المادة: أصول الفقه
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 002.doc

منهج البحث الاصولي

وفي المادة الثانية (مادة منهج البحث الاصولي) احتذى علماء أصول الفقه فيها سيرة الاقدمين من علماء العلوم الاخرى باتخاذ معطيات علم المنطق منهجا للبحث.

وهو منهج بحث عام يشمل جميع حقول المعرفة, أي انه لم يكن آنذاك لكل حقل معرفي منهج بحث خاص به, كما هو الشأن في عصرنا هذا.

ومنذ أن ثار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت 561م) ثورته المعروفة على الفلسفة القديمة بوضع كتابيه المعروفين (المقال في المنهج) و (قواعد لهداية العقل) اتخذ المفكرون والباحثون في معظم الاكاديميات ومراكز الثقافة بمختلف أنحاء العالم من آرائه في المنهج, وبخاصة القواعدالاربع منه, والتي لخصها بالتالي:

القاعدة الاولى: (( هي ألا أقبل أي شيء على أنه حقيقي الا اذا تبينت انه كذلك باليقين )).

القاعدة الثانية: (( هي أن أقوم بتقسيم كل واحد من الصعوبات التي أفحصها الى الاجزاء التي يمكن أن تقسم اليها والتي تحتاج اليها من أجل حلهاعلى أحسن وجه )).

القاعدة الثالثة: (( وهي أن أسوق أفكاري وفقا لترتيب ذلك بالابتداء بالامور الاكثر بساطة وسهولة في المعرفة لاصاعد منها شيئا فشيئا ودرجةفدرجة حتى أبلغ معرفة الامور الاكثر تركيبا مفترضا وجود ترتيب حتىبين تلك التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع )).

القاعدة الرابعة: (( أن أقوم باحصاءات ثابتة ومراجعات عامة على نحوأتأكد معه أنني لم أغفل شيئا ))(1).

أقول: اتخذ ذلكم المعظم الذي تأثر بالثورة العلمية المشار اليها من هذه القواعد الخطوط العامة, والخطوات الاساسية في وضع المناهج الخاصة,فكان لكل حقل معرفي منهج خاص به.

وعلى هذا وبسببه تغير الوضع في برامج الدراسات الجامعية, بينما بقي الوضع على ما هو عليه في برامج الدراسات الحوزوية, وذلك لانها بقيت مرتبطة بالفلسفة القديمة والمنطق القديم, أي أنها لم تتأثر بالثورة الثقافيةالاوربية.

ولكن لي هنا ملاحظة لم يقدر لها أن اثيرت من قبل الاخرين, وتتلخص في أن الاضافة التي أضافها الفيلسوف ديكارت تنحصر في القواعد الثلاث الاخيرة, وذلك أن القاعدة الاولى التي تقول: (( لا يتوصل الى اليقين الاباليقين)).

ويوضح الدكتور عبدالرحمن بدوي في (موسوعة الفلسفة) (2) معناهابقوله: ومعنى القاعدة الاولى: أن على الانسان من أجل بلوغ الحقيقة أن يتحرر أولا من كل المعتقدات السابقة, وألا يقبل بعد ذلك على أنه حقيقة الاما هو بين العقل.

والامر يكون بينا للعقل اذا اتصف بصفتين: الوضوح والتمييز.

ويوضح ديكارت معنى هاتين الصفتين في كتابه الاخر (قواعد لهدايةالعقل) فيقول: ان الاشياء تكون واضحة ومتميزة (( اذا كانت من البساطةبحيث لايستطيع العقل أن يقسمها الى أشياء أقل بساطة, مثل: الشكل والامتداد والحركة والخ.

(( ونحن نتصور سائر الاشياء كأنها مركبات من هذه )).

هذه الاشياء البسيطة ندركها بالعيان noitiutnI أي ندركها لا بالاحساس الخداع ولا بالخيال المزور, بل بالعقل الواعي المتنبه الذي لا يبقى لديه شك فيمايدركه نظرا لوضوحه وتميزه عن غيرة. فمعيار الحقيقة اذن هو الوضوح والتميز.

(( وبهذا تتأمن وحدة العلم (أو المعرفة), أعني في وضوح مبادئه وتميزها)).

ان هذه القاعدة كما هو واضح? مرتبطة بالاحتجاج والاستدلال, ولذلك فهي تعني ما كان يعنيه القدماء من قولهم في مجال الاستدلال:

(( ان النظرية التي لا ترجع الى البديهية لا ترقي الى مستوى الاحتجاج بها والاعتماد في الاستدلال عليها )).

والرجوع الى البداهة لا يراد به الا أن يكون الامر بينا للعقل, أي واضحاومتميزا.

وعليه فالمنهج العام القديم والمنهج العام الحديث يلتقيان عند هذه النقطة,وهي أهم نقطة في المنهج. فلا اختلاف اذن بينهما في هذه الخطوةالاولى من المنهج.

واذا كان ثمة اختلاف ففي المنطلق العقلي الى هذه البداهة والوضوح, حيث اشير اليه عند الاقدمين, ولم يتعرض له المحدثون.

والسبب يرجع فيما أرى الى أن موضوع البحث في العلم الحديث يختلف عنه في الفلسفة القديمة, ذلك أن الفلسفة تبحث في العلل الاولى للاشياء,أو قل في علاقة الشيء بمؤثرة, وهي العلل الفواعل, بينما يبحث العلم في علاقات عناصر ذلك الشيء أي علتيه المادية والصورية.

والمنطلقات العقلية الى البداهة أو الوضوح هي كما يلخصها استاذنا السيد محمد تقي الحكيم في كتابه (الاصول العامة للفقه المقارن) (3) بعد أن يمهد لها بما يوضحها فيقول: (( ومن أصول الاحتجاج وأولياته أن يتعرف المقارن أو غيره ممن يريد الموازنة والحكم في أية قضية كانت على القضاياالاولية, والقضايا المسلمة لدى كل من يريد الاحتجاج عليهم, ليكون في الانتهاء الى هذه الاوليات أو المسلمات فصلا في القول والزاما في الحجة.

ومع عدم التعرف عليها لا يمكن الفصل في أية مسألة لاصرار كل من الفريقين على وجهة نظرة الخاصة.

وكل قضية لا تنتهي الى هذه الاوليات أو المسلمات تبقى معلقة ويتحول الحديث فيها من عالم الموازنة والتقييم الى عالم تأريخ المباني والتعرف على وجهات النظر فحسب كما هو الشأن في عالم الاستظهارات ودعاوى الانصراف والتبادر المختلف فيها.

وقد يكون من نافلة القول أن نؤكد على أن فقهاء المسلمين وفلاسفتهم على الاطلاق يعتبرون هذه القضايا الاساسية لكل احتجاج من البديهيات أوالمسلمات, وهي القضايا التي يتمثل بها:

1- مبدأ العلية والمعلولية بما فيها من امتناع تقدم المعلول على العلة,وتأخرها عنه, أو مساواتها له في الرتبة, ثم امتناع تخلفه عنها, فحيثما توجدالعلة التامة يوجد المعلول حتما.

2- مبدأ استحالة التناقض اجتماعا وارتفاعا مع توفر شرائط الاتحادوالاختلاف فيها(4).

3- مبدأ استحالة اجتماع الملكة وعدمها وارتفاعهما مع توفر قابليةالمحل.

4- مبدأ امتناع اجتماع الضدين.

5- مبدأ استحالة الدور.

6- مبدأ استحالة الخلف.

7- مبدأ استحالة التسلسل في العلل والمعلولات.

لذلك لا نرى أية ضرورة للدخول في تفصيل القول في هذه القضايا ومايشبهها ما دمنا نعتقد أن الجميع يؤمنون بها وربما شاركهم فيها فلاسفة العالم على الاطلاق, وان ظهر من بعضهم خلاف ذلك نتيجة عدم تحديد المصطلحات وتوحيد نقطة النزاع فيها, والا فلست أظن أن عاقلا من العقلاء يؤمن بامكان اجتماع النقيضين مع توفر شرائط التناقض في الاتحاد والاختلاف, وهؤلاء الذين يدعون الايمان بامكان اجتماعهما لا يصورون الاجتماع الا مع فقد بعض هذه الوحدات كالقائلين بنسبية الاشياء حيث يفقدون في أمثلتهم اما شرط الزمان أوالمكان أو الاضافة, وفي بعض أمثلتهم خلط بين جمع النقيض الى النقيض واجتماع النقيضين حيث لم يحسنوا التفرقة بينهما(5) كما لم يحسنوا التفرقة بين الضد والنقيض )).

والمنطق القديم باعتبارة منهج بحث أفرز أمام الباحثين الاصوليين:الطريقتين المعروفتين في مجال الاستدلال, وهما:

1- طريقة الاستقراء:

وهي تعتمد الملاحظة والتجربة, والانتقال من الجزئي الى الكلي.

2- طريقة الاستنتاج:

وهي تعتمد التفكير الذهني في معلومات كلية معينة ينتقل منهاالى المطلوب.

وعند تعامل الاصوليين مع هاتين الطريقتين وتطبيقهما على قضايا ومسائل علم أصول الفقه برز أمامهم مصدران لهاتين الطريقتين وهما:

1- النقل, وطريقته الاستقراء.

2- العقل, وطريقته الاستنتاج.

وعبر بعضهم عن النقل بالشرع, وقد جر هذا التعبير الى ما يشبه الخصومة بين أنصار كل طريقة تجاه أنصار الاخرى.

ودخل عنصر التقديس فشدد كل طرف على طريقته بما أدى الى شيء من الاضطراب.

ولنذكر لهذا بعض الامثلة:

1- رفض النقليون ما يعرف بمفهوم الموافقة أو الاولوية, لانه لم يرد نقل عن المشرع الاسلامي بلزوم الاخذ بذلك, فقوله تعالى: (لا تقل لهما اف) يدل على حرمة التأفيف فقط, ولا يتعدى منه الى حرمة ما هو أولى منه بالحرمة كالسب والضرب.

مع أن هذه القضية هي من البديهيات التي لا تحتاج حتى الى أدنى قليل من التفكير للايمان بها, لكن التقديس للنقل الذي فرض الغاء تحكيم العقل حتى في أوضح البديهيات أدى الى هذا الانكار.

2- وأسرف العقليون في الالتزام بقواعد علم المنطق كما في التزامهم بتعريفه لموضوع العلم بأنه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية, حتى آل بهم الامرالى انكار أن يكون لعلم أصول الفقه موضوع خاص, فقالوا: ان الذي يبحث فيه هذا العلم لا يصدق عليه عنوان موضوع, وانما هو مجموعة مسائل التقت حتى مظلة هدف معين وحد بينها, وكان هو القدر الجامع بينها والقاسم المشترك لها.

وجاء هذا بسبب تقديسهم لمعطيات علم المنطق دونما اخضاعها للنقد العلمي ومحاولة الوقوف على مواطن الضعف فيها والقوة, والخطأ والصواب.

مع أن التعليمات العلمية المنهجية تقول: (( ان مفاهيم القدماء ليست ملزمة لنا, وليست شيئا مقدسا لا يجوز الخروج عنه, وتجاوزة.

اننا نحترم هذه المفاهيم وندرسها ونستأنس بها ونوظفها في دراساتناحتى ثبتت جدواها وقيمتها ))(6).

وعند مراجعة كتب أصول الفقه لمختلف مدارسه النقلية والعقلية والاخرى التي هي بين بين, في مجال دراسة الظواهر الاصولية من خلال ربط النتيجة بالدليل, نستخلص أن لديهم ثلاثة مناهج, سارت من ناحية تاريخية بين مد وجزر, وهي:

1- المنهج النقلي:

الذي يعتبر النقول الشرعية (نصوص الكتاب والسنة) هي المصدرالاساسي والوحيد لاصول الفقه, حتى في مثل ما أوضحنا من بديهيات عقلية كمفهوم الاولوية.

2- المنهج العقلي:

الذي اعتبر العقل المتمثل في (العقل الفطري) و (سيرة العقلاء), هو المصدرالمعتمد لاصول الفقه, والمنقول أو النصوص الشرعية جاءت تأييدا له وتأكيداعليه, وربما أسرفت في الاعتماد عليه حتى في مثل ما أشرت اليه من الاخذ بالنظرية المنطقية التي تقول: (ان موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية), وهي في حقيقتها ليست من مدركات العقل الفطري ولامما تبناه العقلاء, انما هي نتيجة تفكير شخصي أخطأ فيما قصد الاصابة فيه.

3- المنهج التكاملي:

وهو ذلك المنهج الوسط الذي حاول أن يكون بين بين, فيأخذ من العقل فيحدود ما يسمح بالرجوع اليه, ويأخذ من النقل داخل اطار ما يراة مجالا له.

ـــــــــــــــــ

الهامش

- انظر: موسوعة الفلسفة للدكتور بدوي, مادة ديكارت.

2- موسوعة الفلسفة: 1 / 294 .

3- الاصول العامة للفقه المقارن: ط2 / ص23 24 .

4- يشترط الفلاسفة في اجتماع أو ارتفاع النقيضين اجتماع وحدات عشر, هي: الموضوع,المحمول, الزمان, المكان, الرتبة, الشرط, الاضافة, الجزء والكل, القوة والفعل, الحمل.

كما اشترطوا ضرورة الاختلاف في ثلاثة, هي: الكم والكيف والجهة. ومع تخلف احدى هذه الوحدات, أو عدم توفر الاختلاف في واحد من هذه الثلاث لا يمنع العقل من امكان الاجتماع أوالارتفاع.

5- اقرأ ما كتبه الماركسيون حول صراع المتناقضات, وما كتبه النسبيون حول امكاناجتماع النقيضين على أساس من نظريتهم النسبية مع ان صدق النظرية لايبطل استحالةاجتماع النقيضين لفقد شرط الاضافة فيها كما هو واضح.

6- د. سعدون السويج في مقدمته لكتاب (الالسنة الحديثة واللغة العربية)