المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 005.doc

العنصر الفكري

 تعريفه:

المقصود من (العنصر الفكري) ـ كما أشرنا ـ هو: (الفكرة) التي تضمّنها النّص. إنّ كلّ نص أدبي يتضمّن موضوعاً أو جملة من الموضوعات إلاّ أنّ لهذا الموضوع أو الموضوعات (فكرة) عامّة يحوم عليها النّص.

فمثلاً (سورة الكافرون) التي تتحدّث عن عبادة المؤمن وعبادة الكافر (قُلْ يا أيُّها الْكافِروُنَ لا أعْبُدُ ما تَعْبُدوُنَ...) تتضمّن موضوعاً واحداً هو موضوع العبادة لدى كل من (المؤمنين والكافرين) هذا الموضوع الواحد ينطوي على (فكرة) عامّة هي: عدم الإكراه في الدّين، أو لكل دينه، بمعنى: أنّ مجموع النّص ينطوي على (هدف) يريد النّص الأدبي أن يوصله إلى المتلقّي، وهذا الهدف هو: ألاّ نكره الآخرين على أنْ يصبحوا مؤمنين. طبيعيّاً، أنّ هذا لا يعني مثلاً أنّ الكفر هو ظاهرة مشروعة بحيث يصبح حقّاً لكلّ إنسان بقدر ما يعني: أنّ الكافر ما دام مصرّاً على وجهة نظره، أو بسبب من الجهل أو العناد أو المصلحة الشخصيّة إلى آخره، فحينئذٍ لا فائدة من إكراهه على الإيمان... المهم أنّ هذه الفكرة (عدم الإكراه) هي (الهدف) من النص الذي ينتخب موضوعاً لتجسيد الفكرة المشار إليها، سواء أكان الموضوع المنتخب واحداً أم موضوعات متعدّدة، حيث إنّ الموضوعات المتنوّعة تُوظّف بأكملها لتجسيد الفكرة المشار إليها أيضاً (وهو أمرٌ سنتحدّث عنه في الفصل الّلاحق الخاصّ بالعنصر الموضوعي) إلاّ أنّنا هنا نعتزم الإشارة إلى العنصر الفكري فحسب، لنلفت النّظر إلى أنّ (الفكرة) تُعدّ هي العنصر الأهمّ من غيره في النص الأدبي، لأنّ العناصر الأُخرى جميعاً تُوظّف من أجل تجسيد الفكرة وتوضيحها وصياغتها بالنحو الجميل، ما دام الأدب تعبيراً جماليّاً عن الحقائق كما أشرنا.

وفي ضوء هذه الحقيقة: يمكننا أنْ نحدّد القواعد أو المبادئ البلاغيّة التي ترتبط بالعنصر الفكري، فنتحدّث أوّلاً عن:

 مستوياته:

يخضع (العنصر الفكري) للنص، لمستويات متنوّعة، منها:

1- انتخاب الفكرة:

أي أنّ صاحب النّص الأدبي ينبغي أن ينتخب فكرة إيجابيّة تصبّ في المهمّة العباديّة للإنسان، فنحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ هدف خلق الإنسان هو أنْ يمارس مهمّة عباديّة (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنسَ إلاّ لِيَعْبُدونَ) حينئذٍ فإنّ الفكرة أو الهدف الذي ينبغي أنْ ينتخبه صاحب النّص يتعيّن أنْ يكون متمحّضاً لفكرة عباديّة هي مبادئ الله تعالى...(1).

2- تحديدها:

بما أنّ الأفكار العباديّة متنوّعة لا يمكن حصرها في نص واحد، حينئذٍ فإنّ انتخاب الفكرة أو الهدف ينبغي أنْ يكون محدّداً. ومثاله من النص القرآني (سورة: الكافرون) حيث يتحدّد هدفها في الفكرة التي تقول بأنّه (لا إكْراهِ فِي الدِّين). ومثاله أيضاً (سورة الفيل) حي يتحدّد هدفها أو فكرتها في الفكرة القائلة (بأنّ الله تعالى يقف بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسُه التعرّض إلى الكعبة بسوءٍ).

3- وحدتها وتنوّعها:

ويقصد بـ(وحدة) الفكر أو (تنوّعها): أنّ النّص الأدبي من الممكن أنْ يتمحّض لفكرة واحدة (مثل عدم الإكراه)، ويمكن أنْ تتعدّد (الفِكَر) بحيث يتضمّن النص جملة متنوّعة من الأهداف... ومثاله من النص القرآني (سورة أرأيت) حيث تتضمّن أربع (فِكَر) هي: التّصديق باليوم الآخر، الرّفق باليتيم، المحافظة على الصلوات في أوقاتها وعدم الرياء فيها، الإطعام والإنفاق.

طبيعيّاً، عندما يتضمّن أحد النصوص جملة من الأهداف، فلا بدّ أنْ يكون فيما بينها تجانس بحيث تترابط هذه الفكر فيما بينها على نحو ما سنتحدّث عنه في (العنصر البنائي)( 2 ) كما أنّ الموضوعات تخضع لنفس القاعدة كما سنوضّح ذلك لاحقاً: مع ملاحظةِ أنّ الفكر لا تشترط فيها أنْ تُعدّد بتعدّد موضوعاتها حيث يمكن أنْ يشتمل موضوع واحد على أهداف متعدّدة، ويمكن أن تشتمل موضوعات متعدّدة على هدف واحد، كما سنوضّح ذلك في حينه. إلاّ أنّنا هنا نعتزم لفت النّظر إلى حقيقة هي: بأنّ النص من الممكن أنْ يتمحّض لفكرة واحدة، ويمكن أنْ تتعدّد الفِكَر في النص الواحد كما لحظنا.

4- الفكرة الرئيسة والثانويّة: ويُقصد بها أنّ (الأفكار) في حالة تنوّعها، من الممكن أنْ تتضمّن حيناً فكرة رئيسة مثل (زينة الحياة الدنيا) وتتضمّن أفكاراً ثانويّة أيضاً حيثُ تُطرح في تضاعيف السّورة مثل: عدم التأسّف على المنحرفين (فَلَعَلّك باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إن لَمْ يُؤمِنُوا بِهذا الْحَدِيثِ أسَفاً) ومثل: الإعجاز في بيئة الكهف ومثل: العمل لله تعالى بدون ثمن (ما مَكَّنِّي فِيهِ ربِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُم وبَيْنَهُمْ رَدْماً)... إلى آخره، فالسّورة بقصصها وموضوعاتها تُدار فكرتها على نبذ زينة الحياة الدنيا، ولكن النّص طرح ضمن ذلك عشرات الأفكار الثانويّة كما هو مُلاحظ.

طبيعيّاً، إنّ هذا لا يعني أنّ الفكرة الرّئيسّة هي أهم من الفكرة الثّانويّة بقدر ما يعني أنّ النّص يريد في هذا الموقع أنْ يركّز على فكرة خاصّة. ففي سورة الكهف مثلاً، ورد مفهوم (الزينة) بشكل رئيس، ولكنّه في السّور الأخرى وَرَدَ عابراً، ممّا يعني أنّ الهدف هو لفت النّظر في هذه السورة إلى فكرة خاصّة لا غَير، بل يمكن القول: أنّ الفكرة الثانويّة قد تحتل أهمّية كبرى في حدّ ذاتها (كالصلاة مثلاً) ولكنّها ترد عابرة ضمن الفكرة الرئيسية للسورة، وهكذا.

5- الفكرة المعترضة:

ويُقصد بها كل فكرة تقطع سلسلة الموضوع الذي يتحدّث عنه النّص، إمّا من خلال قطعة بفكرة تمسّ الموضوع نفسه (ويكون بمثابة تعليق عليه) أو بفكرة ذات صلة عابرة بالموضوع، أو بفكرة طارئة لا علاقة لها بالموضوع، ولكنّ النص يستهدف التركيز عليها...

وقد وردت الإشارة في البلاغة العربيّة إلى أحد أشكال الفكرة المعترضة متمثّلة في لفظة أو جملة (اعتراضيّة)، ولكنّ البلاغة الحديثة أكسبت هذا الجانب أهميّة كبيرة، بخاصّة فيما يتّصل بالنمطين الأخيرين، حيث تجاوزت من ـ جانب ـ مجرّد الكلمة أو الجملة المعترضة إلى ما هو أشمل، وتجاوزت ـ من الجانب الآخر ـ مجرّد العلاقة المباشرة بين الموضوع والفكرة المعترضة، إلى ما له علاقة غير مباشرة، أو ما هو عديم العلاقة، لتُشكّل بذلك واحداً من الأساليب التي تستخدم لإبراز فكرة خاصّة.

مسوّغاتها:

إنّ السبب في ممارسة هذا النوع من الفِكَر المعترضة، هو أنّ البلاغة الحديثة تعتمد الحديث اليومي عند عامّة النّاس، وتستثمر هذا الجانب لتصوغ منه قاعدة بلاغيّة... وأهميّة مثل هذا الأسلوب تتمثّل في أنّ الفكرة المعترضة تعتمد واحداً أو أكثر من المسوّغات الآتية:

 التّداعي الذّهني:

ونعني به أنّ الإنسان عندما يتحدّث عن أحد الموضوعات، فإنّ مخزونه من التجارب الذّهنيّة يجعله (يتداعى) من فكرة إلى أخرى ذات علاقة بموضوعه، سواء أكانت هذه العلاقة مباشرة (كما لو كان أحد الأشخاص يفكِّر في موضوع العِلم مثلاً، ثمّ يتداعى ذهنه إلى تجربة شخصيّة قضاها في أحد المعاهد) أم كانت هذه العلاقة غير مباشرة (كما لو تداعى ذهنه إلى مفهوم الصداقة التي اقترنت بسنوات الدراسة)...

وهذه العلاقة تتداعى مع التجارب غير الشخصيّة أيضاً (كما لو كان موضوع العلم بنفسه يقترن بموضوعات ذات تشابه فيما بينها: كالعلم واقترانه مثلاً بالعمل، واقتران العمل بالصبر، وهكذا).

 التداعي الفنّي:

ويُقصد به أنّ طبيعة الموضوع أو طبيعة الفكرة التي يستهدفها النّص، تفرض عليه أنْ يقطع سلسلة أفكاره العامّة ليركّز على فكرة خاصّة يجدها ذات أهمّية، سواء أكانت ذات صلة بموضوعه العام، أم كانت متجانسة، أو كانت أجنبيّة عنه.

وهذا ما نجده واضحاً في النّص القرآني الكريم، حيث يقطع سلسلة الموضوع، ويطرح فكرة خاصّة، ثم يعود إلى الموضوع الأول...

كذلك نجد أنّ هذا الأسلوب تتوفّر عليه النصوص الأدبيّة المعاصرة في ميدان الرّواية والمسرحيّة والقصيدة... إلى آخره.

ــــــــــ

الهامش

(1)- الفارق بين التصور الإسلامي للفكرة وبين التصورات غير الإسلامية أن الأخيرة لا تُعنى بالفكرة العبادية بقدر عنايتها بالمبادئ المنعزلة عن الله تعالى مما يشكّل خسارة للإنسان دون أدنى شك.

(2)- انظر الفصل الثامن والأخير.