المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 45.doc

لشرط الثالث من الشرائط التنصيبية هو أن يلتزم الحاكم بضوابط تطبيق الإسلام، وربما يعبر عنه بالعدالة العملية لكون الفقهاء وإن اتفقوا على معنى واحد للعدالة في باب العبادات والشهادات والاجتهاد والتقليد والقضاء ونحوها، وفسّرت العدالة عند المشهور بالملكة لأنهم أرادوا منها العدالة النفسية. لكن الظاهر في باب الحكومة والسلطة أنه ينبغي إضافة العدالة العملية في باب التنصيب والتولي.

وعليه فإنه ربما يمكن تصنيف العدالة إلى صنفين:

أحدهما العدالة النفسية وهي ما يشترك فيها الحاكم وسائر الناس إذ هي واجبة على الجميع وهذا ما تعرّفت عليه في أول الشروط الترشيحية.

ثانيهما: العدالة العملية وهي من مختصات الحكماء والأمراء والوزراء ونحوهم ممن يتولون شؤون الناس وذلك بخصوصية في الحكم والحاكم، وهذا ما ينبغي التعرّض إليه لمعرفة الملاكات العملية في شرعية الحاكم حين توليه أو لغاية عزله ولذا يشدّد الشرع المقدس على التعامل معه بنحوٍ من الحدية، ومن هنا ذهبت جمهرة كبيرة من الفقهاء قديماً وحديثاً إلى عدم إجراء أصالة الصحة في فعل الحاكم مع أنه موضوعاً من المسلمين وتنطبق عليه أحكامهم، وذلك لأن أصل الصحة في فعل المسلم يصحح كل ما يصدر عن المسلمين من أفعال بحسب الاعتبار الشرعي لمثل قولهم (عليهم السلام): (احمل فعل أخيك على أحسنه) إلا في مورد الاتهام وأما الحاكم فحيث أن الأصل فيه هو التهمة فهذا لأصل لا يجري فيه وذلك للخصوصية المذكورة.

كما أنه يؤاخذ في مأكله وملبسة ومنطقه ونحو ذلك دون غيره من المسلمين، وذلك تشديداً لمصلحة العدل وحفظ حقوق الناس والحيطة من الوقوع في مفاسد الحكم والحكام الخطيرة ويدل على لزوم مراعاة العدالة العملية العقل والشرع، أما العقل فمن وجوه:

- الأول: من جهة استقلاله بحسن رعاية العدل وقبح تضييع الحقوق مهما أمكن وكان في حيطة القدرة وإن قلت فيحكم الشرع بوجوب الأول وحرمة الثاني لقاعدة الملازمة، ومن الواضح أن عدم الحكم بوجوب ذلك فيه مظنّة الوقوع في المحذورين، وفي مثل ذلك الضرر المحتمل الواجب الدفع فضلاً عن المضمنون.

- الثاني: الحكم العقلائي القاضي باستحقاق من فرط أو أفرط في تطبيق العدل أو حفظ الحق الذم والمدح واستحقاقه العقوبة.

- الثالث: حكومته للزوم رعاية الأهم والمهم فإن التشديد على الحاكم وإن كان ربما يقيّده في حرّيته أو يتصرّف في سلطنته على نفسه إلا أن مصلحة العدل وحفظ الحق وحماية الناس من الاستبداد أهم فتقدم عليه وهذا ما جرت عليه سيرة العقلاء طرّاً في وضع الضوابط والقيود على الحكام خوفاً من استبدادهم وتفردهم.

- الرابع: الأولوية القطعية المستفادة من باب القضاء فقد دلت الأدلة الخاصة على وجوب مراعاة القاضي لغاية الاحتياط في أحكامه، فتدلّ على وجوب ذلك على الحاكم والرئيس بالأولوية لأخطرية منصبه من القاضي.

ومن هذه الأخبار طائفة منها ما عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (قال من جعل قاضياً ذُبح بغير سكين) ويمكن قراءة الحديث أيضاً بصيغة المعلوم أي من جَعل قاضياً ذَبح بغير سكين، والفرق بين القراءتين أن الأولى ناظرة إلى نفس القاضي والثانية ناظرة إلى الناصب له.

وفي رواية البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة؛ رجل قضى بجور وهو يعلم فهو بالنار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم أنه قضى بجور فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو يعلم فهو في الجنة) وهذا الحديث صريح في موضوعية العلم بالنسبة للحكم ولذا يعاقب بالنار حتى في صورة قضاءه بالحق لكنه عن جهل.

ومن ذلك أيضاً رواية الصدوق التي رواها في الفقيه: (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فقد كفر بالله) والحديث صريح في أن الملاك ليس في القلة والكثرة وإنما لزوم اتباع حكم الله عز وجل في ذلك، وفي رواية أخرى (من حكم بدرهمين فأخطأ كفر) وفي صحيحة أبي بصير (من حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله فهو كافر بالله العظيم) والظاهر أن المراد بالكفر هنا ليس الحكم العقيدي وإنما المراد هو الكفر العملي كما ورد في الأخبار الشريفة أن تارك الحج كافر وأن النمام كافر، أو المراد التشبيه من جهة التخويف والمبالغة لضرورة أن المعصية بغير منكر الضروري ليست سبباً للكفر، أو لجهة التنزيل في مقام العقوبة كتنزيل آكل الربا بمنزلة المحارب لله والرسول ونحو ذلك، لبيان وحدة الجزاء والعقوبة فيهما أو لغير ذلك من الجهات.

وأما الشرع فهو ما قامت عليه السيرة العملية للمعصومين (عليهم السلام) من التشديد على الحكام حذراً من المحذور المذكور وبضميمة وجوب القدوة والأسوة يحكم بوجوب الأخذ بها والشواهد على تشديدهم (عليهم السلام) كثيرة منها ما أورده في الغوالي والمستدرك أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولّى أبي الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله فقال أبو الأسود له: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال (عليهم السلام): (إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك) ونلاحظ أن مجرّد رفع الصوت لأنه فيه إهانة أو ربما يحمل على نوع من التهديد أو الإخافة للمتقاضي فإنه يوجب عزله، ومن الواضح أن أبو الأسود الدؤلي كان من الفضلاء الفصحاء ومن طبقة الشعراء الأولى في الإسلام وكان من شيعة أمير المؤمنين ويعد من الفرسان والعقلاء أيضاً، بل وهو الذي ابتكر علم النحو بإشارة أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكن مصلحة التشديد في العدل ومحذور الوقوع في خلافه أوجب عزله للأهم والمهم.

وفي سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه عزل واليه فوراً لشكوى جاءت بها امرأة من بني همدان هي سودة بنت عمارة في قصة مشهورة حينما شكت واليهم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) لكونه كان يجور عليهم فعزله فوراً، وكان (عليه السلام) يراقب أحوال ولاته وعمّاله ويحاسبهم لكي لا يظلم بعضهم الناس فكتب (عليه السلام) إلى بعض ولاته حينما بلغه عنه بعض سوء التصرف:

(أما بعد فقد بلغني عنك أمرٌ إن كنت قط فعلته فقد أسخط ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام)..

والمستفاد من هذه الرواية أن منطق (من أين لك هذا؟) لا يجري في سائر الناس إلا أنه بالنسبة للحاكم يجري لعدم جريان أصالة الصحة فيه لكون الأصل في الحكام والأمراء هو التهمة حذراً من الوقوع في مفاسد الحكم والسلطة.

وفي كتاب الاختصاص أخرج الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) في حديث طويل جاء فيه: ذكر الكوفيون إن سعيد بن قيس الهمداني رآه - يعني علياً (عليه السلام) - في شدة الحرب في فناء حائط فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة؟ - أي كيف تخرج في هذه الساعة الحارة وأنت الحاكم والأمير - قال (عليه السلام): (ما خرجت إلا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً)، وفي كتاب المناقب لابن شهراشوب (رضوان الله عليه) عن ابن مردويه قال: وسمعت مذاكرة انه (عليه السلام) دخل عليه عمر بن العاص ليلة وهو في بيت المال فأطفأ السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل أن يجلس في الضوء من غير استحقاق، وكان من وصاياه (عليه السلام) التي يكتبها لمن يستعمله على الصدقات:

(انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ولا تروّعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً ولا تأخذنّ منه أكثر من حق الله في ماله فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امضي إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج - أي لا تبخل - بالتحية لهم ثم تقول عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه فإن قال قائل لا فلا تراجعه وإن أنعم - أي قال نعم - لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه - أي تأخذه بشدة - أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثرها له فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّطٍ عليه ولا عنيف به) وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعلم بقاتله قبل قتله وكان يخبره بذلك أيضاً إلا أنه لم يتعرّض إليه بشيء مع أنه الحاكم وأنه السلطان ففي الأخبار أن عليا (عليه السلام) كان يقول لعبد الرحمن بن ملجم: (أنت قاتلي) وكان يكرر عليه هذا البيت:  

أريد حياته ويريد قتلي***** عذيرك من خليلك من مرادي

فيقول له ابن ملجم: يا أمير المؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني، ويقول له: إنه لا يحل ذلك أن أقتل رجلاً قبل أن يفعل بي شيئاً، فسمعت الشيعة ذلك فوثب مالك الأشتر والحارث ابن الأعور وغيرهما من الشيعة فجرّدوا سيوفهم وقالوا: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تخاطبه بهذا الخطاب مراراً وأنت إمامنا وولينا وابن عم نبينا فمرنا بقتله، فقال لهم: اغمدوا سيوفكم وبارك الله فيكم ولا تشقوا عصا هذه الأمة أترون أني أقتل رجلاً لم يصنع بي شيئاً. وفي بعض الأخبار أنه لا قصاص قبل الجناية.

ومن الواضح أن هذه السيرة سيرة متشددة جداً في مراعاة الاحتياط والعدل وعدم أخذ الناس بالظنة والتهمة، وهذه سيرة لم تعرف لها البشرية نظيراً في غير سياسة رسول الله وأمير المؤمنين (عليهم السلام) كما هو معروف في أساليب الحكام والأمراء أنهم يأخذون من يظنون أو يتوهمون أنه ينوي لهم سوءاً فكيف بمن أيقنوا بذلك.

هذا ولا يخفى عليك أن مسألة علم الإمام (عليه السلام) هنا لا تمنع من عفو الإمام (عليه السلام) عنه وذلك لما حقق في علم الكلام من أن علم الإمام الغيب الإلهي الماورائي لا يؤثر في سلوكه وعمله الخارجي عادةً وإلا لم يتم الامتحان الذي لأجله خلق الله تعالى الخلق، ولم تتم الحجة التي لأجلها جعل الله تعالى الإمام، فالسلوك الخارجي للإمام (عليه السلام) في نفسه ومع المجتمع يكون عادياً كسائر الناس.

هذا هو مقتضى أدلة القدوة والأسوة كما أن طبائعه البشرية إنما هي كسائر الناس عادة قال سبحانه: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وقالوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)، وقال عز وجل (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) وعليه فإن الإمام بحسب ما أعطاه الله من مراتب الإمامة لا ينبغي أن يؤثر في سنة الامتحان والاختبار لسائر الناس من تعاملاتهم معه تماماً كما في سلوك الله سبحانه وتعالى مع البشر مع انه قادر على كل شيء والعالم بكل شيء إلا أنه لا يصرف الظالم عن ظلمه ولا المظلوم عن ظلامته، فلو أراد الله سبحانه أن يدفع الظلم عن المظلوم ويأخذ بيد الظالم حتى لا يظلم فكيف يتم امتحان الناس، وهكذا بالنسبة إلى تصرفات رسول الله والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الذين بقدرة الله وتعليم الله لهم صاروا قدوة وأسوة فلا يتصرفون بحسب العلوم الغيبية أو القدرات الغيبية وإنما بحسب الظواهر.

هذا بعض الشيء في جواب هذه المسألة وإلا فإن الكلام فيها طويل لا يسعنا بيانه.

وسياسة التشديد هذه لم يختصر في سيادة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) بل هو أسلوب أسسه وصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبله، ففي الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث خالد بن الوليد مع جماعة في مهمّة الدعوة إلى الإسلام إلى بني جذيمة وهم من بني المصطلق كان قد سبق أن أسلموا ولم يأمرهم بقتال كما في الكامل في التارٍيخ فأوقع بهم خالد وقتل منهم جماعة لترة كانت بينه وبينهم فبلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكى النبي وقام وصعد المنبر ورفع يديه إلى السماء وقال ثلاثاً: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد اللهم إني أبرأ مما صنع خالد بن الوليد) ثم دعا النبي (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدفع إليه سفطاً أي صندوقاً من الذهب وأمره أن يذهب إلى بني جذيمة ويدفع إليهم ديات الرقاب وما ذهب من أموالهم فجاء علي (عليه السلام) وقسم المال كالتالي:

1- دفع أولاً ديات المقتولين ظلماً إلى ورثتهم عن كل واحد منهم ألف دينار ذهب وهو ما يعادل ثلاثة آلاف ومائتين وخمسين غرام تقريباً من الذهب الخالص.

2- دفع إليهم ثانياً ثمن كل جنين ذرة. يعني عبدا أو أمة.

3- ودفع إليهم ثالثاً ثمن ما فقدوه من المبالغ والعقل والمقصود من المبالغ الأواني المعدة لسقي الكلاب أو إطعامهم والعقل هي الحبال التي تربط بها أيدي وأرجل الإبل.

4- دفع إليهم رابعاً ثمن ما ربما فقدوه مما لم يعلموا بفقده مما أخذه خالد أو من كان معه أو مما تلف أثناء القتال.

5- دفع إليهم خامساً ثمناً لروعة نساءهم وفزع صبيانهم.

6- دفع إليهم سادساً مقابل كل مال فقدوه مثله من المال.

7- دفع إليهم سابعاً بقيمة المال ليرضوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

8- دفع إليهم ثامناً ما يفرح به عيالهم وخدمهم بقدر ما حزنوا.

ثم رجع علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما فعل من توزيع الذهب عليهم بثمانية أقسام، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ولكل مالٍ مالاً وفضّلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نساءهم وفزع صبيانهم وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون وما لا يعلمون وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله، فتهلل وجه النبي (صلى الله عليه وآله) وضحك حتى بدت نواجذه وقال: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني رضي الله عنك. ثم قال (صلى الله عليه وآله): يا علي إنما أنت مني بمنزولة هارون من موسى إلا أن لا نبي بعدي.

هذا مضمون ما ورد في أمالي الصدوق ومجالس الطوسي وأعلام الورى والكامل وخصال الصدوق وإرشاد المفيد وفي البحار أيضاً.

وربما يرد سؤال هنا وهو إذا كان خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة عملاً لعداوة كانت في الجاهلية بينه وبينهم فلماذا لم يقتص منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) منه لهم ويقتله بهم قصاصاً مع أن الدية متأخرة رتبة عن القصاص في قتل العمد؟

والجواب عن ذلك من وجوه عديدة ذكرها بعض الفقهاء في مواردها نذكر منها ما جاء في كتاب السياسة من واقع الإسلام للمرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في ص31:

- الجواب الأول: أنه يشترط في القصاص أن يكون بطلب من ولي الدم وحيث أن بني أبي جذيمة وهم أصحاب الدم لم يطلبوا القصاص انتقل الحكم إلى الدية.

الجواب الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما أنه هو الولي للجميع بالولاية المطلقة حتى لأولياء الدم وذلك بحكم القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فكان للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عن القصاص إلى الدية.

الجواب الثالث: أن تزاحم المهم والأهم اقتضى ذلك بتقديم ترك القصاص على ما ربما كان يترتب عليه القصاص في تلك الظروف الخاصة بالرسالة وبالرسول (صلى الله عليه وآله) حيث كان المسلمون على أبواب الفتح الإسلامي والنصر الواسع ودخول الناس في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة مباشرة، فمثل هذا القصاص في تلك الظروف ربما كان يؤدي إلى رعب المسلمين وحدوث البلبلة فيهم مما كان أضرّ على حاضر الإسلام ومستقبله وكم لذلك من نظائر في تاريخ الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كما شهدت به كتب التواريخ.

إلى غير ذلك من الشواهد العظيمة الدالة على مستوى كبير من التشديد يمارسه الحاكم المعصوم (عليه السلام) على الرغم من عصمته وتسديده الغيبي من الله سبحانه ليكون قدوة وأسوة لغيره في ملازمة ذلك حذراً من الوقوع في مفاسد السلطة وطغيان السلطان.

هذا ومضافاً إلى ما تقدم فإنه تتجلّى العدالة العملية للحاكم ورعاية الضوابط في تطبيق أحكام الإسلام في أمور لعلّ من أهمّها ما يلي:

- الأول: مراعاة مصلحة الأمة في دينها ودنياها فليس للحاكم سواء كان فقيهاً أو منصوباً من قبله الخروج عن ذلك أبداً وإلا استحق العزل وذلك إما لكونه شرطاً في ضمن العقد أو لكونه مقتضى السيرة العملية للمؤمنين حيث نص الشارع على وجوب مراعاتها مثل ما في قوله سبحانه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) الدالة على أن سبيل المؤمنين بنفسه ملاك وحجة على الناس ومنه الحاكم، أو لكون الخروج عن رعاية ذلك يكون من مصاديق الغش والخيانة وهما من أعظم المحرمات، وفي الخبر عن مولانا أمير المؤمنين: (وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة) ويعضد ذلك المرتكز العقلائي القائم على أن الحكومة ليست من مخترعات الشرع بل هي أمر دائر بين العقلاء وجرت عليه سيرتهم منذ قديم الأيام في تدبير أمورهم الاجتماعية والسياسية والمعاشية والشارع المقدس أمضاها لكن مع قيود وشرائط، ومن المعلوم أنها شرّعت بين العقلاء لحفظ مصالح المجتمع وغبطة الناس صغيرهم وكبيرهم وإن قل من قام به وأدى حقه كما هو المشهود في سياسة الدول في التاريخ.

فالحكومة على أساس حفظ مصالح الناس وتطبيق العدل بينهم أمضاها الشارع المقدس فليس للفقيه ولا غيره ترخيص في الأخذ بغير ما هو المصلحة للناس.

هذا مضافاً إلى ما يمكن قوله من أن المنصرف من بعض أدلة ولاية الفقيه هو اشتراط المصلحة، كما في مثل حديث مجاري الأمور فإن المتبادر منه عرفاً أن مجاري أمور إصلاح المجتمع وإقامة نظام الأمة بيد الفقيه لا مجاريها بما يريدها وإن كان فيه ضرر على الأمة أو لم يكن فيه مصلحة، وكذا مثل رواية الحوادث الواقعة فإنها إشارة إلى الحوادث المهمة التي ترتبط بكيان الأمة وسعادتها الدينية والدنيوية، بل لو قلنا بأنها تشمل كل حادثة فلا شك أن الرجوع إليهم إنما هو لإصلاح أمر الحوادث والأخذ بما هو أحرى وأصلح لا أن الأمر مفوض إلى الفقيه يأتي بما يشاء ويحكم بما يريد حتى في خلاف مصالحه، ويدل على كل ذلك أيضاً أمران:

أحدهما: سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث لم تستقر إلا على ذلك، فلم يثبت التاريخ مورداً من الموارد إلا وقد أخذوا بما هو صلاح الأمة وما هو أجمع لمصلحة المؤمنين بل لم نر مورداً أخذا بما فيه مصلحة شخصيهما وكلماتهما متضافرة في هذا المجال وقد عرفت بعضها مما تقدم.

- ثانيها: الآيات والروايات الكثيرة الدالة على وجوب تحري الصالح أو الأصلح على أئمة المسلمين وقادتهم وأنه لا يجوز لهم غير ذلك، لعل منها قوله تبارك وتعالى: (ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) حيث دلت الآية على أن الحكومة طريق لمراعاة هذه المصالح الأخروية والدنيوية للأمة كما دلّت على أن النصر الإلهي للدولة والشعب متوقف على مراعاة هذه المصالح إما لجهة المبادلة بين حسن الفعل والثواب وقبحه والعقاب أو للأثر الوضعي الذي قرره الله سبحانه في الكون من ترتب الآثار الحقيقية على أفعال الإنسان، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه حاكياً عن شعيب: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) فإنها دالة على أن الإصلاح مطلوب لذاته في تصرفات الأنبياء والأئمة الذين نصّبهم الله سبحانه سادةً وحكاماً على الناس، والآية ظاهرة في الحصر لكونها إثبات بعد النفي فيستفاد منها بمفهوم المخالفة أنه إذا كان الحاكم أو الإمام لا يريد الإصلاح في تصرفاته كانت حكومته باطلة وعمله محرّم.

ولعلّ من الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) فإنه يفهم منها الأولوية في عدم جواز التصرف في أمور الأمة بدون الصلاح وذلك لعدم الشك في كونه أهم من مال اليتيم ومما يؤيده ما اتفقت عليه كلمة الفقهاء من أن الفقيه الذي هو ولي من لا ولي له من القاصرين وما أشبه لا يجوز له أن يتصرف في أموالهم إلا بالتي هي أحسن فكيف بالتصرف في أنفسهم.

هذا وربما يمكن أن يستدل لذلك أيضاً بقوله سبحانه: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) وذلك بضميمتين:

- الأولى: حجية استصحاب الشرائع السابقة.

- الثانية: أن الأخذ بالأحسن عرفاً هو ما كان فيه المصلحة ولا يكفي فيه عدم المفسدة.

هذا ما يمكن الاستدلال به من الآيات الشريفة وأما الروايات فهي متضافرة منها ما ورد عنهم (عليهم السلام): (لا يثوى حق امرئ مسلم) وفي رواية أخرى: (لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم) بتقريب أن عدم ملاحظة المصلحة هو إبطال لحق المسلمين فمثلاً إذا كانت قيمة الطائرات في الأسواق مليون دينار مثلاً وأمكن الحاكم أن يشتريها بمليون إلا خمسين ألف فلم يفعل ذلك فإنه يصدق عرفاً أنه أبطل حق المسلمين بل وربما يصدق عليه أنه ضيعهم وضيع حقوقهم، فما يصدق عليه في كثير من الأحيان أنه أضرهم فتشمله أدلة لا ضرر ونحوها.

ومنها ما في نهج البلاغة: (أيها الناس أن لي عليكم حقاً ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعملوا) وفيه أيضاً: (وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية) فالوالي لابد أن يكون سبباً لنظام الأمة وعزاً لدينهم وحافظاً لمصالحهم لا أن يفعل فيهم ما يشاء من دون رعاية لها.

ومنها ما في الكافي وقد ذكر باباً لما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام وفيه عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الإمام على الناس؟ قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا. قلت: فما حقهم عليه؟ قال: يقسم بينهم في السوية ويعدل في الرعية.

وفي مرفوعة عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عليه السلام) وهي رواية طويلة جامعة لصفات الإمام جاء فيها: أن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليه السلام) إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والحج والجهاد).. إلى غير ذلك مما هو كثير ومتضافر بل ربما يبلغ حد التواتر مما يغنينا عن ملاحظة أسنادها.

ويؤيد ذلك كله ما ذكروه في علم الكلام في باب وجوب نصب الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كما ذكره العلامة الحلي (رضوان الله عليه) في شرح كلام المحقق الطوسي (رضوان الله عليه) قال في شرح تجريد الاعتقاد: إن الإمامة لطف واللطف واجب، أما الصغرى فمعلومة للعقلاء إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش ويصدهم عن المعاصي ويعدهم ويحثهم على فعل الطاعات ويبعثهم على التناصف والتعادل كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد وهذا أمر ضروري لا يشك فيه عاقل، انتهى.

وعليه فإنه إذا كان الإمام المعصوم (عليه السلام) كذلك فما ظنك بغير المعصوم مع أنه يظهر من غير واحد من الروايات أنهم (عليهم السلام) مالكون للأرض وما فيها بل الدنيا ملك لهم، ومع ذلك لم نر منهم في عصر حكومتهم على الناس وعند بسط أيديهم إلا العمل بما هو خير وصلاح للأمة لا ما هو صلاح لأنفسهم، بل كانوا يؤثرون أنفسهم لصالح الناس ويعانون ويعيشون الجوع والفقر والألم لأجل مصالح الناس، فما بالك بالفقيه فضلاً عن غيره.

هذا وربما يستدلّ لذلك أيضاً بالإجماع والعقل أما الإجماع فهو المدعى في المسألة ممن شرح العروة الوثقى في باب التقليد وولاية الفقيه كما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام ص59، وأما العقل فمضافاً إلى ما تقدمت من الجهات يمكن الاستدلال به من جهة أخرى وهي أن جعل الولاية إنما هو باعتبار المحافظة على مصلحة المسلمين فعدم رعايتها سواء بنحو الوقوع في المفسدة أو الاكتفاء بعدم المفسدة هو خلاف الحكمة التي جعلت لأجلها الولاية وبذلك يظهر أن قول بعضهم بكفاية عدم المفسدة للأصل محل منع.

الشرط الثاني: مشاورة أهل الخبرة في تشخيص المصالح وتعيين الأهم والمهم من الموضوعات واتخاذ القرارات والخطط التي ترسمها الدولة أو تتبعها وذلك لما عرفت من أن الموضوعات التي تدور عليها سياسة الحكومة على أقسام منها ما يكون شرعياً محضاً منصوصاً عليه في الكتاب والسنة أو فروعها من الأدلة كالصلاة والصيام والحج والطواف وغيرها من أشباهها، والأخرى ما ليس كذلك بل هو عرفي يرجع في تشخيصه إلى العرف وهذا على نحوي:

- أحدهما: ما يكون موضوعياً صرفاً أي يمكن معرفته من قبل الجميع فيعرفه العالم والجاهل والمتعلم وغير المتعلم كالماء المطلق والمضاف والدم والبول والفراسخ في باب صلاة القصر والغنم والبقر في أبواب الزكاة وغيرها من أشباهها، وهذا مما لا شبهة في حجية نظر العرف العام فيه والشرع أيضاً يتبعه في ذلك.

- ثانيها: موضوع خفي لا يمكن تشخيصه أو معرفته إلا بعد علم وخبرة ودقة نظر فيحتاج فيه إلى الخبراء من أهل العلوم والفنون والاختصاصات المختلفة مثل مسائل الطب والهندسة والحرب والصلح والشؤون المالية والاقتصادية وتحديد المصالح العامة للدولة والأمة وإيجاد الموازنات بين الحاجات والإمكانيات ووضع الخطط الخمسية أو العشرية أو غيرها لتحسين الأوضاع الاقتصادية أو إجراء الانتخابات وما أشبه ففي مثل هذه الموارد غير المنصوصة شرعاً ولا المعلومة عرفاً عند عموم الناس ينبغي مراجعة أهل الخبرة في شأن كل واحد منها، وهي ما يصطلح عليها بين الفقهاء والأصوليين بالموضوعات المستنبطة حتى لو كان الحاكم فقيهاً، بل يجب ذلك لأنه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم في مورد العلم الذي دلّ عليه الشرع والسيرة العقلائية أو هو من قبيل الفحص عن الموضوع وتشخيصه الذي يحكم العقل بوجوبه لكونه طريق الطاعة مضافاً إلى أنه مقدمة الواجب الذي يحكم العقل والشرع في مثله بوجوبه حتى عند القائلين بعدم وجوبها شرعاً.

هذا في أصل التقسيم ووجوب الرجوع لأهل الخبرة لكن هل يكتفى بأهل الخبرة بالوثاقة أم يشترط فيهم العدالة والإيمان أيضاً احتمالان بل قولان في المسألة، لكن الظاهر أنهم إذا كانوا مؤمنين ومن عدول المؤمنين كان أحسن وأفضل ولا يبعد استحبابه بل ما دام يمكن الوصول إلى أهل الإيمان مع توفّر الخبروية فلا ينبغي الرجوع إلى غيرهم، ولكن قد لا يكون الخبراء إلاّ من غير أهل الإيمان مع الأمن منهم والوثاقة بهم فحينئذٍ لا مناص عن الرجوع إليهم ولكن مع مراعاة الاحتياط والحذر اللازم.

وهذا ما يعضده بعض التواريخ حيث حكت عن رجوع مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما ضربه ابن ملجم إلى الطبيب النصراني مضافاً إلى سيرته (صلى الله عليه وآله) حينما أمر عبد الله بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة وغيرها من أمثالها..

وعليه فإن من شرائط الحاكم ومؤهلاته التنصيبية هو رجوعه إلى أهل الخبرة في كل موضوع يحتاج فيه إلى ذلك وإلا كان مضيعاً لمن يعول ومبطلاً لحقوق المسلمين فيستحق به العزل.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..