تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 27
إلى صفحة: 42
النص الكامل للبحث: PDF icon 180424-124137.pdf
خلاصة البحث:

هذا البحث يتحدث عن أثر الذات الإنسانية عند شعراء العصر العباسي الأول وما عانوه في حياتهم من فقد البصر،او ألم السجن، أو المعاناة من الفقر والحرمان، فلقد صور هؤلاء الشعراء مآسيهم بصور شعرية رائعة بثوا من خلالها آلامهم ومآسيهم وما أحسوا به من خلال هذه المعاناة.

البحث:

هذا البحث يتحدث عن أثر الشعر في تصوير الذات الانسانية عند شعراء العصر العباسي الأول الذين تناولوا في أشعارهم ما أحسوا به من فقد للبصر، أو أسى الفقر وويلاته أو ما عانوه من حوادث الأيام والسجن ونكباته، وقد أشار الدكتور محمد مصطفى هدارة اليه بالقول: (نزعة واضحة كل الوضوح في شعر القرن الثاني، وهذا الاتجاه كان قليل الظهور في الشعر القديم بالمعنى الذي نقصده وهو العكوف على النفس وتحليلها، وإلا فالشعر كله إنما هو تعبير عن الذات)([1]).

وأطلق عليه تسمية (الشعر الذاتي) وهذه التسمية تحملُ في مداولاتها عمقاً حسناً ذاك أنها تعنى بتصوير ما في نفس الشاعر الذي يتعرض لحادث فقد البصر، أو سوء الحال، أو السجن.

فقد البصر:

من الطبيعي أن تتأثر النفس الانسانية بنشاط أعضائها فتخمل أو تنشط وفق ما تعمل عليه هذه الاعضاء، فإذا فقد الانسان جزءاً أو عضواً منها فأنه سيعاني من جراء ذلك ويبدو ذلك واضحاً في شخصيته وسلوكه وتصرفه العام مع الناس.

ولما كانت نعمة البصر التي منحها الله سبحانه وتعالى هي أعظم نعمة، فإن فقدانها يسبب بالتأكيد أذىً نفسياً كبيراً لصاحبها ذلك أنه الاعمى يشعر بقلق كبير تجاه ما حوله ناتج عن الشعور بالقصور الأمر الذي ينتج عنه عدم الأمان لذا (فإن الكفيف يشعرُ بخوف دائم مما حوله، ويتجنب الخوض في مغامرات استطلاعية فتظل معرفته عن البيئة معرفة ناقصة، لأن جزءاً كبيراً من المعرفة بالعالم الخارجي يأتي عن طريق الرؤية والكفيف محروم منها، فإذا أضفنا الى ذلك عزوف الكفيف عن المغامرات الاستطلاعية التي تعرضه للأذى أدركنا النقص الكبير في حصيلته من معرفة البيئة)([2]).

ولقد وصف د. طه حسين نفسية الأعمى مشيراً الى أن (هذه المصيبة تورثُ صاحبها من الحزن ما يلزمه في جميع أطوار حياته لا يفارقه ولا يعدوه ذلك لأنه يذكر بصره كلما عرضت له حاجة، وكلما ناله من الناس خير أو شر، بل كلما لقيهم في مجمع عام أو خاص، فما يزال الحزن يؤلمه ويخزه إلا أن يفقد الشعور وتصيبه البلادة المطلقة)([3]).

إن رؤية الدكتور طه حسين هي أصدق ما يمثل الحالة النفسية للمكفوفين وألمهم الحار من عاهتهم هذه وهو في موضع آخر يقول: (والمكفوف إذا جالس المبصرين أعزل، وأن بزّهم بأدبه وعلمه وفاقهم بذكائه وفطنته فقد يتندرون عليه باشارات الأيدي وغمز الالحاظ، وهزّ الرؤوس، وهو عن كل ذلك غافل محجوب، فان نمت عليهم بذلك حركة ظاهرة أو صوت مسموع فحجته عليهم منقطعة وحجتهم عليه ناهضة، وليس له من ذلك إلا ألم يكتمه وحزن يخفيه)([4]). ولما كان الشعراء يمتلكون حساً مرهفاً وذائقة شعرية رائعة لذا راحوا يصورون مشاعرهم وما يتألمون منه بأصدق المشاعر وأعمقها. فهذا صالح بن عبد القدوس* (ت 167هـ)، يرثي نفسه بفقده بصره فيقول:

عزاؤكِ أيَّها العين السكوبُ
وكنتِ كريمتي وسراجَ وجهي
فأن أكُ قد ثكلتكِ في حياتي
 

 

ودمعكِ أنها نوبٌ تنوبُ
وكانت لي بكِ الدنيا تطيبُ
وفارقني بكِ الألفُ الحبيبَ([5]).
 

 

يعزي الشاعر نفسه بفقده عينه وهي أعز نعمة أنعم الله بها على عباده ذاكراً أن هذه هي مصائب تصيب الأفراد، ولابد لكل فرد نصيبه من هذه النوائب، مخاطباً عينه بالقول إنها كانت سراجاً له وكانت دنياه بها تطيب، فأن كان قد فقدها في حياته، فإن كل أليفين لابد لها من فراق.

ثم يستمر في بثّه حزنه على عينه في قصيدته هذه فيقول:

على الدنيا السلام فما لشيخ
يموتُ المرءُ وهو يعدُّ حياً
يمنيني الطبيب شفاء عيني
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً
 

 

ضرير العين في الدنيا نصيبُ
ويخلَفُ ظنّه الأمل الكذوبُ
ومــا غير الاله لـــها طبــيب
فأن البعضَ من بعض قريبُ([6])
 

 

لقد أودع صالح بن عبد القدوس أحزانه في الأبيات مصوراً فيها حزنه على عينيه، إذ ودّع الدنيا مسلماً موضحاً أن الشيخ الضرير ليس له في هذه الدنيا حظ أو نصيب، إذ أنهى فقده عينيه كلَّ أمل لديه، وها هو ذا الطبيب يمنيه بالشفاء وليس يشفيها إلا الله سبحانه وتعالى، على أن الشاعر أودع حكمة في أبياته حينما يقررّ أن موت عضو أو جزء من الانسان أنما هو موت للكل لأن البعض من بعض قريب.

ولأبي الشيص الخزاعي* (ت196هـ) أبيات تنم عن إحساسه بالألم من جرّاء فقد عينه فيقول:

يا نفس بكّي بادمعٍ هُتُنِ
على دليلي وقائدي ويدي
أبكي عليها مخافة أن
 

 

وواكفٍ كالجمان في سننِ
ونور وجهي وسائس البدنِ
يقرُنني والظلامَ في قرنِ([7])
 

 

ان شدة الألم في نفس أبي الشيص تدفعه للبكاء بدموع هتانة شديدة مشبهاً هذه الدموع بأنها كالجمان ذاك أن عينه كانت دليله الذي يهديه وقائده ونور وجهه وسائس بدنه.

وأما الشاعر أبو يعقوب الخريمي (ت 214هـ) فقد أثاره فقد بصره حتى ناء بذلك الفقد وأشتكى ألمه بأبيات تفصح وتبين شدة معاناته إذ يقول:

كفى حزناً أن لا أزورَ أحبتي
وأني إذا ما حُييتُ ناجيتُ قائدي
إذا ما أفاضوا بالحديث تقاصرت
كأني غريبُ بينهم لستُ منهمُ
أقاسي خطوباً لا يقومُ بثقلها
 

 

من القربِ إلا بالتكلف والجهدِ([8])
ليعدلني قبل الاجابة بالردِّ
بي النفسُ حتى ماأحيرُ وما أبدي
فأن لم يحولوا عن رخاءٍ وعن عهدِ
من الناسي إلا كلَّ ذي مّرةٍ جَلْدِ([9])
 

 

ويتضح لنا من الأبيات المذكورة آنفاً شدة وجسامة معاناة الشاعر الذي كلّفه فقده بصره مشاقاً وصعوبات جمّة إذ هو محتاج لمن يعينه على زيارة من يريد رؤيتهم من أحبته وهو يحتاج مساعدة لردّ السلام، فضلاً عن إحساسه بالغربة وهو بين خلاّنه وأهله، وتلك المعاناة صوّرها أبو يعقوب الخريمي بأنه لا يقومُ بها إلا من كان جلداً صابراً ذا همّةٍ عالية.

ولعلّ خير تصوير لمعاناة الشاعر الذاتية تبرز عند الخريميّ حين أكثر من رثاء عينه، وقد كانت بمثابة تأوّهات ذاتية حزينة صدرت عنه من مثل قوله:

أصغي الى قائدي ليخبرني
أريًد أن أعدلَ السلامَ وأن
أسمعُ ما لا أرى فأكره أن
 

 

إذا التقينا عمّن يحييني
أفصل بين الشريف والدونِ
أخطيءَ والسمعُ غيرُ مأمونِ([10])
 

 

لقد صوَّر الشاعر ذاته الحزينة خير تصوير، ولقد أحسن الخريميّ في طباقه في قطعته هذه بين (لفظتي الشريف والدون) ذلك أنها أضافت دفقة معنوية للقطعة فضلاً عن اشارته لرموز تأريخية معروفة مثل سيدنا نوح -u- و(قارون) الذي ورد ذكره في القرآن الكريم هذه الاشارات عززت من إحساسه بالألم والحزن لفقده عينه، إذ هو محتاجٌ الى غيره، ليقوده وليخبره عمّن يسلّمُ عليه، وهو يسمع ما لايرى، فيخاف أن يخطيء سمعه لأن السمع غير مأمون، ويتمنى الشاعر أن تعود اليه عينه التي فُجع بها فهو حينذاك سيستبدلها بعمر نوح وما عاش وبملك قارون الذي أعطاه الله له فيقول:

للهِ عيني التي فُجعتُ بها
لو كنتُ خُيّرت ما أخذتُ بها
حق أخلائي أن يعودوني
 

 

لو أن دهراً بها يواتيني
تعميرَ نوحٍ في ملكِ قارونِ
وأن يعزّوا عني ويبكوني([11])
 

 

ويبدو الخريميّ مكابراً يحاولُ أن يعيدَ التوازنَ النفسي الذاتي لروحه التي آذاها فقد البصر مبيناً إن كان الله سبحانه وتعالى قد أخذمنه بصره فقد عوضه بالعقل واللسان إذ يقول:

إن يأخذِ اللهُ من عينيّ نورهما
قلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي دَخلٍ
 

 

ففي لساني وقلبي منهما نورُ
وفي فمي صارمٌ كالسيفِ مأثورُ([12])
 

 

ويدعو عينه الى عدم الجزع والى التصبر فيقول:

عزاءك يا عينُ لا تجزعي
عزاءً وصبراً فإنَّ الأسى
 

 

وضناً بمائك لا تدمعي
كثيرٌ وإنَّ حياتي معي([13])
 

 

وهكذا يتبين لنا المعاناة الذاتية التي عاناها الشعراء المكفوفون أو من فقد إحدى عينيه، وقد برز عندهم تصوير الذات ومعاناتها واضحاً من خلال بثّ الألم والحزن على ما فقدوا ومن خلال الدعوة الى الصبر على هذا الفقد.

سوء الحال والفقر:

ان الحالة الأقتصادية المترفة والبذخ والعطاء الذي عمّ المجتمع العباسي في هذا العصر، وما رافق ذلك من رخاء مادي واضح في كثير من مرافق الحياة الاجتماعية، كل هذا الترف الذي ذكرته كتب الأدب والتاريخ، والذي أشتهر به كثير من رجالات الدولة العباسية والحاشية، في الوقت الذي يعاني منه فقراء المجتمع والطبقة البائسة حالة من البؤس والحرمان والعوز المادي، كل ذلك كان مدعاة لبيان هذه المشكلة وصداها لدى شعراء الدولة العباسية في هذا العصر.

فقد أسهب مؤرخو الأدب العباسي في بيان الحالة الاجتماعية المترفة التي كان عليها العصر العباسي، إذ أشار المؤرخون الى أنَّ: (خزائن الدولة هي المعين الغدق الذي هيأ لكل هذا الترف، فقد كانت تحمل أليها حمول الذهب والفضة من أطراف الأرض([14])، وأشاروا الى أن كل هذه الأموال كانت تجري لحساب الخلفاء والوزراء والقواد والشعراء والمغنين([15]). ومن الطبيعي القول بأن الترف الذي عمّ أرجاء الحياة المختلفة للوزراء والخلفاء والقواد وكبار رجال الدولة كان على حساب الطبقة العامة المحرومة، فجمهور الناس يعيش على الضنك وشطف العيش ويعاني الحرمان([16]).

فقد ذهب د. شوقي ضيف الى القول: (ومن المؤكد ان الطبقات البائسة في العصر، كانت أكثر طبقاته عدداً، وكانت تكدح وتشقى وتتصبب عرقاً لينعم الخلفاء والوزراء وعلية القوم وكبار التجار والأقطاعيون بالحياة الرغدة والعيش الناعم غير مفكرين في جوع جائع، ولا في عري عارٍ، بينما تتجرع الطبقات الفقيرة آلاماً ثقالاً، وأهوالاً طوالاً، وكأنما عميت الأبصار وصُمتّ الأسماع)([17]).

لذا وبناءً على ما تقدم تجدرُ بنا ملاحظة أن: (مشكلة الفقر أو مأساته مصدر الهام لبعض الشعراء الذين يعيشون فيها، ويعانون منها)([18]).

وهذه العبارة تستدعي الوقوف عندها، والنظر فيها مرة بعد مرة، إذ نجد شعراء عانوا من الفقر والعوز وسوء الحال وأكثروا من تصوير ذلك في أشعارهم.

وقد أشار د. حسين عطوان الى منحة هؤلاء الشعراء مؤكداً أنهم (اعتمدوا النقد اللاذع والتشهير والتعريض والهجاء المقذع لاكراه الوزراء والعمال والتجار والشعراء الميسورين على أجراء الصلات القليلة عليهم حتى يكفلوا الحياة لأنفسهم ولأولادهم)([19]).

فهذا "أبو الشمقمق"* (ت 180هـ) يعد غير منازع أكثر الشعراء تصويراً للفقر، وهو يبين سوء حالته الاجتماعية ذاكراً أن لا بيت له إذ منزله الفضاء وسقف بيته السماء.

فأذا أراد ضيفه دخول بيته فأنه يدخل ويسلم عليه على الفور، إذ لا باب عنده وليس لديه مصراع لذلك الباب:

برزْتُ من المنازلِ والقبابِ
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي
فأنت إذا أردت دخلتَ بيتي
لأني لم أجدُ مصراع بابٍ
ولا أنشق الثرى عن عود تختٍ
 

 

فلم يعسر على أحدٍ مجابي
سماءُ اللهِ او قطع السحابِ
عليَّ مسلماً من غير بابِ
يكون من السحابِ إلى الترابِ
اؤمل أن أشارَ به ببابي([20])
 

 

وهو لا يخشى هروب عبيده أو خروجهم عن طاعته ولا يخاف هلاك دوابه لأنه لا عبيد له ولا دواب، وهو يرى أن راحة باله آتية من أنه لا يملك شيئاً فليس لديه ما يمكن أن يحاسب بسببه قهرماناً أو غيره:

ولا خفت الاباق على عبيدي
 

 

ولا خفتُ الهلاك على دوابي([21])
 

ولا حاسبتُ يوماً قهرماني
وفي ذا راحة وفراغُ بالٍ
 

 

محاسبة فاغلظ في حسابي
فدأب الدهر ذا أبداً ودأبي([22])
 

 

وقد خاطب أبو الشمقمق المنصور سائلاً وصله وعطاءه بقصيدة ذكرها أبن المعتز في (طبقات الشعراء) مدح في أثنائها المنصور قائلاً:

يا أيها الملك الذي
ورث المكارم صالحاً
أني رأيتك في المنا
فغدوت نحوك قاصداً
 

 

جمع الجلالة والوقارة
والجمودَ منه والعمارة
مِ وعدتني منك الزيارة
وعليك تصديق العبارة([23])
 

 

ثم مضى في قصيدته شاكياً حاله وحال عياله الذين أعياهم الفقر، وهم لا يملكون شيئاً من طعام أو شراب قائلاً:

إن العيال تركتهم
وشرابُهمُ بولُ الحمارِ
 

 

بالمصر خبزهم العصارة
مزاجه بول الحمارَه([24])
 

 

ولقد أشار الدكتور هدارة إلى أن هذا النوع من الشعر يعد شعراً ذاتياً، وسبب تسميته بالشعر الذاتي في رأيي أنه يصور بحق معاناة الشاعر النفسية وما يشعر به من أذىً وحرمان وأنه يعبرّ عن تجربة خاصة ومعاناة شخصية فمن ذلك أن أبا الشمقمق يرجع حالته البائسة وما هو فيه من فقر الى سوء بخته، إذ يرى أنه لو ركب البحر لأنقلب ذلك البحر صحراء قاحلة، ولو وضع في يده جوهرة ثمينة لعادت زجاجاً رخيصاً ليس بذي قيمة قائلاً:

لو ركبْتُ البحارَ صارت فجاجاً
فلو أني وضعت ياقوتةً حمـ
 

 

لا ترى في متونها أمواجاً
راءَ في راحتي لصارت زجاجاً([25])
 

 

ويبلغ الأسى به ذروته في قوله: إنه لو وردَ مياهاً عذبة لعادت ملحاً أجاجاً في قوله:

ولو أني وردت عذباً فراتاً
فالى الله أشتكى وإلى الفضلـ
 

 

عادَ لا شكَّ فيه ملحاً أجاجاً
لِ فقد أصبحت بزاتي دجاجا([26])
 

 

وفي نص آخر يستمر بالشكوى ذاكراً خلوّ بيته من الخبز واللحم والشراب وقد جاءهم العيد وليس عندهم تمر ولا خبز مبيناً أن دهرهم قد عاداهم عداوة الصقر للوزّ قائلاً:

ما جمع الناس لدنياهم
والخبزُ واللحمُ إذا نلته
والقلزُ من بعدُ على أثِره
زقد دنا الفطرُ وصبيانُنا
وذاك أن الدهرَ عاداتهم
 

 

أنفعُ في البيت من الخبز
فانت في أمنٍ من التَّرزِ
فأنما اللذاتُ في القلزِ
ليسوا بذي تَمر ولا أرزِ
عداوة الشاهين للوزِّ([27])
 

 

فهم إذا ما رأوا خبزاً على مكانٍ عالٍ أسرعوا اليه يقفزون ولكنهم لا يطيقون القفزَ لأنهم جائعون:

فلو رأوا خبزاً على شاهقٍ
ولو أطاقوا القفزَ ما فاتَهم
 

 

لأسرعوا للخبز بالجمزِ
وكيف للجائعِ بالقفزِ([28])
 

 

ولم يكن تصوير سوء البخت مقصوراً على أبي الشمقمق فقد شاركه في شعراء بائسون لا يقلون عنه شأناً في تصوير سوء حظهم وفقرهم مثل أبي فرعون الساسي، فقد ذكر أبن المعتز في طبقات: (أتى أبو فرعون الساسي أبا كهمس التاجر، فسأله، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواريّ كبيراً فصار الى حلقة بني عديّ، فوقف عليهم وهم مجتمعون، فأخرج الرغيف من جرابه، والقاه في وسط المجلس، وقال: يا بني عدي، أستفحلوا هذا الرغيف، فانه أنبل نتاج على وجه الأرض، قالوا: وما ذاك؟ فأخبرهم فاجتمعوا إلى أبي كهمس التاجر، فقالوا: عرَّضتنا لأبي فرعون وقد مزَّقنا كا ممزّق)([29]).

وأشار ابن المعتز إلى شاعريته وأجادته بقوله: (ومما يستملح له – وكان من أفصحهم وأجودهم شعراً – وأكثراً نادة)([30])، وأستدرك على ذكره بالقول: (ولكنه لا يصبر عن الكَدية)([31])، وقد ذكر له أبياتاً شعرية تصور شكواه من بخته فمن ذلك بقوله:

رأيت في النومِ بختي
أعمى أصمّ ضئيلاً
فقلت: حييت رزقي
فكيف لي بدواءٍ
 

 

في زيّ شيخٍ أرتِّ
أبا بنين وبنتِ
فقال: رزقك بأستي
يلين لي بطنَ بختي ؟([32])
 

 

وفي الأتجاه ذاته يشير أبو فرعون الساسي الى سوء حالة شاكياً الفاقة والحرمان، مبيناً أن الله -U- يعلم ما وصل اليه حالة، إذ لا شيء عنده، فهو مهزول ضعيف البنية حتى أن الشمس قد محت خياله، وهو مفلس حتى حل أكله لعياله قائلاً:

أنا في حالٍ تعالى الله
ليس لي شيءٌ إذا قيـ
ولقد أهزلتُ حتى
ولقد أفلست حتى
مَنْ رأى شيئاً محالاً
في حريمِ الله طرّاً
لو رأى في الناس حرّاً
 

 

ربي أيَّ حالِ
لَ لمن ذا؟ قلت: ذا لي
محت الشمس خيالي
حلَّ أكلي لعيالي
فأنا عينُ المحالِ
من نساءٍ ورجالِ
لم أكن في ذا المثالِ([33])
 

 

والقارئ للأبيات المذكورة في أعلاه، ويستشعر قدرة هذا الشاعر وقابليته ومهارته في تجسيد الحالة التي وصل أليها وتصويرها، والبيت الثالث يؤكد مقدرته الشعرية إذ دلّل على هزالة حتى أن الشمس قد محت خياله وفي ذاك مبالغة واضحة.

(وكان البؤس – على ما يبدو- ينهك حياته ويكلفه هو وأسرته من الجوع والعري في ليالي الشتاء الباردة، فلا يستطيعون أحتماله ولا منقذ ولا معين، وله يصور ذلك تصويراً دقيقاً)([34])، وفي ذاك يقول:

وصبيةٍ مثل صغار الذرِّ
بغيرِ قمصٍ وبغير أزرِ
حتى إذا لاحَ عمود الفجرِ
وبعضهم ملتصق بصدري
أسبقهمُ إلى أصول الجُدْرِ
فارحمْ عيالي وتولّ أمري
 

 

جاءَهم البردُ وهم بشرِّ
تراهم بعد صلاةِ العصرِ
وجاءني الصوت غدوتُ أسري
وبعضهم منحجرٌ بحجري
هذا جميعُ قصتي وأمري
كنيت نفسي كنية بشعري
 

أنا أبو الفقر وأم الفقرِ([35])

 

وقد وصف د. شوقي ضيف القطعة الآنفة الذكر بأنها: (بديعة في تصوير بؤس أبي فرعون وبؤس عياله، فهم عراة في زمهرير الشتاء وهم يلتصقون بصدر أبيهم وظهره وحجره يطلبون الدفء، ويطلبون ويعللهم بالصباح، حتى إذ لاح فرج على وجهه لا يليو، راجياً أن ييسّر له ما يستطيع أن يردَّ به عنهم شيئاً من الجوع والعري، وهم في الحجرة متكومون بجانب جدراتها، وكأنهم خنافس متكومة في جُحر فياللهول، ياللفقر وياللبؤس)([36]). وتعبير أبي فرعون عن نفسه بأنه أبو الفقر وأم الفقر لهو خير دليل على ما وصلت اليه حال هذا الشاعر من شدة البؤس والفاقة.

وفي قصيدة أثنى على حسنها وفصاحتها ابن المعتز يمتدح أبو فرعون الحسن بن سهل ويشكو حاله مبيناً فقره قائلاً:

أشكو اليك صبيةٌّ وأمَّهم
قد أكلوا اللحمَ ولم يُشبُعُهم
وأمتذقوا المذقَ فما أغناهمُ
 

 

لا يشبعون وأبوهم مثلهم
وشربوا الماءَ فطال شربهم
والمضغ أن نالوه فهو عرسهم([37])
 

 

فهؤلاء الصبية لا يعرفون من الخبز إلا أسمه، وليس عندهم تمر، أما الفاكهة فلم يتمكنوا من رؤيتها في السوق وهم في حال مزرية من سوء التغذية قائلاً في ذلك:

لا يعرفون الخبز إلا بأسمه
وما رأوا فاكهةً في سوقها
زعرُ الروس قرعت هاماتهم
كأنهم جناب أرضٍ مجذبٍ
بل لو تراهم لعلمت أنَّهم
وجحشهم أجرب منقور القرى
 

 

والتمر هيهات فليس عندهم
وما رأوها وهي تنحو نحوهم
من البلا وأستكَّ منهم سمعهم
محل فلو يعطون أوجى سمهم
قوم قليلٌ ريُّهم وشبعهم
ومثل أعواد الشكاعي كلبهم([38])
 

 

على أن أبرز ما يشكو منه الشعراء البائسون الفقراء هو هروب الفأر والذبان والسنور من بيوتهم لخلّوها مما يمكن أن تقتات عليه من طعام ونحوه وقد ذكر ذلك أبو الشمقمق قائلاً:      

ولقد قلت حين أقفر بيتي
ولقد كان آهلاً غير قفر
فأرى الفأر قد تجنبن بيتي
ودعا بالرحيل ذبان بيتي
وأقام السنور في البيت حولاً
ينقضُ الرأسَ منه من شدّة الجو
 

 

من جراب الدقيق والفخاره
مخصباً خيرُه كثير العمارة
عائذاتٍ منه بدار الأمارة
بين مقصوصة إلى طياره
ما يرى في جوانب البيتِ فارَه
عِ وعيشٍ فيه أذىً ومراره([39])
 

 

ويعقد أبو الشمقمق حواراً لطيفاً بينه وبين السنور داعياً إياه الى الصبر إلا أن ذلك السنور يجيبه بعدم قدرته على الصبر في بيت مقفر من الأكل ثم يعود أبو الشمقمق ليسمح له بالخروج إلى حيث المكان المخضب المملوء بالقوت قائلاً:

قلت لما رأيته ناكس الرأ
ويك صبراً فانت خيرٌ من سنو
قال: لا صبرَ لي وكيف مقامي
قلت: سرْ راشداً إلى بيت خانٍ
وإذا العنكبوت تغزّل في دنّي
وأصاب الجُحام كلبي فأمسى
 

 

سِ كئيباً وفي الجوف منه حراره
رٍ رأته عيناي قطّ بحاره
وسط بيتٍ كجوف الحمارَه
مخصبٍ رحله كثير التجاره
وحبي الكوز والقرقاره
بين كلب وكلبةٍ عياره([40])
 

 

ومطية أبي الشمقمق هي رجلاه متمنياً أن تكون له مطية يوماً ما:

أتراني أرى من الدهر يوماً
كلما كنت في جميع فقالوا
 

 

لي فيه مطية غيرُ رجلي
قربوا للرحيلِ قربْتُ نعلي
 

 

حيثما كنت لا أخلف رحلاً من رآني فقد رآني ورحلي([41])

ويوازن العماني* الراجز بين عربيِّ بالي الأطمار رثّ الثياب جائع البطن وبين شخص مترف، يمتلك مالاً وله من القيان والعبيد والجواري الشيء الكثير، والعمانيّ الراجز في عقده هذه الموازنة يشرح سوء حالة العربي وفقره راسماً بذلك صورة شعرية بديعة إذ يقول:

لا يستوي منعّمٌ بندارُ
مقصّصٌ قَصَّه البيطارُ
وعربيُّ بردُهُ أطمارُ
قد نصلتْ من رجلهِ الأظفارُ
أحدبُ قد مالَ به الجدارُ
يأكل هزلي الفار فيه الغازُ
 

 

له قيانٌ وله حِمارُ
يطيف في السوقِ به التجارُ
يظلُّ في الطُرق له عِثارُ([42])
يأوي إلى حصنٍ له أوارُ
لا درهمٌ فيه ولا دينارُ
في بلدةٍ عالٍ بها الغبارُ
 

 

ويصف العمانيّ الراجز أهل هذه البلدة وما فيها من ترف ونعمة قائلاً في ذلك:

ليس على كهلِ بها وقارُ
لهم دنانٌ ولهم جرارُ
 

 

مثل الشياطين إذا أستشاروا
وفاشفارات لها قتارُ
 

 

في اليسر لا يطع فيه الجارُ([43])

من خلال الأمثلة المذكورة يتبين أن الشعراء المذكورين أعتمدوا أسلوب السخرية والفكاهة للتعبير عن فقرهم، وهذه ظاهرة تستحق الالتفات، زيادة على أن هؤلاء الشعراء لم يتعرضوا لقضية الظلم الاجتماعي وسوء توزيع الثروات. وأن أشعارهم من النوع الذي يمكن أن يوصف بالآدب الجماهيري (الشعبي) الذي يعبرّ عن قضايا المجتمع وهمومه.

السجـن:

خلق الله سبحانه وتعالى بني البشر أحراراً فإذا ما قُيدتْ حرياتُهم شعروا عند ذاك بالضيق والأسى لذا عُدّ السجنُ من الاماكن غير المستحبة أو المرغوب فيها، بل من الأماكن المرفوضة، فالأنسان لا يسعى إليه بإرادته وإنما يفرض عليه فرضاً، وهو تقييد لحرية الانسان، فضلاً عن شعور السجين بالوحدة والانفراد والعزلة.

ولقد عرّفه أحمد محمد الزعبي فأشار الى أنه ذلك المكان الذي تتحدد فيه إقامة الشخص المتهم وتقيد فيه حريته، وهو بغض النظر عن كونه قد خصص ليكون سجناً أو هيأ ليكون مكان احتجاز، أو كان تحديد أقامة للشخص مكان غير مألوف وغير محبوب([44]).

ولما كان السجن تقيداً لحرية الانسان ليبعده عن مجتمعه، ويفرض عليه قيوداً تأباها نفسه، لذا كان من يسجن من الشعراء يظلُّ يشكو ويتأفق بأبيات تشعر بالمعاناة الذاتية التي يحسُّها الشاعر السجين ومدى الألم النفساني الذي يعيشه، فهذا الألم وتلك التأوّهات لا يستشعرها إلا من قد ذاقها بنفسه وأكتوت روحه بها، فمن ذلك ما قاله صالح بن عبد القدوس (ت167هـ) في قوله:

الى اللهِ أشكو إنه موضع الشكوى
خرجنا من الدنيا ونحنُ من أهلها
إذا دخل السجّانُ يوماً لحاجةٍ
 

 

وفي يده كشفُ المضرة والبلوى
فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
عجبنا وقلنا: جاءً هذا من الدنيا([45])
 

 

والرؤيا عند السجناءُ مهمة جداً فهي محور حديثهم وبها يحلو حديثهم فإن كانت رؤيا حسنة أبطأت وأن كانت قبيحة تعجلت بالمجيء، وفي هذا يقول صالح بن عبد القدوس.

ونفرحُ الرؤيا فجلّ حديثنا
فإن حسنت لم تأتِ عجلى وأبطأت
 

 

إذا نحن اصبحنا الحديث عن الرؤيا
وأن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى([46])
 

 

والأخبار عندهم مقطوعة إذ حيل بينهم وبينها بسجن ممنع الأسوار، وهم مدفونون فهه، أقاموا في هذه الدنيا ولكنهم فارقوها لسجنهم وابتعادهم عن مجتمعهم إذ يقول:

واما عليّ بن الجهم* (ت249هـ) فانه لما حُبس كتب الى طاهر بن عبد الله قصيدة وهو في حبسه يقول فيها:

إن كان لي ذنبٌ فلي حرمةٌ
وحرمتي اعظم من زلتي
ولي حقوقُ غير مجهولةٍ
 

 

والحقُ لا يدفعه الباطلُ
لو نالني من عدلكم نائلُ
يعرفها العاقل والجاهلُ
 

 

والقصيدة في حقيقتها استعطاف أكثر منها في تبيان حالته داخل السجن وذكر معاناته إلا أنني ذكرتها لأنه كتبها من سجنه، وقد أحسن فيها الطباق بين (الحق والباطل) في البيت الأول وكذا بين (العاقل والجاهل في البيت الثالث/ ويمضي الشاعر مصوّراً حالته فيقول:

وكل أنسان له مذهبٌ
وسيرةُ الأملاكِ منقولةٌ
وقد تعجلتَ الذي خفتُهُ
 

 

وأهلُ ما يفعلُهُ الفاعلُ
لا جائرٌ يخفى ولا عادل
منك ولم يأتِ الذي آملُ([47])
 

 

إلا أن قصيدته التي تفصح عن شدة معاناته في سجنه هي تلك التي مدح بها جعفر المتوكل والتي أشار لها أبو الفرج الأصفهاني بقوله: (وأحسنُ شعر قاله في الحبس قصيدته التي أولها: قالت: حُبستَ)([48]).

وأشار الى سبب حبسه فقال: (أنه كان يسعى بالجلساء الى المتوكل فأبغضه وأمره ان يلزم بيته، ثم بلغه أنه هجاه فحبسه)([49]).

وهذه القصيدة تقع في 28 بيتاً، وقد ذكرها ابن خلكان فقال: (وله وقد حُبس أبياته المشهورة التي أولها قالوا: حُبستَ..... وهي أبيات جيدة في هذا المعنى ولم يعمل مثلها)([50])، وقد بدأها مخاطباً إمرأة لم يسمها بقوله:

قالت: حُبْست فقلتُ: ليس بضائري
أوما رأيتِ الليثَ يألفُ غَيلَه*
والشمسُ لولا أنها محجوبةٌ عن
والبدرُ يدركُهُ السرار فتنجلي
والغيث يحصُره الغمامُ فما يُرى
والنارُ في أحجارها مخبوءةٌ
 

 

حَبسي وأيُّ مهندٍ لا يُغمَدُ
كبراً وأوباش السباع تَردَّدُ
عن ناظريك لما أضاءَ الفرقدُ*
أيامُهُ وكأنه متجدّدُ
الا وريّقه يُراحُ ويرعدُ
لا تُصطلى إن لم تثرها الآزندُ([51])

 

فقد شبّه نفسه بالمهند، وهو السيف في غمده، ثم راح يضربُ الامثال ويأتي بتشبيهات مستحسنة ارتاح لها، فالليث يختبيء بالشجرالكثيف ترفعاً بنفسه، والشمسُ تحتجبُ ولولا أنها متحجبة لما أضاءت النجوم، وكذا البدر الذي يدركه الظلام، والغيث الذي يحصرهُ الغمام، والنار التي تختبيء في الأحجار، فلا توقد جذوتها إن لم تثر بالزناد، ويستمر ابن الجهم في تصوير نفسه في حبسه فيقول:

والزاعبية لا يقيمُ كعوبها
غيرُ الليالي بادئاتُ
ولكل حالٍ مُعقبٌ ولربّما
لا يؤيسنك تفرجُ كربةٍ
 

 

إلا الثّقاف وجذوةٌ تتوقدُ
والمالُ عاريةٌ يُفادُ وينفدُ
أجلى لك المكروه عمّا يحمدُ([52])
خطبُ رماك به الزمان الأنكدُ([53])
 

 

ويبدو علي بن الجهم في هذه القصيدة مستذكراً حكماً رائعة داعياً الىالصبر الذي تعقبه الراحة فيقول:

كم من عليلٍ قد تخطّاه الردى
صبراً فإن الصبرَ يُعقبُ راحة
 

 

فنجا وماتَ طبيبُه والعُوّدُ
ويدُ الخليفة لا تطاولها يدُ([54])
 

 

ثم يقول بأن هذا السجن لبيت وأنك إن لم تزره لمحالة تزري بصاحبها فإنه يُزارُ فيه المرءُ ويكرمُ فيقول:

والحبسُ مالم تغشه لدنيةٍ
بيتُ يجددُ للكريم كرامةً
لو لم يكن في السجن إلا أنّه
 

 

(شنعاء نعم المنزل المتوردُ)
ويُزارُ فيه ولا يزورُ ويُحفدُ
لا يستذلُّكَ بالحجابِ ألا عبدُ
 

 

ثم يستعطف ابن الجهم القاضي أحمد بن داوود لابلاغ الخليفة ان الذين وشوا به إنما سَعَوا بالباطل وكان الأحرى بأمير المؤمنين التثبت من الأمر قبل الحكم إذ يقول:

يا أحمد بن دؤاد انما
بلَغْ أمير المؤمنين ودونه
أنتم بني عمِّ النبي محمدٍ
ما كان من حسنٍ فأنتم أهلُه
أمن السوية يا ابن عمّ محمدٍ
إن الذين سعوا اليك بباطلٍ
 

 

تُدعى لكل عظيمة يا أحمدُ
خوضُ العدى ومخاوفٌ لا تنفذُ
أولى بما شََرعَ النبيُّ محمدُ
طابت مغارسُكم وطابَ المَحِتدُ
خصمٌ تقرِّبُه وآخرُ تُبعدُ
أعداءُ نعمتك التي لا تُجَحدُ([55])
 

 

ويبين ابن الجهم أنه لم يجتمع الخصمان إذ كانوا حاضرين وهو غائب، ولو كان حاضراً لتبين للجميع الطريق الواضح المسلك، وأنه إن سُمح له يوماً بلقاء الخليفة والتقى بخصومه لدحضهم بالحجة البينة والبراهين الساطعة فيقول:

شهدوا وغبنا عنهم فتحكّموا
لو يجمعُ الخصمين عندك مشهدٌ
فلئن بقيتُ على الزمان وكان لي
واحتجَّ خصمي واحتججتُ بحجتي
 

 

فينا وليس كغائبٍ من يشهدُ
يوماً لبانَ لكَ الطريقُ الأقصدُ
يوماً من الملكِ الخليفة مقعدُ([56])
لفلجتُ في حججي وخابَ الأبعدُ([57])
 

 

ثم يختمُ قصيدته بأن الله سبحانه تعالى بالغُ أمرهِ واليه الرجوع بعد الموت وان الكل لابُدّ صائر الى يوم يجتمع الناس فيه وهو يوم القيامة، متسائلاً في آخر الأمر عن الذنب الذي جعل الأعراض نهباً يتقاسمه اللؤماء فيقول:

واللهُ بالغُ أمره في خلقهِ
ولئن مضيتُ لقَّلما يبقى الذي
فبأيّ ذنبٍ أصبحت أعراضُنا
 

 

وإليه مصدرُنا غداً والموردُ
قد كادني وليجمعَّنا الموعدُ
نَهْباً يُشيدُ بها الليئمُ الأوغدُ([58])
 

 

والحقيقة أن ألم السجن قد أثرّ في نفوس هؤلاء الشعراء الذين وجدوا في هذا المكان تقييداً مجحفاً لحرياتهم وسلباً ظالماً لارادتهم وقد مثلّت قصيدة ابن الجهم أنموذجاً رائعاً في هذا الموضوع لأنّ فيها مكابرةً وتحدياً ورؤية موضوعيةً جيدة.

خاتمة البحث والنتائج:

وبعد الانتهاء من هذه الرحلة مع الشعر الذاتي الذي صدر عن شعراء العصر العباسي الأول الذين ابتلوا بمحن الحياة وآفاتها يمكن الخروج بالنتائج الآتية:

  1. كان فقد البصر أشدَّ المصائب إيلاماً، وأكثرها حزناً على نفوس أصحابها وقد كان ذاتياً بحتاً، ذاك أن الشاعر الكفيف يشعر بنقصٍ حادٍ في شخصيته، لأن فقد العين يُفقدُ كلَّ أملٍ لديه في هذه الدنيا كما رأينا وذلك عند صالح بن عبد القدوس، ثم إنه يُحدّد مسار شخصية الكفيف ويجعله محتاجاً الى الأخرين حتى في ردّ السلام مثلما مرَّ بنا عن الحديث عن أبي الشيص الخزاعي والخريميّ.
  2. صورَّ الشعراء البائسون سوء حالتهم المادية بأساليب فكاهية تحملُ في طيّاتها شيئاً غير قليل من المرارة، ولم يصّور الشاعر البائس الفقير نفسه فحسب بل صوّر عائلته ومعاناتها.
  3. وأما شعر السجن فقد كان ذاتياً كلّه إلا قصيدة صالح بن عبد القدوس التي أشار فيها الى أصحابه من المسجونين ومعاناتهم فجاء هذا الشعر معبرّاً أصدق تعبير عن ذات الشاعر وما يحسُّ به من آلام لا يُدرك حجمها إلا من ذاق مرارتها وأكتوى بنيرانها.

المصادر والمراجع

1-  اتجاهات الشعر العربي، د. محمد مصطفى هدارة، ط، دار المعارف، مصر، 1963.

2- اسس علم النفس الجنائي، د. أحمد محمد الزعبي، ط دار زهران، عمان، 2010.

3- أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره، جمع وتحقيق عبد الله الجبوري، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1967.

4- أمالي المرتضى تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم، ط، البابي الحلبي، 1954.

5- الاعلام: خير الدين الزركلي، ط/ دار العلم للملايين، 1999.

6- الأغاني لأبي الفرج الاصفاني تحقيق أحمد زكي العدوي، ط القاهرة، دار الكتب المصرية، 1938.

7- تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، د. شوقي ضيف، ط دار المعارف، مصر، د .ت.

8- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ت(463هـ)، ط، دار الفكر للطباعة، (د.ت).

9- تجديد ذكرى أبي العلاء، د. طه حسين، ط9، ط، دار المعارف، مصر. د.ت.

10- ديوان الخريمي لأبي يعقوب اسحاق بن حسان 214، جمعه وحققه علي جواد الطاهر ومحمد جبار المعيبد، بيروت- لبنان، 1971.

11-  ديوان علي بن الجهم، عني بتحقيقه خليل مردم بك، ط، المطبعة الهاشمية، دمشق، 1949.

12- شعر المكفوفين، د. عدنان عبد العلي، دار اسامة للنشر والتوزيع، عمان – الاردن، 1999.

13- شعر صالح بن عبد القدوس، تحقيق عبد الله الخطيب، ط/ دار منشورات البصري، بغداد، 1967.

14- شعراء عباسيون، مطيع بن الياس، مسلم الخامس، أبو الشمقمق، غوستاف لوجون، غرونباوم، تحقيق محمد يوسف نجم، ط/ دار الحياة، بيروت، 1959.

15- الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور، د. شوقي ضيف، ط دار المعارف، مصر، 1977.

16- الشعراء الصعاليك: حسين عطوان، دار الطليعة، بيروت، 1972.

17- طبقات الشعراء لابن المعتز، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، ط دار المعارف، مصر، 1956.

18- فوات الوفيات، أحمد بن عبد الرحمن الكتبي (ت 416هـ)، تحقيق الشيخ علي معوض، والشيخ أحمد عادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000.

19- الورقة لأبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح، تحقيق عبد الوهاب عزام، وعبد الستار أحمد فراج، ط دار المعارف، مصر، د.ت

20- وفيات الأعيان لابن خلكان (ت 681هـ)، تحقيق د. احسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977.

 

[1]- اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري د. محمد مصطفى هدارة، ص174، ط/ دار المعارف، مصر، 1963.

[2]-  شعر المكفوفين، ص18.

[3]-  تجديد ذكرى أي العلاء، ص112.

[4]-  م. ن. ص112.

*  صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس الأزدي الجذامي مولاهم، أبو الفضل شاعر حكيم، كان متكلماً يعظ الناس في البصرة، شعره كله حكم وأمثال أتهم عبد المهدي بالزندقة فقتله. ينظر: أمالي المرتضى 1/100، فوات الوفيات 1/191، وفيات الأعيان 2/492.

[5]-  ديوان صالح بن عبد القدوس، ص128، ق12.

[6]-  شعر صالح بن عبد القدوس، ص128، ق12.

*  هو محمد بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل، وأبو الشيص لقب غلب عليه وكنيته أبو جعفر وهو عم دعبل الخزاعي، عمي في آخر عمره وله مراثٍ في عينيه (ت 196هـ)، أشار الخطيب البغدادي الى أنه ابن عم دعبل، وله قصيدته الضادية التي استحسنها الشعراء وأولها:

أبقى الزمان به ندوب عضاض        ورمى سواد قروتها ببياض

ينظر الاغاني 15/104، تاريخ بغداد 5/401.

[7]-  اشعار ابي الشيص، ص103.

[8]-  ديوان الخريمي: 77.

[9]-  ديوانه: 77,

[10]-  ديوانه 79.

[11]-  ديوانه: 61.

[12]-  ديوانه: 77.

[13]-  م.ن: 46. 

[14]-  العصر العباسي الأول، د. شوقي ضيف، ص45.

[15]-  ينظر العصر العباسي الأول، ص45.

[16]-  م.ن. ص51.

[17]-  الشعر وطوابعه الشعبية، ص88.

[18]-  اتجاهات الشعر في القرن الثاني الهجري، د. شوقي ضيف، ص177.

[19]-  الشعراء الصعاليك، د. حسن عطوان، ص93.

*  هو مروان بن محمد شاعر هجّاء من أهل البصرة خراساني الأصل: ينظر: تاريخ بغداد 13/146.

[20]-  شعراء عباسيون، ق2، ص131.

[21]-  المصدر نفسه.

[22]-  المصدر نفسه.

[23]-  طبقات الشعراء، ص127.

[24]-   المصدر نفسه.

[25]-  شعراء عباسيون، ق5، ص132.

[26]-  م.ن.

[27]-  طبقات الشعراء لابن المعتز، ص127.

[28]-   م.ن، وينظر شعراء عباسيون، ق25، ص140.

[29]-  طبقات الشعراء، ص376.

[30]-  م.ن.

[31]-  م.ن.

[32]-  طبقات الشعراء، ص376.

[33]-  شعراء عباسيون، ق45، ص149.

[34]-  الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور، د. شوقي ضيف، ص88.

[35]-  طبقات الشعراء، ص377.

[36]-  الشعر وطوابعه، ص89.

[37]-  طبقات الشعراء، ص378.

[38]-  م.ن.

[39]-  شعراء عباسيون، ق23، ص138.

[40]-  م.ن.

[41]-  شعراء عباسيون، ق37، ص145.

*  هو محمد بن ذؤيب بن محمد بن قدامه الحنظلي الدارميّ راجز من بني تميم. ينظر: الأعلام للزركلي.

[42]-  طبقات الشعراء، ص113.

[43]-  طبقات الشعراء، ص113.

[44]-  ينظر أسس علم النفس الجنائي، ص281، أحمد محمد الزعبي، دار زهران، عمان، 2010.

[45]-  شعر صالح بن عبد القدوس، ص137، عبد الله الخطيب، ط دار منشورات البصري، بغداد، 1967.

[46]-  م.ن.

*  علي بن الجهم هو أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر بن الجهم.... الشاعر المشهور أحد الشعراء المجيدين وله وقد حبس أبياته المشهورة التي أولها قالت: حُبست وهي أبيات جيدة في هذا المعنى لم يُعمل مثلها) وفيات الأعيان 3/355.

[47]-  ديوان علي بن الجهم، ق78، ص169 تحقيق خليل مردم بك.

[48]-  الأغاني 10/213 تحقيق أحمد زكي العدوي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1938. 

[49]-  م.ن. 

[50]-  وفيات الأعيان 3/355، تحقيق: د. احسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977. 

*  الغيل:

*  الفرقد:

[51]-  ديوان علي بن الجهم: 41.

[52]-  م.ن.

[53]-  ديوان علي بن الجهم: 42.

[54]-  ديوانه: 45.

[55]-  ديوانه: 46.

[56]-  ديوان:46.

[57]-  م.ن.

[58]-  م.ن.