mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 36.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثنا في محاضراتنا السابقة عن جملة من السمات الذاتية وما ينبغي أن يسلك حيالها من العمليات التربوية لتعديل السمات الذاتية من محاورها السلبية إلى محاورها الإيجابية، وبقي من هذه السمات التي لم نحدثكم عنها سمة وهي سمة الصدق وما يقابلها من سمة الكذب حيث ينتهي الحديث عن هذه السمة عن السمات العامة وننتقل إلى السمات الاجتماعية للشخصية.

إذن لنتحدث الآن عن هاتين السمتين المتقابلتين السلبية والإيجابية، وهي سمة الكذب ويقابلها الصدق، حيث أن هاتين السمتين تعكسان أهمية ضخمة بالنسبة إلى السلوك البشري بنحوٍ عام حيث تنعكس معطيات السلوك الإيجابي أو مفارقات السلوك السلبي على مجتمعاتنا بنحو ملحوظ مما يتعين علينا كإسلاميين أن نعنى بهذا الجانب كل العناية وهذا ما يقتادنا إلى أن نفصل الحديث عن هاتين السمتين فنقول:

هاتان السمتان تمثلان واحدةً من الممارسات اليومية التي لا تكاد الشخصية تمتلك خياراً إلا بممارسة إحداهما أو كلتيهما في تعاملها العضوي مع الآخرين، وكما قلنا في المحاضرة السابقة مع أن علم النفس الأرضي والتربوي يشدد في سمة الصدق بصفتها مظهراً من استواء الشخصية وما يقابلها من الكذب بصفتها من أبرز الممارسات التي يتوسل بها الشواذ والمنحرفون حيث يدرج الكذب في قائمة أمراض الشخصية، أي الأمراض الانحرافية التي تصدر عن أشخاص يحتفظون بسلامتهم العقلية كما لا يدرجون ضمن الأمراض العصابية المعروفة كالكآبة أو القلق وما إلى ذلك.. بل يتميزون بجملة من السمات اللاجتماعية كالإحساس بعدم المسؤولية وعدم التبصر وفقدان الجهاز القيمي.. الخ.

إن هذه الإشارة إلى هاتين السمتين تمت في محاضرتنا السابقة أما ما ندرسه الآن فهو التفصيل المرتبط أولاً بظاهرة الكذب حيث سنتوفر على ذلك الآن ونقول:

إننا ما دمنا نحرص على ربط الظاهرة الشرعية بطابعها النفسي حينئذ يجدر بنا أن نتحدث أولاً عن البعد النفسي لظاهرة الكذب وملاحظة الجذر المرضي لها ثم نحاول تبيين الأسرار الشرعية لها من خلال اللغة التي يشدد المشرع الإسلامي فيها بالنسبة إلى حظره لممارسة الكذب،وإليكم أولاً هذه النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام):

يقول الإمام السجاد (عليه السلام):(اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الكبير اجترأ على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذاباً).

وفي توصية أخرى: (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده).

وفي توصية ثالثة: (لا يسمح من الكذب جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبياً ثم لا يفي له).

وفي توصية أخرى: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل فيكتب بها رضوانه يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم في المجلس ليضحكهم بها فيهوي في جهنم ما بين السماء والأرض ويل للذي يحدث ويكذب ليضحك به القوم).

وتوصية أخرى: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك وألا يكون في حديثك ؟؟؟ وأن تتقي الله في حديث غيرك).

لاحظوا جيداً أن هذه التوصيات الإسلامية تتضمن كلاً من الجانب التربوي وتعميم ذلك فضلاً عن لغتي الثواب والعقاب، فقد تحدثت عن الكذب في شكليه الشاذ والهازل كما تحدثت عن فاعليته حيال الصغير أيضاً بصفة أن الطفل من حيث عدم نضجه قد يشجّع ولي أمره على عدم الوفاء بأقواله التي يعدها لطفله، كما تحدثت هذه التوصيات عن أحد بواعث الكذب وهو محاولة إضحاك الآخرين واجتلاب أنظارهم نحو الشخص الذي يمارس رذيلة الكذب، وتحدثت التوصيات أيضاً عن حجم الكذب صغيره وكبيره وتقديم ؟؟؟ النفسية وراء النهي عن الكذب في صغار الأمور من حيث استتباعه للوقوع في كبائر الكذب.

وكما لاحظتم فإن الجانب النفسي في هذه التوصيات يبدو جلياً مما يقتادنا إلى ضرورة أن نفصّل لكم الحديث عن ذلك.

لقد أشار علماء الصحة النفسية إلى أحد بواعث الكذب وهذا ما لفتنا نظركم إليه في محاضرة سابقة، أشار هؤلاء العلماء إلى بواعث الكذب متمثلاً في أحد المصطلحات المعروضة في اللغة النفسية ألا وهي التبرير أو التسويغ، والتبرير في واقعه شكل واحد من أشكال الكذب وليس جميعه، كما أنه واحد من بواعثه وليس كلها، ومع ذلك فإن التبرير أو التسويغ يكشف عن هوية هذه الممارسة وانتساب هذه الممارسة إلى أحد أنماط المرض النفسي عند الشخصية. إن التسويغ أو التبرير في لغة علم النفس التحليلي يشكل إحدى ما يسمى بحيل الدفاع أو آلياته المتنوعة التي يلجأ إليها المريض كي يخفف عن مكبوتاته وعقده الداخلية، وهذا يعني أن أحد أشكال الكذب يعد فعالية لا شعورية لا يعيها المريض، وربما يعيها في الغالب ولكنه يضطر إليها لكي يهب لشخصيته شيئاً من التقدير ولكي يجنّبها أي شكل من أشكال الإهانة المعنوية لذاته، مثال ذلك أن يخشى أحدهم ركوب الطائرة مثلاً ولكنك حين تسأله عن سبب امتناعه عن ركوب الجو واختيار طريق البر، يجيب قائلاً أنه يستمتع بمباهج الطبيعة وأن يتنقل من مدينة إلى أخرى وأن يملك أكثر ما يملك من الساعات في أمثلة هذه الرحلة.

المريض هنا قد لا يعي أسباب استمتاعه فعلاً بالرحلة البرية، إلا أنه مضطر إلى الشعور بالارتياح لأمثلة هذه الرحلة البرية ما دامت هذه الرحلة غير مقترنة بخبرات ماضية نسيها وظلت تعمل في أغوار نفسه دون أن يدرك أسبابها، والأسباب هي من الوضوح بمكان حيث قد قدر له في طفولته ذات مرة أن ركب الطائرة وشهد هذا الركوب خوف قد نسيه الطفل حينئذ وبقيت هذه التجربة المريرة راصدة في اللاشعور كما يقول أنصار التحليل النفسي في تفسيرهم لهذا السلوك، المهم في الحالات جميعاً أن ترجمة هذه المشاعر إلى سلوك لفظي متعمد كما هو شأن الحالة الأولى، أي الحالة التي يتعمد المريض أن يكذب فيها من خلال تقديمه تسويغ للآخرين هو التفضيل لطريق البر لسبب سياحي صرف، وليس لسبب ؟؟؟ خاصة لأمثلة هذه الحالة يتخذ الكذب طابع السلوك المنهي عنه شرعاً، وأما في حالة التسويغ العقلي الصرف فلا مؤاخذة على الكذب من حيث ترتب المسؤولية ما دام الأمر لم يخرج عن نطاق الأحاسيس، وما دام الأمر من جانب آخر خارج عن اختيار المريض حتى لو ترجم أحاسيسه إلى سلوك لفظي بصفة أنه لا يعي كونه كاذباً في تسويغه المتقدم.

إن ما يعنينا من ذكر هذه الظاهرة، أي ظاهرة التسويغ أن نلفت الانتباه على أحد بواعث الكذب واستطلاع جذوره الخبيثة في أعماق الشخص وذلك من ثم من ممارسة الكذب بشكل عام في ضوء التحذيرات التي نسجها الإسلام حيال ذلك. وأول ما يلفت الانتباه هو أن الكذب شأنه شأن سائر ما تنهى الشريعة عنه، إنه لسلوك مرضي يكشف عن عقد الشخص وتمزقاته وأنه قد يكون تعبيراً عن حالة لا يعيها الشخص أو حالة يعيها بالفعل. وإذا كان بعض أشكاله غير الواعي وحتى الواعي منها في حالات خاصة لا تترتب عليه مسؤولية شرعية بل على العكس قد تنفع أمثلة هذه الممارسة في الإصلاح بين المؤمنين مثلاً، إلا أنه خارجاً عن هذه السياقات يظل الكذب ممارسة مرضية لا يعفي الشخص من تحمل مسؤوليته حيالها على النحو الذي أوضحته تحذيرات أهل البيت (عليهم السلام) ومنها الإشارة إلى أحد بواعثه وهو اجتذاب التقدير أو إضحاك الآخرين. ومنها الإشارة إلى شكلي الكذب الجد والهزل، ومنها الإشارة إلى نوع الكذب الصغير والكبير واستتباع النوع الأول للثاني، ومنها الإشارة إلى الكذب على الطفل ومنها التحفظ في الزيادة على الواقع.

إن هذه الأشكال من التحذيرات التي وجهها أهل البيت (عليهم السلام) تتطلب وقوفاً مفصلاً لاستخلاص دلالة كل نمط من أنماط الكذب حتى نتبين موقع سلوكنا اليومي من هذه الممارسة التي قد لا ينتبه الكثير عليها آملين أن نستفيد منها جميعاً في تربية ذواتنا وفي تعديل سلوكنا الذي تتخلله أمثلة هذه الممارسات بوعي أو بغير وعي.

وإليكم طائفة أخرى من التوصيات التي يقدمها المعصومون (عليهم السلام):

(الكذاب يحلف بالبينات ويخلف أتباعه بالشبهات)، (إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب والكذب شر من الشراب). سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم!، قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: ويكون كذاباً؟ قال: لا!. (أربى الربا الكذب). (إن مما أعان الله على الكذابين النسيان)، (من كثر كذبه ذهب بهاؤه)، (ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مؤاخاة الكذاب فإنه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدّق)..

هذه النصوص مثل سابقاتها التي حدثناكم عنها تتناول ظاهرة الكذب من زاويتين الشرعية من حيث ترتب الثواب والعقاب والزاوية النفسية الصرفة ومضاعفاتها المختلفة، أما من حيث الزاوية الشرعية فيكفي أن الإمام (عليه السلام) جعل ممارسة الكذب أشد شراً من تناول المسكر، ويكفي أنه (عليه السلام) التمس صورة فنية لتقريب مفهوم الكذب إلى الأذهان واستخلاص درجة العقاب المترتبة عليه فأوضح (عليه السلام) أن للشر أقفالاً وأن الشراب مفتاح له، وأن الكذب أشد شراً منه.

والسؤال الآن هو: هل لنا أن نتصور إمكانية أن يكون الكذب وهو من الممارسة التي تكاد تكون يومية عند البعض أشد شراً من تناول محرم توعدت الشريعة به بأشد العقاب وهو الشراب؟!.

إن هذا التصور لا سبيل إلى التشكيك به أبداً إذا أدركنا أن السماء تتعامل مع الإنسان بقدر ابتعاده أو اقترابه عن ذاته المريضة، ومحاولة إشباعها بالوسائل غير المشروعة، سواء أكان الإشباع يتصل بالجانب الحيوي أم بالجانب النفسي فتناول الشراب محرّم ما دام متصلاً بإشباع بيولوجي للذات وممارسة الكذب محرم ما دامت متصلة بإشباع نفسي للذات، ومع ذلك فإن الكذب أشد شراً من الشراب لأنه أشد لصوقاً بالذات ومحاولة إروائها بالطرق غير المشروعة. إننا نعرف بوضوح أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يتجهون إلى ؟؟؟ صور فنية كالاستعارة المتقدمة وسواها من علم الفن عبر إشباع الحاسة الجمالية عند الإنسان، إلا إذا وظفت الصورة الفنية من أجل توضيح هدف فكري يشددون فيه، وهذا يعني أن الإمام الباقر (عليه السلام) وهو صاحب التوصية المذكورة عندما اتجه إلى صياغة العبارة الفنية وهي الاستعارة الذاهبة إلى أن للشر أقفالاً وأن مفاتيحه الشراب وأن الكذب يعد مفتاحاً لباب الشر وأشد فاعلية من مفتاح الشراب، نقول إن الإمام الباقر (عليه السلام) حينما يتجه إلى صياغة مثل هذه الصورة البلاغية فإنه يتحدث بلغة نفسية تأخذ بنظر الاعتبار مدى كبر حجم الجريمة التي ينطوي الكذب عليها من حيث صلته بأمراض النفس التي يجمع علماء الصحة النفسية على أن أمراض النفس تظل على صلة بكل ما نلحظه في الحياة من جرائم وشرور.

إذن لنتقدم إلى معرفة كيف أن الكذب يشكل مفتاحاً للشر كما عبّر عن ذلك الإمام (عليه السلام)؛ طبيعياً لا نحدثكم عن الكذب بصفته ممارسة مفضوحة يعرفها البعيد والقريب من الأشخاص، وإنما نحدثكم عن الكذب وآليته النفسية بشكل عام من حيث صدوره عن مريض وانعكاساتها على سلوكه، أما الكذب من حيث كونه ظاهرة يعرف بها هذا الشخص أو ذاك فأمر لا يحتاج إلى تعقيب ما دامت مثل هذه التجربة واضحة في أذهان الجميع، وقد مرت إشارة الإمام (عليه السلام) إلى أن الكذاب يكذب حتى يجيء بالصدق ولكن لا يصدقه أحد فيما بعد، بحيث تسقط شخصيته أمام الآخرين. كما مرت عليكم إشارة أخرى في ذهابها إلى أن الكذب يذهب ببهاء المؤمن بصفة كونه مفضوحاً بصفة الكذب.

إننا الآن في الواقع نحرص قبل كل شيء أن نوضح الآلية النفسية لعملية الكذب وربطها بنمط العقاب الذي توعدت السماء به، ومع هذا فلا ينبغي أن ؟؟؟ الكذب المفضوح من حيث آثاره الاجتماعية ومن حيث صدوره عن الفساق الذين لا صلة لهم بالإسلام.

والآن لنحدثكم عن إفرازات الكذب من منطلق السلوك الفردي وتفسير ذلك في ضوء ما أشارت التحذيرات الإسلامية إليه ومنها التحذير القائل بأن مفتاح الشر هو تناول المسكر وأن الكذب هو أشد شراً منه ومنها أيضاً التحذير الثاني القائل أن المؤمن تصدر عنه أشكال متنوعة من السلوك الشرير إلا أنه لا يكذب أبداً. ترى لماذا يعد الإسلام الكذب أشد ألوان الشرور كما لاحظتم؟ ولماذا ينفيها عن الشخصية المؤمنة مع أنه لا ينفي عن الشخصية المؤمنة أشكالاً شتى من السلوك الشرير؟إن في الأمر لسراً بالغ الأهمية، ونتساءل هل يمكننا أن نستكنه أمثلة هذا السر؟ لنحاول ذلك.

في الإجابة على السؤالين المتقدمين نقول هناك على الأقل ظاهرتان تتصل بقضية الصدق ومقابله الكذب من حيث علاقة الشخصية بمبادئ الإسلام بأوامره ونواهيه من جانب، ومن حيث علاقة الشخصية بخلوص موقفها من العقيدة الإسلامية ذاتها في نطاق تحركها الوجداني من ذلك.

أما الظاهرة الأولى فيلاحظ أن الكثير من أنماط السلوك البشري مما أخضعت التصنيفات الإسلامية التي لاحظتموها في محاضراتنا السابقة وتصنيفات علماء النفس أيضاً بالنسبة إلى قوائم مفردات  السلوك، تظل في الواقع على صلة بعملية الكذب الذي يتسرب في شرايين تلكم الأنماط من السلوك، خذوا على ذلك مثلاً الخلف في الموعد، وكذلك خذوا مثلاً الغش في المعاملات التجارية، وخذوا مثالاً آخر هو البهتان، وخذوا أمثلة أخرى كالمكر وهكذا..

إن هذه الأشكال من السلوك المتمثلة في الخلف في الموعد والغش في المعاملات والبهتان و؟؟ الخ، هذه الأشكال من السلوك بعضها لا صلة له بالبعض الآخر من حيث البواعث ومن حيث المظاهر ومن حيث النتائج، كالغش مثلاً والبهتان حيث لا علاقة ظاهرية بينهما فالغش مثلاً يتجسد في كونك تبيع بضاعة بغير ما قد وصفتها لهذا المشتري أو ذاك، أما البهتان فيتجسد في كونك ألصقت تهمة لا واقع لها لهذا الشخص أو ذاك، إلا أنك حيث تتأمل هاتين الممارستين تجدهما يتسربان من رافد واحد من روافد الشخصية المريضة ألا وهو الكذب. فأنت حينما تقول للمشتري بأن هذه البضاعة أجنبية وظهر أنها محلية أو بالعكس، تكون بهذا السلوك قد مارست عملية الكذب من خلال الغش في المعاملة المشار إليها، وهكذا فيما يتصل بالبهتان فحينما تلصق إحدى التهم بشخص ما وهو بريء منها تكون أيضاً قد مارست عملية كذب، إذن بالرغم من أن السلوكين الغش والبهتان يختلف كل واحد منهما عن الآخر في البواعث حيث أن الباعث عن الأول هو كسب المال والباعث على الثاني هو تحسين سمعة الشخص إلا أنهما ارتكنا إلى سلوك واحد هو الكذب، مما يعني أن الكذب الذي جعله الإسلام مفتاحاً لكل شر وجعله سمة لا يتسم بها المؤمن أبداً فلأنه يتسرّب في أكثر من باعث من بواعث السلوك ومنه المثال الذي قدمناه لكم.

والآن إذ نتابع سائر مفردات السلوك نجد أن ؟؟؟ صلة بممارسة الكذب من حيث الباعث والمظهر والنتيجة، ومن ذلك مثلاً الخلف في المواعيد أو نقض العهود، فسمة الخلف في الميعاد مثلاً تظل سمة متميزة عن سمة الغش في المعاملة وعن سمة البهتان في القول، لكنها أيضاً تتغذى على مائدة الكذب في أبرز أشكالها، فأنت حينما تقول لأحد الأشخاص سآتيك مثلاً في الساعة الفلانية دون أن تهتم بهذا الموعد أو تتراخى عن الالتزام بالحنوث في تلك الساعة تكون في هذا قد مارست عملية كذب، طبيعياً عندما تقرر منذ البدء بعدم الالتزام بموعدك تكون العملية متصلة إلى الكذب بكل وضوحه، إلا أن مجرد عدم اهتمامك بهذا الالتزام يظل في أحد بواعثه قائماً على ممارسة الكذب من حيث عدم الحرص على تجنبه، ولعلّ ؟؟؟ وراثياً سواء أكان ذلك في مستوياته الفردية أو الاجتماعية يظل تشييداً واضحاً لعملية الكذب التي جعلها المشرع الإسلامي مفتاحاً لكل شر وجعلها صفة لا تطبع المؤمن أبداً، لعل هذا النمط من السلوك يظل من حيث إفرازاته الاجتماعية في الذروة من المفارقات التي تنسحب آثارها على المصائر البشرية.

في ميدان الجهاد مثلاً نجد أن الإسلام يشدد في الالتزام بالمواثيق العسكرية إلا أنه في حالة نقض الطرف الآخر لهذا العهد يطالبنا الإسلام بأن نرد على ذلك مما يعني أن كلاً من الالتزام بالعهد ثم الرد في حالة نقض الطرف الآخر إنما لوحظ فيهما مدى النتائج المترتبة على النقض وعلى عدم الرد أيضاً، ففي حالة النقض مثلاً وهذا ما نلحظه في الحروب التي يفرضها المستعمرون وأذنابهم على مجتمعاتنا الإسلام تترتب نتائج مصيرية بالنسبة إلى المدنيين أو بالنسبة للعسكريين في تعرضهم لأسلحة محظورة في المواثيق الدولية، ومن الواضح أننا لا نتوقع من المفسدين في الأرض أن تصحوا ضمائرهم ذات يوم بحيث لا يمارسون عملية نقض للمواثيق، كالمجرم الذي يتلذذ بإراقة الدم وتتلوث يده بإنزال صنوف التعذيب بالآخرين، بل يتلذذ بالتمثيل وبمشاهدة ؟؟؟ الحرب، مثل هذا المجرم لا يمكن أن يمارس عملاً أخلاقياً أبداً، ولا يمكن أن يصحوا ضميره على الإطلاق.

بذلك لا أمل البتة في أن تنفع العظة أمثلة هؤلاء وحتى مع افتراض ذلك فإن المسؤولية عن إراقة الدم والتعذيب تظل تلاحقه في المصير الأسود الذي يقترن به، بيد أننا نعتزم مجرد الإشارة إلى انعكاسات النقض للمواثيق وصلة ذلك بممارسة الكذب الذي جعله الإسلام مفتاحاً لكل شر وجعله سمة تخص من لا إيمان له.

إذن نقض العهد والخلف في المواعيد والغش في المعاملات والافتراء على الآخرين والمكر وسواها من مفردات السلوك التي يتميز كل منها عن الآخر ويرتبط كل منها عن سواه في بواعثه ومظاهره إنما يصب جميعاً في ممارسة واحدة هي الكذب.

والمؤسف أن البعض منا يمارس عملية الكذب دون أن يدرك خطورة العقاب الذي تتوعدنا السماء به، ودون أن يدرك أن الكذب حتى في أبسط أشكاله كما لو أضاف شيئاً لا واقع له إلى خبر أو قضية سربها هذا الشخص على الآخرين، أو كما لو كذب على طفل صغير بحيث وعده بشيء ولم يف به، نقول من المؤسف أن البعض منا لا يزال يمارس عملية الكذب التي جعلها المشرع الإسلامي مفتاحاً لكل ذنوب وسمة تخص من لا إيمان له، دون أن ينتبه إلى مسؤولية مثل هذا السلوك.

ولنتحدث الآن عن مظهر آخر يفسر لنا صلة التحذيرات الإسلامية التي جعلت الكذب مفتاحاً لكل شر وجعلته سلوكاً لا يصدر عن المؤمن أبداً، مع إمكان أن تصدر أنواعاً متنوعة من الذنوب لدى هذا المؤمن أو ذاك ولكنه لا يصدر عنه الكذب أبداً، ترى ما هو السر في ذلك؟‍.

ربما أن أحد الأسرار يكمن في أن الكذب يتسرب في شرايين أكثر من سلوك واحد كالبهتان الذي يمثل إلصاق تهمة لا واقع لها بالآخرين هو عملية الكذب، والغش في معاملة تجارية هو عملية كذب، والخلف في المواعيد هو عملية كذب، وهكذا..

إذن غالبية الممارسات الشريرة تنتسب إلى الظاهرة المتقدمة، فإذا كنت ممارساً لأكثر من سلوك ينتسب إلى مظهر واحد حينئذ نتوقع أن يكون مثل هذا السلوك ونعني به الكذب أن يكون مفتاحاً لكل شر بالفعل، ونتوقع أيضاً أن لا يصدر الكذب عن المؤمن أبداً ما دام الطابع الذي يفرز المؤمن عن سواه هو التزامه بمبادئ السماء إلا ما يصدر عنه من اللمم ببعض الذنوب، فإذا مارس الكذب يكون قد مارس أكثر من ذنب وأكثر من مرض مما يتنافى مع الالتزام بمبادئ السماء، وهذا هو أحد وجهي العملية التي تفسر لنا سبب كون الكذب مفتاحاً لكل الشرور والأمراض، أما الوجه الآخر فأمر يتصل بطبيعة إخلاص الشخصية لله تعالى من حيث صلة الصدق والكذب بأعماق الشخصية في طبيعة تعاملها العقلي مع السماء وهذا يتطلب شيئاً من الوضوح فنقول:

إن جوهر صلة الشخص بالله أو لنقل الوظيفة الوحيدة التي تجسد معنى الإنسان ودلالة وجوده في هذه الحياة هي العمل العبادي ولا يمكننا أن نتصور معنى للعبادة إلا بإقرارنا لمبادئ السماء وتنفيذها عملياً في السلوك، وهذا ما يتطلب في أبسط صوره أن نكون صادقين في مشاعرنا حيال الله تعالى، وإلا فإن مجرد الإيمان بشيء دون أن نترجم هذا الإيمان إلى سلوك عملي يظل سلوكاً لا قيمة له عند الملتزم، إن أي شخص ما عندما يمارس عملية كذب إنما يمارس تزييفاً لمشاعره، وهو أمر ينسحب على مجمل علاقته مع الآخرين ومع الأشياء والأفكار والأعمال التي يمارسها، وهذا هو أبسط انعكاس في حياته عامة، أما خطورة هذا الانعكاس فتأخذ حجماً آخر يعد الشخص من حيث علاقاته حتى بالله تعالى بحيث يترتب على ذلك أن يزيف مشاعره حيال مبدع الكون وهو الله سبحانه وتعالى وحيال سائر الالتزامات العبادية التي يمارسها، وذلك من تأمل مثلاً لأسرار الكون ومن جهاد في ساحات القتال ومن صلاة وصوم وممارسات حرفية أخرى.. الخ، أولئك جميعاً ستجد أصدائها في تزييف المشاعر وعدم صدق هذه المشاعر في تعاملها مع الله تعالى ما دام الكذب في هذا الموقف ؟؟ من الحياة العملية قد تجرأ عليه الشخص وسمح لنفسه بأن يمارس هذه ؟؟ وهو أمر يفسر لنا جانباً ؟؟؟ من توصيات الإسلام بعدم ممارسة الكذب ويفسر لنا أيضاً السر الكامن وراء عد الكذب ممارسة لا يقدم عليها المؤمن أبداً. في حين قد يقدم المؤمن على ذنوب من غير الكذب.

والمهم أن تقديم نموذج عملي من السلوك في هذا المجال سيوضح لكم جوانب الظاهرة المشار إليها، سنفترض أن أحد الأشخاص نقل لكم حادثة ما فأضاف إليها شيئاً لم يحدث كما لو قال إن حريقاً نشب في هذه المنطقة فالتهم عشرين منزلاً، في حين أن الحريق مثلاً لم يلتهم إلا منزلاً أو اثنين، هذا النقل للحادث عملية كذب وسنفترض أن أحد الأشخاص أضاف إلى نفسه عملاً بطولياً في ساحة الجهاد أو الإنفاق أو العلم أو الخدمات الاجتماعية الأخرى ولكنه في الواقع لم يقم بأي عمل في هذا النطاق، أو أنه قام بعمل ما ولكن ليس بالحجم الذي نقله إليكم، كما لو أنه قال مثلاً أنه يقضي ثلاثة أرباع وقته في خدمة الآخرين في حين أن خدماته لا تتجاوز الساعة أو الساعتين مثلاً، إن هذا الإخبار عن خدماته يعد عملية كذب أيضاً، ولكن حينما نتأمل في هذين النموذجين من السلوك السابق نجد أن الحالة الأولى تتصل بموضوع خارجي لا علاقة له بشخصية الناقل للخبر أي الخبر الذي نقله الشخص عن حادثة الحريق، أما الحالة الثانية وهي نقله بأنه قد قدم خدمات اجتماعية للآخرين تظل ذا صلة بذات الشخصية أي المريضة على عكس الحالة الأولى، والسؤال هو لماذا كذب هذا الشخص في حادثة الحريق، ولماذا كذب الآخر في نقله لبطولاته في ميدان الخدمات الاجتماعية؟

طبيعياً ثمة باعث واحد في الحالتين هو شدّ المستمع إلى شخصية الناقل، أي أن الهدف من النقل الكاذب هو أن يجعل الناقل شخصيته محوراً لاهتمام المجتمع، ولا يعنينا الآن أن نقرر أن هذا السلوك مرضي صرف وبأنه يستدرّ الإشفاق أكثر من كونه يحقق تقديراً زائفاً، ولا يعنينا الآن تقرير هذه الحقيقة، نقول إننا يعنينا أن نربط بين هذين النمطين من رذيلة الكذب وبين انعكاساتها على الموقف العقائدي للشخص من حيث علاقته بالله تعالى، وبطريقة تعامله مع الله تعالى.

إن الشخص الذي يزيف علاقته الفكرية بهذه الحادثة أو تلك إنما يعد مؤشراً لاستعداده بأن يزيف علاقته فكرياً بالله أيضاً، في الحالتين ثمة تزييف لحقيقة من الحقائق، فإذا ؟؟؟ شخص على أن يزيف مشاعره حيال نقل حادثة ما كحادثة الحريق سيجترأ على تزييف مشاعره أيضاً حينما يتعامل مع الله أيضاً، أي سوف لن يكون صادقاً في إيمانه لله وفي ادعائه أنه مخلص لله، ما دام قد كذب في نقل الحادثة وكذب في ؟؟؟ الحادثة البطولية لنفسه، ؟؟؟ أيضاً في مشاعر إيمانه بالله بحيث تجده يتعامل مع الله بنفس المشاعر التي يتعامل من خلالها مع وقائع الحياة العملية اليومية، فقد يحكم بما لم ينزل الله مثلاً، وقد يقدم إجابة شرعية لم يتقيد بصحتها بل قد لا يخلص حتى في مجرد محبته لله عبر صلواته وأدعيته وخدماته الاجتماعية وجهاده.. الخ، إن تقريراً في أمثلة هذه الحقائق المتصلة ؟؟؟ بالكذب قد يحتاج الى مزيد من التوضيح فإليكم ذلك:

قلنا إن المؤمن قد يمارس ذنوباً متنوعة ولكنه لا يمارس الكذب أبداً، وهذه الحقيقة كما لاحظتم أكدتها التوصيات الإسلامية التي عرضنا عليكم جانباً منها ومن دلالاتها التربوية، والآن لنتابع..

مثلاً ذهابنا قبل قليل إلى أن الكاذب مع الناس كاذب مع الله أيضاً هذه الحقيقة المذهلة ينبغي أن نربطها بالتوصية القائلة بأن المؤمن لا يكذب أبداً ولكنه قد يرتكب ذنوباً أخرى، مثلاً من مفطرات الصوم كما وردت في ذلك الفتوى (الكذب على الله ورسوله)، ترى ما أكثر الممارسات اللفظية التي يمارسها الإنسان في ما يظل البعض منها محرماً والآخر مكروهاً، ولكن مع ذلك لا تعد من المفطرات، ما هو السر؟ إن بعض السر كامن في خطورة هذه الممارسة التي تتسرب في شرايين مفردات كثيرة من السلوك كالبهتان والغش ونقض العهد والخلف في المواعيد ويكمن أيضاً في استتباع ذلك الكيد على الله في طبيعة عملنا وإياه، وعندما يرجع إليكم سؤال عن نظام الجهاد في الإسلام وكيفية التعامل مع أعداء الله في سوح القتال؟ حينئذ قد تجيبون على السؤال المتقدم بغير الحقيقة إما لجهلكم بمبادئ الشريعة الإسلامية أو تعمدكم ذلك حتى تكتسبوا تقديراً اجتماعياً زائفاً ففي الحالتين لقد كذبتم على الله وفي الحالتين كان السبب في ذلك هو انتزاع التقدير من الآخرين، أي حرصتم على أن تنسجوا لشخصياتكم قيمة ما.

والآن حينما ينقل أحد الأشخاص حادثة حريق قد التهم عشرين منزلاً في حين أن الحريق لم يتجاوز منزلاً أو اثنين في هذه الحالة أيضاً يحاول الشخص من خلال الكذب أن ينسج لشخصيته قيمة ما بصفة أن النقل لهذه الحادثة سيلفت بها انتباه الآخرين إلى شخصه، ومجرد هذا الاهتمام بسماع الخبر عن الشخص واقترانه بمشاعر الدهشة والتعجب كاف في أن يترجم في أعماق الشخص أحاسيس النشوة والسرور مما يكشف عن حرصه المرضي عن تأكيد ذاته.

وهكذا حينما نزعم أمام الآخرين بأننا قمنا بعمل بطولي لا واقع له في ميدان الجهاد العسكري أو العلمي أو الاجتماعي في أمثلة هذه الحالة أيضاً حاولنا أن ننتج لشخصياتنا قيمة ما.

إذن في الحالات الثلاث مع أنها مظاهر مختلفة بعضها لا علاقة له بالعالم الإسلامي كما هو الحال في نقلنا لحادثة حريق وبعضها إسلامي خالص كما هو الحال في إفتاءنا بحكم شرعي لا نعرف تفصيلاته، وبعضها يتراوح بين ما هو شرعي وبين ما هو غير شرعي كما هو الحال في ادعاءنا لبطولات علمية في حقل العلم أو في الخدمات الاجتماعية، وفي الحالات جميعاً تأتي المظاهر المختلفة التي أشرنا إليها يكمن دافع واحد هو الحاجة غير المشروعة إلى التقدير الاجتماعي الزائف لشخصياتنا حيث كان الكذب هو الوسيلة لتحقيق الهدف المذكور، ولكن هناك ممارسات كثيرة ؟؟؟ بالصدق أيضاً في انتزاع التقدير الاجتماعي كما لو كنت حقاً قد قمت بأعمال بطولية في ميدان القتال أو العلم أو الخدمة الاجتماعية، ومع ذلك فإن هذه ؟؟؟ الفات الآخرين لشخصيتك في هذه الحالة كنت صادقاً في ادعاءك، لكنك انشددت أيضاً إلى دافع التقدير الاجتماعي، الكذب أشد مفارقة من الإعجاب بالذات، مع أن كليهما ينبعث من دائرة واحدة.

تفصيل الإجابة عن السؤال المتقدم نحيلكم فيه إلى الكتاب الدراسي وهو (دراسات في علم النفسي الإسلامي) لأن وقت المحاضرة لم يسع لتفصيل أكثر من ذلك والآن نكتفي بهذا الحديث ونتقدم إنشاء الله في محاضرتنا اللاحقة بالحديث عن سمات أخرى من سمات الشخصية ألا وهي السمات الاجتماعية وإلى ذلك الحين نستودعكم الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..