تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 161
إلى صفحة: 175
النص الكامل للبحث: PDF icon 180423-155536.pdf
خلاصة البحث:

درسنا في هذه المقالة غزل الدكتور ابراهيم ناجي الشاعر الرومانسي المعاصر و بينا تأثرهُ بالشريف الرضي الذي كان له تأثيرٌ كبير علي شعر ابراهيم ناجي إذ لا اظنُّ أنّ شاعراً اثّرَ في شعره كما اثر هو. وجدنا اشتراكات كثيرة بين شعرهما كلها تدل علي تأثّر ناجي بشعر الرضي، و اتينا بنماذج كثيرة من هذه الاشتراكات، منها القاموس الشعري المشترك عند كليهما، و العفة و الابتعاد عن الحسيّة،و الهجرة و الاغتراب، و التشاؤم الشديد. كما يشتركان في غزلهما بالعاطفة الحزينة، و السهولة و البساطة في التعبير و الصدق الفنّي في العاطفة.

البحث:

1- المقدمة

ندرس في هذه المقالة شعرابراهيم ناجي بصورةٍ مختصرة حتّي نري كيف تأثّر ببعض الشعراء و كيف ظهر اثرُ ذلك في شعره. فلا يُوجَدُ شاعر لم يتأثّر بشعر شعراء آخرين قليلاً او كثيراً. و من لم تكن له مطالعات ادبيّة لا يستطيع ان يكون اديباً او شاعراً و من ثمّ يظهر اثر ذلك الشاعر او الشعراء الذينَ قرأ لهم و تأثر بهم، في شعره و ربّما لا ينتبه الشاعر الي تلك الملامح التي تدلّ علي تأثّره بالشاعر او الشعراء الذين تأثّر بهم و انّما ذلك من شأن النقّاد ان يكشفوا عنه. و كان القدماءُ يعتقدونَ بالمطالعة الادبيّة و اثرها الفعّال في تفتّح قريحة الشاعر و كانوا يعبّرون عنها مثلاً بقولهم: لا تُصْقَلُ نفسُ المتأدّبِ إلّا أنْ حفظ هاشميات الكميت و خمريّات ابي نؤاس و زهديّات ابي العتاهيّة و تشبيهات ابن المعتزّ وحجازيات الشريف الرضيّ.([1])

كذلك يعتقد المعاصرون ايضاً باهميّة المطالعات الادبيّة في تكوين شخصيّة الكاتب و الشاعر الادبيّة. مثلاً الجواهريّ يعتقد« ان اديباً لم يحفظ البحتري و ابانوس و ابن الرومي و المعرّي و ابا تمّام و المتنبّي، او لم يدرس الجاحظ و الاخطل و ابن قتيبة، و ابن الاثير و ابا الفرج و دعبلاً و القرآن و نهج البلاغة لا يمكن ان يكون شاعراً و لا كاتباً ابداً».([2])

و قد أدمن ابراهيم ناجي علي قرآءة شعر الشريف الرضي في سنّ مبكر من حياته أثّرت علي مسيرته الفنّية و ظهر أثرها في شعره، و هذا ما تحاول هذه المقالة أن تتطرّق اليه.

2- خلفية الموضوع:

لم يتطرّق احد إلي هذا الموضوع - حسب علمنا – من قبل و لم يدرس أحد من النقاد أثر الشريف الرضي وشعره علي غزل ابراهيم ناجي وشعره إلا أنّه أشار الكثير منهم إلي حبّ ابراهيم ناجي لشعر الرضي وولعه به ممّا أدّي به إلي أن يحفظ ديوانه من الغلاف الي الغلاف. وقد أشار الدكتور شوقي ضيف في كتابه « الادب العربي المعاصر في مصر » إلي أنّ الكثير من الشعراء المعاصرين تأثروا بغزل الشريف الرضي لكن دون أن يشرح هذا الامر أو يأتي بنماذج له من الشعرالمعاصر، ولم يبّن ذلك للقارئ بالتطبيق بل اكتفي بهذا الإدعاء.إذاً الكشف عن مدي صحة هذا الكلام وتبيينه بالنماذج وتطبيق بعضها مع البعض حثّنا إلي أن نقوم بهذه الدراسة. 

اذا تصفّحنا ديوان ابراهيم ناجي فانّا قد نري بصمات تأثّره بمهيار و ابن الفارض و الشعراء العذريين في العصر الامويّ كجميل و المجنون و قيس بن ذريح كما تأثّر الرضيّ و حفظ ديوانه بأكمله([3])و يبدو انّه لم يتأثّر باحدٍ كما تأثّر من الغربيين، ﺑـ«ديكنز» و « جون كيتس».([4])

و تأثّر بمدرسة «هازلت» في النقد كما تأثّر بخليل مطران، و احمد شوقي من المعاصرين العرب.

ابراهيم ناجي و الشريف الرضي

 لعلّ وجودَ هذا الاشتراك الكبير، بحجمه الهائل يستطيع ان يقوم كدليلٍ علي ما كان لشعر الشريف الرضي و غزله العاطفي الجميل،من أثر علي ابراهيم ناجي و شعره فقد احبَّهُ ناجي و ادمن علي قراءة شعره،و حَفِظَ ديوانَهُ بأكمله. وهذه هي اهمّ ما وجدتُها من مشتركات بين شعرهما.

1- القاموس الشعري المتقارب

لكلّ شاعرٍ قاموسه الشعريّ الخاصّ و فيه من الكلمات ما يكرّرها الشاعرُ فتصبح هذه الكلمات لها دلالة خاصّة عنده.([5])

اذا نحن تاملّنا شعر الشريف الرضيّ و ابراهيم ناجي و خاصّة الغزليّ منه، سنجدُ كان لهما قاموسٌ شعريٌ متقارب.

انّهما يستخدمانِ كلماتٍ كـ«القلب و الفؤاد و الدجي و الظلام و الظمأ و الدهر، و الوكر، و النجم، و العين» و غير ذلك من المفردات بصورةٍ كثيرة. نحن هنا نركّز علي بعض هذه المفردات و ناتي بنماذجٍ منها نذكر اولاً كلمة القلب عند كليهما و كيف انهما يُكثرانِ استخدام هذه الكلمة. يقول الرضيّ:

يا ريم ذا الاجرع  يـرعـي به               ثمارَ قلبي بـدل الــرطـبِ

هناك شربُ الدمعِ مِن ناظري            يا مشرقي بالبـارد العــذبِ

انت علي البعد همـومـي اذا           غبتَ و اشجاني علي القربِ

لا اتبـع القلبَ الـي غيـركم                عيني لكم عينٌ علــي قلبي([6])

فنري انه استخدمها ثلاث مرّاتٍ في هذه المقطوعة القصيرة و كذلك قوله:

ساصبر انّ الصبر مــرٌّ صدورُهُ           ألا ربّما لذّت لقلبي عواقبُـــهْ

ولابدّ ان نعطي علي البعد دولةً            فنامـنَ بينـاً او رقيبــاً نــراقبُهْ

فلا قلــبَ لي الّا و انت حجابُهُ          ولا سرّ لي الّا و ذكرك حاجبُهْ([7])

فاستخدمت مرّتينِ هنا و كذلك الأمر في هذه الأبيات.

 اذا تلفّتُ في اطلالها ابتدرت          للعينِ و القلب امواهٌ و نـــيرانُ

كم بقلبي اداويه و يقرفـــه             طول اذكاري لمن لي منه نسيانُ

لا للوائم اقصــارٌ بلائمــةٍ               من العميد و لا للقلــب سلوانُ([8])

كذا الامر نجده في ديوان ابراهيم ناجي فهو يكثر استخدام هذه الكلمة.

رفرف القلبُ بجنبي كالذبيح          و انا اهتفُ يـا قـلبُ اتّئد([9])

او قوله:

كالقلب ان ضاق و اكتأب             تخفّف الذّكريات عنه([10])

او قوله:

و حرقتُ قلبي من سنا              كَ علي جمال يضطرم([11])

و قد يتخذانِ من القلب مخاطباً لهما يتكلّمانِ عنه مثل قول الشريف الرضيّ

يا قلبُ ليتك حين لم تدعِ الهوي        علّقتَ من يهواك مثل هواكا([12])

او قوله:

يا قلب صبراً فانّ الصبر منزلةٌ      بعد الغدّ اليها يرجع الغالي([13])

كذلك ناجي يفعل هذا الامر و يتّخذ مِن قلبه مخاطباً له فيقول مثلاً:

يا فؤادي رحم اللهُ الهوي              كان صرحاً مِن خيالٍ فهوي([14])

او قوله:

رفرف القلبُ بجنبي كالذبيح         و انا اهتف يا قلبُ اتّئد([15])

فقد يكون السبب في مخاطبة القلب و اتّخاذه كخليلٍ لهما، راجعاً اليٰ حسّ الغربة و الوحدة عند كليهما. فانهما عند ساعة العسرة و الحزن لا يجدانِ من يخاطبانَهُ. و قد يكون ذلك لتفكيرهما بأنّ كلّ ما وقع علي رأس كلّ منهما، من المصائب و الآلام آتياً من ذلك القلب الذي يخاطرُ بهما بوقوعه في شَرَكِ الحبّ الذي جرّ عليهما كلَّ هذه الآلام. فتكون هذه المخاطَبَةُ من باب العتب او التأنيب.

كذلك انّهما يستخدمان كلمة الليل و ما يدلّ عليها كالظلام و الدجي، كثيراً في شعرهما، فناتي نحن هنا ببعض النماذج منها قول الشريف الرضيّ:

اقام الليالي عن بقايا فريستي   علي نعمٍ ما تنقضي و عطاءِ([16])

و قوله:

و رواح الحجيج ليلة جمعٍ               و بجمعٍ مجامع الاهواء([17])

و قوله:

و معاداة الرجال علي الليالي        اطيقُ، و لا مداراة النساء([18])

و قوله:

و لَربّ ليل قد طويت رداءَهُ                و عليٰ الإكام من الظلام جلابيبُ

و ليلٍ ترامي بالعبير نسيمُهُ                        و التربُ تخفزُهُ صباً و جنائبُ([19])

فاستخدام الرضيّ لهذه الكلمة و ما يدلُّ عليها كثيرٌ في شعره. و لو أردنا أن نأتي بكل تلك النماذج، كان علينا أن نأتي بجزءٍ غير قليل من ديوانه الضخم فاكتفينا بهذه النماذج القليلة جدّاً.

كذلك نجد هذه الكلمة في شعر ناجي فانّها تُستَخدَمُ بكثرةٍ مثل قوله:

كم في الدجي آهةٌ تطولُ          تسري الي اُذنه وشعرْ

او يفهم النجمُ ما نــقولُ          او يفهم اليلُ ما نسرْ([20])

و قوله:           

من شاطئٍ لشواطئٍ جددِ         يرمي بنا ليلٌ مِن الابدِ([21])

و قوله:

ايّ الليالي العاتيات سهرتها                      في ايّ آلامٍ و ايّ كفاحِ([22])

او قوله:

كم هدأ اليلُ و راق الكري                          الّا اخا سهدٍ يغنّي شجاه([23])

او قوله:

فانّي اذا جنّ الظلامُ و عاودني             هواكِ ابديتُ الذي لم اكن ابدي([24])

كذلك نجد كلمة الظمأ و مشتقّاتها تُستَخدَمُ بكثرةٍ. يقول الرضيّ مثلاً:

قال لي صاحبي غداة التقَينا                  نتشاكيٰ حرّ القلوب الظماء([25])

او قوله:

و تركتني ظمآن اشرب غلّتي               اسفاً علي ذلك اللمي الممنوع([26])

او كقوله:

و لله قـلبٌ لا يـبلّ غليلُـه وصالٌ،       و لا يلهبُهُ عن خلّهِ وعدُ([27])

كذلك الامر في ديوان ابراهيم ناجي فيقول ناجي:

ظمأٌ عليٰ ظمإٍ عليٰ ظمإٍ         و مواردٌ كثر و لم اردِ([28])

و قوله                         

اقبل بموكبك الاغرّ               ما اظمأ الابصار لك([29])

و قوله:

السراب الخئون و الصحراء           و الحياري المشرّدونَ الظماء([30])

فنجد في هذه الابيات الثلاثة الاخيرة مشتقّات كلمة الظمأ تكررّت ثلاث مرّاتٍ. نكتفي بهذا القدر من النماذج و البحث عن القاموس الشعر عند كلا الشاعرين.

2- الإغتراب و التشكّي من الدهر

من يقرأ شعر الشريف الرضيّ و ابراهيم ناجي يَرَ انّهما يشكيان من الدهر و الحظّ و يريان للّدهراللّيالي قدرةً في التحكّم بمصيرهما فاكثرا من تشكّي الدهر الرومانسيّونَ كانوا يُكثرونَ من هذا التشكّي فانّهم لم يُكونوا يُحبّون ان يُلقوا بلومهم الي الحبيب اثر هجره فكانوا يتّهمون الدهر و الحظّ بدل ان يتّهموا الحبيبَ فظهر هذا في شعر ناجي و في شعر الشريف الرضيّ قبل كلّ الرومانسيّينَ بقرونٍ في الادب العربيّ. فيقول الشريف الرضيّ:

يقولونَ ماشِ الدهر مِن حيث ما مشي             فكيف بـماشٍ يـستـقيــم و اظلــعُ

و مــا واثـقٌ بـالـدّهــر الّا كـراقــدٍ                   علي فصل ثوب الظلّ و الظلّ يسرعُ

و قــالوا تعلّل انّمــا العيــشُ نـومةٌ                  يُقضّي و يمضي طارقُ الهمّ اجمــعُ

و لـو كان نومــاً ساكناً لــحمدتُــهُ                  ولـكـنـّه نـــومٌ مــروع مـفــزّعُ([31])

و قوله:

      شربنا من الايام كاساً مريرةً                 تُدارُ بايدٍ و لا نردّ شرابها([32])

او كقوله:

ما الذنبُ للمزنِ جازَتُني مواطرُهُ     وانّما الذنب للارزاقِ و القسمِ([33])

فالوثوق بالدهر و الدنيا عنده كالوثوق بالسراب و الظلّ اللذينِ سرعان ما يضمحلّا. و يري وقع سهام الدهر عصيباً إنْ هي اصابت و لا ريب عنده من عدواء الدهر فقد تجتازه المزن و السحب الماطرة لسوء حظّه و قسمته.

و لا ينتهي الامرُ عند الشريف الرضيّ بهذا التشكّي و التشاؤم بل يصل به الامرُ الي الاغتراب فلا يري احداً في الوجود يستطيع ان يُحسنَ لَهُ الرأي و الودّ و يري انّ اكثر الناس ليس لهم عهدٌ و حتّي اقرب اصدقائك يحمل بين اضلعه لك الحقد.

    لايّ حبيبٍ يحسن الرأيُ و الودُّ             و اكثر هذا الناس ليس له عهدُ

    اكــلّ قريبٍ لــي بعيدٌ بــودّهِ       و كلّ صديقٍ بين اضلعه حقدُ([34])

و يري انّ الاصدقاء و المحبّون تكثر إنْ كَثُرَ مالُك و الّا فليس لك منهم ودٌّ. و الايامَ كالحةً غضاباًً.

   قلّ الصحابُ فإن ظَفَر           تُ بنعمةٍ كَثُرَ الصــحابُ

   مَن له به سمـحـاً اذا صفر         ت من القوم الوطابُ

   مَـن لـي به يـا دهرُ             و الايام كالحةً غضــابُ([35])

و يشكو الحظّ و صدوده عنه.

   و مِن عجبٍ صدود الحظّ عنّا             الي المتعمّمينَ علي الـخزايا

  اسفَّ بمن يطيرُ الي المعالي    و       طار بمن يسفّ الي الدنايا([36])

و اذا قرأنا شعر الشريف الرضيّ نجده مملؤاً بالاغتراب و لا يمكن قصر الاغتراب علي شروط الموضوعيّة من حيث كونه تقريباً سياسياً و اجتماعيّاً و اقتصاديِاً اذ انّ العوامل الذاتيّة للاغتراب تشكّل اساساً قويّاً لفعاليّة الثروة و المؤثرات الموضوعيّة. كما انّ شخصية الشريف الرضيّ لعبت دوراً كبيراً في اغترابه الماساويّ.([37])

 فهو سقيٰ شعرَهُ بالاغتراب العميق المتجذّر في النفس فكان اهمّ ما جلب علي الشريف الرضيّ تلك المرارةَ و الاغتراب هي حادثةُ كربلاء.([38])

 و سجن ابيه عندما كان في العاشرة من عمره و مصادرة جميع امواله علي يد عضد الدولة. و اذا نظرنا الي ديوان ناجي فسنجده مليئاً بمثل هذا الاغتراب. و يعود ذلك الي شخصيّته و الي حياته الشخصيّة اذ كان لفشله في حبّه، الدور البارز لهذا الحزن و التشاؤم و حسّ الغربة كما قد يكون حصيلةً لزواج ابويه بزيجة القربي و هي بنون معوّقة و ما كان لها من أثرٍ حزين في حياته و شعره.

         يا سجين الحياة اين الفــرارُ                   اوصـدَ الليـلُ بابــه و النــهـارُ

      فلمــن لفتةٌ و فيــمَ ارتقابُ            ليس بعد الذي انتظرتَ انتظــارُ

     و التعلّات من هويٰ و شباب                  قصّــة مُــسدَلٌ عليها الستــارُ

    ماالذي يبتغي العليلُ المسجّي             قــدتــولّي العوّادُ و السمّـــارُ

     طال ليلُ الغريب و امتنع الغَمـ                ـضَ و في المضجع الغضا و النارُ([39])

كما في قوله:

 عشقتُ حتّي اري خمائل حبّي          تتــهـاوي كشـامـخٍ ينـهـارُ

        ما انتفاع الفتي بموحش عيشٍ             بَقِيَتْ كأسُهُ و طــاح العــقارُ

         و بقاء البساط بعــد الندامــيٰ                كأس ســمٍّ بهــا يـدور البوارُ

        ما انتفاعي و تلك قافلة العيـ                     ش و في ركبها اللظي و الدمارُ

         الدمار الرهيب و العــدم الشـا                مِلُ و اللفح و الضّنــي و الاوارُ([40])

و القارئ لشعر ناجي يفهم شدّة اغترابه دون ايّ عناءٍ لبحثٍ او تنقيب و ليس لفهم هذا الإكتئاب حاجةٌ اليٰ اي فطنةٍ و ذكاء فهو يعتبر في شعره، الحياةَ سجناً ليس منه فرار. تضيق الدنيا به و يوصد الليلُ و النهار ابوابَهُما في وجهه. و تولّي العوّادِ و السمّار هو رمزٌ عليٰ شدّة اليأس عنده. كما يتساءلُ بصراحة ما انتفاع الفتيٰ بالعيش الموحِشِ و قد تولّتْ قافلتُهُ و في ركبها اللظيٰ و الدمار؟ و ايّ دمارٍ هذا الذي يتكلم عنه؟ دمار رهيبٌ و عدمٌ شامل و لفحٌ و ضنيً و أوار. هذه هي ملخّص نظرة سطحيّة الي هاتين المقطوعتينِ اللتينِ قدّمناهما قبل هذا. فما بالك بما في غيرها من المقطوعات و القصائد من اغترابٍ و تشاؤم. 

و كذلك قوله:

           وطني انت و لكنّي طريد                  ابديّ النفيِ في عالم بؤسي

            فاذا عدتُ فللنجوي اعود                ثمّ امضي بعدما أفرغ كاسي([41])

و ايضاً قوله:

                       داوي ناري و التياعي                   و تمهّلْ في وداعي

                          يا حبيبَ العمر هب لي             بعض لحظاتٍ سراعِ([42])

و ليت الأمرَ ينتهي بذمّ الماضي و الحزن عليه لكنه لا يريٰ املاً في المستقبل فييأس من نفسه و من مستقبله.ديوان الدكتور ابراهيم ناجي ملئٌ بمثل هذه الابيات و هذه المفاهيم كما نراه يشكو الدهر و الليالي.

           طاطاتُ للبين المشتّت هامتي                و خفضتُ للقدر المغير جناحي([43])

و لا يبقيٰ له أملٌ أمام البين الذي شتّت هامتَهُ فقد بان عنه حبيبُهُ و لم يرَ غير الإستسلام للقدر و الرضوخ لإرادته.

       والدهرُ يقذفُ بالمنايا دفّقاً                    فمضيتُ في متدفّق التيّارِ([44])

و قوله:

           آه مما صَنَعَ الدهرُ بنا         و هذا الطلل العابس انت([45])

فهو لا طاقة له بهذه المنايا المتدفقّة من جانب الدهر. و هو و إن مضيٰ في متدفقّ التيّار، لا يستطيع أن يقاومَ هذا التيّار فيبدأ بالتشكّي من الدهر و يجرّ الآهات ممّا صنع به ويشتكي الحظََّ بقوله:

         متي يرقّ الحظُّ يا قاسي          و يلتقي المنسيّ و الناسي([46])

و ايضاً يقول:

        يا حبيبي كلّ شئٍ بقضاء            ما بايدينا خُلِقْنا تعـساء

        ربّمـا تجمعنا اقـدارُنـا                 ذات يومٍ بعد ما عزّ اللقاء([47])

فيصل به الامرُ الي التشاؤم فيريٰ انّه لا يقدر عليٰ شئٍ كانّما هو مكبّل لا يستطيع ان يفعلَ شيئاً و يبقي حائراً في امره.

     كنت تمثال خيالي فهوي            المقادير ارادتْ لا يدي([48])

بل ويري انّ الحظّ ظالمٌ و قاسٍ.

    يا جمالاً في الترب يُلقي و يُرمي         يا لظلم الحظوظ و الحظُّ الاعمي([49])

و يري انّه لا ارادة له في ظلّ ظلم الحظوظ.

                   قـدرٌ ارادَ شــقاءَنا                  لا انتَ شئتَ و لا انا

                 عزّ التلاقي و الحظوظُ              السودُ حـالَت بيننا([50])

و كذلك قوله:

                 فلمّا قضي الحظُّ فكَّ الاسيــ        ر حــنّ الـي اسـرِهِ مطلقا([51])

 

3- العفّة و الابتعاد عن الحسيّة

القارئُ و السامع و المتصفّح لديوانَي شاعَرَينا يجد انّهما لا يذهبانِ شوطاً قصيرافي غزلهما و البثّ عن حبّهما المملوؤ بالحبّ و الفراق و الشكويٰ الّا و يتكلّمانِ عن الطهر و العفّة في حبّهما و غزلهما. و هذه هي اظهر الميزات المشتركة في شعر كلّ منهما ممّا يدلُّ عليٰ تاثير شعر الشريف الرضيّ عليٰ الدكتور ابراهيم ناجي.

العفّة و الابتعاد عن الحسيّة واضحانِ في شعر الشريف الرضيّ و ذلك لسببين، الاول منهما انّه كان طيّب الذاتِ شريفها و الثاني لانّه كان يتولّي امارة الحج. (عمران،  2000: 224)

 فهو يصرّ علي تاكيد العفة في غزله مرّةً بعد مرّة كقوله:

قدرتُ منها بـلا رُقبـيٰ و لا حــذرٍ         عليٰ الّذي نام عـن ليليٰ و لـم انـمِ

بتنا ضجيعينِ في ثوبَيْ هويً و تقيً                     يلفّنا الشوقُ مــن فرعٍ الــيٰ قــدمِ

 و امستِ الريحُ كالغـيريٰ تجاذبـنـا                   عـليٰٰ الكثيب فضول الـريط و اللّممِ

 يشي بـنا الطـيُّ احيانــاً، و آونــةً              يضيئنا البرقُ مـجتازاً علــيٰ اضــمِ([52])

فنري بوضوحٍ في هذه الابيات، اصرار الرضيّ علي تاكيد العفّة فلايقبل حبّاً بلا عفّة و غزله عراكٌ دائمٌ بين عقله و قلبه. عقل يدعو الي العفة و قلب يدعو الي الحبّ و مغامراته.

 يشكو الحبيبُ اليّ شدّة شوقه             و انـا المشـوق و ما يبينُ جناحي

و اذا هممتُ بمن احبّ امالني              حصرٌ يعوق و عـفّـة تــنـهـانـي

  لله ما اغضتْ عليه جوانــحي           و الشوق تحت حجاب قلبي عاني([53])

و هو يري العفة في ان تريد النفسُ العصيانَ و تخالفها انت.

      ما عفةُ الانسان الّا غباوةٌ         اذا لم يُكافح داء وجدٍ مغالبِ([54])

و هذا التاكيد عليٰ التزام العفّة في حبّه يستمرّ في كلّ قصائده الغزليّة فيعبّر عن عفّته في حبّه باشكالٍ مختلفة،تدلّ عليٰ شدّة التزامه. كهذه الابيات الّتي يقول فيها:

    تضاجعني الحسناءُ و السيف دونها                 ضجيعانِ لي و السيف ادناهما منّي

    اذا دنــتِ الحسناءُ منّي لـحاجــةٍ                        ابيٰ الابيض الماضي، فابعدها عنّي

 وان نام لي في الجفنِ انسان ناظرٍ                  تـيقّظَ عـنّي ناظرٌ لـي فـي الجفنِ([55])

و الشريف الرضيّ الي جانب ادبهِ الرفيع كان بالفعل الرجل العفيفَ فانّه قد حَرَمَ نفسَهُ اعظمَ لذّة يتغنّي بها المشبّبون، فلم يصف مراتع الانس، ملاعب الطيش، و لم يتحدّث عن اسرار الهويٰ في الكرخ او بغداد.

و لم يكن عفافه باباً من عفاف الضعفاء اصحاب الحبّ العذريّ، فالعذريّونَ في حقيقة الامر كانوا مرضي لا يُحسنون صيال الفحول امّا الشريف الرضيّ فكان رجلاً قوياً([56])

  و لمّـا ابـيٰ الاظعـان الّا فــراقنا                         و للبين وعـدٌ ليس فـيه كذابُ

  رجعتُ و دمعي جازعٌ من تجلّدي                        يـرومُ نـزولاً للجويٰ فيهــابُ

  و اثقل محمول علي العينِ دمعُهـا                        اذا بانَ احبـابٌ و عــزّ ايــابُ

 فمن كان هـذا الوجد يعمرُ قلــبه                   فقلبي مـن داء الـغرام خــرابُ

و من لعبتْ بيضُ الثغور بعقـلـه                   فعندي احــرّ الباردينِ رُضـابُ

 يعفّ عن الفحشاء ذيلي، كـانّما                عليه نـطاقٌ دونـها و حــجابُ([57])

كذلك الامر في شعر ابراهيم ناجي فالعفّة و الاصرار علي تاكيدها كادتا أنْ تُمْلِئا ديوانَهُ فهو يتكلّم عن الطهر و العفاف و البراءة في الحبّ و يبتعدُ في غزله عن الحسيّة خلاف الكثير من معاصريه. فيريٰ انّ اسميٰ الحبّ ما كانت فيه عبادةُ الروح مثلاً و هدفاً لا عبادة الجسد الفاني.

  غرامُك كان محراب المصلّيٰ       كانّي قـد بلغتُ بـه السماءَ

خـلعتُ الآدمـية فـيه عــنـّي            و لكـن ما خلعتُ فيه الاباءَ

فلـم اركعْ بـسـاحـته ريــاءً             و لا كالـعبــد ذلّاً و انحنـاءَ

و لـكن حببتك حــبّ حــرٍّ                يموتُ متي ارادَ و كيف شاءَ([58])

و في مكان آخر يتكلّم عن المرح القدسيّ و الضحك الطّاهر.

لمن هـاته الـفتنة النادرَهْ                و مـا هـذه الاعين الساحرَهْ

و ما ذلك المرحُ القدسيُّ       و ما هاته الضحكة الطاهرهْ([59])

و كذلك يقول عن العفة:

من رأيٰ العفّة العريــ         ـقـة بالدهر تصطدم([60])

و يريٰ الطهر في الوقوع في نار الحبّ. قد نجد هذا الأمر في شعر الرضيّ ايضاً فالعفة ليست ادعاء فحسب و العفّة هيَ أن تقاوم نفسك في ما تريده من عصيان و تمرّد. كذلك الطهر في شعر ناجي فهو حصيلة المشاق و النار و الجهاد و الصبر عليه.

دفعتِ بي في اللّظي كالخليل              وعدتِ مباركةً ظافـرةْ

رجـعتِ مــن النار ياقوتـةً                  مـطهّرةً حــرّةً باهــرةْ([61])

و كذلك قوله:

ما تبدّلنا و لا حـال الهـويٰ                 و الهويٰ الطاهر و الودّ الكريم([62])

و كذلك يقول:

غــرامُك لي معبدٌ طاهرٌ                    دعائمُهُ شُيِّدَتْ من ولوعي([63])

و يريٰ البركةَ و الطهر و القدسيّة في الحبّ و المحبوب.

 يا هيكلَ الحسنِ المبارك ركنُهُ           الساحر النور الطهور رحــابِ

 لا صدقَ الّا في لهيبك و حدَهُ             و جلاله الباقي علي الاحقــابِ

  قدّمتُ قــربانـي اليـك بـقيّةً               مِن مهجةٍ ضاعت علي الاحبابِ

 و اذبتُ جـوهرَها فداءَ نواظـرٍ   قـدسيّةٍ، عُلويّة الــمــحــرابِ([64])

و كثيراً ما يستخدم ناجي كلمة«الكعبة» في شعره و يرمز بها الي العفاف و الطهر في حبّه.

هربتُ عالم اضرّا                    و جئتُ يا كعبتي ازور([65])

و قوله:

جمالك نبراسي و روحك كعبتي     و عيناك وحيي في الحياة و الهامي[66]))

4- الغزل العاطفيّ الحزين و الغاية في السهولة

القارئ و السامع لشعر الشريف الرضيّ يريٰ انّه يقدّم لنا غزلاً يتّسم بسمة الحزن و الشكويٰ. و مواضيع هذه الشكويٰ،هي شكويٰ الشيب و صدود الغواني عنه و شكوي الزمان قبل ايّ شئٍ([67])

فهو في قصيدته«يا طائر البان» يري الطائر محزوناً و قد هيج نوحُهُ فالشاعر يريٰ نفسَهُ العانيَ اي الاسير، و الطائر هو الطليق فيتمنّيٰ لو يستطيع الطائر ان يبلغ من هامَ الفؤادُ به عن ما هو عليه.

 يا طائر البــان غــرّيداً علــيٰ فنـنِ        مـا هـاجَ نوحك لــي يا طـائر البـانِ

 هل انـت مبلغُ مـن هــام الفؤادُ بـــه          انّ الطليقَ يــؤدّي حـاجة العــانــي

مغفّلَ عـــن هــمـومي فــي بلهئيـة                     ارعـيٰ النـجومَ، و طــرفاه قـــريرانِ

 ينأيٰ و يـدنو عليٰ خضراء مــورقــة              لـعب الـنعاميٰ بــاوراق و اغـــصان 

هيهات ما انت مـن وجدي و مِن طربي                و لا لـقلبك اشــجاني و احــزانــي

و لا فُـجِعتُ و قــد سـارت ركائُبُهـم            يــوم الــغمـيم بـعـزلانٍ كـغــزلانِ

لـو لا تــذكّـر ايـامـي بـذي سـلـمٍ                    و عــند رامــة اوطاري و اوطانــي

 لـمّـا قـدحـتُ بنار الوجد فــي كبدي            و لا بـللـتُ بـماء الــدمعٍ اجــفاني([68])

نريٰ هنا، ادبَ فراقٍ و بكاء و كما نري في كثيرٍ من غزلهٍ، فهو غزلٌ حزينٌ مُلأ بالانين الّذي يثيره تذكّرُ الايام الخوالي و تذكّرِ كيف سارت ركائبُ من يهوي كما يتكلّم عن منطق الغفران في الحبّ و هذا الامر يتجلّي ايضاً بغزل الدكتور ابراهيم ناجي حيث يقول:

 المي محا اليك ذنبي و كفّرا               هبني اسأت الم يحن ان تغفرا([69])

امّا الشريف الرضيّ فيقول:

يا قلبُ ليتك حين لم تــدع الهوي      علّقتَ مـن يهواك مـثـل هـواكـا .......

 لا بل شجيـتَ بـمـن يبيتَ مسلّـمـا               خـالي الضّلوع، و لا يحسّ شجاكا

اهوي و ذلّاً في الهوي و طمــاعـةً              ابــداً، تـعـالـي اللهُ مــا اشقاكـا ........

يا قلبِ كيف علقتَ فــي اشراكهـم               و لـقد عهدتُك تُفلتُ الاشراكــا([70])

الشجي و حرّ الوجد و الذّلّ في الهوي و الوقوع في الاشراك و غيرها قد تدلّ علي الحزن و الشكوي في غزله دلالةً واضحةً. كذلك استخدامه الكثير لكلماتٍ ﮐ«الليل و الدجي و الظلام و ظلم الدهر» قد تدلّ علي حزن عاطفة الحبّ و الغزل عنده. و كذلك قوله:

ان ذبتَ من كمدٍ، فقد جرّ الهويٰ           هذا السقام عليّ، مــن جــرّاكا

لا تشكونَّ اليَّ وجداً بعــدهــا                    هذا الذي جرّت علـيّ يــداكـا

لاعــاقبنّــك بالغليل، فــانّني                      لولاك لم اذقِ الهوي لــولاكـا

يــا عــاذلَ المشتاق دَعهُ، فانَّهُ      يطوي علي الزفراتِ غير حشاكا

و كذلك قوله:

ان نال منكم وصالاً زاده سقماً        كانّ كـلَّ دواء عنده داءُ([71])

فهوحزين ان كان المحبوب حاضراً او غائباً.

دعوا لي اطباء العــراق لــينظروا                     سقامي، و ما يغني الاطباءُ في الحبِّ

اشاروا بريح المندل اللّدن و الشّذا                    و ردّ ذَماء النفسِ  بالباردِ العـــذبِ

يطيلونّ جـسّ النابــضين ضلالةً                 ولو علموا جسّوا النوابضَ من قلبي([72])

و يحنّ دائماً الي لقاء المحبوب و هو يسأل عن عودة المحبوب كلّ حينٍ و اذا ذكر ما مضيٰ يغيض صبره و يبوح صمته و دموعه تستعدّ للصبّ و هذا سرّ تشكّيه من الماضي.

أحـنّ الـيٰ لـقائك كـلّ يـومٍ                           و اسألْ عـن ايابك كلّ وقتِ

و اذكر ما مضيٰ فيغيض صبري                  و تنفر عبرتي و يبوح صمتـي

و لـي قلبٌ اذا ذكــر التّـلاقي                 تظلّم مــن يــد البين المشتِّ([73])

و كذلك قوله اثر فراق ظعائن المحبوب.

كـان زوراً بـعد بينهمُ                و غـروراً ذلك الـجلدُ

و متيٰ تدنُ الديارُ بهم           يجدوا قلبي كما عَهِدوا([74])

و يتجرّع مرارة الحبّ و المحبوب في قلبه و هو شغله الشاغل.

ساصبر انّ الصبر مرٌ صـــدورُهُ                 الا ربّما لذّت لقلبي عــواقبُــهْ

  و لا بدّ ان نعطي علي البعدِ دولةً                       فنأمنَ بيناً او رقيــباً نــراقبُــهْ

   فلا قلبَ لي الّا وانت حـــجابُهُ               و لا سرّ لي الّا و ذكرك حاجبُهْ([75])

فالبكاء علي الحبيب و الشوق و الزفير ممّا اشترك فيه غزل كلٍ من شاعَرَيْنا. فالشريف الرضي مثلاً في هذه المقطوعة ألّتي نأتي بها بعد هذه الكلمات، نراه يبكي منذ بَعُدَ الحبيبُ و يعجب كيف بقي سالماً بعد فراقه و يقول أنّ كبده ستذوب لا محالة، إن لم تكن قد ذابت غداة الفراق.

و كذلك قوله:

الدمعُ مُــذ بعد الخليطُ قـريـبُ                            و الشوق يـدعوا و الزفيرُ يُجيبُ

ما كنتُ اعلم انّ يـوم فراقــكم                    تبـقـيٰ عـليّ نـواظـرٌ و قلـوبُ

إن لم تكن كبدي غداة وداعكم                    ذابــت، فاعـلمْ انّها ستـــذوبُ

داءٌ طلبتُ لـه الاساة فلم يــكن                   الّا الـتعلّل بالــدمــوع طبيــبُ

 امّا اقمتُ، فانّ دمــعـي غـالبٌ                   لعواذلي، و تــجـلّدي مــغلوبُ([76])

كذلك ادب ابراهيم ناجي ادب بكاء و حزن في فراق الحبيب و ناجي يحنّ و يئنّ و يتذكّر الماضي و ذكريات المحبوب و يسير في عالم خياله في اكثر احيانه.

يا غـلّة المتلهّف الصادي             يا آيتي و قصيدتي الكبري  

مـاذا تركتُ لديّ مِن زادِ    الّا استعادة هــذه الـذكري([77])

و هو في حبّه يَعُدّ الالم عنصراً اساسياً بل و هو الذي يكفر ذنوب العاشق في حقّ المعشوق.

المي محا ذنبي اليك و كفّرا                  هبني أساتُ الم يَحُن ان تغفرا

روحي ممزّقةٌ و انـت تركتَها               لمخالب الدنيا و انياب الوري

روحي ممزّقةٌ و لـو ادركتها                        جمـّعتَ من اشلائها مـا بُعثِرا([78])

و كذلك نري الحزن في هذه الابيات ايضاً

يا حبيبي غيمةٌ في خاطري                       و جفوني علي الافق سحابـهْ

صـرخ الـقفرُ لــها مـنتحباً                        و بكي مستعطفاً مـمّا اصابَـهْ

 كَثُرَ الهجرُ عليٰ القلب فهل                     مـن سـلوٍّ او بـعادٍ يرتضـيه

 كيف جانبتُك ابـغي سلوةً                           ثمّ نـاجـيتك فـي كلّ شبيهِ([79])

فناجي في هذه النماذج يتكلّم عن لهفة روحه حيث هجر الحبيب و لم يُبقِ له الّا استعادة ذكريات الوصال و يبغي ناجي بكلّ هذا الألم و العذاب، غفران الحبيب لذنوبه. فقد تركه لمخالب الدنيا و قد صار جسدُهُ  اشلاءً مبعثرة. و الحبيب غيمةٌ في خاطره و جفونه سحابة تندي كآبةً و حزناً. و هذا من ابرز ميزات غزل ناجي حيث يستعطف و يسترقّ كلّ من يسمعه و يقرأ له. من افضل ما صوّر ناجي في غزله من رقّة قصيدته ذكرنا منها« كثر الهجر عليٰ القلب فهل» حيث يصوّر لنا هجر الحبيب عنه و حاله بعد الفراق ثمّ يصوّر لنا المحبوب و جماله« انت فجر من جمال و صبا» ثمّ يذكر حالَهُ كيف يناجيه في كلّ شبيه« كيف ناجيتك ابغي سلوة ثمّ ناجيتك في كلّ شبيه» و يصوّر نفسه بكثرة الجروح بقوله:

       آه يا هندُ جراحي كَثُرَتْ             فتعالَي ضمّدي انتِ جروحي([80])

فيغلب عليٰ عاطفة ناجي ان تبدو ندِيّة بآثار الدموع واليأس و الظلام يغمر كلّ وجوده و يشكو قسوة الليل أكثر ما يشكو.

    في مظلمٍ متعرّجٍ كــابٍ                          والليلُ تـغزونـي جـحـافلُهُ

دقّتْ يد النّعميٰ عليٰ بابـي                    و العيش خـابي النجم آفـلُهُ

  يا للمقادير الجسامِ و لــي                مـن ظلمها صرخات مجنونِ

    باكي الفؤاد مــشرّد الأملِ              وقف الزمان و بــابُهُ دوني([81])

فشعره غناء كلّهُ المٌ و ارتياب وهمّ و غناءُ عاشقٍ يخفق دائماً في حبّه و لا يجدُ في نفسه و لا في يده الّا الذكري الممضّة المحرقة   (ضيف:  157)

و لن يطفئَ نار هذا الوجد و الحنين الّا الوصال.

           مزّقتِ ظلمة كلّ ديجورِ              و النتِ ما قد كانَ منه عصي

        و فتحتِ مصراعيهِ للنّورِ              ما كنت الّا سـاحراً و عصا([82])

و الحبيب هو سر الوجود و معني الحياة و بوجوده تطيب الايام و يعود الربيع و بغيابه لا لذّةَ للحياة.

     اليوم منك عرفتُ سـرّ وجودي                      و عـرفتُ مـن معناك معني العيـدِ

    ما كنتُ بالفاني و سّرك حافظي                 و بـمقلتيكِ ضمنتُ كـلّ خــلودي

 الآن اعـرفُ مـا الــحياة وطيبها       و اقـول للايّامِ طبــتِ فــعــودي([83])

النتيجة:  

نستنتج من كل ما جاء في هذه الدراسة ان اعجاب ناجي بشعرالشريف الرضي و مداومته علي قراءة شعره و حفظه عن ظهر قلب كان له الدور الابرز في ازدهارعواطفه الشعريّة و تحديد اتجاهاته الادبيّة فظهرت ابرز ميزات شعره هما في ابرز قصائده و اشعاره صدقاً فنياً و جمالاً ادبياً. و لا يعني هذا انه كان يقلده في شعره بل علي العكس كانت له شخصيته الادبيّة المستقلة و القويّة. لكنه انعجن شعرالرضي بضميره الادبي الصافي النبع و من ثمَّ افرغهُ مع ما كانت تفرغ روحه الشاعرة من احاسيس جميلة و صادقة و مع ادبه الرومانسي الراقي. و هذا لا يتنافي مع الصدق في عواطفه الشعرية بل ينسجم تماماً اذ أنَّ اثر المطالعات الادبيّة كبيرٌ في تكوين شخصية الاديب و الشاعر فلا احد يستطيع ان يكون شاعراً و اديباً دون ان يقرأ آثار الادباء و الشعراء.

و الامر الاخر الذي قد يكون مؤثراً في قراءة شاعر او اديب لادب شاعر او اديب آخر و التأثر به هو اشتراكه في الصفات الروحيّة و الشخصيّة. و هذا ما يصدق علي ابراهيم ناجي في تأثّره بالشريف الرضي اذ اتصفت شخصيته بالحنان و العاطفة و هي الي حدٍ ما شخصيةٌ حزينه و قد يكون لفشله في حبه الاول دوراً بارزاً في ازدياد حزنه. فكان كل شئ مهيّئاً لان يتأثر بالجانب العاطفي الحزين و المتشائم من شعر الرضي و بتبع هذا يتأثر بجانب العفة و الابتعاد عن الحسيّة في غزله لانهما تلازمان الحب الصادق.

المصادر

- القران الكريم

1- الخفاجي، محمد عبد المنعم، (1992) « دراسات في الادب العربي الحديث و مدارسه » المجلد الثاني،ط 1، بيروت، دار الجيل،

2- السيد جاسم، عزيز،« الإغتراب في حياة و شعر الشريف الرضي »،  دارالاندلس،، دون تاريخ

3 - الرضي،الشريف، (1999)، « ديوان الشريف الرضي »، بيروت، دار القلم،

4- رضوان، محمد، (2004)  « ابراهيم ناجي شاعر الاطلال »، الطبعة الاولي،  دمشق-القاهرة،دار الكتاب العربي،

5- شكيب انصاري، محمود، (1384) « تطور الادب العربي المعاصر »،الطبعة الرابعة، ايران، اهواز،  جامعة شهيد تشمران،

6-ضيف، شوقي، «الأدب العربي المعاصر في مصر »، الطبعة الثالثة عشرة، دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ

7- عابدين، نزار، (1999) « الغزل في الادب العربي ملامح و شعراء »، الطبعة الاولي، دمشق، الاهإلي،

8- عمران، عبد اللطيف،  (2000)، « شعر الشريف الرضي و منطلقاته الفكرية »، الطبعة الاولي، دمشق، دارالينابيع،

9- مبارك، زكي،  « عبقرية الشريف الرضي »، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، دون تاريخ

10- محمد محمد عويضة، كامل، (1993)، «ابراهيم ناجي شاعر الاطلال »،الطبعة الاولي،  بيروت، دار الكتب العلمية،

11- ناجي، ابراهيم، (1988)، « ديوان ابراهيم ناجي » بيروت، دارالعودة،

 

[1] -(عابدين 1999: 257)

[2] -(شكيب انصاري،1384ه.ش: 121-122)

[3] -(رضوان،2004: 55)

[4] -(عبد المنعم الخفاجي، 1992: 108)

[5] -(محمد عويضة،1993: 20)

[6] -(الرضي،1999: 248)

[7] -(نفسه، ج 2: 253)

[8] -(مبارك، 162)

[9] -(ناجي، 1988: 13)

[10] -(نفسه:41)

[11] -(نفسه: 46)

[12] -(الرضي، 1999 ج 2: 94)

[13] -(السيد جاسم، 1999: 43)

[14] -(ناجي،1988: 131)

[15] -(نفسه: 13)

[16] -(الرضي،  1406،ج 1: 55)

[17] -(نفسه:  83)

[18] -(نفسه:88)

[19] -(نفسه:143)

[20] -(نفسه: 41)

[21] -(نفسه: 46)

[22] -(نفسه: 84)

[23] -( نفسه:123)

[24] -(نفسه: 122)

[25] -(الرضي، ج 1: 83)

[26] -(نفسه: 654)

[27] -(الرضي، 1406ج 1: 385)

[28] -(ناجي،1988: 31)

[29] -(نفسه: 87)

[30] -(نفسه: 161)

[31] -(الرضي ج 1: 644)

[32] -(نفسه: 124)

[33] -(السيد جاسم، 1999:33)

[34] -(نفس المصدر: 79)

[35] -(مبارك، ج 2:4-5)

[36] -(السيد جاسم، 1999: 33)

[37] -)  نفس المصدر: 93)

[38] -(نفسه: 14)

[39] -(ناجي،1988: 166)

[40] -(نفسه: 167)

[41] -(نفسه: 15)

[42] -(نفسه: 33)

[43] -(نفسه: 84)

[44] -(نفسه: 101)

[45] -(نفسه: 114)

[46] -(نفسه: 18)

[47] -(نفسه: 140)

[48] -(نفسه: 143)

[49] -(نفسه: 167)

[50] -(نفسه: 210)

[51] -(نفسه: 49)

[52] -(الرضي، 1406ج 2: 231)

[53] -(عابدين،1999: 258)

[54] -(نفسه: 258)

[55] -(الرضي،  1406ج 2: 414)

[56] -(مبارك، ج 2: 96-97)

[57] -(الرضي، 1406 ج 2: 116)

[58] -(ناجي،1988:64)

[59] -(نفسه: 88)

[60] -(نفسه: 98)

[61] -(نفسه:89)

[62] -(نفسه: 12)

[63] -(نفسه: 297)

[64] -(نفسه: 51)

[65] -(نفسه: 39)

[66] -(نفسه: 55)

[67] -(عمران، 2000  ص 224)

[68] -(الرضي، 1406ج2: 405)

[69] -(ناجي،1988: 160)

[70] -(الرضي، 1406 ج2: 94)

[71] -(نفسه، ج2: 71)

[72] -(نفسه،ج 1: 272)

[73] -(نفسه، ج 1: 287)

[74] -(نفسه: 431)

[75] -(نفسه: 253)

[76] -(نفسه: 252)

[77] -(نفسه: 252)

[78] -(نفسه: 160)

[79] -(نفسه: 219)

[80] -(نفسه: 242)

[81] -(نفسه: 243)

[82] -(ناجي،1988: 244)

[83] -(نفسه: 277)