه بأنّ ( الاعتبار ) مصطلح فلسفي يراد به ما يقابل ‏التكوين ، ونحن هنا وان كنّا في عالم التشريعات ، وهي اُمور اعتبارية لكنّنا نتعامل مع الحكم لا بصفته اعتباراً وإنّما بصفته نظام حياة ينظّم‏ سلوك الإنسان ، فلا يتلائم مع هذا أن نعبّر عنه بالاعتبار ، وإنّما المناسب‏ أن نعبّر عنه بالتشريع كما صنع اُستاذنا الشهيد الصدر حيث عرّفه بقوله: (( الحكم الشرعي : هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه ))(3).

وهذا التعريف - كما تراه - فيه الشموليّة التي في سابقه ، وزيادةً هي‏التعبير عن الحكم ب( التشريع ) ، وهو التعبير العلمي الذي يلتقي‏ وطبيعة الفهم القانوني للدين بأنّه تشريع إلهي ، كما قرأنا هذا في‏ التعريف القانوني للقاعدة الشرعيّة أو الحكم الشرعي ، ويلتقي أيضاً مع‏ طبيعة الحكم الشرعي كنظام حياة يقوم بوظيفة تنظيم حياة الإنسان‏ وتوجيهه إلى ما يحقّق له الخير المنشود.

وهو تطوّر أو تطوير منه قدس سره مميّز وموفّق.

  •     تقسيماته :

للحكم تقسيمان رئيسان هما :

( التقسيم الأوّل ) :

ويقوم على أساس من تعلّق الحكم بفعل الإنسان ، ونوعية ذلك التعلّق ،فقد يكون تعلّقاً مباشراً وقد يكون غير مباشر.

كما أنّه قد يكون على نحو الاقتضاء أو على نحو التخيير أو على نحو الوضع واختلف العلماء في عدّة الأقسام أهي إثنان أم ثلاثة؟

- فذهب المشهور إلى أنّهما إثنان : التكليفي والوضعي.

1 - التكليفي :

وعرّفوه - كما تقدّم - ب( خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاءً أوتخييراً ).

وأدرجوا تحته نوعين دلّ عليهما تقييده بالاقتضاء والتخيير ، وهما :

أ - ما قامت الأحكام فيه على أساس الاقتضاء أي الطلب ، أو قل : ما كان‏ فيه عنصر الإلزام مع الترخيص أو بدونه.

ويشمل هذا النوع الأحكام التالية : الوجوب والندب والحرمة والكراهة.

ب - ما قام الحكم فيه على أساس التخيير بين الفعل والترك ، وهوالإباحة.

2 - الوضعي :

وعرّفوه ب ( خطاب الشارع المتعلّق بأفعال الإنسان وضعاً ).

واختلفوا في عدد مفرداته بعد أن اتّفقوا على ثلاثة منها ، وهي :

السبب والشرط والمانع.

فأضاف بعضهم إليها : الصحّة والفساد والرخصة والعزيمة.

وزاد آخر على هذه السبعة : العلّة والمعلول.

وجعلها ثالث مفتوحة تستوعب ما ينطبق عليه التعريف كالزوجيّة والحريّة والخ.

والفرق بين القسمين المذكورين من حيث التعلّق بفعل المكلّف هو انّ‏الحكم التكليفي يتعلّق بفعل المكلّف مباشرةً ، كما في وجوب الصلاة فانّ‏ الصلاة فعل من أفعال المكلّف والوجوب حكم تكليفي لأنّه تعلّق بها بشكل‏ مباشر بينما يتعلّق الوضعي بمتعلّق فعل المكلّف كما في غصبيّة الثوب‏ الذي يراد به الصلاة فالغصبيّة تعلّقت بالثوب المتعلّق بالصلاة التي هي‏ فعل المكلّف.

- وذهب آخرون إلى تقسيم الحكم الشرعي إلى ثلاثة أقسام على أساس‏ من الدواعي المتقدّمة : الاقتضاء والتخيير والوضع ، وهي :

1 - الحكم الاقتضائي :

وهو الوجوب والندب والحرمة والكراهة.

2 - الحكم التخييري.

وهو الإباحة.

3 - الحكم الوضعي :

وهو السبب والشرط والمانع ، والخ.

وهذا التقسيم الثلاثي أقرب إلى الاعتبار ، يقول اُستاذنا التقي الحكيم ‏في كتابه (الاُصول العامّة ) - وهو في معرض نقد اعتبارهم الإباحة قسماً من الحكم‏ التكليفي - : (( اعتبار الإباحة ( التخيير ) قسماً من الحكم التكليفي ، وهو وان‏كان قد ورد على ألسنة أكثرهم إلاّ انّ ذلك لا يعرف له وجه لمجافاته لطبيعة التعبير بالتكليف ، لأنّ التكليف ما كان فيه كلفةً على العباد ، والإباحة لاكلفة فيها ،فلا وجه لعدّها من أقسامه.

ولعلّ الأنسب في ذلك اتباع الآمدي فيما سلكه من تقسيم الحكم الشرعي‏ إلى ثلاثة أنواع :

- حكم اقتضائي ، وهو الذي أرى أنّه يرادف كلمة تكليفي ، وينبغي قصركلمة تكليفي عليه.

- حكم تخييري ، وهو الخاصّ بالمباح.

- والثالث : الحكم الوضعي )).

وعلى ضوء الاختلاف المتقدّم في تعريف الحكم الشرعي بين الاعتبارأو الخطاب أو التشريع أو أثر الخطاب ، لك أن تغيّر في تعريف كلّ من‏ الأقسام المذكورة بوضع كلمة ( الاعتبار ) أو ( التشريع ) أو ( أثر الخطاب )موضع كلمة (الخطاب ).

( التقسيم الثاني ) :

ويقوم على أساس من النظر إلى ظرف الحكم ، فقد ينظر إلى الحكم وهو في ظرفه الطبيعي والاعتيادي ، قد ينظر إليه وهو في ظرف طارئ عرض‏ له.

قسّموه بهذا اللحاظ إلى قسمين : الواقعي والظاهري.

1 - الحكم الواقعي :

هو الحكم المجعول للشي‏ء وهو في ظرفه الطبيعي ، أي في واقعه كماهو.

ويستفاد هذا الحكم من الأدلّة الاجتهاديّة.

وقسّموا الحكم الواقعي باعتبار الظرف أيضاً إلى قسمين : أوّلي‏ وثانوي.

أ - الواقعي الأوّلي :

وهو الحكم المجعول للشي‏ء بواقعه الطبيعي وعنوانه الأوّلي ، أي‏ بلحاظ عدم طروّ أي ظرف له يقتضي الانتقال منه إلى حكم آخر يناسب‏ الظرف الطارئ وينتهي بانتهائه.

ومثّلوا له ب( شرب الماء ) ففي الظرف الطبيعي للإنسان والعنوان‏ الأوّلي لشرب الماء فانّ حكمه الإباحة.

ب - الواقعي الثانوي :

وهو الحكم المجعول للشي‏ء بلحاظ ظرف خاص طرأ له فاقتضاه‏ لمناسبته للظرف الطارئ كما في مثال ( شرب الماء ) فانّه في ظرف توقّف‏ إنقاذ حياة إنسان عليه يجب ، أي ينتقل حكمه من الإباحة إلى الوجوب وفق‏الظرف الطارئ.

2 - الظاهري :

وهو الحكم الذي يسير المكلّف على وفقه في ظرف شكّه وجهله بالحكم ‏الواقعي.

ويستفاد هذا الحكم من الأدلّة الفقاهيّة ويقسّم هذا الحكم إلى القسمين‏ التاليين:

أ - الحكم الظنّي :

وهو المستفاد من الأمارة.

ب - الوظيفة العمليّة :

وهي الموقف العملي المستفاد من الأصل العملي.

ـــــــــــــــــ

الهامش

1- ص‏100 .

2- ط4 / ص‏12 .

3- دروس في علم الاُصول : الحلقة الثانية ط1 ص‏13