من صفحة: 240
إلى صفحة: 251
النص الكامل للبحث: PDF icon 180420-230304.pdf
خلاصة البحث:

كان لظهور عبد الله ابن المقفع في القرن الثاني من الهجرة، أثر عام وتام في الثقافة الإسلامية والعربية فهو أول من قام بترجمة الكتب المنطقية، كما كان مشبعاً بالثقافة الفارسية وملماً بالتراث واللغة العربية. للمتفحص في كتابيه الصغيرين  الأدب الصغيـر والأدب الكبيـر أن يلاحظ تأثره البالغ بكلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام.

استخدم ابن المقفع كلام الإمام ـ حرفياً ومضموناً ـ لكن دون أن يذكر اسمه وليس ذلك إلا خوفاً من السلطات العباسية التي كان يعمل موظفاً لديها.

حاول هذا البحث ـ بعد إعطاء صورة لحياة ابن المقفع ومعتقداته – أن يبيّن مدى تأثر ابن المقفع في الأدب الصغيـر والأدب الكبير بكلام سيد البلغاء وإمام العارفين نصاً ومضموناً.

إنّ ما اعتمدناه من كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام هو ما جُمع في نهج البلاغة وغرر الحكم ودرر الكلم، وأشرنا إلى كتب أخرى من تأليف السلف، حيث نسبوا تلك العبارات والعبر والحكم للإمام علیه السلام، ولكن ابن المقفع ـ كما أشرنا ـ لم ينسب أياً منها للإمام بل ليس له دور فيها سوى نقلها كما هي أحياناً وبتحويرها في أحايين أخرى

البحث:

المقدمة

لقد أطلّ ابن المقفع على عصره إطلالة الحكيم الذي لا يهتم إلا بالعقل وأموره وكان من أبرز كتّاب القرن الثاني للهجرة. حاول من خلال كتاباته أن يأتي بالوصايا السياسية والإجتماعية والخلقية غايتها إصلاح المجتمع، ففاض كتاباه الأدب الصغير والأدب الكبير بهذه الحكم والوصايا.

هناك من نسب نص الكتيّبين للفرس باعتبار أنها ترجمة من الأدب الفهلوي، وحكمها مأخوذة من ثقافة حكماء الفرس، مِن قائل أرجع مادة الكتاب إلى ما استقاه ابن المقفع من كلام الإمام علي علیه السلام، وقال بعضٌ أن مرجع هذه الحكم والنصائح، كتاب كليلة ودمنة الذي قام ابن المقفع بترجمته إلى العربية.

حاول هذا البحث استجلاء الرأي السليم وذلك نظراً لما ورد في هذين الكتابين الصغيرين والإجابة عن بعض الأسئلة: هل تأثر ابن المقفع بكلام الإمام علیه السلام؟ ولو كان الجواب بالإيجاب فما هو مدى تأثره به؟ وبأي طريق استفاد من كلام الإمام علیه السلام؟ وهل هذه العملية تسمي سرقة أدبية؟

لهذه الدراسة تمهيدات هي: عرض موجز من حياة ابن المقفع ومذهبه، وذكر آثاره، ثم معالجة مدى تأثر ابن المقفع في كتابه بكلام الإمام علیه السلام في قسمين: ما أورده ابن المقفع من نص كلام الإمام علیه السلام بعينه وحرفيته، وما أتى به ناقلاً لمضمون كلامه علیه السلام.

كان على الباحثَين لهذا المقال أن يقرءا الأدب الصغير والأدب الكبير وما ورد عن الإمام علیه السلام في نهج البلاغة وكتاب غرر الحكم ودرر الكلم وبعد هذا العناء، كان عليهما أن يقوما بمقايسة كلام الإمام علیه السلام وكلام ابن المقفع. يعترف الباحثان بأنهما ـ وإن بذلا قصارى جهدهما ـ لكنه لولا عناية الله بهما ورحمته عليهما لما تكامل البحث، كما يعترفان أن بحثهما لم يقم بكل صغيرة وكبيرة، فهناك ما خفي عنهما، ويأملان أن يكون جهدهما المتواضع، تمهيداً لدراسات أخرى، ولا كمال إلاّ لله.

حياته

هو أبو محمد عبدالله روزبه بن داذويه المعروف بابن المقفع، فارسي الأصل  والمولد. كان والده من مجوس مدينة جور الفارسية وهي مدينة فيروز آباد الحالية. ولد نحو سنة 106هـ/724م وقضى بضع سنين في فارس متعلماً الثقافة الفارسية يدين بالزرداشتية (الزركلي، د.ت، ج4، ص283؛ البغدادي، د.ت، ج3، ص459؛ العسقلاني، 1986م، ج3، ص366؛ ابن خلكان، د.ت، ج2، ص151؛ الجهشياري،1938م، ص74؛ كرد علي، 1969م، ص87؛ كرد علي، 1950م، ص57 ـ 66؛ الفاخوري، 1377هـ.ش، ص437؛ ضيف، د.ت، ص507؛ محمدي ملايري، 1380هـ.ش، ج4، ص129 ـ 130؛ آشتياني، 1382هـ.ش، ص31 ـ 33).

نزل البصرة راغباً في تحصيل العلم ومصاحبة الأدباء والشعراء والمتكلمين. وكان مولى لآل أهتم الذين ذاع صيتهم بالفصاحة والبلاغة والبيان فاستعرب بسرعة وحصل على القسط الوافر من اللغة العربية وأتقنها إلى جانب الفارسية.

كان أبوه يعمل في دواوين الخراج للحجاج فمدّ يده في أموال السلطان فضربه الحجاج ضرباً حتى تقفعت يده ولُقّب بالمقفَّع فسمي روزبه ابن المقفع (ابن خلكان، د.ت، ج2، ص155).

أخذ طريقة أبيه، فعمل في دواوين العراق في عهد بني أمية وكتب لعمر بن هبيرة. ولما ولي العباسيون الحكم، اتصل بعيسى بن علي ـ عمّ السفاح و المنصور ـ والي الأهواز وعلى يده أعلن إسلامه وتكنى بأبي محمد (ابن النديم، د.ت، ص118).

تحدثنا آثاره أنه كان بليغاً فصيحاً، وكاتباً مبدعاً، يضع كلامه في الموضع الدقيق، وعالماً فطناً. يقول فيه الجاحظ: «إنه كان مقدماً في بلاغة اللسان، والقلم، والترجمة، واختراع المعاني، وإبداع السير» (الجاحظ، 1991م، ج3، ص44). كما كان واسع الإطلاع على ثقافات الأمم الأخرى كالإغريقية والهندية. يقول أبوحيان التوحيدي في توصيف مدى اطلاعه: «كان ابن المقفع يقف قلمه كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره» (التوحيدي، 1997م، ج1، ص52).

كان متضلعاً في الأدب الفارسي قدر اطلاعه من العربية وجمع بين الأدبين ونقل إلى العربية عن الفارسية وقام بترجمتها حسب القوالب العربية الملائمة للذوق العربي. والحق أنه كان آية في البلاغة وجزالة القول ورصانة الكلام مع سهولته ولعل خير ما يصف بلاغته إجابته للسائل عن البلاغة، فقال: «هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها» (الحموي، 1980م، ج16، ص129).

وهو إلى جانب ذلك، كان نبيل الخلق، عفيف النفس، طيب المعشر، بذل جهده في إصلاح الراعي والرعية وزيّن نفسه بكل ما يمكن من الخصال الحسنة، كالمروءة والكرامة. يقول الجهشياري: «إنه كان سخياً، سرياً، يطعم الطعام ويتسع على كل من احتاج إليه» (الجهشياري، 1938م، ص75).

فكانت نهايته أن أغرى به المنصورُ سفيانَ بن معاوية والي البصرة فقتله سنة 142هـ/760م (المصدر السابق، ص70 ـ 75). للباحث المدقق المنصف أن يجد ابن المقفع قد اتخذ في حياته حرية الرأي والصدق في القول والعمل، ولعل كل ذلك أدى إلى قتله كما قال شوقي ضيف: «كان طبيعياً أن يثور المنصور لكرامته وأن يوعز سفيان بقتله» (ضيف، د.ت، ص509).

مذهبه وإسلامه

سبق أنّ والد روزبه كان مجوسياً نشأ على دين آبائه حتى اتصل بعيسى بن علي؛ والي الأهواز وأعلن إسلامه على يده. وأما نفسه فقد تضاربت الآراء في الكتب التاريخية بصدد مذهبه وإسلامه. هناك من اتهمه بالزندقة (ابن خلكان، د.ت، ج2، ص151؛ ضيف، د.ت، ص523)، مستندين إلى أقوال كقول المنصور العباسي وعامله سفيان بن معاوية والمهدي العباسي. يقول المهدي: «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع» (ابن خلكان، د.ت، ج2، ص151). لكن ومن جانب آخر، هناك أخبار تدل على بغض هؤلاء وعداوتهم إليه، كما أشار الجهشياري إلى عداوة سفيان بن معاويه ـ قاتل ابن المقفع: «كان يضطغن على ابن المقفع أشياء كثيرة منها أنه كان يهزأ به» (الجهشياري، 1938م، ص75).

وهناك من يلجأ إلى الشك و الظن في دين ابن المقفع ولا دينيته: «والظاهر أنه لم يسلم إلا مراعاةً للأحوال وتقرباً إلى مواليه العباسيين وقد اتهم بالزندقة والظاهر أنه لم يخل من شيء من ذلك» (الفاخوري، 1377هـ.ش، ص438).

ومنهم من يعتقد بإسلامه وصحة إيمانه؛ وهو رأي صاحب كتاب أمراء البيان: «صحة الإيمان وحب الإسلام صفتان متماثلان في ابن المقفع مهما تقوّل عليه المتوقلون... ليس فيه جمود الفقهاء ولا استهتار الأدباء، فهم من الدين ما فهمه منه كل عاقل» (كرد علي، 1969م، ص107).

وعلى أية حال، سواء آمن قلباً أو طمعاً في الوصول إلى مراكز الصدارة والسلطة، علينا أن ننظر في آثاره دون الاكتراث إلى التقولات، فإنها أصدق دليل على خلجات نفسه وعقيدته وسلوكه، وعلينا نحترم فهمنا علّنا نصل إلى حكم سديد في مؤلف الأدب الصغير والأدب الكبير الذي دعا إلى طاعة الله وشكر نعمه، حيث قال: «من أخذ بحظه من شكر الله وحمده و... فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عنده والوسيلة إليه (ابن المقفع، 1971م، ص32).

ليس ابن المقفع أول من اتهم بالإلحاد والكفر فقد اتهم قبله وبعده الكثير من عباقرة الأمة ـ كالجاحظ ـ حسداً عليهم وحقداً؛ فليس الاتهام بالزندقة سوى ادعاء كذب، أتى به مبغضوه (آشتياني، 1382هـ.ش، ص42).

 

آثاره

لابن المقفع آثار كثيرة تشهد بعظم فضله وسعة علمه أكثرها ترجمت من اللغات الأخرى سيما لغته الأم، الفارسية. يمكننا أن نقسم آثاره إلى قسمين:

آثاره المفقودة

لابن المقفع كتب تطاول عليها الزمان ولم يصلنا منها سوى عناوينها، منها: خُداي نامه في سير ملوك العجم، وآيين نامه في عادات الفرس وآدابهم، والتاج في سيرة أنوشروان، وكتاب مزدك، واليتيمة في الرسائل، وكتبه المنقولة من آثار ارسطو.

آثاره الموجودة

ـ كليلة ودمنة؛ كتاب وضع على ألسنة البهائم والطير؛ نقله من الفهلوية في قوالب اللغة العربية لإصلاح النظام الحاكم آنذاك.

ـ الأدب الصغير والأدب الكبير؛ ألفهما بعد كتاب كليلة ودمنة لأنهما يتضمنان بعض الحكم والأمثال الواردة فيه. وهذان الكتيّبان يتناولان قضايا أخلاقية ونصائح في المعاش والسلوك.

ـ رسالة الصحابة؛ كتبها ابن المقفع لأبي جعفر المنصور.

لم ينسب إليه أثر منظوم وعندما سئل عنه لم لا تقول الشعر؟ قال: الذي يجيئني لا أرضاه والذي أرضاه لا يجيئني (الزمخشري، 1410هـ، ج4، ص257).

تأثر ابن المقفع بكلام الإمام علي علیه السلام في الأدب الصغيـر والأدب الكبيـر

إنّ الأدب الصغير كتيّب يتضمن الوصايا الخلقية والإجتماعية المحمودة للعلم والعقل، وتشجع المرء في تأديب النفس وتحذره عن الخصال المذمومة، كالعجب والحرص والطمع. يذكر فيه الكاتب بعض خصال الصديق وكيفية تعامل الأصدقاء بعضهم بعضاً ويتحدث عن سياسة الملوك.

أما الأدب الكبير، فهو كتيّب أكثر طولاً من الأدب الصغير، فإنه مقسّم إلى بابين؛ يتضمن الباب الأول الكلام حول السلطان وذلك في قسمين: قسم يتعلق بالشؤون الشخصية في حياة السلطان وصفاته وكيفية التعامل مع عماله ورعيته وما يتعلق به. والآخر يتعلق بكيفية تعامل الرعية مع السلطان. أما الباب الثاني فيحوي كلامه في الصديق وحسن العلاقة بين الناس والتأدب في معاملة الأصدقاء. فلابن المقفع نصائح في اختيار الصديق، يحاول فيها تبيين خصاله وكيفية المعاشرة له. فهما كما يبدو من اسميهما، كتابان في مجال الأخلاقيات والاجتماعيات. وعلى كل حال فالكتيّبان مقرونان من قديم الزمن في المخطوطات والمنشورات ولهذا نعتبرهما في هذا المقال كتابا واحدا تسهيلا للكتابة والقراءة.

هناك من يعتبر هذا الكتاب ـ كله أو أكثره ـ ترجمة من الأدب الفهلوي واللغة الفارسية، ويعتقد بنقل ابن المقفع لهذه الحكم والوصايا الإيرانية من الأدب الساساني إلى العربية؛ فذكرها ابن النديم في  الفهرست إلى جانب ما نقل من كتب الفرس (ابن النديم، د.ت، ص132)، كما قال شوقي ضيف في الأدب الكبير إن «وصايا الرسالة إما نقل عن القدماء مما قرأ في الأدب الساساني السياسي والأخلاقي وإما استنباطات وصل إليها على هديهم» (ضيف، د.ت، ص513).

فكثير من اعتبر جذور هذا الكتاب ومادته مستقاة من أصل فارسي، ونلاحظ أنهم ينسبون بعض حكمها وجملها إلى حكماء الفرس كأردشير، وبزرجمهر، وكسرى، فعلى سبيل المثال جاء في الأدب الصغير: «وليستوحِش مِن الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شَبِعَ» (ابن المقفع، 1971م، ص78)؛ نسبها الزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (1992م، ج3، ص221)، وابن خلكان في وفيات الأعيان ( د.ت، ج 3، ص 231) لأردشير، وما أكثر هذه النسب لغير ابن المقفع من حكماء بلاد فارس وكنوزهم.

إنّ ابن المقفع، هو الذي اعترف قبل كل أحد وصرح بنقل كلام الآخرين في كتابيه الأدب الصغير: «قد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب» (ابن المقفع، 1971م، ص15)، و الأدب الكبير: «منتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدِيَ بسيرتهم... ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدُ واصف بليغ في صفة له مقالاً لم يسبقوه» (المصدر السابق، ص64 ـ 65).

ومضافاً إلى هذا التصريح للباحث في هذا الكتاب أن يجد كثيراً من العبارات التي توحي بالأخذ والاقتباس كقول الكاتب «قال الحكيم» و«سمعت العلماء قالوا» وما شابه ذلك. وكل هذه تدل على عملية جمع ونقل الأقوال والآراء الحكمية والوصايا العظيمة المتوفرة قبله.

ونقله عن حكام فارس وحكمائها، لا ينفي اقتباسه عن علي بن أبي طالب علیه السلام، وتأثره بكلامه فإن ابن ابن المقفع قد بلغ من البلاغة ذروتها، وكان بليغاً فصيحاً اعترف بفصاحته وبلاغته أكثر العلماء والباحثين. فكيف له أن يكون مستغنياً عن بلاغة إمام الفصحاء وسيد البلغاء ـ على حد تعبير أبي الحديد المعتزلي ـ وهو الذي اعترف الأدباء والكتاب قديماً وحديثاً ببراعة أسلوبه وجمال بيانه.

وابن المقفع صديق وفيّ لعبد الحميد الكاتب، بحيث أراد أن يبذل نفسه في سبيل حفظ هذا الآخر (الجهشياري، 1938م، ص52؛ ابن خلكان، د.ت، ج3، ص231)، والحال أن عبدالحميد هو القائل: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع فغاضت ثم فاضت» (ابن أبي الحديد، 1377هـ.ش، ج1، ص205 ـ 206).

لاينبغي أن نكتم مدى أثر الكلام العلوي وبلاغته وانطباعاته على آثار ابن المقفع سيما الأدب الصغير والأدب الكبير؛ كما صرح إليه بعض الباحثين، كمحمد كردعلي (1969م،  ص89)، وحسين علي جمعة (2003م، ص108). ويجلى الأثر أكثر وضوحاً عند إمعان النظر في هذا الكتاب ومقارنة بعض جمل ابن المقفع بكلام الإمام علیه السلام.

منها على سبيل مثال ما جاء في الأدب الصغير: «سمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق و...» (ابن المقفع، 1971م، ص57)، فلا شك بأن هذه العبارة تبادر إلى الذهن الحكمة 113 من نهج البلاغة حيث قال علیه السلام: «ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى ولا قرين كحسن الخلق» (نهج البلاغة، 1387هـ.ش).

لقد سلك ابن المقفع شتى الطرق والأساليب للأخذ من كلام علي علیه السلام؛ من الإيتان بنفس كلام الإمام والاقتباس منه والتضمين لكلامه حيناً استخدام مضمون كلامه وجعله في قالب جديد وصياغة مختلفة.

·الإتيان بنفس تعبير الإمام علیه السلام

والمراد منها كل عبارة أتى بها ابن المقفع في كتابه من تعبيرات أمير المؤمنين علیه السلام لم يغيرها؛ من حكمة وخطبة وكتاب وهي حسب ما حققنا 16 عبارة، نأتي بها واحدة بعد أخرى، ذاكرين مصادرها، وذلك تأكيداً بأنها وردت من الإمام علیه السلام، لم يكن ابن المقفع قائلها ومبدعها، بل نقلها كما هي برمتها إلاّ أنه قد تصرف يسيراً بنصها في مواضع.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: الظَفَر بالحزمِ، والحَزمُ بإجالة الرأى و الرأي بتَحصينِ الأسرارِ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 48).

  فلم يفعل ابن المقفع إزاء هذه الحكمة شيئاً إلاّ أنه ذكرها تماماً: الظفر بالحزمِ، والحزم بإجالة الرأى والرأي بتحصينِ الأسرارِ (ابن المقفع، 1972م، ص53).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 390).

قال صاحب الأدب الصغير والأدب الكبير: وعلى العاقل أن لا يكونَ راغباً إلا فى إحدى ثلاث: تزودٍ لمعادٍ، أو مَرَمَّةٍ لمعَاشٍ، أو لذةٍ في غَيرِ مُحَرَّمٍ (ابن المقفع، 1971م، ص22).

اعتبرها ابن حمدون في التذكرة الحمدونية من كلام الإمام علیه السلام ولكن نسبها ابن القتيبة في عيون الأخبار ( د.ت، ج1، 280)، والمعافي بن زكريا في الجليس الصالح (2003م، ص2113)، وأبو أحمد العسكري في المصون في الأدب (1960م، ص138) إلى النبي داود علیه السلام.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 73).

يقول ابن المقفع: مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً في الدينِ، فعليه أن يَبدَأ بِتَعليمِ نَفسِهِ (ابن المقفع،1971م،ص24).

وهي عند ابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص499)، والإبشيهي في المستطرف في كل فن مستظرف (1993م، ص25)، والزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1992م، ج4، ص21) من كلام الإمام علیه السلام.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَاكَرَمَ كَالتَّقْوَى وَلَا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلُق. (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 113).

كما قال علیه السلام: لَا ورعَ كالكف (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج2، ش18، ص830).

ونسبها ابن المقفع للعلماء حيث قال: وسمعتُ العلماء قالوا: لا عقلَ كالتَّدبِيرِ، ولا وَرَعَ كالكَف، ولا حُسنَ كحُسنِ الخلقِ (ابن المقفع، 1971م، ص57).

قالها الإمام علیه السلام كما نقل ابن الشجري في الأمالي الشجرية (2003م، ص819)، وابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص499).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: لا يتمّ حُسن القَولِ إلّا بحُسنِ العَمَل (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج2، ش361، ص848).

فلم يغيّر ابن المقفع إلاّ مفردة تحمل نفس المعنى: لا يتمّ حُسن الكلامِ إلا بحُسنِ العَملِ (ابن المقفع،1971م، ص57).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: إخوانُ الصّدقِ زينة في السّرّاء وعدّة في الضّرّاء (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج1، ش1829، ص73).

لقد أعاد صياغتها ابن المقفع بقوله: اعلم أنّ إخوانَ الصدقِ هُم خيرُ مَكاسبِ الدُّنيا، هم زينة في الرّخاء، وعدةٌ في الشدةِ (ابن المقفع،1971م، ص108).

وهي كما ادّعى الجاحظ في المجالس والأضداد (2000م، ص46)، وإبراهيم بن البيهقي في المجالس والمساوي (1984م، ص376) من كلام النبي 6.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَصَبْرٌ عَمَّا تُحِبّ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 55).

ونرى نفس المشهد للصبر عند ابن المقفع بإضافة مفردات: واعلم أنّ الصَّبر صَبرانِ: صبرُ المَرءِ عَلى ما يكرَهُ، وصبرُه عَمَّا يُحِبّ (ابن المقفع، 1971م، ص110).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: اللّئامُ أصبرُ أجسَاداً، الكِرَامُ أصبرُ أنفَاسَاً (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج1، ش645، ص23).

ولا فرق بينها وبين ما قاله ابن المقفع بعد عدة أعوام: واعلم أن اللئامَ أصبر أجسَاداً، وأنَ الكرامَ هم أصبر نفوساً (ابن المقفع، 1971م، ص109).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَاللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة49).

وقد قام ابن المقفع بتوزيع النص العلوي فأخرجها على صورة مماثلة في الألفاظ والمعاني: وليستوحِش مِن الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شَبِعَ (ابن المقفع، 1971م، ص78).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: مِن أشَدّ عيوبِ المرَء ِأن تخفَى عَلَيهِ عُيُوبه (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج2، ش42، ص727).

ذكرها ابن المقفع بتغيير طفيف جداً: من أشدّ عيوبِ الإنسان خفاءَ عُيُوبه عَلَيهِ (ابن المقفع، 1971م، ص50).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام:... أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِك (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الرسالة 72).

 لم يحذف ابن المقفع من العبارة إلاّ التأكيد التي تصدرت به: والدنيا دول، فما كان منها لك أتاك على ضعف، وماكان عليك لم تدفعه بقوتك (ابن المقفع،1971م، ص27).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: لَا مَالَ أعوَدُ مِنَ العَقلِ ( نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة113).

يقول ابن المقفع: لا مالَ أفضَلُ مِن العَقلِ (ابن المقفع،1971م، ص27).

وهي للإمام علیه السلام كما ذكر ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد (1983م، ج2، ص252)، و اليوسي في زهر الأكم (2003م، ج3، ص49).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يَرُمُّ مَعَاشَهُ وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُل (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة390).

ولقد استل ابن المقفع روح عبارة الإمام وأضاف عليها حسب الظروف قائلاً: على العاقل أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل (ابن المقفع،1971م، ص22).

والعبارة مما نسبها ابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص499) إلى الإمام علیه السلام.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ وَلَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً َإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وَصِلُّ وَادٍ لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً وَكَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ وَكَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ وَكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ وَكانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَيُخَالِفُهُ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 289).

وهذه الحكمة البالغة خير شاهد على تأثر ابن المقفع في كتابه بابن أبي طالب علیه السلام: إني مخبركَ عن صَاحبِ لي، كانَ أعظمُ النَّاسِ في عَينِي، وكَان رَأسُ مَا أعظمه عندي، صِغَرُ الدُّنيا في عَينِهِ، كان خارجاً مِن سُلطانِ بَطنِه، فلا يشتهي ما لا يجدُ ولا يُكثر إذا وجدَ، وكان خارجاً من سلطانِ فَرجِهِ فلا يدعو إليه مروءته، ولا يستحِقُ رأياً ولا بدناً وكان خارجاً من سلطانِ الجهالةِ فلا يقدم إلّا على ثقةٍ أو منفعةٍ، وكان أكثر دهرهِ صامتاً فإذا قال بذَّ القائلينَ، كان يُرى متضعفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد فهو الليثُ عادياً. وكان لا يدخلُ في دعوى ولا يُشركُ في رأي ولا يدلي بحجةٍ حتى يجد قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً، وكان لا يلوم أحداً على ما قد يكون العذرُ في مثلِه حتى يعلمَ ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعاً إلا لمن يرجو عنده البرء، ولا يصحب إلا إلى مَن يرجو عندهُ النصيحة. وكان لا يتبرمُ ولا يتسخطُ ولا يتشهى ولا يتشكى فهو لا ينتقم من الولي، ولا يغفلُ عندَ العدوِ، ولا يخص نفسَهُ دونَ إخوانِه بشيءٍ من اهتمامِه وحيلتِه وقوتِه (ابن المقفع، 1971م، ص133).

وهي على ما نقله الزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (1992م، ج2، ص157) من كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: احترِسوا مِن سَورَةِ الجمد والحِقدِ والغَضَبِ والحَسَدِ وأعدوا لِكلِّ شيءٍ مِن ذلك عُدَّةً تُجاهِدُونَ بِهَا (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج1، ش87، ص139).

ذكرها ابن المقفع بتغييرات موجزة: احترِس مِن سورَةِ الغَضَب وسُورَةِ الحَمية وسورَةِ الحِقدِ وسورَةِ الجَهلِ وأعدد لكلِّ شيءٍ مِن ذلك عدةً تجُاهِد بِها (ابن المقفع،1971م، ص109).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: وَلَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْه ( نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الرسالة 53).

جاء بها ابن المقفع كرسالة أمير لعامله، وكان دون شك، مكرراً قول الإمام: حقُّ الوالي أن يتفقّد لطيفَ أمورِ رعيتِهِ فضلاً عن جسيمِها فإن للطيفِ موضعاً ينتفعُ به وللجسيم موضعاً لا يستغنى عَنهُ (ابن المقفع، 1971م، ص77).

ذكرها ابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص404)، والنويري في نهاية الأرب في فنون الأدب (2003م، ص3680) من أقوال الإمام علي علیه السلام.

 

·الإتيان بالمضمون

هناك عبارات من كلام أمير المؤمنين علیه السلام أوردها ابن المقفع بمضامينها لا بنصها، صاغها في قوالب جديدة نأتي بها.

إنّ هذا الكتاب حافل بحكم ومواعظ اتخذت مادتها وجوهرها من كلام سيد البلغاء. تحتوي على مواعظ في محاسبة النفس، وصفات الحاكم وحقه على الرعية وحق الرعايا عليه، وآداب المعاشرة مع الصديق وضرورة اختياره وكيفيته، وذم الخصال المذمومة كالحسد والحقد.

والجدير بالذكر أن ابن المقفع لم يكتف بنقل مضمون كلام الإمام بل قام بدور مفسرٍ لكلامه علیه السلام محاولاً تبيين مصاديق كلامه وخباياه.

  1. قال علیه السلام في تعريف الزهد: وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَلَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 439).

وقال ابن المقفع: على العاقلِ أن لا يحزن عَلى شيءٍ فاتَه مِن الدُّنيا أو تولى. (ابن المقفع، 1971م، ص21)، ولا شك أن كليهما تأثر بكلام الله عز وجلّ: " لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُم" (الحديد 57: 23).

لقد اعتبر ابن حمدون في التذكرة الحمدونية ( 2003م، ص79)، والزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1992م، ج2، ص171)  هذه العبارة من كلامه علیه السلام.

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: أَشَدُّ الذُّنوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهَا صَاحِبُهُ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة 477).

فذكرها ابن المقفع وأضاف عليها في التعبير وبادر ببيان بعض مصاديق هذه الذنوب وقال: على العاقلِ أن لا يستصغر شيئاً مِن الخطأِ في الرأي والزلل في العلمِ والإغفالِ في الأمورِ. فإنّه مَن استصغر الصغير أوشك أن يجمعَ إليه صغيراً وصغيراً فإذا الصغير كبيرٌ (ابن المقفع،1971م، ص23).

وهذه العبارة على رأي ابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص64)، والزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1992م، ج2، ص108) من كلامه علیه السلام.

  1. أوصي الإمام علیه السلام مالك الأشتر النخعي حين ولاه مصراً في القيادة والعلاقات الاجتماعية قائلاً: وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإحْسَانِ فِي الْإحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإسَاءَةِ عَلَى الْإسَاءَة (نهج البلاغة، 1387ه.ش، الرسالة 53/34).

لقد جاء ابن المقفع بهذا المشهد ناصحاً الحكامَ والعمال وقال: ثم على الملوك بعد ذلك تعهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن وإساءة مسيء. ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءة والعجز (ابن المقفع،1971م، ص26).

  1. وفي وصيته لابنه الحسن (عليهما السلام): يَا بُنَيَّ اجْعَلْ  نَفسَك مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الرسالة 31/55).

فاستمد ابن المقفع بكلام الإمام علیه السلام وقال: إعدل السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك (ابن المقفع، 1971م، ص39).

  1. قال علیه السلام: وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَمَقَالَةُ الْجُهَّال (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الرسالة142).

وقال علیه السلام في موضع آخر: وَاضِعُ العِلمِ عِندَ غيرِ أَهلِهِ ظَالِمٌ لَه (غرر الحكم ودرر الكلم، د.ت، ج2، ش68، ص 786).

فاقتبس ابن المقفع هذا المضمون بقوله: واعلم أنه ليس من علم تذكروه عند غير أهله إلا عابوه (ابن المقفع، 1971م، ص127).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلا (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الرسالة53/36).

استمد ابن المقفع بهذا الكلام حين كتب: لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيباً موفوراً يرَوّح به عن قلبه ويصدر عنه في أعماله (ابن المقفع،1971م، ص78).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُم (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الخطبة 34/10).

ذكر ابن المقفع هذا المضمون تحت عنوان "حق السلطان المقسط" وقال: إنَّ للسلطانِ المقسطِ حقاً لا يصلحُ بخاصةٍ وعامةٍ أمرٌ إلا بإرادتهِ، فذو اللّب حقيقٌ أن يخلُص لهُم النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتم سرّهم، ويذبُّ بلسانه ويده (ابن المقفع، 1971م، ص37).

  1. قال أمير المؤمنين علیه السلام: صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ (نهج البلاغة، 1387هـ.ش، الحكمة263).

ونرى ابن المقفع يكرر نفس الصورة ويأتي بنفس المفردات: إنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه وهو لمركبه أهيب (ابن المقفع،1971م، ص75).

نُسب هذا القول لعلي ابن أبي طالب علیه السلام من قِبل كلّ من ابن حمدون في التذكرة الحمدونية (2003م، ص437)، وبهاء الدين العاملي في الكشكول (2003م، ص215)، والزمخشري في ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1992م، ج5، ص190).

يستنتج مما سبق أن ابن المقفع استعان في بيان الحكم والمواعظ بكلمات الإمام علیه السلام تعبيراً ومضموناً، كما خطّ في بداية كتابه أنه نقل من كلام الناس المحفوظ، فإنه وإن نقل من كلام الإمام علیه السلام دون أن يذكر اسمه لكنّه لم يقصد السرقة الأدبية المعروفة، فإنه أشار في كتابه: «إن سمعت من صاحبك كلاماً أو رأيت منه رأياً يعجبك فلا تنتحله تزيناً به عند الناس... واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك وأنه فيه مع ذلك عاراً وسخفاً» (ابن المقفع، 1971م، ص98).

فكيف بمن يعتبر الانتحال عيباً وعاراً ويحذر الآخرين منه ويذمه يورد من كلام غيره وينسبه لنفسه وهو القائل: «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه» (المصدر السابق، ص24)؟! نعم، ليس ذلك إلاّ خوفاً من السطوة العباسية التي كان هو من عمّالها من جانب ومن شيعة ابن أبي طالب علیه السلام من جانب آخر فاتخذ التقية طريقاً لنقل كلام الإمام حتى قيل: «إنه كان علوي السياسة، فارسي النزعة» (الفاخوري، 1377هـ، ص438).

لم يورد ابن المقفع كلام إمامه سارقاً له ناسبه لنفسه، وإنّما قساوة الظروف أملت عليه أن يعيد كتابة ما قد قاله الإمام إجلالاً له، وليس لأحد أن يتهمه بالسرقة الأدبية.

الخاتمة

  • كان ابن المقفع من اكبر مترجمي القرن الثاني للهجرة، متضلعاً بحرفة الكتابة وصنعة التأليف، باذلاً غاية جهده وهمه في إصلاح النظام الحاكم آنذاك.
  • وقد ترك آثاراً كثيرة من ترجمة وتأليف وسقط أكثر إنتاجه من يد الزمان ولم يصل إلينا إلا كليلة ودمنة، والأدب الصغير والأدب الكبير، ورسالة الصحابة.
  • يجمع الأدب الصغير والأدب الكبير بين دفتيه، المواعظ والحكم الأخلاقية والاجتماعية وكما ذكر المؤلف في بداية الأدب الصغير، أنه وضع هذا الكتاب من كلام الناس، ولم يذكر اسم من نقل عنه، وكان الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام ممن أخذ ابن المقفع من معينه.
  • كان ابن المقفع شديد التأثر ببلاغة الإمام علیه السلام، حيث نهل من كلامه ما نهل تعبيراً ومضموناً لكن دون أن يذكر اسم الإمام وذلك خوفاً من بطش العباسيين.
  • وهناك عبارات ليست بقليلة نقلها ابن المقفع من كلام الإمام علیه السلام بنصها دون أي تغيير.

المصادر و المراجع

  • القرآن الكريم
  • نهج البلاغة. ترجمه محمد دشتي. قم: دار الفكر، 1387هـ.ش.
  1. آشتياني، اقبال. شرح حال عبدالله بن المقفع. تدوين عبدالكريم جزبره‌دار. تهران: اساطير، 1382هـ.
  2. الإبشيهي، محمد بن احمد. المستظرف في كل فن مستطرف. شرحه مفيد محمد قميحة. بيروت: دار الكتب العلمية، 1413هـ/1993م.
  3. ابن أبي الحديد، عزالدين أبوحامد. شرح نهج البلاغة. تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم. قم: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1377هـ.ش.
  4. ابن‌حمدون، محمد بن الحسن. التذكرة الحمدونية. الموسوعة الشعرية. الإصدار 3. القرص الكمبيوتري. أبوظبي، الأمارات العربية المتحدة: المجمع الثقافي، 2003م.
  5. ابن خلكان، أحمد بن محمد. وفيات الأعيان. تحقيق حسن عباس. بيروت: دار الثقافة، د.ت.
  6. ابن الشجري، هبة الله بن علي. الأمالي الشجرية. الموسوعة الشعرية. الإصدار 3. القرص الكمبيوتري. أبوظبي، الأمارات العربية المتحدة: المجمع الثقافي، 2003م.
  7. ابن عبدالبر الأندلسي، محمد. العقد الفريد. شرحه وضبطه أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري. بيروت: دار الكتب العربية، 1403هـ/1983م.
  8. ابن المقفع، عبدالله. الأدب الصغير والأدب الكبير. بيروت: دار صادر، 1971م.
  9. ابن نديم، محمد بن إسحاق. الفهرست. بيروت: مكتبة خياط، د.ت.
  10. أنصاري، محمد علي، غرر الحكم ودرر الكلم. قم: دار الكتاب، د.ت.
  11. البغدادي، عبدالقادر بن عمر. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب على شواهد شرح الكافية. د.م: د.ن، د.ت.
  12. البيهقي، إبراهيم بن محمد. المحاسن والمساوي. بيروت: دار بيروت، 1404هـ/1984م.
  13. التوحيدي، علي بن محمد. الإمتاع والمؤانسة. صححه خليل المنصور. بيروت: دار الكتب العلمية، 1417هـ/ 1997م.
  14. الجاحظ. عمرو بن بحر. الرسائل. بيروت: دار الجيل، 1411هـ/1991م.
  15. ـــــــــ. المحاسن والإضداد. صححه وقدم له علي بوملحم. بيروت: دار مكتبة الهلال، 1421هـ/2000م.
  16. الجريري النهرواني، معافي بن زكريا. الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافعي. الموسوعة الشعرية. الإصدار 3. القرص الكمبيوتري. أبوظبي، الأمارات العربية المتحدة: المجمع الثقافي، 2003م.
  17. جمعة، حسين علي. ابن المقفع بين حضارتين. دمشق: المستشارية الثقافية الإسلامية الإيرانية، 1423هـ/2003م.
  18. الجهشياري، محمد بن عدوس. الوزراء والكتاب. تحقيق عبد الحميد أحمد حنفي. مصر: مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي، 1375هـ/1938م.
  19. الحموي، ياقوت بن عبدالله. معجم الأدباء. د.م: دار الفكر، 1400هـ/1980م.
  20. الزمخشري، محمود بن عمر. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار. تحقيق عبدالأمير مهنا. بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1412هـ/1992م.
  21. ضيف، شوقي. العصر العباسي الأول. القاهرة: دار المعارف بمصر، د.ت.
  22. العاملي، محمد بن حسين. الكشكول. الموسوعة الشعرية. الإصدار 3. القرص الكمبيوتري. أبوظبي، الأمارات العربية المتحدة: المجمع الثقافي، 2003م.
  23. العسقلاني، أحمد بن علي. لسان الميزان. بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1406هـ/1986م.
  24. العسكري، الحسن بن عبدالله. المصون في الأدب. تحقيق عبد السلام محمد هارون. الكويت: د.ن، 1960م.
  25. الفاخوري، حنا. تاريخ الأدب العربي. تهران: توس، 1377ه.ش.
  26. كرد علي، محمد. أمراءالبيان. بيروت: دار الأمانة، 1388 هـ/1969م.
  27. ــــآــ.كنوز الأجداد. دمشق: مطبعة الترقي، 1370هـ/1950م.
  28. محمدي ملايري، محمد. تاريخ و فرهنك ايران. تهران: توس،1380هـ.
  29. النويري، محمد بن عبد الوهاب. نهاية الأرب في فنون الأدب. الموسوعة الشعرية. الإصدار 3. القرص الكمبيوتري. أبوظبي، الأمارات العربية المتحدة: المجمع الثقافي، 2003م.
  30. اليوسي، حسن. زهر الأكم في الأمثال والحكم. تحقيق قصي الحسين. بيروت: دار مكتبة الهلال، 2003م.