المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 50.doc

عرفنا في الدرس المتقدم أهمية جماعات الضغط ودورها في ممارسة السلطة وينبغي هنا التعرّض ولو بعض الشيء إلى النقابات، لكونها من أبرز التكتلات الضاغطة على أنظمة الحكم في مختلف دول العالم، بداهة أن النقابات أسست في الأصل لتجميع جماعة خاصة من الأمة لأجل رعاية مصالحها، وهي طبقة العمّال الذين عليهم يقوم عادةً اقتصاد البلد، والاقتصاد من أهم أركان الحياة السياسية ومنذ قديم الأيام كان بيد والد السيد المرتضى والسيد الرضي (قدس الله أسرارهما) نقابة الطالبيين، وكان هدفها رعاية شؤون ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في جملة من التواريخ، وحيث انتقلت علوم المسلمين إلى الغرب وعرفوا بفائدة هذا الشيء شكلوا هم أول نقابة في بريطانيا، كما يقال للعمال، وقد اعترفت بمشروعيتها الدول الصناعية وأخذت تنتشر هناك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المسيحي.

وكان الاعتراف بها في المملكة المتحدة على نطاق واسع ثم اعترفت بالنقابة فرنسا في عام 1884م وهكذا توالت البلاد الصناعية في تكوين النقابات للعمال كما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الفقه السياسة ج1 ص151.

وكيف كان فقد عرفت مما تقدم جواز مثل هذا العمل شرعاً، بل قد يجب إذا كان من طرق إنقاذ الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنع الظلم والإجحاف الذي تمارسه الدولة ضد العامل مثلاً، ولم يتوقف أمر النقابات إلى حد نقابة العمال، بل تعدّته إلى نقابات الفلاحين والمعلمين والأطباء والمهندسين والصيادلة والطيارين والموظفين إلى غير ذلك من أصحاب المهن وعمال المصالح.

وتخضع النقابات إلى أنظمة ومناهج في الإدارة وفي كيفية العمل وهناك مجلس إدارة لها وأعضاء منتخبون وانتخابات حرة للجمعية الإدارية، بحسب دوريات معينة، ثم تجاوز العمل النقابي الشؤون الحرفية الخاصة للتأثير على السياسة وكانت هي النواة الأولى لتكوين الأحزاب العمالية في مختلف البلدان الصناعية في الغرب وغيره.. وحاولت أن تستغل مثل ذلك الشيوعية أيضاً فتجعله سلماً إلى تسلمها السلطة، وإقامة نظام ديكتاتوري مستبد على أكتاف العمال، ولا يسعنا المجال لتفصيل ذلك، وفي الفقه السياسة أن النقابات إنما تدخلت في السياسة لأجل أن توصل أصوات العمال ومطالبهم إلى مسامع مجلس الأمة لإجبار السلطة التنفيذية على اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن إنصاف العمال، وبقيت نقابات لم تربط نفسها بالسياسة كاملاً وإن كان لها دلو من الدلاء في هذا المجال.

وحيث أن النقابات تحتاج إلى المال لأجل شؤون العمال حال البطالة والمرض والشيخوخة وما أشبه كان لابد لها من وضع صناديق لجمع المال والاتجار بذلك المال للاسترباح، بغرض وفاء الحاجات لا لغرض التجارة على غرار الشركات، وإلا خرجت موضوعاً عنها ودخلت في الشركات.

وكيف كان فإنه لا تضر التسميات فيما ذكرنا لو توفرت سائر الشرائط، فسواء سميت الجمعية العاملة بالنقابات أو بالتعاونيات أو بالهيئات أو الاتحادات أو ما أشبه، فإن ذلك لا يضر إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

ثانيها: المؤسسات الإعلامية، إذ يمارس الإعلام دوراً مهماً جداً في ممارسة السلطة في جهات أربع، من جهة الحكومة على الشعب ومن الشعب على الحكومة ومن الحكومة على الحكومة ومن الشعب على الشعب، وللإعلام طرق ووسائل لممارسة هذه السلطة، منها الإعلام المرئي والمسموع، فقد كانت وسائل نقل المعلومات منذ القديم موضع اهتمام المجتمعات كافة، وعلى مختلف العصور والأزمنة، وفي بعض المصادر ذكرت بعض الوسائل البدائية للتعبير إذ كانت النار على سفوح الجبال والروابي تستعمل للإعلام، وكذا استعمال العدائين والطبالين والملصقات والمراكب وحتى الحمام الزاجل في بعض الأدوار فالبندقية مثلاً كانت مركزاً للمعلومات التجارية، وتاجر البندقية هو في الوقت عينه بائع أخبار.

وقد تطورت الوسائل الإعلامية بمختلف صورها وزادت فاعليتها في التأثير على الرأي العام، غير أن تأثيرها السياسي ما زال محدوداً ويختلف باختلاف الوسيلة الإعلامية المستعملة، لكن الراديو والتلفزيون يتمتعان بتأثير فاعل ومباشر على الرأي العام، وإن كان تأثيرهما على السلطة السياسية محدوداً، نظراً لخضوعهما عادة لسيطرة الحكومات أو أصحاب النفوذ والقدرة، إذ تتصف غالباً بالتحيز نظراً لوقوعها تحت تأثير الجهات المتموّلة والنافذة كما هو الحال بالنسبة إلى الدول الغربية و الأمريكية، وكما تقع أيضاً تحت تأثر الجهات الحاكمة في الدول المستبدة.

ومنها الإعلام المقروء وأبرزه الصحافة، فإنها تعد أولى الوسائل الإعلامية وتبقى الوسيلة الأكثر فعالية في التأثير على الرأي العام، فالصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة على ما يقولون، وعلى حد تعبير بعضهم هي الحرب من أجل الحقيقة. وقد كانت السبب في تعرض الكثير ممن امتهنها للقتل والسجن وغيرها من المشاكل وقد سببت بعض الصحف سقوط بعض الحكومات وقد ذكرت بعض المصادر أن جريدة الواشنطن بوست الأمريكية أدى كشفها لفضيحة ووترغيت إلى استقالة الرئيس نيكسون، ومن الواضح أن الصحف تمتلك القدرة الهائلة على التأثير في السلطة أو ممارستها إذا تمتعت بالكفاءة والحرية والاستقلال.

ومن أبرز مظاهر قوة الصحافة في التأثير على الرأي العام هو شموليتها وفوريتها ووحدويتها لكونها وسيلة اتصال بين الآراء وهي البوتقة التي تنصهر فيها الأخبار، فالقراء والمستمعون في طول البلاد وعرضها يستطلعون الخبر والمعلومة، وهذا يوحد اهتمامهم أيضاً في القضايا المشتركة والمصالح العامة، فتطابق المعلومات والتصورات يجعل من الصحافة عنصراً مؤثراً في الرأي العام، ومنها الوسائل الشعبية ففي البلدان الحرة حيث الحياة السياسية فاعلة، يتكون الرأي العام في صعد عدة، ومن أهمها المراكز الشعبية وأماكن اجتماع الناس، كالصالونات والنوادي والمقاهي وغير ذلك.. مع أن في الفترة المتأخرة ضعف الاهتمام في المقاهي وتقلص دورها في التأثير على الرأي العام بفعل الأجهزة الإعلامية الحديثة، لكنها تبقى هي الأماكن المفضلة للطبقات الوسطى لتكوين الرأي العام خصوصاً في البلدان التي تعاني من التخلف التقني والصناعي، إذ تجتمع في هذه المقاهي مختلف شرائح المجتمع لقراءة الأخبار ومناقشتها.

وكيف كان فإنه يعتبر الرأي العام من أفضل الوسائل في ممارسة السلطة السياسية ومعظم الأنظمة الحاكمة على اختلاف مناهجها وأساليبها في الحكم تعد حكومات رأي وتستند على جزء كبير أو صغير من الرأي العام، كما أن كسب ثقة الرأي العام هو هدف كل قوة تسعى إلى السلطة لغرض التأثير عليه، لأنه أقوى عوامل قوة السلطة وهيمنتها.

ولكن تختلف السلطات والأنظمة في استجابتها لقوة الرأي العام والخضوع له إلى أشكال:

- الأول: الأنظمة الملكية فإنها عادة ما ترفض الخضوع للرأي وتعتبر أن الرأي العام هو قوة سيئة ومصدر أخطاء وفوضى واضطراب، ولذلك تحاول السلطة أن تنحى بعيداً عن تأثيراتها وتقلباته بل في بعض الأنظمة يعد الملك هو الممثل للمصالح الجماعية ولاستمرارية السلطة، فله حق عمل كل شيء دون اعتبار للرأي العام، ويزداد استضعاف الرأي العام في مثل هذه الأنظمة إذا كانت أنظمة نخبوية لأنها ترى الرأي العام ضعيفاً وجاهلاً والسلطة تتمركز بين يدي جماعة من الاختصاصيين والنخبويين وهؤلاء يحق لهم معارضة الرأي العام لصالحهم لما يتمتعون به من الخبرات والدراية في إدارة الدولة.

- الثاني: الأنظمة المستبدة فإنها على اختلاف أنحائها تعترف للرأي بمكانة مهمة في ممارسة السلطة السياسية لكنها تحتكره لصالحها، إذ تعتمد على رأي واحد صالح في المجتمع لكن من الزاوية التي تراها الدولة ويراها الحاكم المستبد فيها، ثم تليها بعد ذلك مرحلة تنظيم الرأي وذلك بالقضاء على العفوية والحرية في الرأي وإعطاء الرأي حالة من التقنين والضغط وجعله عضواً من أعضاء الدولة المتجسد في الحزب الواحد، والحزب الواحد هو في الحقيقة تنظيم رسمي لرأي مميز أصبح عاماً، وهذا الرأي هو المسموح به والذي يعطي للدولة قوة ومتانة ويوحد الجميع تحت قدرته ويلغي جميع الآراء المخالفة له.

- الثالث: الأنظمة الحرة على اختلاف نسبة الحرية فيها وهي عبارة عن حكومات رأي في الواقع لأن الدولة التي تحظى بالشرعية في مثل هذه الأنظمة هي التي تتجسد بالجسم الانتخابي وتخوّل الرأي العام أن يحكم بوساطة المؤسسات القائمة فالرأي العام يحكم ويعطي التوجيهات الأساسية في جو من الحرية والمساواة فحرية تكوين الرأي تسمح بتعدد الآراء والرأي الأقوى يتغلب على الأضعف من دون لجوء إلى العنف، كما أن المساواة في الرأي تسمح بالحوار والنقاش وانتقاء الأسلم من بين مختلف الآراء حتى تتوصل المؤسسة الحاكمة إلى الرأي العام.

وغالباً ما تحظى مثل هذه الدولة بمراكز دراسات ومؤسسات فكرية وإعلامية تنير الرأي للشعب والسلطة، وتسعى للتأثير على كليهما لأجل الصالح العام، ومن أبرز سمات هذه الأنظمة هي أن الحكومات يجب أن تنبثق بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن الرأي العام، ولذا تهتم في خدمة هذا الرأي ولكسب ثقته واعتماده لأنها منه تستمد كيانها وقدرتها واستمراريتها على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه هنا.

- الفصل الثالث

في إدارة الأمور الحسبية

وهي من خصوصيات الحكومة الإسلامية وفي الأصل هي إما من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أنها من شؤون ولاية الحاكم وعدول المؤمنين، للتصدي لمهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما ستعرفه والظاهر أنها من أبرز وظائف السلطة التنفيذية في الدولة وقد تعارف الإصطلاح عليها بالأمور الحسبية لأن القائم بأمرها يتولى أمرها حسبة إلى الله سبحانه، كما اصطلح على المؤسسة المفوضة لها بإدارة الحسبة والأشخاص المتصدين لها بالمحتسبين، وتفصيل الكلام في هذا الفصل يستدعي التعرض إلى مسائل:

- المسألة الأولى: للفقيه التصدي للأمور الحسبية وهي مأخوذة من الحسبة والاحتساب، كعدة من الاعتداد وهو إما بمعنى ما يؤتى به حسبة أي قربة إلى الله تعالى، أو بمعنى الأجر أي ما يرجى من إتيانه الأجر والثواب عند الله تعالى، ومنه الحديث: (من أذن إيماناً واحتساباً غفر له) أي طلباً للثواب من الله تبارك وتعالى. وفي الحديث أيضاً: (من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً) وعلى هذا فالأمور الحسبية هي ما يصح أن يطلب في إتيانها الأجر والثواب من الباري عز وجل، سواء كانت من الأمور النوعية العامة كالقضاء والحكومة بين الناس أو من الأمور الشخصية كتجهيز المسلم الذي لا ولي له، أو تولي شؤون الأيتام والقصّر أو القيام بشؤون المقدسات الدينية أو المذهبية.

وربما يمكن الجمع بينهما لأن المساق والمفاد واحد سوى أن التعريف الأول ناظر إلى نية المحتسب والثانية ناظر إلى المحتسب له وهو الباري عز وجل، وبذلك يظهر رجوع ما احتمله البعض من إرجاع الحسبة إلى المحاسبة بمعنى الرقابة مستظهراً ذلك من قولهم الحسيب أي المحاسب، كما في قوله تعالى: (وكفى بالله حسيباً) إلى ما ذكرناه أيضاً.

ومنه يعلم أن موضوع الأمور الحسبية لابد وأن يكون ما فيه رضا الشارع والإذن فيه فما هو المرجوح سواء كان مكروهاً أو محرماً لا يقع بنفسه من موارد الحسبة لأنه لا يطاع الله من حيث يعصى ولا يصح التقرب بالمبغوض عند المولى عز وجل، ومن هنا قال جمع بل ولعل المجمع عليه أن موردها يكون موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بما فيه مرضاة الله عز وجل إيجاباً أو ندباً.

نعم النسبة بينها وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العموم المطلق كما سترى.

وكيف كان فشأن المحتسب أمور ثلاثة:

1- بيان الأحكام والموضوعات المستنبطة، بل غير المستنبطة لمن لا يعرفها.

2- الشهادة على الناس فيما إذا شهد المحتسب تعاطيهم وتنازعهم أو خروجهم عن الضوابط والحدود الشرعية أو العرفية أو الأخلاقية.

3- الإلزام والردع للعصاة والمجرمين مع تخويل الحاكم للمحتسب، إذا لم يكن هو بنفسه من الفقهاء إجراء الحدود والتعزيرات والتأديب وما أشبه ذلك.

ومن الواضح أن هذه الشؤون الثلاثة تدخل في نشر المعروف وبسطه في المجتمع ودفع المنكر والمكروه عنه، والظاهر أن المراد بالمعروف في هذا الباب هو مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب والمندوب بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع الدينية أو الدنيوية.

ولا يبعد إمكان تعميمه للواجبات الأخلاقية والفضائل والرذائل خصوصاً ما يرتبط بالعفة العامة والحقوق، كما أن المراد بالمنكر هو مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع محرماً كان أو مكروهاً أو مباحاً، له حزازة عرفية لجهة من الجهات إذ رب أمر لا يكون بالذات من المحرمات لكن حيث أن مصالح المجتمع والبلد تقتضي حريات الأفراد بالنسبة إليه بحسب قانون الأهم والمهم أو الضرورات التي تبيح المحظورات يمكن للحاكم أن يأذن في الردع عنه، لكن ينبغي أن يكون هذا الردع مؤقتاً لأن النهي الحكومي في مثله ناشئ من الضرورة وهي تقدر بقدرها.

ويدل على ذلك الأدلة الأربعة فمن الكتاب آيات منها قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين) بضميمة أن القوام فعال من القيام وهو المبالغة فيه ويعني من يكون عادته القيام، والقسط هو العدل كما في مجمع البيان.

وفي مفردات الراغب قيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به، كما في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وعليه فالمراد من الآية كما في مجمع البيان ولتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل، وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلوك طريقة العدل في النفس والغير وهو المنقول عن ابن عباس أيضاً.

ولا يخفى عليك أن قوله سبحانه شهداء لله أمر من الله سبحانه لعباده بالثبات والدوام على قول الحق والشهادة بالصدق تقرباً إليه وطلباً إلى مرضاته، ودلالاتها على وجوب القيام بالأمور الحسبية إما من جهة الدلالة التضمنية لكونها من مصاديق قول الحق والشهادة بالصدق، أو من جهة الأولوية لشمول الأمور الحسبية إلى جانب التنفيذ والإجراء مضافاً إلى القول والشهادة.

ومن الآيات عموم مثل قوله تبارك وتعالى: (فاستبقوا الخيرات) وقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بحمل الأمر فيهما على الوجوب ودلالاتها على المستحبات ناشئة من مادة الخير والمغفرة وليس الهيئة ولا مانع من كون تعلّق التكليف الوجوبي بالشؤون الخيرية والإحسانية مع أنها في أصلها من النوادب والمستحبات، كما حقق في محله، ولقيام الدين والعقيدة والمجتمع على الشؤون الخيرية في الجملة، وأما الروايات فهي متواترة في مثل فعله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في قضايا متعددة كما سننقله إليك، وفعل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة، مما لعلهما يربوان على العشرات كما ذكره السيد الشيرازي (قد) في الفقه البيع، كما ربما يمكن الاستدلال لها بمثل قوله (عليه السلام): (عونك الضعيف من أفضل الصدقة) وقوله (عليه السلام): (الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، لكن الظاهر أن دلالة مثل هذه الروايات على الاستحباب لا الوجوب لكنه لا يضر في أصل الكبرى، لما عرفت من أن الأمور الحسبية تتصدى لكل ما هو معروف عقلاً أو شرعاً، وهو أعم من الواجبات والمندوبات.

- الدليل الثالث: هو الإجماع القولي والعملي وقد تظافر النقل عن قيام الفقهاء بالأمور الحسبية وتخويلهم للمؤمنين للقيام بها كما هو معروف ومسطور في كتب التواريخ والتراجم.

- الدليل الرابع: هو العقل إذ يدل على وجوب التصدي لها لأنها توجب جعل الأمور في نصابها، فيقوم النظام ويدفع الهرج والمرج وغيره من المفاسد العظيمة.

وعليه فموارد جواز تصرف المتصدي للأمور المذكورة ونفوذ أمره فيها هو عموم الحسبيات مما علم بعدم رضا الشارع بتعطيلها لاستلزام تعطيلها اختلال النظام أو العسر والحرج، مع عدم التمكن من الرجوع إلى الفقيه أو عدم إمكان تصديه أو عدم المصلحة فيه ونحوها من المحاذير الداخلة في باب الأهم والمهم.

هذا وقد وقع النزاع بينهم في كفاية الواحد من المحتسبين لكونه من الاستبانة عرفاً كما في رواية مسعدة حيث ورد فيها والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة، مضافاً إلى قيام سيرة العقلاء على الاعتماد على الثقة، أو يلزم شهادة اثنين منهم، أو واحد مع غيره احتمالان في المسألة، وستعرف بعض التفاصيل فيما يأتي إنشاء الله تبارك وتعالى.

وهل المستفاد من هذه الأدلة مأذونية التصدي شرعاً من دون توقف على إذن الفقيه الجامع للشرائط أم لا؟ احتمالان بل قولان:

- الأول: ذهب إليه جمع من الفقهاء ومنهم السيد السبزواري (رضي الله عنه) في المهذب قال بعد ذكر الأدلة: وكل ذلك إذن في التصدي ولا يحتاج مع ذلك إلى الإذن من الحاكم الشرعي، نعم إذنه طريق للإثبات ولتشخيص الموضوع الذي يراد التصدي له، وإنه بالنتيجة من الأمور الحسبية حتى يتصدى له أو لا.

- الثاني: ذهب إليه أيضاً جمع، ومنهم السيد الشيرازي (رضي الله عنه) في الفقه البيع، وتظهر الثمرة في أنه لو أتى بالعمل جامعاً للشرائط يصح بناء على عدم شرطية الإذن إلا في مقام الإثبات فقط.

- المسألة الثانية: في ذكر بعض الموارد التي تصدى لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأمور الحسبية، إذ تدلنا الأخبار المتضافرة الواردة بطرق الفريقين على ذلك، منها ما في الوسائل في فصل الاحتكار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، وفيه أيضاً في رواية حذيفة بن منصور أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (يا فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت) بضميمة أن هذا الأمر مخالف لقانون السلطنة القاضي بأن الناس مسلطون على أموالهم إلا أنه حيث كانت هنالك ضرورة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعه حسبة حفاظاً على حياة الناس.

وفي خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يا رسول الله إني سألت رجلاً لوجه الله فضربني خمسة أسواط فضربه النبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أسواط أخرى وقال سل بوجهك اللئيم) والرواية ظاهرة في النهي عن هذا التصرف غير الأخلاقي مع الباري عز وجل إذ أن العبد لا يسأل بوجه الله الحاجة وإنما يسأل بماء وجهه، أما السؤال بوجه الله فهو يوجب الانتقاص والمهانة.

وفي خبر سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مر النبي (صلى الله عليه وآله) في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً وسأله سعره فأوحى الله عز وجل إليه أن يدس يده في الطعام ففعل فأخرج طعاماً رديئاً فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين).

ومن مصادر العامة عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ على سفرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال يا صاحب الطعام ما هذا؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال(صلى الله عليه وآله) أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، ثم قال: (من غش فليس منا) وقريب منه رواه في سنن أبي داوود بسنده عن أبي هريرة أيضاً.

وكذا في كنز العمال عن محمد بن راشد. وفي صحيح البخاري بسنده عن ابن عمر أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروا حتى ينقلوه حيث يباع الطعام، وعن ابن عبد البر في الاستيعاب استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة، وفي بعض المصادر سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت النبي (صلى الله عليه وآله) وعمّرت وكانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنهى الناس عن ذلك بسوط معها، وهذا ما ربما يكشف عن سيرة أهل الشرع أو تلقي الصحابة ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو إحراز موافقته.

وفي كنز العمال عن كليب بن وائل الأسدي قال رأيت علي بن أبي طالب مر بالقصابين فقال يا معشر القصابين لا تنفخوا فمن نفخ اللحم فليس منا، وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكاً بمنع التجار من الاحتكار ومعاقبة من قارف الحكرة بعد نهيه، وأمر (عليه السلام) رفاعة قاضيه على الأهواز بالنهي عن الاحتكار وأنه من ركبه فأوجعه وعاقبه بإظهار ما احتكر كما رواه في دعائم الإسلام. وفي خبر حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجريد والمارماهي والزمار كما في الوسائل، وهي أنواع من الأسماك محرمة. وفي خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي برجل عبث بذكره فضرب يده حتى احمرّت ثم زوجه من بيت المال.

وفي صحيفة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى قاصاً في المسجد فضربه بالدرّة وطرده.

وفي خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم فقال: (أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه).

وعن الكليني والشيخ بسندهما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عندكم بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرّة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمّى السبيبة، فيقف على أهل كل سوق فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وسمعوا بآذانهم فيقول: قدموا الاستخارة وتبرّكوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعين وتزيّنوا بالحلم وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب وتجافوا عن الظلم وأنصفوا المظلومين ولا تقربوا الربا وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين فيطوف في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس) أي يقعد للحكومة والقضاء.

وعن الصدوق بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه أيضاً كما في الوسائل.

وفي دعائم الإسلام عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يمشي في الأسواق وبيده درة يضرب بها من وجد من مطفف أو غاش في تجارة المسلمين، قال الأصبغ قلت له يوماً: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين واجلس في بيتك، قال: ما نصحتني يا أصبغ. وكان يركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء ويطوف في الأسواق سوقاً سوقاً فأتى يوماً طاق اللحامين فقال: يا معشر القصابين لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق وإياكم والنفخ في اللحم، ثم أتى إلى التمّارين فقال: أظهروا من رديء بيعكم ما تظهرون من جيده، ثم أتى السماكين: فقال: لا تبيعوا إلا طيباً وإياكم وما طفى. ثم أتى الكناسة وفيها من أنواع التجارة من نخّاس وقمّاط وبائع إبل وصيرفي وبزاز وخياط فنادى بأعلى صوت: يا معشر التجار إن أسواقكم هذه تحضرها الإيمان فشوبوا أيمانكم بالصدقة وكفوا عن الحلف فإن الله تبارك وتعالى لا يقدس من حلف باسمه كاذباً، وعن الصدوق بإسناده إذا قضى يا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن رجلاً قال له إن هذا زعم أنه احتلم بأمي، فقال (عليه السلام): إن الحلم بمنزلة الظل فإن شئت جلدت له ظله، ثم قال: لكني أؤدبه لئلا يعود يؤذي المسلمين. وفي صحيحة الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) نحوه وقال: فضربه ضرباً وجيعاً.

وفي التراتيب الإدارية للكتاني عن عبد بن حميد في مسنده عن مطرة قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي إرفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأبقى له، فمشيت خلفه وهو بين يدي مؤتزر بإزار مرتدٍ برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي فقلت من هذا؟ فقال لي رجل: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى انتهى إلى الإبل فقال: بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة. ثم أتى إلى أصحاب التمر فإذا خادم يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم فرده علي مولاي فقال له علي (عليه السلام): خذ تمرك وأعطه درهمه فإنه ليس له من الأمر شيء فدفعه.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال مما يجده المتتبع في مختلف كتب أخبار والتاريخ، والمستفاد من مجموعها هو تصدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لما يتعلق بالأمور الحسبية المحفزة للناس على الاستقامة وملازمة التقوى والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحتمال البعض أن بعض التصديات كانت بما هم حكام والحاكم مسؤول أو أول مسؤول في القضاء وحفظ الحقوق لا يضر بالمطلب بل يؤكده لعدم المانع في انطباق عنوانين أو ثلاثة على مورد واحد فلا مانع من أن يكون تصديهما (عليهما السلام) من باب كونهم حاكمين وكذا من باب التصدي للأمور الحسبية لأولوية التصدي لهما، أو أنها من شؤون الحاكم. كما ينطبق عليه عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا فضلا عن صراحة بعضها فيما ذكرنا، ولا يخفى علينا إمكان المناقشة السندية في بعضها خصوصاً ما ورد من طرقهم، إلا أن المجموع من حيث المجموع ربما يفيد الفقيه الاطمئنان بصدور بعضها، بل ربما مع الالتفات إلى وجود الصحاح من الأخبار فيها يقطع بذلك الفقيه، وكيف كان فإنه بضميمة وجوب القدوة والأسوة يستفاد منها وجوب الأخذ بها، وذلك يكفينا دليلاً على شرعية التصدي للأمور الحسبية.

- المسألة الثالثة: في نسبة الحسبة مع ولاية الحاكم.

قد عرفت مما تقدم أن التصدي للأمور الحسبية من الواجبات الكفائية وحيث أنها من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يجب على عموم المكلفين التصدي لها كفاية، وهذا مما لا كلام فيه وإنما الكلام في أن جواز التصدي لعموم المؤمنين متأخر رتبة عن ولاية الحاكم بمعنى أنه لا تصل النوبة إلى الحسبة مع وجود الحاكم الشرعي أو هو في عرضه، والفرق بينهما أنه على الأول لا يجوز لغير الفقيه التصدي لها إلا بإذنه أو عند فقده أو تعذر الوصول إليه بخلافه على الثاني، والظاهر أن مدار كلمات القوم لا ينحصر بمثل أموال الأيتام وشبههم وإن كان أكثر الكلام والتفاصيل دارت حوله إلا أن الظاهر أنه من باب المصداق وذلك لأن موضوع البحث عام ويشمل جميع الأمور الحسبية والوظائف التي هي بيد الحاكم، والأمور التي لا يمكن تعطيلها بحكم الشرع لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة، كإحقاق الحقوق وإجراء الحدود والقضاء والقصاص والدفاع عن حوزة المسلمين وغير ذلك من شؤون الحكومة والنظام.

الظاهر أن هذه جميعاً داخلة في مورد البحث، فإذا لم يمكن الوصول إلى الفقيه أو كان هناك فقيه غير نافذ الكلمة، فإنه يجب على عدول المؤمنين القيام بها والتصدي لها وهذا ما عليه المشهور من أصحابنا كما هو الظاهر من كلماتهم، وتفصيل الكلام نتعرض إليه في البحث القادم إنشاء الله..

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.