المادة: أصول الفقه
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 029.doc

حقيقة الوضع

انّ دراسة نشوء الدلالة اللغوية ( دلالة اللفظ على المعنى ) هي في‏واقعها دراسة لنشأة اللغة ، لأنّ نشأة اللغة تعني حدوث الألفاظ اللغوية المستخدمة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة لتحقيق التفاهم‏ وتبادل الأفكار .

فكيف وجدت هذه الدلالة ؟

وقبل بيان هذا ، لابدّ من التنبيه إلى أنّ البحث في موضوع نشأة الدلالة يرتبط - في رأي الاُصوليين - ارتباطاً وظيفياً بتشخيص الظهور ، وذلك لأنّ معرفة الوضع هي المنطلق لمعرفة الظهور ، فإذا تهيّأ للباحث أوالمتلقّي أن عرف أنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى ، أي أنّ هذا اللفظ دالّ‏على هذا المعنى ، أو قل الذي بين يديه ظاهر في هذا المعنى المعيّن الذي‏ بين يديه ، وهو المطلوب .

ومن ثمّ له أن يرتّب عليه آثار الظهور.

أي انّ معرفة الوضع تفيدنا في معرفة المعنى الحقيقي للفظ .

ولكن ما هو الوضع ؟.

انّ الذي أثار دراسة الوضع عند الاُصوليين هو تأثّرهم فيه بما انحدر إليهم عن طريق الفلسفة اليونانية ، وهو هل دلالة اللفظ على المعنى ذاتية أو مجعولة. ولأنّ أصحابنا الإمامية كأكثر علماء الاُصول من المذاهب ‏الإسلامية الاُخرى ذهبوا إلى أنّ الدلالة مجعولة وليست ذاتية ، اختلفوا في‏نمط الجعل ( جعل اللفظ دالاً على المعنى ) :

هل هو على نحو التخصيص أو الاختصاص ؟

والفرق بين الجعلين ( التخصيص والاختصاص ) هو بتوفّر عنصر إرادة الجاعل وقصده إلى الجعل في مجال التخصيص وتصريحه به‏ وتنصيصه عليه .

ففي التخصيص ينطلق الجاعل إلى وضع اللفظ المعيّن للمعنى‏ المعيّن ، وجعله له عن إرادة وقصد وتصريح منه بذلك.

وفي ضوئه ، تفهم دلالة اللفظ على المعنى من أوّل استعماله له فيه .

وفي الاختصاص يستعمل الجاعل اللفظ المعيّن في المعنى المعيّن من‏غير تصريح بالوضع ، معتمداً على القرائن المصاحبة لاستعماله ‏الموضحة لارادته المعنى من اللفظ ، وبعد شيوع الاستعمال بين الناس‏ واُلفهم له واُنسهم به يحصل نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى ، فيصبح‏ اللفظ يدلّ على المعنى بمجرد إطلاقه مستغنياً عن القرينة .

وقسّموا الوضع - على أساس من هذا - إلى قسمين :

1 - الوضع التعييني :

وهو الذي يتمّ عن طريق تخصيص اللفظ بالمعنى.

2 - الوضع التعيّني :

وهو الذي يتمّ عن طريق اختصاص اللفظ بالمعنى .

ثمّ تساءلوا عن الواضع : من هو ذلك الواضع للغة ؟

ويجيب اُستاذنا المظفّر فيقول :

- (( قيل : انّ الواضع لابدّ أن يكون شخصاً واحداً يتبعه جماعة من البشرفي التفاهم بتلك اللغة.

- وقيل - وهو الأقرب إلى الصواب - انّ الطبيعة البشرية حسب القوّة المودعة من الله تعالى فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ ،فيخترع من عند نفسه لفظاً مخصوصاً عند إرادة معنى مخصوص - كماهو المشاهد من الصبيان عند أوّل أمرهم - فيتفاهم مع الآخرين الذين‏يتصلون به ، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظاً لمقاصدهم ،وتتألّف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ ، حتّى‏تكون لغة خاصة ، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر.

وهذه اللغة قد تتشعّب بين أقوام متباعدة ، وتتطوّر عند كلّ قوم بما يحدث فيها من التغيير والزيادة ، حتّى قد تنبثق منها لغات اُخرى فيصبح ‏لكلّ جماعة لغتهم الخاصة.

وعليه :

تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بازاء المعنى وتخصيصه به وممايدل على اختيار القول الثاني في الواضع أنّه لو كان الواضع شخصاً واحداً لنقل ذلك في تاريخ اللغات ، ولعرف عند كلّ ( أهل ) لغة واضعها ))(1) .

فهو يأخذ بالنظرية الحديثة في نشأة اللغة القائلة بأنّ اللغة ظاهرةاجتماعية تخضع لمواصفات وشروط الظاهرة الاجتماعية التي منها (التلقائية ) ، ومن هنا قالوا : انّ اللغة تنشأ نتيجة الحاجة إلى التفاهم .

ولأنّ اللغة - كما رأينا - هي مجموعة الألفاظ المستعملة بين الناس‏ للدلالة على معانيها كوسيلة تفاهم تكون من المواد الطبيعية وليست من ‏الكليّات التي لا موطن لها - بصفتها كليّات - إلاّ الذهن.

والمادّة الطبيعية - من ناحية منهجيّة - يرجع فيها إلى الحسّ والطبع لاإلى الفلسفة والمنطق .

ولعلّ المفارقة من هنا جاءت ، حيث افترض الاُصوليون في وظيفة اللغوي أن يفرّق في موارد الاستعمالات اللغوية بين الحقائق والمجازات ،لأنّهم يقدرون أنّ هناك أوضاعاً معيّنة قرنت بالتصريح بها ، واُخرى قرنت‏ بالقرائن الاُخرى ،وعلى اللغوي أن يميّز بين هذه.

ولأنّهم لم يقفوا على هذا في معاجم اللغة العربية ، وبخاصة ما رجعوا إليه من معاجم الألفاظ مثل ( القاموس المحيط ) الذي أكثروا من الرجوع‏ إليه والاعتماد عليه، قالوا : انّ خبرة اللغوي منحصرة في تتبّعه لموارد الاستعمال ، وهذه لا تفيد في التمييز بين الحقيقة والمجاز ، ولا في تعيين‏ الموضوع له ، يقول السيّد علي خان : (( لكن خبروية ( يعني خبرة ) اللغوي ‏إنّما هي في موارد الاستعمال لا في تعيين الوضع وتحديد الموضوع له )) .

مع أنّ الواقع في اللغات - بصفتها ظواهر اجتماعية - غير هذا الذي‏ ذكروه للوضع .

ذلك أنّ التخصيص والاختصاص موجودان في كلّ دلالة ، أي مع كلّ لفظ له معنى ، ذلك ان ابن اللغة عندما يفتقر إلى الرمز أو الإشارة إلى معنى من‏ المعاني يأتي باللفظ قاصداً لاستعماله في المعنى ، ثمّ يستعمله فيه ،والاستعمال هو الذي يكشف عن التخصيص ، ثمّ يأتي الاختصاص بعدتكرار الاستعمال وأُنس الآخرين به.

فلا يوجد وضع تعييني ولا آخر تعيني ، وإنّما هو وضع مقترن‏بالاستعمال ، وإذا شئت قلت : استعمال مقترن بالوضع.

في ضوء هذا :

بوسع العالم اللغوي تتبّع التطور الدلالي للكلمة من ناحية تاريخيّة .

ومن خلاله يمكننا تمييز الحقائق من المجازات ، والحقائق الاُولى من‏التي جاءت بعدها .

وقد قام بعض علماء اللغة العربيّة الذين هم في الوقت نفسه من علماءالدين الإسلامي أيضاً بوضع المعجم الدلالي الذي يفرّق فيه بين الحقيقةوالمجاز ، لعلمهم بالحاجة إليه في مجال دراسة الألفاظ الشرعيّة ،ولمساعدة المتأدّبين في استخدامات المجازات في التعبير الأدبي .

وذلك كالذي صنعه جار الله الزمخشري في كتابه ( أساس البلاغة )حيث أفرد فيه المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح ، قال في مقدّمته :(( ومنها ( أي خصائص كتابه ) تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام ‏الفصيح ، بافراد المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح )) وذلك بأن‏خصّص القسم الأوّل من أي مادة للمعاني الحقيقيّة ، والقسم الثاني‏ للمعاني المجازية ، مبتدئاً له بقوله: (ومن المجاز) .

ومثالاً لذلك قوله في مادة ( ظ ، أ ، ر ) : (( هي ظئره ، وهو ظئره ، وهم وهن‏ أظآره ، وبنو سعد أظآر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وظاءرت المرأة مظاءرة : أخذت ولداً ترضعه ، وانطلقت فلانة تظأر ، وأظأرت ظئراً ،وظئرت الناقة على غير ولدها أو على البو فهي ظئور ، وهنّ أظآر وظؤار ،وظأرها بالظأر وهو ما تظأر به من غمامة في أنفها لئلاّ تشمّ ريح المظئورعليه .

ومن المجاز : ظأرته على أمر كان يأباه ، وما ظأرني عليه غيرك ،وظأرني فلان على ذلك وما كان من بالي ، وفي مثل (الطعن يظأر ) : يعطف‏ على الصلح ، وظأر على عدوّه : كرّ عليه ، والأثافي ظؤار للرماد .

ومن المجاز في الإسناد : ظأرت : أخذت ظئراً لولدي )).

وكالذي صنعه ابن حجر العسقلاني ( ت 852هـ ) من تأليفه كتابه (غراس الأساس ) الذي جمع فيه مجازات (أساس البلاغة ) وأضاف إليها مافات الزمخشري من مجازات وقف هو عليها في المعجمات الاُخرى .

وتوجد منه نسخة خطّية في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب‏ المصريّة تحت رقم 363 لغة(2).

انّ الاطلاع على مثل هذا المعجم حيث نعرف المجاز منه نعرف انّ ماسواه ممّا ذكر في المعاجم الاُخرى هي معانِ حقيقيّة ، وان لم ينصّوا على‏أنّه معنى حقيقي.

وممّا يفيد في الرجوع إليه لمعرفة المعاني الحقيقيّة ( المعجم الكبير )من صنع مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

فقد اتبّع في ترتيب ومعالجات هذا المعجم للمواد اللغوية الطريقةالتالية :

1 - يذكر في صدر المادة نظائرها من الساميات الاُخرى ان وجدت .

2 - يذكر المعاني الكليّة متدرجة من الأصلي إلى الفرعي ، ومن الحسّي ‏إلى المعنوي ، ومن الحقيقي إلى المجازي.

صدر منه حتّى الآن ثلاثة مجلدات .

ومثله صنوه ( المعجم الوسيط ) حيث تميّز بتوسعه في ذكرالمصطلحات العلميّة الحديثة ، وإقرار الكثير من الألفاظ المولدة والمعربةالحديثة وفيه ثلاثون ألف مادّة ، ومليون كلمة وستمائة صورة .

بعد أن عرفنا من خلال التمهيد من هو اللغوي وما هو منهجه وما هو واقع وحقيقة الوضع اللغوي نستعرض - هنا - ما ذكره الاُصوليون في‏حجيّة قول اللغوي سلباً وإيجاباً.

يقوم خلاف الاُصوليين في حجيّة قول اللغوي على أساس من تقييمهم‏ لواقعه باعتباره لغوياً ولواقع عمله في تعامله مع اللغة .

فذهب بعضهم - كما رأينا - إلى أنّه من أهل الخبرة ، وذهب آخرون إلى‏ أنّه جماع ينقل ويروي المسموع فقط .

وعلى أساس أنّه من أهل الخبرة يكون شأنه شأن أهل الخبرة في كلّ‏ صناعة وعمل ، فيصحّ الرجوع إليه في تشخيص الأوضاع اللغوية ، كمايصحّ الرجوع لغيره من أهل الخبرة لسيرة العقلاء القائمة على الرجوع ‏إلى أهل الخبرة لمعرفة مايختصّ بعملهم .

(( لأنّ العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، فلابدّ أن يحكم‏ الشارع بذلك أيضاً ، إذ أنّ هذا الحكم العقلي من الآراء المحمودة التي‏ تطابقت عليه آراء العقلاء والشارع منهم ، بل رئيسهم .

وبهذا الحكم العقلي أوجبنا رجوع العامي إلى المجتهد في التقليد ، غاية الأمر أنّا اشترطنا في المجتهد شروطاً خاصّة كالعدالة والذكورة لدليل‏ خاص .

وهذا الدليل الخاص غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي ، لأنّه في‏ الشؤون الفنّية لم يحكم العقل إلاّ برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به من‏دون اعتبار عدالة أو نحوها كالرجوع إلى الأطباء والمهندسين .

وليس هناك دليل خاص يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي كما ورد في المجتهد )) (3) .

وعلى أساس أنّ اللغوي من النقلة والرواة للاستعمالات اللغوية قالوا :لا حجّة في نقله لأنّ أقصى ما نفيده منه الظنّ بصحّة نقله ، ولا دليل‏ بالخصوص على حجيّة هذا الظنّ إلاّ ما ذكر من اتّفاق الفقهاء أو اجماعهم ‏على الرجوع إلى قول اللغوي .

وهذا الاتّفاق أو الاجماع غير تام .

امّا باعتباره اجماعاً فهو غير كاشف لأنّ المعصوم لا يرجع إلى أهل ‏اللغة .

وباعتباره اتفاقاً فانّا لا نعلم انّ رجوع جميع الفقهاء كان لمعرفة الأوضاع اللغوية ، إذ قد يكون للاستئناس به لإفادة الاطمئنان أو القطع ،والعمل استناداً لأحدهما الحاصل من قول اللغوي لا إلى قول اللغوي .

وذهب الفخر الرازي إلى صحّة نقل اللغوي وسلامة الاحتجاج به إذا كان‏ثقة لأنّ سيرة العقلاء قائمة على قبول خبر الثقة ، والاُصوليون اعتبرواوصحّحوا مثل هذا في ما هو أهمّ من اللغة وهو الشرع حيث اعتبروا خبرالثقة ورتّبوا الآثار العلميّة والشرعيّة عليه ، ففي اللغة أولى ، وبخاصة أنّ‏ اللغة هي الأصل للتمسّك بخبر الثقة في الشرعيّات ، قال في ( المحصول(4) ) متعجّباً : والعجب من الاُصوليين أنّهم أقاموا الدلالة على أنّ خبر الواحد حجّة في الشرع ، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة ، وكان هذا أولى لأنّ‏ إثبات اللغة كالأصل للتمسّك بخبر الواحد ، وبتقدير أن يقيموا الدلالة على‏ذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغات والنحو ، وأن‏ يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوه في رواة الأخبار ، لكنّهم‏ تركوا ذلك بالكليّة ، مع شدّة الحاجة إليه ، فانّ اللغة والنحو يجريان مجرى‏الأصل للإستدلال بالنصوص )) .

ونتيجة هذا القول :

1 - إذا كان اللغوي من علماء اللغة فهو من أهل الخبرة ، والرجوع إليه‏ رجوع إلى أهل الخبرة ، وهو - أعني الرجوع لأهل الخبرة - ظاهرة اجتماعية عامّة مسلمة .

2 - وإذا كان من النقلة والرواة يرجع إليه - في ضوء ما حقّقه الفخرالرازي ، وهو تحقيق ناهض بالمطلوب - من باب الرجوع إلى خبر الثقة ،وبخاصة أنّ اللغة هي أساس الشرعيّات التي ينقلها الرواة . ولكن لعلمنا بواقع محتويات كتب أهل اللغة لابدّ من إحراز توفّر اللغوي على الوصفين‏ التاليين : الوثاقة والضبط .

ـــــــــــــــــ

الهامش

1- اُصول الفقه 1/  9-10 .

2- أنظر : مقدّمة الشيخ أمين الخولي لأساس البلاغة .

3- أصول الفقه 2-126.

4- المحصول 1/212.