mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 37.doc

نبدأ الآن بإلقاء محاضرات جديدة ترتبط بسمات الشخصية وهي السمات الخاصة بالظاهرة الاجتماعية أو نطلق على ذلك مصطلح السمات الاجتماعية مقابل السمات المتنوّعة التي حدثناكم عنها في لقاءات سابقة.

السمات الاجتماعية

إن المقصود بالسمات الاجتماعية هنا هو أن كلاً من سمتي الحب والتوافق الاجتماعي اللذين يعدّان في معايير التربية وعلم النفس الأرضي من أهم السمات التي تميز الشخصية السوية عن الشخصية الشاذة من حيث علاقتها بالآخرين، ومن البيّن أن كلاً منا تتوزعه أو تنتظمه عدة علاقات، فحيناً العلاقة تكون بين الشخص وبين ذاته وحيناً تكون بينه وبين الآخرين، والحديث هو النمط الثاني من العلاقات، أي العلاقة التي ينسجها الشخص مع الأطراف الاجتماعية الأخرى على شتى مستويات هذه الأطراف، فالعلاقة قد تكون بين شخصين وقد تكون بين أكثر، قد تكون في نطاق الزوجين وفي نطاق الصديقين وفي نطاق العدوين وفي نطاق الجارين، وقد تتجاوز ذلك لتكون في نطاق أكثر سعة وشمولاً كجماعة الصف المدرسي مثلاً، أو تتسع فتكون أكثر سعةً وشمولاً كالجماعة التي تنتسب إلى نوادٍ أو نقابات أو جمعيات أو مؤسسات أو إدارات أو أو.. الخ. وهذه العلاقة قد تكون مباشرة كالأمثلة المتقدمة وقد تكون غير مباشرة كعلاقة المواطن بالدولة مثلاً وهكذا..

المهم إننا نشير إلى أن كلاً من سمة الحب والتوافق الاجتماعي تظلان موضوع حديثنا عن العلاقات أو بالأحرى عن السمات الاجتماعية التي ينبغي على كلٍّ منا أن يتوفّر عليها أو أن يصوغ عبر شخصيته وهو يتفاعل مع الآخرين، أما سمة الحب فتعدّه الاتجاهات التربوية والنفسية جميعاً سبباً رئيساً وراء الصحة النفسية وبعكسه فإن الكراهية أي إن الشخص الذي يحمل كراهية ضد الآخرين هذه الكراهية تظل هي السبب الرئيس وراء مختلف أو غالبية الأمراض النفسية، وقد أشرنا أكثر من مرة أن أحد الاتجاهات النفسية الحديثة تشطر السلوك الإنساني إلى نزعتين يجيء العدوان واحداً منهما من حيث مقابلته بالنزعة المسالمة وهي الحب، في حين يجيء التوافق الاجتماعي هو السمة الثانية التي أشرنا إليها، هذه السمة الاجتماعية تجيء مقترنةً أو متركبة في الواقع على سمة سابقة وهي سمة الحب أيضاً، بحيث إن الاتجاه الأرضي المذكور جعل من معيار السوية الذي يقرر بأن الشخصية السوية هي التي تحب وتحَب معياراً يتزاوج فيه كل من الحب والتوافق الاجتماعي بصفة أن التوافق الاجتماعي يستتلي بادرة الحب من الطرف الاخر موضوع التعامل أوالتوافق.

وهذا كله أرضي وأما إسلامياً فإن الإسلام يلمّح إلى سمتي الحب والتوافق بنحوٍ أشد مما نلاحظه في التصورات الأرضية، بحيث يمكننا القول بأن كلاً منهما - الحب والتوافق الاجتماعي - تكاد التوصيات الإسلامية تحصر فاعليتها في ممارسة هذين النمطين من السمات أو هذا في شتى صعد السلوك، سواء أكان هذا التعامل في الواقع مع السماء أو مع الآخرين أو حتى مع ذات الشخص نفسه، أو حتى مع مطلق ما يواجهه الإنسان حتى من خلال ظواهر الطبيعة التي نشاهدها، أو التي يتفاعل مع أحداثها أو يتعامل مع محتوياتها، وهذه المجالات التي ينحصر السلوك الإنساني فيها تظل في الواقع موضوعاً للتوصيات الإسلامية المشدّدة كل التشدد إلى درجة ملفتة للانتباه حقاً.

وقبل أن نتحدث عن هذه الجوانب إليكم جملة من السمات التي رسمها الإمام الصادق (عليه السلام) في القائمة المشهورة التي تتضمن خمساً وسبعين مفردة من أنماط السلوك الإيجابي ويقابله السلبي أو العقلي ويقابله الشهوي أو السوي ويقابله الشاذ، إليكم مفردات من هذه القائمة التي ترتبط بما نتحدث عنه الآن، أي بما ترتبط به من السمات الاجتماعية، ولنلاحظ ذلك بدقة:

(المودة وتقابلها العداوة، الرأفة وتقابلها الغلظة، الرفق ويقابله الخرق، العفو ويقابله الحب، الصفح ويقابله الانتقام، الوفاء ويقابله الغدر، الرحمة وتقابلها القسوة، الإنصاف ويقابله الذل، المواساة ويقابله المنع، المداراة وتقابلها المكاشفة، التقى ويقابله الحسد، الألفة وتقابله الفرقة، صون الحديث وتقابله النميمة، الكتمان وتقابله الإفشاء، الحياء وتقابله الوقاحة، البر ويقابله العقوق، العفة وتقابلها التهتك).

لاحظوا أن هذه السمات تشكل أكبر النسب من قائمة السلوك بالقياس إلى سائر السمات العقلية والمزاجية والذاتية والعبادية والبيولوجية التي انتظمتها القائمة المشار إليها، مما يعني أن أهم واعظم السمات السلوكية إنما تنتسب إلى معيار الحب في الدرجة الأولى ومعيار التوافق الاجتماعي المترتب على الحب في الدرجة الثانية. فالملاحظ أن كلاً من المودة والرأفة والعفو والصفح والإنصاف والبر تنتسب إلى معيار الحب، كما أن كلاً من الألفة والمداراة والمواساة وسواها تنتسب إلى التوافق الاجتماعي، وما يعنينا من ذلك هو أن نقدم تفسيراً لهذا التشدد في ظاهرتي الحب والتوافق الاجتماعي وانعكاسهما إسلامياً على السلوك العبادي والنفسي للشخصية. أو بالأحرى بما تتضمنه التوصيات الإسلامية من توجيهات تربوية تنسج الشخصية في ضوئها أو بالأحرى تصاغ صياغة سوية بالنحو العبادي المطلوب.

لنتقدم أولاً عن معيار الحب فنقول:

الحب هو النزوع نحو الشيء ويقابل ذلك الكراهية التي تعني النفور من الشيء، سواء أكان النزوع نحو الله سبحانه وتعالى أم نحو الذات الفردية أو نحو الآخرين أو حتى نحو البيئة الخارجية، ومن الحقائق المألوفة التي تؤكدها الاتجاهات الأرضية أن الحب يؤدي إلى التحام الجوانب الذاتية للشخص، أي يحقق التوازن الداخلي ويمسح التوترات المختلفة التي تصيب الشخصية، وأما الكره فيؤدي هذا ما أثبتته التجارب الأرضية إلى تمزيق جوانب الذات، أي تعريض الذات الفردية للتوتر والصراع، وهذا يعني بوضوح أن السمة الأولى مؤشر إلى كون الشخصية ذات طابع سوي في حين أن السمة الأخرى تؤشر إلى كون الشخصية ذات طابع مرضي، هذه الحقائق التي يقرّها البحث الأرضي تنطلق من القناعة بأن الإشباع للحاجات يتكفّل بتحقيق الحب وأن الإحباط أو عدم الإشباع يؤدي إلى الكراهية، الاتجاه الجنسي مثلاً يحدد في زعمه مراحل النمو النفسي من المراحل الطفلية المعروفة بمقدار التصالح بين حاجات الطفل وطريقة إرضاءها في كل مرحلة من حيث استتلاءها للحب أو الكراهية التي تعني عدم التصالح. ومع أن هذا الاتجاه يحمل من الزعم ما لا تحمله الحقيقة إلا أن في الآن ذاته وفي نطاق عدم الإرواء فحسب بغض النظر عن السبب الملتحم بعدم الإرواء نقول بالرغم من ذلك أو بالأحرى بالرغم من أن هذا الاتجاه ينسج وجهة نظر تشاؤمية حيال التعامل الإنساني مع حاجاته التي تجمع المراحل الطفلية المشار إليها إرثاً فطرياً فرضته عليه مراحل تاريخية من الكبت، واستتلاء ذلك من ثمة صراعاً مريراً، نقول مع ذلك كله ومع أن القدر الذي ينسجه هذا الاتجاه عن الشخص فإن البديل الوحيد الذي يطالب به هذا الاتجاه هو الحب، لتحقيق الاستواء النسبي لا المطلق، وإلا فإن الفارق بين السوي وبين المريض في نظر الاتجاه المذكور هو فارق في الدرجة لا في النوع.

سقنا هذا الكلام لندلل به على أن الاعتراض بالحب يظل هو الصياغة الوحيدة لتحقيق مفهوم السواء حتى في الاتجاهات الأرضية التي لا يتناقش فيها اثنان. ولكن المطالبة بتحقيق هذا لدى باحثين متنوعين نجده يتمثل حيناً في نظر بعضهم إلى أن الكراهية مثلاً هي غريزة أساسية عند الإنسان وهذا ما تتوفر عليه باحثة معاصرة معروفة أو مثلاً أن البيئة الاجتماعية مشحونة بالعداء وهذا أيضاً ما تتوفر به باحثة معاصرة، ولكن حتى الاتجاهات التفاؤلية التي تنسج تصوراً إيجابياً لدى الإنسان لا يمكنها أن تفسر دلالة الحب وطريقة تجسيده في سلوك تلقائي إلا على نحو من المصالحة المفروضة على الشخص وهذا هو السر الكامن وراء فشل الصياغة الأرضية التي تطمح إلى أن تصل إلى تحقيق مفهوم السوية التي تحرص على تحقيقها دون أن تنجح في ذلك.

المهم إن إدراكنا لدلالة الحب لا يمكن أن يتوفر إلا من خلال التفسير الإسلامي له، وهو تفسير يقرّه البحث الأرضي ولكنه يبقى بمنأى عن معرفة طرائقه وهذا هو الفاصل بين التصورين الإسلامي والأرضي.

على أية حال إن تركيبتنا الآدمية قائمة أساساً على دلالة الحب، أي إن الله سبحانه وتعالى ركّز فينا هذه التركيبة البشرية لتقوم أساساً على مفهوم الحب، معنى هذا أن المبدأ الأرضي المعروف القائل بأن تحركات الإنسان أساساً تقوم على البحث عن اللذة إنما تجسّد قبل كل شيء الحب ولكن نحو الذات الفردية، كما أن المبدأ الآخر القائل بأن الآخر الذي يحقق إشباعاً للطفل عن طريق تنظيمه لحاجاته، أو يحقق إشباعاً لشخصية راشدة عن طريق محبته وتقديره إنما يحقق شعوراً تلقائياً بالحب نحو الآخر لدى الطفل أو الراشد، كما يؤدي إلى الإحساس بأن الآخر يحمل نفس الحب حياله، وحينئذ لا يمكننا أن نتصور أية دلالة لمفهوم الكراهية، ولكن هذا المبدأ في الواقع مرتبط بعدم وجود الإحباط،إنه مرتبط بتحقيق الإشباع وهذا ما لا تسمح به طبيعة الحياة، مما يؤدي من ثم إلى زرع الكراهية نحو الآخر أو البيئة الخارجية، وإلا خارجاً عن ذلك يبدأ المبدأ الأول هو الحب.

ولكن في الحالتين لا كراهية حقيقية لدى الآدميين بل محبة فطرية، كل ما في الأمر أن البيئة تتدخل في بلورتها أو خفضها أو تحويلها إلى كراهية نحو الآخر أو نحو البيئة الخارجية، وأما إسلامياً فيظل الحب كما قلنا هو الدلالة الوحيدة في تركيبة الإنسان ما دام الإنسان هو التجسيد لتلك الروح التي نفخها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، فما دام تحرك الشخص لا يمكن تصوره إلا من خلال البحث عن اللذة، أي النزوع نحو الشيء فإن الحب مطلقاً يحمل نفس هذه الدلالة وهي النزوع نحو الشيء، وأما الإحباط فلا يستتلي بالضرورة دائماً أن تنشئ ثمة كراهية في الأعماق، بقدر ما يؤدي عدم وعينا إلى ذلك.

إذن النزوع نحو الشيء الذي هو جوهر تركيبة البشر لا ينفصم عن الحب الذي هو نزوع نحو الشيء، أي أنهما وجهان لعملية واحدة، كل ما في الأمر أن البحث عن اللذة يحرم على الذات الفردية والحب يتطلب حرماناً على الذات الأخرى، أي الآخرين،وهذا ما يتحقق من خلال الإشباع الذي يوفره الآخرون، وفي حالة الإحباط ينحصر الحب في أحد الجوانب وهو الذات الفردية، ولكن هل يمكننا أن نتصور إمكانية أن ينحصر الحب لدى شخص ما بدون وجود طرف آخر يخلع عليه الحب أو وجود بيئة خارجية يسحب الفرد محبته عليها؟!.

الواقع أن وجود الآخر ووجود البيئة الخارجية هما اللذان يجسدان مكاناً لكي يتحرك معنى الحب للذات، وإلا فإن الذات الفردية لا معنى له بدون وجود طرف آخر وبدون وجود بيئة خارجية. وإليكم الآن نموذجاً لتتضح بجلاء أمامكم هذه الحقيقة:

الآن حينما يتحسس أحدنا بالجوع نحسّ بالميل إلى الطعام، الطعام يجسد أحد مفردات البيئة الخارجية وهذا يعني أن حبنا لذواتنا مرتبط بوجود طعام نفرغ فيه محتوى حبنا، أي إننا نحب الطعام وتكمن النتيجة أننا ننزع بالضرورة نحو الطعام، أي أن محبتنا للطعام لا تنفصم عن محبتنا لذواتنا مما يعني أننا بالضرورة نحب البيئة الخارجية المتمثلة في إحدى مفرداتها وهي الطعام. والأمر نفسه حين نتجه إلى الظواهر النفسية المتصلة بوجود الآخرين حيث نجد نفس الدلالة في هذا الصدد، فإن محبتنا لذواتنا تعني أننا ننزع نحو شخص آخر يحقق معنى لذواتنا متمثلاً هذا الشخص في تقديره لنا وفي محبته إيانا، أي أن تقدير الآخرين هو الذي يضفي معنى على ذاتنا الباحثة عن الحب، فأنا أحب الآخر لأنه يحقق لي إشباعاً لحاجتي إلى الحب، وإلا إذا تصورت بأنني موجود وحدي حينئذ لا تجد الذات أية ضرورة لأن تحب الذات لعدم وجود منبه تستجيب له ذاتي، إذاً حبي للآخر أمر لا تشكيك فيه أي أن الإنسان بالضرورة يحب الآخر وبالضرورة يحب البيئة الخارجية التي تكتنفه، هذه هي الطبيعة البشرية التي ركبها الله سبحانه وتعالى بهذا النحو، وذلك لكي يجسد معنى الحب وما تترتب عليه من علاقات ترسمها التوصيات الإسلامية بنحو نحدثكم عنه إنشاء الله في سياقات خاصة.

وهنا يثار السؤال الآتي: إذا كان الحب للآخر أمر لا تشكيك فيه وكذلك بالنسبة إلى البيئة الخارجية هنا يثار التساؤل القائل ما هو السبب إذن في نشوء الكراهية نحو الآخر أو البيئة بعد أن عرفنا أن الأصل هو الحب نحوهما؟!.

الإجابة تتمثل ببساطة في ظاهرة عدم وعي الإنسان بمهمته في هذه الحياة، هذا هو السبب الرئيس في نشوء الكراهية وهذا أمر يجهله أمر بطبيعة الحال جميع الاتجاهات النفسية والتربوية في الأرض، إن أدنى وعي يمارسه الشخص في استكناه معنى وجوده في هذه الحياة ومعنى وظيفته سيحوله من شخصية مريضة إلى شخصية سوية بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات. إننا إذا أدركنا أن جوهر تركيبتنا الآدمية منسوجة من الحب الذي أودعته الروح التي نفخت فينا، وإن هذه الروح مرتبطة بمهمة الخلافة في الأرض حينئذ تنتفي الكراهية أساسا وتبقى فاعليتها منحصرة في الممارسات التي تتعارض مع وظيفة العبادة تبعاً لقوله سبحانه وتعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وبكلمة أشد وضوحاً إن النزوع نحو الشيء وهو مفهوم الحب يستتلي بالضرورة النفور من الشيء الذي يعارضه، أو لنقل النزوع نحو الخير يستتبع كراهية الشر كما ألمح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقولته المعروفة التي استشهدنا بها في أول محاضراتنا، نقول إلا أن هذا في الواقع يبقى مرتبطاً بمدى وعينا لمهمة الخلافة التي تحدد مجالات الكراهية دون أن تجعلها بالنحو المطلق، فمثلاً قد تجدون شخصاً يمارس عملاً عدوانياً فتكرهونه لممارسته المذكورة، وقد لا تكرهونه بقدر ما تتحسسون بعدم الحب حياله، وقد تحبونه أيضاً، أي من الممكن أن تكرهوا وأن تحبوا وأن لا تحبوا ولا تكرهوا حيال الشخص العدواني المذكور، ولكنكم في الحالات الثلاث لا تملكون إلا محبة للخير وكراهية للشر، فالقتل مثلاً عملية شريرة لا بد وأن تكرهونها ضرورة ما دمتم تحبون المسالمة  ولكن الشخص الذي يمارس عملاً عدوانياً ما قد يجهل هو الطابع الشرير لسلوكه وحينئذٍ لا يحملنا على أن نكرهه وقد يخيل إليه أنه مارس عملاً خيراً فنحبه حينئذ بالرغم من ممارسته لعملية قتل وذلك بسبب من الباعث الخير لديه. وقد لا نحبه ولا نكرهه لأننا أساساً لا نحمل الكراهية لأحد بقدر ما نتألم له عند معرفتنا بأنه سيعاقب على ذلك مثلاً، أي أننا لسبب من محبتنا للإنسان نتألم له لما يواجهه من عذاب لاحق به.

المهم في هذه الحالات جميعاً نصل بمحبتنا وكراهتنا لمبدأ وعينا لمهمة الخلافة في الأرض وهو أمر نعتقد أنه يتطلب شيئاً من التوضيح، إن الكائن الآدمي روح نفخها الله فيه، وما دامت هذه الروح هبة من السماء فإن الكمال لا بد وان يطبعها لأن قناعتنا بكمال السماء هو الذي يحدد لنا هذا الاقتناع، وما دامت الروح المذكورة تجسّد نزوعاً نحو الشيء، فإن السمة المشتركة بين الذات الفردية وبين الذات الأخرى تتبادل التأثير فيما بينهما، أي إن البشر جميعاً يحب أحدهم الآخر بالضرورة بصدورهم جميعاً عن روح واحدة، وهذا النزوع نحو الآخر يتجه نحو الشيء أيضاً أي البيئة الخارجية التي تحيط بنا، وبما أنه هبة من الله فإن الحب بنحو رئيس يتجه نحو الله وبنحو ثانوي نحو الآخرين مما يعني أن كلا ما يرسمه الله لنا من المبادئ ويطالبنا بالالتزام بها إنما يجسد محبة لله سبحانه وتعالى، وكل ما نهانا عنه يجسد ابتعاداً عنه واتجاهاً نحو الشر ونحو المرض في نهاية المطاف، وهذا ما يفسر لنا دلالة النية التي سنحدثكم عنها حيث يظل العمل بدون النية لا يحقق استواءاً للشخصية أي أن العمل  ما لم يتجه إلى الله سبحانه وتعالى من خلال نياتنا فإنه لا يعد عمل حبي الذي هو جهز تركيبتنا الآدمية، بل يعبر عن المرض الذي هو إفراغ للطرف الآخر من السلوك والذي هو الشهوة مقابل العقل بالنحو الذي حدثناكم عنه في محاضراتنا الأولى.

والآن في ضوء تعرفنا على ظاهرة الحب من حيث صلتها بالله وبالآخرين وبالذات وبالبيئة الخارجية يحسن بنا أن نعرض في هذا الميدان طرائق تعبيرنا عن الحب بالنسبة إلى الآخرين ما دمنا بصدد أن نحدد السمات الاجتماعية للشخصية، ومن الطبيعي فإن تصدير الحب إلى الآخرين يرتبط كما قلنا بنمط من التفاعل الاجتماعي فيما يتحقق من خلال سلوك محدد هو التوافق مع الآخر أو التكيف الذي سيأخذ أشكالاً متنوعة من السلوك يحدده الموقف الاجتماعي نفسه، التكيف يعني التنازل عن الحاجات وتعويضها بإشباع آخر تتطلبه المعايير الاجتماعية، فهناك تكيف معفي أولاً حيث يتصالح فيه معيار ذواتنا مع المعايير الاجتماعية، كما لو توجهتم مثلاً إلى إلقاء حديث أمام جمهور يتطلع إلى مثله، ويقابل هذا تكيف التزامي كما لو اضطررتم مثلاً أن تقفوا ساعات طويلة لتنجزوا معاملة رسمية يمكن أن تنجز في دقائق معدودة بحيث تضطرون إلى مصانعة ومجاملة الموظف الذي لا يستحق في نظركم أدنى تقدير، ولكن الملاحظ أنكم من الممكن أن تنجحوا في كسب مودة هذا الموظف لو كنتم سالمين تماماً من شائبة أي مرض، أو كان الموظف هو مرشحاً لإمكان أن يعدل سلوكه، ولكن المهم هو أن يمارس كل منا عملية التكيف ما دام الحب من جانب يحملنا على أن نداري هذا الموظف، وما دام إنجاز معاملتنا ونحن محقون في ذلك يتطلب أن نصطنع موقفاً ودياً من جانب آخر.

فعملية التكيف بهذا النحو يظل أمراً يقره البحث الأرضي ويعده من سمات الشخصية السوية، وهو ما يطلق عليه مصطلح التوافق الاجتماعي. أما الإسلام فإن تصوره لظاهرة التوافق الاجتماعي يظل في مقدمة ما يندب إليه، بل إنه ليشدد على هذا السلوك بنحو لافت ومدهش، وهو أمر قد تقفون على تفصيلاته إذا قدر لكم أن تتناولوا كتاب (الإسلام وعلم الاجتماع) حيث يتحدث تفصيلاً عن العمليات الاجتماعية المتمثلة في جملة تتمثل فيه في عملية التوافق الاجتماعي، حيث ألقينا إنارات كاملة على هذا الموقف من جملة زوايا نرجو للطالب أن يتوفّر عليها إنشاء الله، المهم يلاحظ أن المشرع الإسلامي عندما يرسم لنا مبادئ التوافق الاجتماعي يأخذ كلاً من هذه الأبعاد الثلاثة، أي الذات الفردية والذات الأخرى والبيئة الاجتماعية بعامة يأخذ ذلك جميعاً بنظر الاعتبار بحيث يترتب على ذلك أن يسحب طابع السوية على البعد الثلاثي المذكور، لا أنه يأخذ أحد الأطراف بعين الاعتبار ويترك الطرفين الآخرين.

ويلاحظ أيضاً أن المشرع الإسلامي يرسم أشكالاً متنوعة من التوافق بعضها يتصل بالأقارب وبعضها يتصل بالأصدقاء وبعضها يتصل بعامة الناس وبعضها يتصل بالأعداء.. الخ، ويمكننا ملاحظة مدى تشدد المشرع في هذا الميدان من خلال توصياته الصريحة الواضحة نحو قول المعصوم (عليه السلام): (لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)، وقوله (عليه السلام): (إنه لابد لكم من الناس إن أحداً لا يستغني عن الناس في حياته والناس لابد لبعضهم من بعض) وقوله (عليه السلام): (قلوب الرجال وحشية فمن تألّفها أقبلت عليه).

إن هذه النصوص تلخص وجهة النظر الإسلامية حيال التوافق الاجتماعي وضرورته التي جعلت مختلف الاتجاهات النفسية تعد التوافق معياراً للسلوك السوي، والملاحظ أن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة قد طبعه تفصيل دقيق لمستويات التوافق بدءاً من معالجته للطبيعة البشرية مروراً بعمليات تبادل المصالح الاجتماعية وانتهاءً برسم سمات الشخصية المتوافقة اجتماعياً، فإشارة المعصوم (عليه السلام) إلى أن قلوب الرجال وحشية تعد ملاحظة عيادية بالغة القيمة بميدان الحقائق المتصلة بالطبيعة البشرية وذلك لكون الإنسان شخصية ذات أحاسيس تشبه ما هو بدائي ووحشي بالقياس إلى نظرتها عن الآخرين، فهذه الملاحظة تعد كما هو ملاحظ لديكم أدق وأشمل ما يمكن تصوره حيال المسوغ لعملية التوافق الاجتماعي، فالآخرون قد يشبهون الأطفال تماماً من حيث عدم استجابتهم حيال من يتعاملون وإياهم في البداية، فأنتم بقدر ما تحققون إشباعاً لهذا الطرف الآخر، وبقدر ما تبعدون عنه مصادر الألم يبدأ هذا الآخر فيستجيب لكم ودياً ويتحوّل هذا الوحش في أعماقه إلى أليف يركن إليكم، والأمر ذاته بالنسبة لمطلق الآدميين وطريقة استجابتهم حياله. فبقدر ما تمنحنونهم من الألفة تكونون قد طردتم بقايا الوحش الكامنة في أعماقهم، ولذلك فإن نجاح الشخصية وبلوغها أعلى مراتب السلوك السوي يتوقف على ما تحققه الشخصية من عمليات التآلف التي لخّصها المعصوم (عليه السلام) بقوله: (لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)، فهذه التوصية تجسد أدق وأشمل ملاحظة تقويمية لسمات الشخص حيث انتبه البحث الأرضي مؤخراً إلى هذه الحقيقة الإسلامية عندما عرف الشخصية الإسلامية بأنها التي تحِب وتحَب أي عرفها عالم النفس الأرضي بنفس التعريف الذي قدمه المشرع الإسلامي قبل أن يولد علم النفس أساساً.

المهم إن ملاحظة المعصوم (عليه السلام) تظل كما قلنا أدق تعريفاً في الواقع للشخصية السوية من التعريف الأرضي المذكور من حيث تصورها لعمليات التوافق الاجتماعي، والأهم من ذلك هو أن هذا التعريف يسلّ الشخصية من دائرة السواء تماماً إذا نفى قدرتها على أن تألف وتؤلف، بحيث يسميها بأنها لا خير فيها، علماً بأن الشخصية الإسلامية بما تمتلكه من موقف فلسفي تجاه الحياة، وتجاه الآخرين الذين لا يشاطرونها موقفها الفلسفي المذكور، هذه الشخصية بما تمتلكه من موقف وبما يستجر هذا الموقف إلى عدم مهادنتها على العدو، وإلا فرز عدوها الذي لا يشاطرها الموقف، نقول بالرغم من ذلك جميعاً يتم لها طرائق متنوعة في ميدان الحب والتوافق.

على أية حال قد نحدثكم عن هذه الطرائق لكننا نرتد الآن لنلاحظ المفردات التي صيغت في قائمة السلوك للإمام الصادق (عليه السلام) وهي المفردات المجسّدة للحب حيث وردت في القائمة المشار إليها ولكن من خلال وجود فوارق دقيقة بين مستويات الحب التي تبدأ من هذه المفردات، ولكن الطابع العام وهو يظل مندرجاً تحت المسالمة وما يقابلها من الكراهية. ونحن إذا تجاوزنا ذلك جميعاً إلى مستويات أخرى من الحب وجدنا أن العفو والصفح ونحوهما يجيئان في سياق القائمة المذكورة أيضاً، وهذا يعني أن الحب بصفته نزعة نحو الخير لا يتجسّد في مجرد كمونه أو تصديره إلى الآخرين بل يتجاوز ذلك إلى أن يتنازل عن الألم الذي يلحقه الآخرون بنا أيضاً. فأنتم من الممكن أن تحبوا شخصاً وتقدموا إليه المساعدة تعبيراً عن حبكم إياه، ولكن من الممكن في الآن ذاته أن تعاقبوا هذا الشخص إذا صدرت عنه بادرة سوء حيالكم، وهذا يعني أن كلاً من الحب والكراهية من الممكن أن يتجسدا في سلوككم، ولكن إذا أضفنا إلى قائمة الحب مفرداتٍ مثل العفو ونحوه أمكننا أن نتصاعد بفاعلية الحب إلى آفاق أكثر سعة، بل سنتصاعد فاعلية أكثر حينما لا نتجه بأن نعفو عن العدو فحسب بل نبادر ونحسن إليه أيضاً، وهذا يعني أن الإسلام رسم لنا ثلاثة صعد لممارسة الحب، أدناها درجة هو الحب ثم العفو ثم الإحسان. ولنتحدث الآن عن هذه المستويات نظراً لأنها تتكفل بتربية الشخصية تربية سوية لا غبار عليها تتصاعد بها إلى الذرى دون أدنى شك.

أما المستوى الأول وهو مطلق الحب فقد أوضحنا دلالاته من حيث موقعه من تركيبة الآدميين، ومن أبسط مظاهره هو خلوّ الأعماق من الكراهية والحقد، ولذلك جاءت التوصيات الإسلامية مؤكدة هذه الدلالة من نحو قوله سبحانه وتعالى: (لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) ويجيء الحسد كما ورد في القائمة السلوكية للإمام الصادق (عليه السلام)واحداً من أشكال الكراهية التي تضاد الحب بصفة أن الحسد هو تمني زوال النعمة من الغير، أي كراهية الشخص المذكور. ونظراً لأهمية هذه السمة وتجذرها في التركيبة الآدمية يجدر بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل، إلا أن محاضرتنا الحالية لا تسمح لنا بطبيعة الحال على الوقوف عند هذه التفسيرات نظراً لضيق الوقت وانتهاءه تقريباً، ولذلك سنؤجل الحديث عن هذه الظاهرة إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله تعالى بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن سمة الحسد تظل ظاهرة مألوفة في مجتمعاتنا مطلقاً سواء أكانت المجتمعات إسلامية غير الملتزمة، بل وحتى المجتمعات الإسلامية الملتزمة مع الأسف الشديد حيث أن هذه الأمراض تظل تطبع غالبية سلوكنا مع أن المفروض هو أن نعي هذه الحقاق بوعي إسلامي بالنحو الذي حدثناكم عنه في محاضراتنا السابقة عن جملة من الظواهر المتفشية في مجتمعاتنا ولكن مجتمعاتنا مع الأسف الشديد لم تصدر عن وعي عبادي حاد حيالها حيث نأمل إنشاء الله من خلال وقوفكم على الأسباب المرضية لأمثلة هذا السلوك يمكنكم ذلك أن تسموا إلى ذلك السلوك من خلال ما هو مطلوب عبادياً إنشاء الله.

والمهم أننا سنتحدث بمشيئته تعالى بشيء من التفصيل عن ظاهرة الحسد وما تتطلبه من العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك من قبلنا حتى نستطيع مواجهة هذه السمة وتحويل ذلك إلى سمة سليمة إنشاء الله تعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..