mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 38.doc

بسم الله الرحمن الرحيم    

بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن السمات الاجتماعية وقلنا أن كلاً من سمتي الحب والتوافق الاجتماعي يعدّان من أهم السمات التي تميّز الشخصية السوية عن الشخصية الشاذة، وإن كلاً من الحب والتوافق يعني إقامة علاقة بين الشخصية وبين الآخرين على شتى مستويات هذه العلاقة سواء أكانت علاقات مباشرة أو علاقات غير مباشرة وسواء أكانت علاقات صغيرة الحجم أي ما يسمى بالجماعات الأولية أو علاقات واسعة، في الحالات جميعاً فإن كلاً من سمتي الحب والتوافق الاجتماعي يظلان من أهم السمات المميزة للشخصية السوية وفرزها عن الشخصية الشاذة.

وقد تحدّثنا عن جملة من هذه المستويات وبدأنا بالحديث عن الحبّ وقلنا إن الحب يتجسد في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هو مطلق الحب للآخرين والمرحلة الثانية هو الحبّ مصحوباً بالعفو عن الآخرين والمرحلة الثالثة هو الحب مصحوباً بالإحسان إليهم، وانتهينا من ذلك إلى الحديث عن أحد المظاهر السلوكية التي تعج بها مجتمعاتنا وهي السمة التي تقف على التضاد تماماً من ظاهرة الحب ونعني بها ظاهرة الحسد حيث وعدناكم أن نتحدث عنها في محاضرة لاحقة والآن قد حان الموعد لأن نحدثكم عن هذا الجانب فنقول:

إن الأبحاث الأرضية تكتفي من معالجتها لظاهرة الحسد بالذهاب إلى أنها واحد من أشكال النزعة العدوانية، وتصل بينها وبين منعكسات الطفولة التي يجيء بضمنها كلّ من التفاضل بين الأفراد أو التدليل المفرط أو النبذ أسباباً لنشوء الحسد والغيرة لدى الأطفال وانسحاب ذلك من ثمّ على سلوكهم الراشد، أما الإسلام فلا يعنى بهذا الجانب إلاّ في نطاق محدّد سبق أن عالجناه مفصلاً عند حديثنا عن مراحل النمو لدى الشخصية في ما أوضحناه في حينه إمكانية انسحاب الحسد على سلوك الراشدين كما هو الحال لدى أخوة يوسف (عليه السلام) بسبب من التفاضل الذي لاحظوه فيما بينهم، إلا أننا أوضحناه في حينه أيضاً أن نماذج من التفاضل ومنها ما كانت ممارساته لدى أهل البيت (عليهم السلام) حيث ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) أنه كان يفضل على أخيه عند أبيه، وأشار إلى أن هذا لا يترتب عليه ضرر ما ولكن بشكل عام فإن الأفضلية هي أن يتم التساوي بين الأطفال.

ومهما كان فإن الطفولة لا تسحب آثارها بنحوٍ مطلق على السلوك الراشد بقدر ما يتم ذلك وفق شروط خاصة أشرنا إليها في حينه فلا نعيد الآن ذلك الحديث، ولكن ما ينبغي أن يلقي إنارة أكثر على هذه الظاهرة هو أن نحدد الملاحظات العيادية لظاهرة الحسد وإخضاع ذلك في بعض الأنماط إلى طابع وراثي مما ينفي أيضاً أثر التنشئة الطفلية في هذا الميدان، والآن لنتجه إلى النصوص الإسلامية لنلاحظ كيفية معالجتها لهذا الجانب على شتى المستويات.

في سياق خاص أشارت التوصيات الإسلامية إلى أن الحسد ومعه ظاهرتان هما الطيرة والوسوسة، تشكل ممارسات لا يترتب عليها العقاب علماً بأن هذه المفردات وردت في حديث الرفع المشهور وهو الحديث الذي تضمن الإشارة إلى تسعة أنماط من السلوك بعضها ينتسب إلى السمات العقلية كالنسيان والسمات المعرفية كعدم العلم وبعضها ينتسب إلى ممارسات حركية اضطرارية كالأفعال المكره عليها.. الخ. ومن الواضح أن عدم ترتيب العقاب على ممارسة الحسد يعني أن هذه الظاهرة إما ذات طابع إرثي لا يمكن للشخصية أن تمارس عملية تأجيل حياله أو أنها ممارسة تدخل في نطاق ما هو مكروه مثلاً، إلا أن بعض النصوص تشير إلى أن ثلاثة من هذه المظاهر لا يخلو منها نبي فما دونه، وهي الوسوسة والطيرة والحسد، وهذا يعني أن ظاهرة الحسد ذات طابع إرثي لو أخذنا بظاهر هذه الروايات، دون أن نخضعها لتأويل خاص وإذا كانت كذلك فلا عقاب على ممارساتها ولكن مثل هذا التقرير يتنافى أساساً مع ما سنلاحظه من التحذيرات الإسلامية من الحسد فيما تسمه بأنه ماحق للدين أي أن الحسد يتنافى مع أبسط المظاهر العبادية، لذلك وضع المشرع الإسلامي فاصلاً يفرّق فيه بين نمطين من ممارسة الحسد، أحدهما كمون الحسد دون إبرازه في عمل لفظي أو حركي والآخر تجسيده في العمليات المذكورتين بمعنى أن مجرد كونك حاسداً لشخص ما لا يترتب عليه أثر سلبي في السلوك، ولكنك إذا ترجمت حسدك المذكور إلى فعل وممارسة فإنه كما لو بذلت محاولةً لإزالة النعمة التي لحظتها عند هذا الشخص أو ذاك أو قمت بممارسة لفظية تفصح بها عن انفعالك للنعمة المذكورة حينئذ تترتب عليها آثار العقاب.

مثلاً إذا حسدت أحد الأشخاص على وظيفة في دائرة معينة مثلاً وحسدته على الراتب الضخم الذي يتسلّمه حينئذ إذا اكتفيت بمجرّد الحسد فلا إثم عليك، ولكن لو افترضنا أنك حاولت أن تزحزح هذا الشخص عن موقعه المشار إليه من خلال تدخلك بشكل أو بآخر حينئذ ستترتب الآثار على ذلك من حيث العقاب، وكذلك إذا مارست سلوكاً لفظياً كما لو اعتديت على الشخص المشار إليه، أو تحدثت بكلام يوحي بإمكان أن تزحزح هذه الشخصية من موقعها أولئك جميعاً تترتب عليها الآثار المتمثلة بالعقاب.

لكن ينبغي أن نقول مع ذلك كله إن الحسد حتى مع كمونه أي حتى مع وجوده في أعماقه وعدم إبرازه في سلوك عملي يظل في الواقع موسوماً بالطابع العدواني الذي لا يتسم مع طبيعة الشخصية الإسلامية الملتزمة، وحيال ذلك لا يمكننا أن نتصور إمكانية أن يحتفظ الشخص بنزعة الحسد ثم يحتفظ بطابع السوية في السلوك في الآن ذاته، كيف ذلك؟ بصفة أن تمنيك لزوال النعمة في نطاق مجرد الأحاسيس هو في الواقع رد على قسم الله تعالى، وهي القسم التي منحت هذا الشخص أو ذاك نعمة لم تمنحها للآخرين، أليس الله سبحانه وتعالى يصرّح في كتابه الكريم وكذلك التوصيات الحديثية تقول أن الله سبحانه وتعالى يقدر الأرزاق للبشر جميعاً بحسب ما تتطلبه الحكمة، حينئذ فإنك إذا حسدت أحداً ما فهذا هو ردّ على الله سبحانه وتعالى وهو ما أشارت التوصيات الإسلامية إليه أيضاً حينما حذرت الحاسد من ممارسة حسده لأنه ممارسة هي رد على الله سبحانه وتعالى، أو بكلمة أخرى النص الإسلامي يقول أن الحاسد هو صادٌّ لقسم الله سبحانه وتعالى.

هنا نود أن نشير إلى أن بعض التفسيرات تلقي إنارة تامة على هذه السمة حينما تصطنع فارقاً بين الحسد وبين الغبطة فتقرر بوضوح أن المؤمن يغبط ولا يحسد، وهذا يعني أن الحسد المنفي عنه أثر العقاب يتميز عن الحسد المرضي الذي لا يلتئم مع تركيبة الشخصية الإسلامية، أي إنك تحوّل مشاعر حسدك إلى غبطة متمثلة في كونك تهنئ هذا الشخص الذي احتلّ موقعاً اجتماعياً أو حصل على مرتب محترم تتمثل هنا تحول مشاعرك الحاسدة إلى غبطة، تتمثل في كونك سوف تهنئه مثلاً على تسلم مثل هذا الموقع وهذا نحو من يغبط الآخرين على إنجازاتهم التي يتمونها لممارسات خيرة أو على محالفة التوفيق لهم بتسلم المعطيات التي شهدتها.

وأياً كان فإن الحاسد إذا سلخناه من نطاق الغبطة يظل كما أشارت النصوص الإسلامية إليه من أشد النزعات العدوانية بروزاً.

والآن في ضوء ما تقدم من الملاحظات نقول: إن ممارسة الحب في التصور الإسلامي تتم على ثلاث صعد، أدناها درجة هو كمون الحب في أعماق الشخصية وخلوّ هذه الأعماق من آثار الكراهية المتنوعة ومنها خلوّ الأعمال من الحسد، أما الدرجة التي تتصاعد بممارسة الحب إلى آفاق أكثر سعة فقد قلنا أنها متمثلة في ممارسة العقل وما تمثله من السمات التي لا تمارس مجرد تصديراً للحب، بل تتنازل عن الرد بالمثل على الأذى الذي لحق بها، فأنت حينما تحب أحد الأشخاص الذين لم تصدر عنهم إساءة حيالك تكون قد مارست سلوكاً سوياً خالياً من أعراض المرض وهو الكراهية، ولكن إذا افترضنا أن أحد الأشخاص قد أساء إليك بكلمة مهينة مثلاً ورددت عليه الإساءة بمثلها تكون أنت حينئذ بهذه الممارسة قد قمت بعملية دفاع عن الذات، وهو أمر مشروع لا غبار عليه لكن ألا يمكنك أن تتصاعد بدرجة حبك فتمارس عملية عفو عن الإساءة المذكورة وهو خير دون أدنى شك من الحالة الأولى. إن العفو هنا يمثل تنازلاً عن الذات في بعض حقوقها ومجرد التنازل عن الذات يعني وفقاً لمعايير الصحة النفسية التي اتفقت السماء والأرض على صياغتها أنك مارست سلوكاً سوياً وهذا وحده يكفي لأن يمنح شخصيتك طابعاً له أهميته في حقل الصحة النفسية بصفة أن الرد على الإساءة في الواقع يستتلي توتراً في النفس من خلال تذكيرك بكيفية الرد على من أساء إليك، بل إن مجرد حرصك على أن ترد المسيء هذا الحرص يستتلي توتراً نفسياً يحدثه لديك بحيث يفقدك جانباً من توازن شخصيتك.

إذن التنازل عن الرد على الإساءة بالمثل يجسد نمطاً عالياً من الممارسات التي تتصاعد بالشخصية إلى الذرى من الاستواء، لكن ثمة تصاعد أكثر شمولاً من العفو وأشد إيضاحاً عن الاستواء حينما تمارس أنت إحساناً إلى المسيء، بمعنى أنك لا تكتفي أن تعفو عمن أساء إليك بل تتقدم بإحسان إلى هذا الشخص الذي أساء إليك، أو بمعنى آخر أنك ترد الإساءة بالإحسان لا أنك تعفو عن الإساءة فحسب؛ هنا نعتقد أن التعقيب على ممارسة مثل هذا السلوك الذي تندب إليه التوصيات الإسلامية لا يحتاج الأمر على التعقيب ما دمنا ندرك بوضوح أن الإحسان إلى المسيء يمثل أعلى درجة يمكن أن يتخيلها في ميدان التنازل عن الذات، ولعلّ أوضح نموذج لهذه الممارسات ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) حيال الأشخاص الذين كانوا يسيئون إليهم فكانت استجابة المعصومين (عليهم السلام) حيال العدوان المذكور أنهم يقولون للمعتدي مثلاً ألك حاجة نعينك عليها؟ ثم يعطونه مالاً كثيراً وهذا ما حدث للإمام السجاد (عليه السلام) مثلاً. وهكذا ما ورد عنهم حيال أحد الولاة الذين أساءوا إليه فأحسن الإمام (عليه السلام) إلى ذلك الوالي الظالم بعد أن عُزل.

المهم أن أمثلة هذه الممارسات تظل إفصاحاً عن أشد درجات الاستواء التي تتصاعد بممارسة الحب من مجرد عدم الكراهية إلى العفو ثم إلى الإحسان عن المسيء، المهم نحن لا نزال نتحدث عن أحد قطبي السمات الاجتماعية وهو الحب والقطب الثاني هو التوافق الاجتماعي، لكننا لا نزال نحدثكم عن القطب الأول وهو الحب، ونتابع حديثنا عن هذا الجانب لكي نقدّم العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك لتنظيم هذا الحب. ونبدأ أولاً بما يطلق عليه مصطلح التعبير اللفظي عن الحب، إن هذا المصطلح يمارسه اتجاه علاجي معاصر هو العلاج السلوكي الذي يستخدمه الأطباء والمعالجون والمرشدون النفسانيون في تدريب الشخصية على الاستواء. ويعبرون عن ذلك بمصطلح التعبير الذاتي أو حرية التعبير الذاتي أمام الآخرين، ونعني به التدريب على إبراز المشاعر الداخلية في مظهر خارجي وفي مقدمة هذا التعبير الذي ينظر إليه علماء النفس السلوكيون إبراز الحب الذي تستبطنه الشخصية حيال هذا الفرد أو ذاك، عبر تعبير لفظي بدلاً من مجرد كمونه في الأعماق أو مجرد إبرازه في سلوك حركي والحق أن هذا النمط من العلاج السلوكي للشخصية حيث انتبه العلاج الأرضي مؤخراً إليه، قرره في الواقع مشرعنا الإسلامي بنحو واضح متمثلاً في أكثر من توصية ومنها ما ألمح إليه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عبر محاورته مع الأشخاص الذين عبّروا عن محبتهم لإخوانهم فقال (عليه السلام) للرجل المشار إليه: فأعلمه، أي أعلم الرجل الذي تحبه، فإنه أبقى للمودة وخير للألفة. وأما الإمام الصادق (عليه السلام) فقد قال: إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك، فإنه أثبت للمودة بينكما.

إننا إذ نذكر الطالب بأمثلة هذه  التوصيات التي تغيب مع الأسف عن ذاكرة كثير من الناس وتتجه إلى علماء النفس والتربية المعاصرين، ينسجوا لهم بعد تجارب طويلة من العلاج السلوكي والإرشادي ليرصدوا لهم توصيات قد قدمها إلينا المعصومون (عليهم السلام) ونحن مما يؤسف له لم نلتزم ولم ننشر ولم نتدبر أمثلة هذه التوصيات التي قدمها المعصومين (عليهم السلام).

على أية حال إن التدريب على ممارسة مثل هذا السلوك اللفظي، أي أن تخبر صديقك بأنك تحبه، إن هذا النمط من الممارسة ليساهم بنحو فعّال في تحقيق تكيفك مع الآخرين، وفي تحقيق سمة الاستواء لكلٍّ من طرفي العلاقة، ففيما يتصل بالشخصية المفصحة عن أعماقها، ولتكن أنت أيها الطالب مثلاً، حينما تقول لزميلك الطالب كلمة (أحبك)، أنت بهذه الكلمة التي وجهتها إلى زميلك الطالب وسمعها تتدرب أولاً على تقدير ذاتك إيجابياً فتتخلص كما يقول علماء النفس من مشاعر الضعف والعجز الذي تنسجه حول ذاتك، وتحوّل ذلك جميعاً إلى إحساس بالثقة، وهذا هو أول المعطيات، والمعطى الثاني هو أنك تحقق خفضاً لتوتراتك المختلفة ما دام الإحساس بالثقة واكتساب محبة الآخرين من خلال المظهر اللفظي المذكور يحققان إشباعاً للذات كما هو واضح.

يضاف إلى ذلك أن عملية التوافق الاجتماعي تكتسب أكمل مظاهرها بهذا النحو من السلوك الذي لا يفرز معطياته على الطرف البادئ أولاً فحسب؛ بل على الطرف الآخر أيضاً، أي على صديقك فالآخر هو صديقك أو زميلك الطالب موضوع التعامل إلا عندما توجه إليه كلمة أحبك هذا الطالب الصديق يتوفر لديه إشباع لدافع الحب عبر ملاحظته لمحبة الآخرين له، كما يحمل هذا الزميل الذي تحبه أن يبادلك عواطفك بمثلها أي يبدأ بتدريب ذاته على ممارسة الحب نحو الآخرين، وتحقيق التوافق الاجتماعي من ثم من خلال التدريب على ممارسة مثل هذا الحب.

هذا إلى أنه من الممكن مثلاً أن يسود العلاقة بينك وبين زميلك نوع من الخفوت بسبب الحساسية التي يثيرها سلوكك نحوه أو سلوكه نحوك ولكن حينما يعبّر أحدكما بكلمة أحبك للآخر عندئذٍ فإن الهموم ستتبدد والتوتر سيتلاشى وستمسح كل بقايا الحساسية الذي حملها أحد الأشخاص لزميله.

إذن بهذا النمط من التعبير اللفظي من الحب يتحقق أكثر من جانب واحد من مبادئ السوية لكل الأطراف بالنحو الذي أوضحناه، والحق أن هناك بدائل لفظية متنوعة للتعبير عن مصطلح حرية التعبير الذاتي حيال الآخرين وتحسيس هؤلاء بالحب، نقول هناك بدائل يعنى بها المشرع الإسلامي ولكن لم يعنى بها المشرع الأرضي وهذا في مقدمته السلام أو التحية.

إن هذا المبدأ؛ أي السلام أو التحية لم ينتبه الأرضيون عليه أو لم يعالجه الأرضيون إلا عابراً بصفته أحد أنماط التعبير عن الحب وعن التوافق، ولكن المشرّع الإسلامي شدّد في هذا السلوك بنحو بالغ ورسم له أبعاداً متنوّعة تسهم جميعاً بتدريب الشخصية وتربيتها على السلوك السوي، حيث أن المشرّع الإسلامي طالبنا على سبيل المثال بأن نبدأ بالسلام على الآخرين، وأن نشيع هذا المبدأ بين الجمهور جميعاً، وقرر بأنه من التواضع أن نسلم على من نرقى، وقرر بأن أبخل الناس هو من بخل بالسلام.

لاحظ أن هذه التوصيات ونظائرها التي سنقف عندها تمثل علاجاً وقائياً بالغ الأهمية في التدريب على صياغة الشخصية سوية متماسكة محبّة، سواء أكانت هذه الممارسة تتم بين الأصدقاء أو الغرباء وبين العالم والجاهل وبين الصغير والكبير.. الخ، فمثلاً فيما يتصل بالتوافق لا نجدنا بحاجة إلى أن نذكرك بسمة التواضع التي تميز السوي من المريض المتكبّر، إن المتكبر كما لو تتذكر محاضراتنا السابقة عنه، إما أن يصدر عن إحساس لا شعوري بالضعة والنقص والدونية والحطة بحيث يجهل مصدر إحساسه بالزهو حيال الآخرين، وإما أن يعي ذلك فيعوّض ذلك بممارسة الزهو عامداً، وفي الحالتين يصدر عن إحساس مرضي بذاته. والمهم أن الاتجاهات الأرضية التي تشدد في أن النظرة السلبية للذات تشكل أبرز معالم الشخصية الشاذة وأن التعويض عنها بممارسة الزهو يعد تعبيراً عن سوء التوافق الداخلي للشخصية، مثل هذا التشدد حين ننقله إلى صعيد الممارسة التي تطالب التوصيات الإسلامية به، حينئذٍ ندرك أهمية المبادئة بعملية السلام أو التحية لمن نلقى، وندرك دلالة التواضع الذي أشارت التوصيات إليه، فالمتواضع يحس بكفاءة نفسه ويثق بذاته وبرفعتها وبسموّها فيفيض من شعاع نفسه على الآخرين، كل ما في داخلها من محبة وهذا على العكس تماماً من المتكبّر حيث لا يتحسس بكفاءة ذاته فيضطر إلى أن يبحث عن تغطية ذلك النقص بممارسة العلوّ على الآخرين. إن المتواضع يبدأ بالسلام على الآخرين لامتلاكه عنصر المبادءة في الحب ومن ثم فإن التدريب على أن نبدأ بالسلام قبل أن ننتظر مبادئة الآخرين يعني تدريباً على صياغة مبادئ السلوك السوي تدريباً على التواضع الذي يحسّسنا بقيمة الذات وكفاءتها التي تعد حتى في تصورات البحث الأرضي معلماً من معالم الشخصية السوية.

وأما المعطى الآخر من المبادءة بالسلام فيتمثل في سمة السخاء التي تعد بدورها من سمات الشخصية السوية وقد أشارت التوصية الإسلامية إلى أن أبخل الناس من بخل بالسلام، مما يعني أن الممتنع عن المبادءة بالسلام يصدر عن سمة مرضية هي البخل، إن البخيل لشخصية شاذة تحرص على إشباع ذاتها وتنغلق على سائر الذات متمركزة حول الذات  تعنى بحاجاتها الفردية بأنانيتها بذاتيتها دون أن تفيض ما في داخلها من محبة على الآخرين، وكلنا يعرف أن التمركز الذاتي هو السمة التي تطبع الشخصية المريضة فيما لا يختلف باعثان على ذلك، أي إن الأنانية بدلاً من الإيثار هو الطابع للشخصية البخيلة، وإذا نقلنا هذه الحقيقة من دائرة الحاجات الحيوية كالطعام مثلاً أو الحاجات الضرورة كالنقود، ونظائرها إلى مطلق السلوك ومنها المبادئة بالسلام نجد أن العملية النفسية ذات طابع واحد، أي البخيل بماله أو بممتلكاته أو بطعامه أو أو.. الخ، لا يفترق البتة عن الباخل بالسلام بل لنجد أن الباخل بالسلام هو أشد بخلاً من غيره، لأن البخيل بالطعام أو المال قد يكون له مسوغ في نظر المريض كأن يحتاجه ذات يوم، ولكن البخل بالسلام فلا يكلف صاحبها المريض أدنى ثمن، فإذا بخل به يكون قد بلغ ذروته من انغلاق الخير داخل ذاته المريضة.

بكلمة أخرى البخيل نظراً لانغلاق ذاته لا يحاول أن يفيض على الآخرين أية قيم من المحبة فلا يبدأ بالسلام لأن المبادءة تعني الانفتاح وهو منغلق حيال ذاته يحيى داخل ذاته وحاجاتها فحسب دون أن يستطيع أن يفيض بها نحو الخارج.

إذن سمتا الكبر والبخل وتقابلهما سمتا التواضع والسخاء تظلان مرتبطتين بعنصر عدم المبادءة ومقابل ذلك من حيث ارتباطهما بعدم السلام ومقابله ومن ثمّ ترتبطان بأحد أشكال التدريب الذي يشدد المشرع الإسلامي فيه بالنسبة إلى عملية المبادءة بالسلام وهو تدريب يسهم بشكل فعّال كما قلنا على صياغة شخصية سوية متوافقة اجتماعياً خالية من شوائب المرض وفي مقدمتها شائبة الكبر والبخل.

والآن إذا تابعنا سائر أنماط السلوك المتصل بالمبادءة بالسلام ومعطياته نلاحظ أن التوصيات الإسلامية تطالبنا بدقائق تتصل بالسلام لم ينتبه البحث الأرضي إليه البتة، ألا وهي تطالبنا مثلاً بأن نسلّم على الفقير بنفس السلام على الغني، أي أن لا نسلم على الفقير بخلاف سلامنا على الغني، وأن يسلّم الواحد مثلاً على الجماعة وأن يسلم الصغير على الكبير وأن يسلم السائر أو الماشي على الجالس، وأن نكثر السلام على الأطفال بخاصة، لاحظوا هذه التوصيات ليست مجرد آداب عامة تفرضها ثقافات اجتماعية تختلف من ثقافة إلى أخرى، أو من مجتمع إلى آخر كما ينظر إلى ذلك علماء النفس الاجتماعيون، ومن ثم يقللون عنايتهم بدراسة هذا الجانب، بل يهملون هذا الجانب أساساً كما هو ملاحظ.

نقول إن هذه التوصيات ليست مجرّد آداب عامة؛ نعم تفرضها ثقافات اجتماعية كما ينظر إليها العلماء الأرضيون ومن ثم يقللون عنايتهم أو يلغون عنايتهم بهذا الجانب بل في فعاليات متنوّعة لتدريب الشخصية على السواء، بغض النظر عن الثقافة التي تطبع هذا المجتمع أو ذاك، لاحظوا مثلاً أن سلامكم على الغني بخلاف الفقير ماذا يترتب عليه؟ إنه سوف ينمي لدى المسلّم عاطفة الخنوع، أي إنكم ستكتسبون سمة الخنوع عندما تخنعون وتذلون أنفسكم حيال الغني مقابل عدم سلامكم للفقير، مثلما ينمي لديكم العاطفة التي تضادها وهي السيطرة والمعروف كما حدثناكم سابقاً أن كل من العاطفتين المتضادتين الخنوع والسيطرة تنبعان في الواقع من مصدر نفسي واحد هو الإحساس بعدم الكفاءة وبتفاهة الذات، فيما تظلان من أعراض الشخصية المضطربة في التصور الأرضي لها، فالمسلم على الغني بخلاف الفقير يصدر من إحساس بتفاهة ذاته التي تتلذذ بالخنوع والتبعية، فيكون سلامه على الغني تعبيراً عن حاجته إلى الخنوع والتبعية، وفي نفس الوقت يحاول هذا الشخص أن يخفف من إحساسه بالخنوع فيتجه إلى الفقير محاولاً أن يقلل من موقف الفقير الاجتماعي فيخصه بتحية عادية تختلف عن تحيته التي خصّ بها الشخص الغني.

إذن التسليم على الغني بخلاف الفقير يترتب عليه سلوك سلبي من حيث الصحة النفسية والعكس هو الصحيح وهكذا إذا تابعنا سائر المعطيات التي طالبت التوصيات الإسلامية بممارسة السلام والمبادئة به أو الممارسات التي قلنا أن بعضها يتصل بسلام الفرد على الجماعة والسلام على الكبير والسلام على الجالس والسلام على الجماعة  الخ، نقول إن أمثلة هذه المعطيات يمكننا الآن أن نتابع عرضها فنقول: وأما المطالبة بتسليم الصغير على الكبير والسائر على الجالس والفرد على الجماعة فأمر يظل من الوضوح بمكان من حيث كونه تدريباً على التنازل عن الذات، والاتجاه إلى الآخر، ومن حيث تحسيس الآخر بقيمته وإشباع حاجته إلى الحب، فالصغير حينما يسلّم على الكبير يتدرّب أولاً على صياغة التقويم الحقيقي لذاته، أي يتدرّب على أن يمنح ذاته قيمتها الواقعية ولا يتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه لصغير بالقياس إلى من هو أكبر منه، فلابد حينئذ أن يتعامل واقعياً مع الكبير ويسلم عليه تعبيراً عن الواقع الذي يحياه كما أنه بهذا السلوك يحسس الكبير بمركزه الواقعي فلا يدعه نهباً للتوتر الذي يحسسه بغياب موقعه.

طبيعياً من الممكن أن لا يتحسس الكبير بأنه مهم حينما يجد الصغير قد أهمله، نظراً لإحساس الكبير بكفاءة ذاته وتطلعه إلى تقدير الله بدلاً من تقدير الآخرين، إلا أن المشرع الإسلامي يأخذ في الواقع الطبيعة البشرية العامة بعين الاعتبار من حيث خضوعها لمفارقات السلوك، كما أن مطالبته بتسليم الصغير على من هو كبير تفصح عن أن الصغير الذي يمتنع عن المبادئة محكوم بالمرض، كذلك تحكم على الكبير الذي يتوتر من ذلك الطابع، لذلك تحاول التوصيات بتدريب كل منهما على السوية وتحاول أن تبعّدهما عن المنبهات المرضية.

المهم إن كل واحد من هذه المفردات تفرز معطياتها حيث قلنا أن معطى الإفراز لسلام الصغير على الكبير هو أن يمنح ذاته قيمتها الواقعية، وأما تسليم الفرد على الجماعة فينطلق من المقياس السابق ذاته، بصفة أن الفرد بالقياس إلى الجماعة لا يختلف عن الصغير بالقياس إلى الكبير من حيث واقعية الظاهرة وضرورة إحساس الفرد بأنه واحد حيال جماعة وهو أحق بالاحترام منه.

وأما تسليم السائر على القاعد أو الماشي على القاعد فيتصل بخطٍّ آخر من التدريب على وأد الذات وسحقها، ألا وهو المبادءة التي يتطلبها الموقف المتصل بالسائر وعلاقته بالنزوع، فكما أن السائر يبتدأ بالمجيء إلى المزور إعلاناً عن محبته للمزور، كذلك السائر بالقياس إلى القاعد، فالقاعد ينتظر من يبادره بالسلام عليه تماماً بمثل مشاعر المزور الذي ينتظر من يبادره بالزيارة، وهكذا الأمر فيما يتصل بتسليم الراكب على الراجل مع ملاحظة أن الراكب يجسد موقعاً له يميزه بالقياس إلى الراجل، فتسليمه على الراجل تنازل عن الموقف وعن الذات وتحسيس الراجل بانعدام الفارقية المذكورة.

وأخيراً فإن التوصية بالتسليم على الأطفال يظل استثناءاً عن القاعدة وذلك نظراً للحقيقة النفسية المتصلة بعمليات التربية الاجتماعية للطفل، فالطفل يفتقر إلى تدريب خاص من حيث انعكاساته على سلوك الراشد، والتسليم عليه من قبل الكبير وهو صغير يجسد تعلماً للسلوك السوي حيث يتعلم في رشده على عنصر المبادءة في التسليم ويتخلص من شائبة الذات والأنانية والكراهية وما إليها من أشكال المرض الذي يحتجز الشخصية عن ممارسة عنصر المبادئة بالحب ومنه السلام.

هذا ولا نغفل عن بعض سلوكية تتصل بعملية التسليم ومعطياته وهي رد السلام بأحسن منه حيث أن التوصية الإسلامية تقول: (السلام تطوع والرد فريضة)  أي أن عنصر المبادئة بالسلام يشكل مجرد عمل يندب إليه دون أن يكون ذلك على نحو الالزام أو الوجوب، في حين أن الرد على ذلك يشكل وجوباً، فما هو السر في ذلك؟.

سر ذلك أن البادئ بالسلام بادئ بالفضل وعندما ترد عليه السلام تكون قد قمت بعملية مكافأة وليس مبادلة، لذلك يتعين عليك أن ترد بأحسن منها حتى تتكافئ في تدريب الشخصية على وأد الذات وتصدير محبتها إلى الآخرين.

إذن بهذه المطالبة أي الرد بالأحسن يكون المشرع الإسلامي قد حقق توازناً داخلياً لكل من الطرفين المسلّم والمسلَّم عليه بالنحو الذي أوضحناه.

والآن مع حديثنا عن التعليم الذاتي من خلال الحب أو السلام نكون قد أوضحنا أن هذا التعبير هو إفصاح عن استواء الشخصية، فإنه من الممكن أن نقول أن مطلق التعبير اللفظي هو إفصاح عن استواء الشخصية من جانب وتدريب هذه الشخصية على الاستواء بقدر أكثر وإنها تهب الطرف الآخر نفس الإمكانية على التدريب ثالثاً، وهذا ما يمكننا أن نحدثكم عن تفصيلاته في محاضرة لاحقة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..