المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 049.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

في محاضرتنا الأخيرة التي نود أن نلقيها عليكم الآن نعتزم إثارة بعض الظواهر الأدبية العامة أو لنقل بعض الظواهر المرتبطة بالبلاغة حتى يكون القارئ أو المنشئ الأدبي الذي يعنى بالبلاغة يكون على إلمام بهذه المسائل في ضوء إحساسه بالإضطلاع بممارسة عمله العبادي الذي خلق من أجله ألا وهو إيصال مبادئ الله سبحانه وتعالى إلى الآخرين من خلال الوظيفة التي انتخبها لذاته ألا وهي الوظيفة الثقافية.

إن من الظواهر المطروحة في هذا الميدان حيث حدثناكم اولاً عن البلاغة من حيث مفهومها ومن حيث وظيفتها حيث انتهينا إلى أن البلاغة في شكلها الموائم للتصور الإسلامي تتمثل في ثمانية عناصر شرحناها مفصلا لكم وهي العنصر الفكري والموضوعي والمعنوي والصوري واللفظي والإيقاعي والبنائي والشكلي.

وكان حديثنا الأخير منصباً على العنصر الشكلي متمثلاً  في الأشكال أو الأنواع أو الأجناس أو الفنون الأدبية المتنوعة والبلاغة التي نستهدف الإشارة إليها في هذا الميدان تتصل بصياغة المبادئ الفنية. أي البلاغة من الممكن أن يفيد منها المنشئ الأدبي ومن الممكن أن يفيد منها القارئ أيضاً. إن معرفة المنشئ الأدبي بمبادئ البلاغة متمثلة في عناصرها الثمانية تسمح له بأن يفيد منها في تطوير تجربته الأدبية دون أدنى شك.

والأمر ذاته من الممكن أيضاً أن يفيد منه القارئ. فالقارئ بدوره له مهمته أو بالأحرى له أهميته في سياق الأعمال الأدبية التي يواجهها وإذا كان هدف المنشئ هو توصيل مبادئ الله سبحانه وتعالى من خلال النص الذي يقدمه إلى القارئ فإن القارئ هو المستهدف أساسا لذلك ينبغي أيضاً أن تتوفر عند القارئ معرفة بلاغية بما يقرأ حتى تكتسب قراءته للنص أهميتها ومن ثم فإن التأثير الذي يتركه النص مع كونه مصحوباً بالمعرفة الواعية لدى القارئ هذا التأثير سوف يكون أشد عمقاً مما لو افترضنا  أن القارئ لم يعي أو لم يخبر المبادئ الفنية التي قدمها إليه هذا النص أو ذاك.

ولعل الاستشهاد بالظاهرة القرآنية الكريمة بصفتها معجزة توضح هذا الجانب بجلاء. فالقارئ للنص القرآني الكريم سوف يتأثر دون أدنى شك أو بالأحرى سوف تتعمق قناعته أو إيمانه بالقرآن الكريم من خلال ملاحظته الإعجاز الفني الذي ينتظم هذا النص القرآني الكريم.

كذلك بالنسبة إلى مطلق الفنون الأدبية التي يتوفر عليها المنشئ الإسلامي ينبغي أن تصاغ بنحو تترك أثرها على القارئ والقارئ وهذا ما نؤكد عليه بدوره يظل معنياً بهذا الشأن بل يمكن أن نقول اننا ينبغي أن نعنى بالقارئ عناية كبيرة من خلال حمله على أن يزود نفسه بالزاد المعرفي من حيث تلقيه للنص الأدبي الذي يتوفر على قراءته.

كذلك فإن نمط ثالث ينبغي أن نتجه إليه أيضاً حينما نتحدث عن العناصر البلاغية من النص الأدبي من حيث ضرورة معرفة المنشئ الأدبي بذلك ومن حيث معرفة القارئ الأدبي بذلك ومن حيث وجود نمط ثالث لعله يحتل أهمية كبيرة أيضاً ألا وهو الناقد البلاغي أو الناقد الأدبي.

فإذا كان المنشئ يطلق بصياغة النص الأدبي وفق المبادئ البلاغية التي يتقنها وإذا كان القارئ أيضاً يتوفر على القراءة من خلال إتقانه للمبادئ البلاغية متضمنة لهذا النص الذي يقرأه حينئذ فإن وظيفة الناقد أو الملاحظ هو أن يتوفر على ذلك أيضاً ولكن من خلال وظيفة ثالثة هي وظيفة مزدوجة وظيفة يفيد منها المنشئ الأدبي من جانب والقارئ من جانب آخر.

فالناقد الأدبي أو البلاغي حينما يتوفر على قراءة نص أدبي ويبين خصائص هذا النص الإيجابية أو يبين خصائص هذا النص السلبية حينئذ يكون قد اضطلع بمهمة فنية خطيرة ألا وهي أنه استطاع بواسطة ملاحظته النقدية أن ينبه المنشئ الأدبي على الأخطاء التي صدرت عنه أو يشجعه على المحاسن التي لاحظها في نصه بغية التطوير الفني.

والأمر نفسه بالنسبة إلى القارئ حيث أن القارئ إذا قدر له أن يتبين خصائص النص الذي يقرأه حينئذ ستزداد عملية التلقي لديه ثراء وتترك أثرها عليه.

إذاً الناقد يمثل نمطا ثالثاً من المعنيين بالشأن البلاغي وعليه أن يمارس وظيفته المطلوبة في هذا الميدان.

من هنا نجد ثمة ضرورة كبيرة أن تتوفروا على دراسة النقد الأدبي أيضاً منضم إلى دراستكم على البلاغة. فالنقد الأدبي وقد سبقت الإشارة في مقدمة محاضرتنا سبقت الإشارة أن النقد يضل على صلة بالبلاغة من حيث كونه عملية تطبيق للمبادئ النظرية التي تتوفر البلاغة عليها.

بمعنى أن الناقد الأدبي يجيء ويواجهه النص الأدبي ليوضح لنا العناصر البلاغية التي تتوفر في هذا النص الأدبي أو ذاك أو ليبين لنا الأخطاء البلاغية التي تطبع هذا النص أو ذاك.

وفي هذا الميدان الذي يمارسه الناقد الأدبي تواجهه جملة مسائل منها قضية كيفية التعامل مع النص هل يتعامل مع النص البلاغي كالتعامل الذي نلاحظه عند النقاد الأرضيين مثلاً؟

أم ينبغي عليه أن يتميز بسمات خاصة تتناسب وأخلاقية الشخصية الإسلامية؟

هل عليه مثلاً في ميدان النقد النفسي أن يمارس عملية التشهير وأن يفضحه من خلال ربط النص بنفسية الكاتب مثلاً؟

هل عند تناوله للنص البلاغي يتمحض لدراسة النص من خلال كونه نصاً بلاغياً صرفاً أم من خلال كونه نصاً دلالياً صرفاً أو من خلال كونه نصاً يجمع بينهما؟

إن النقاد الأرضيين أوالنقاد البلاغيين الذين يذهبون في شطر منهم إلى أن وظيفة الناقد البلاغي هي أن يبين خصائص النص من حيث المحاسن أو المعايب البلاغية فحسب دون أن يكون له حق النظر إلى الدلالة أي يتناول النص حتى لو كان منحرفاً. وهذا بطبيعة الحال يتنافى تماماً مع تصورنا الإسلامي لوظيفة البلاغة أو الفن.

فنحن مطالبون بأن نتعامل مع النص من حيث دلالته في المقام الأول. وأما العنصر البلاغي فيجسد مجرد أداة كما قلنا. ولكن حينئذ سيثار هذا السؤال. ماذا يعمل الناقد البلاغي حينما يواجه نصاً يتضمن دلالة إيجابية ولكنه قد صيغ وفق لغة بلاغية غير متقنة غير محكمة أو بالأحرى تصاغ قصيدته أو قصته وفق لغة مفككة هزيلة لا قيمة فنية لها؟ كيف يتعامل الناقد البلاغي مع أمثلة هذا النص كالقصيدة والقصة والمسرحية؟

قلنا أن التصور الأرضي في الواقع لا يصدر عن نظرية واحدة حيال هذا الموضوع بل نجد أن الاتجاه الجمالي في النقد البلاغي يؤكد بأن المضمون لا قيمة له القيمة هي فقط للعنصر الجمالي هذا يمثل احد الاتجاهات المخطئة جداً التي لا تتوافق البتة مع تصورنا الإسلامي للبلاغة.

قبالة ذلك نجد من يذهب إلى عكس التصور الأرضي السابق ألا وهو يعنى بالدلالة فحسب وهذا أيضاً من الخطأ بمكان كبير ولكنه أقل خطئاً من الخطأ السابق. لأن الصياغة الرديئة بالنسبة إلى التعبير عن ظاهرة إيجابية سوف تُفقد تلك الدلالة الإيجابية شيئاً من توهجها دون أدنى شك.

لذلك فالمفروض من خلال التصور الإسلامي وهذا أيضاً نجد له من يتبناه في الإتجاهات الأرضية هو أن يجمع الناقد البلاغي بين الاتجاهين أي أن يُعنى بالدلالة وبالجمال البلاغي  في آن واحد. وهنا قد يثار التساؤل كيف يمكن أن نجمع بينهما. فإذا راجعنا على سبيل المثال قصيدة أو مسرحية تتسم بردائة الصياغة من الناحية البلاغية فهل نحكم عليها بالجودة مع أنها تحمل دلالة ايجابية وإذا كنا عكس ذلك نلاحظ قصيدة تحمل دلالة سلبية إلا أن صياغتها البلاغية ذات جمالية خاصة أو رفيعة فهل نحكم عليها بالجودة. أم نحكم على كلا النصين بالردائة.

كأن نقول مثلاً بالنسبة إلى القصيدة الرديئة دلالياً والجميلة بلاغياً نحكم عليها بأنها رديئة لمجرد أن احد جانبيها رديء وهكذا بالنسبة إلى حالة العكس إذا واجهنا نصاً يحمل دلالة إيجابية ولكنه قد صيغ بنحو سلبي من الزاوية البلاغية؟ بعض النقاد البلاغيين يقولون أن أي نقص يقع في الجانبين ينبغي أن يحكم عليه بالسلب. وأما نحن اسلامياً فنجد أنفسنا في الواقع في غنى من جانب في إثارة هذه القضايا ما دمنا في المقام الأول نعنى بالدلالة ونعرف أن الفن أو البلاغة هي مجرد أدوات. إذاً ينبغي في الحالات جميعا أن نعنى في الدرجة الأولى بالعنصر الدلالي وإذا واجهنا نصاً إيجابياً من حيث الدلالة حينئذ نتجه إلى دراسته لنبين الخصائص البلاغية فيه إيجابية كانت أو سلبية. وبذلك نتخلص من هذه المشكلة. أي لا نتعامل مع النص إلاّ في حالة كونه نصاً يحمل دلالة إيجابية وحينئذ نتقدم فننقد هذا النص بلاغياً ونقول أنت أيها الشاعر أو القاص قد أخفقت بلاغياً في صياغة قصيدتك أو مسرحيتك أو قصتك إلى آخره.

وأما النص الرديء دلالياً فينبغي أن لا نتناوله البتة. لماذا؟ حيث يمكن القول ما الفائدة من توفرنا على معالجة قصيدة أو قصة أو مسرحية تتناول موضوعاً منحرفاً كالموضوعات التي نلاحظها في كثير من النصوص الموروثة والمعاصرة التي تتناول قضايا الجنس واللهو والعبث والهجاء ومدح الظلمة و... و...إلخ ما قيمة هذه النصوص حتى نتوفر على دراستها جمالياً.

إذاً الناقد البلاغي الإسلامي ينبغي أن لا ينتخب من النصوص إلاّ النص الموسوم بالدلالة الايجابية ثم يتقدم فيمارس عملية نقد ودراسة لهذا النص فيبين خصائصه الايجابية والسلبية وأما النص المنحرف فعليه أن ينأى عنه تماماً. نعم في حالة واحدة من الممكن أن يتناول النص الرديء ليحكم على رداءة هذه القصيدة أو القصة أو المسرحية بحيث يشير إلى المعنى الذي قلنا وهو أنت أيها القاص أيها الشاعر أيها المسرحي لا قيم البتة لقصيدتك لمسرحيتك لقصتك ما دمت قد تناولت موضوعاً انحرافياً ولذلك لا قيمة للخصائص البلاغية التي تنتظم قصيدتك أو قصتك أو مسرحيتك.

وهذا من حيث تعامل الناقد البلاغي مع النص من حيث كونه نصاً منحرفاً أو نصاً سوياً. وأما من حيث المنهج فالمعروف أن النقاد البلاغيين حينما يتناولون نصاً بلاغياً إنما يعالجونه  من زوايا أربعة. إما أن يعالجوا النص من حيث صلته بكاتبه أو يعالجوا النص من حيث صلته بالقارئ أو يعالجوا النص من حيث صلته بالبعد التاريخي الذي ولد في نطاقه أي البيئة الاجتماعية التي أفرزت مثل هذا النص أو يعالجوا هذا النص من حيث كونه نصاً بلاغياً لا علاقة له بالكاتب أو القارئ أو البيئة بل بما أنه نص يتضمن خصائص بلاغية.

طبيعياً الناقد البلاغي الإسلامي بالنسبة إلى النمط الرابع من التعامل أي التعامل مع النص بصفته نصاً بلاغياً أو جمالياً صرفاً هذا التعامل سبق قبل لحظات أن عالجناه وقلنا أن النص من حيث كونه نصاً جمالياً لابد وأن ننظر إلى بلاغة هذا النص من زاوية الدلالة التي تنتظمه فإذا كانت الدلالة إيجابية حينئذ فنتعامل جمالياً مع هذا النص وإلاّ فندع ذلك النص بشكل الذي قلناه.

يبقى أن نحدثكم عن التعامل مع المحاور الثلاثة الأخرى. أي التعامل مع البيئة التي ولد  فيها النص والتعامل مع صاحب النص والتعامل مع القارئ. بالنسبة إلى التعامل مع القارئ نجد أن البلاغة الحديثة والنقد الحديث يؤكد تأكيداً بالغ المدى على ضرورة أن يكون القارئ هو المستهدف من كل النص ونحن إسلامياً نوافق هذا الاتجاه كل الموافقة ولكننا نختلف عن هذا الاتجاه في ذهاب أن القارئ في الحالات جميعاً يكون مشاركاً ومساهماً في خلق النص الذي يواجهه أي في إبداعه.

هذا الاتجاه هو طبعاً أحدث اتجاه معاصر ولعل الاتجاه التفكيكي الذي خلف الاتجاه البنوي يظل معنياً بهذا الجانب كل العناية ولكن ثمة أخطاء كبرى تغلف هذا النمط من العناية بالقارئ لأن العناية بالقارئ إلى هذه الدرجة التي تجعله مساهماً في إبداع النص أيضاً يعني أن النص سوف يفقد دلالته التي استهدفها صاحبه حينئذ فإن الكاتب الإسلامي الذي يستهدف توصيل دلالة خاصة سوف يفقد هدفه الذي من أجله كتب هذا النص أو ذاك.

طبيعياً الحجة التي يستند إليها هؤلاء تظل مقبولة وهي أن القارئ ينبغي أن يساهم  في الكشف عن دلالة النص من حيث كون النص هو مادة متعددة الدلالة أي مرشحة لأن يتعامل معها كل قارئ حسب خبرته أو بطبيعة خبرته التي يحملها. وهذا أمر صائب لا شك ولكن في سياقات خاصة.

إن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة من الوضوح بمكان حيث نجد في النص القرآني الكريم مثلاً كثيراً من النصوص القصصية وغيرها مما تسمح للقارئ بأن يساهم بنفسه ويكتشف بنفسه كثيراً من المواهب التي يتعمد النص القرآني حذفها تارة للقارئ أن يستكشفها لنفسه لكي يتحقق الإمتاع الفني لهذا الجانب. ولكن هذه المساهمة في الكشف تظل في الواقع نسبياً وليس مطلقاً ليست من حيث الذي يراه الاتجاه التفكيكي المعاصر الذي ينزع من النص كل علاقة بصاحبه ويترك ذلك للقارئ فحسب.

إن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة كما قلنا يظل نسبياً حيث يفسح للقارئ بأن يكتشف بعض جوانب النص من جهة وحيث لا يسمح له إلاّ بقراءة النص المستهدف أساسا من زاوية أخرى.

إن كثيراً من الرموز الفنية التي لاحظتموها في نصوص قرآنية كالسورة الرمزية والسورة الاستعارية والتشبيهية إن هذه الصياغة الصورية ذاتها هي في الواقع في غالبيتها ذات طابع موشح بالدلالة الإيحائية أي تسمح للقارئ بأن يتلقى كل واحد من القراء ما يتناسب والتجربة الثقافية التي يحمله.

فمثلاً بالنسبة إلى رمزي النور والظلمات يمكن لأي قارئ أن يكتشف من رمزي النور والظلمات ليس فقط ظاهرة الإيمان والكفر بل يستطيع أن يتداعى بذهنه إلى كل ما هو ايجابي في الحياة من مختلف أنماط السلوك وهي بالمئات ويجسدها في رمز النور وبالعكس أيضاً يجد كل ما هو سلبي في الحياة من مئات الظواهر ويجسدها في رمز الظلمات. وهكذا بالنسبة إلى رموز متنوعة أخرى حيث يسمح النص القرآني للقارئ بأن يستخلص دلالات تتناسب والخبرة التي يحملها. والأمر نفسه بالنسبة إلى ما نشاهده خاصة في القصص القرآني الكريم حيث تظل عملية الحذف وقد حدثناكم عنها في حديثنا عن العنصر المعنوي في البلاغة حيث قلنا أن الحذف يشكل واحدا من الأشكال البلاغية التي لها تأثير كبير في عملية التلقي وذلك بأن النص يحذف كثيراً من الظواهر ويدع القارئ مستكشفاً بنفسه ما هو محذوف منها تحقيقاً للإمتاع الفني من جانب وتعميقاً لقناعة القارئ بما يواجهه من دلالة من جانب آخر.

على أية حال هذا هو المحور الثاني الذي يحوم عليه النقد البلاغي الحديث حيث لاحظنا أن المحور الأول يتعامل مع الخصائص الجمالية للنص أي يتعامل مع النص فيما أنه بنية مكتفية بذاتها منغلق على مبادئ الجمال فحسب حيث قلنا أن هذا النمط من التعامل لا يصلح إلاّ في حالة إلى إذا ما كنا واجهنا نصاً إيجابياً من حيث دللاته.

وأما النمط الثاني من التعامل ألا وهو التعامل مع النص من حيث علاقته بالقارئ فيظل نسبياً كما قلنا أن يظل من جانب له أهميته في جعل القارئ مساهماً للنص ولكنه من جانب آخر ينبغي أن يتقيد القارئ بهدف النص لأن الهدف أساساً من النص هو توصيل مبادئ خاصة إلى الآخرين. وهذا ما ينبغي أن لا يسمح للقارئ بأن لا يفهم هذه الدلالة التي استهدفها النص ويحول ذلك إلى دلالة أخرى لم يكن الكاتب أو المنشئ قد استهدفها.

وأما التعامل مع البعد الثالث ألا وهو التعامل مع النص من خلال صلة ذلك بصاحبه فأمر يظل من التعقيد والسعة بمكان كبير لا نعتقد أن محاضرتنا تسمح لذلك. لأن الحديث عن هذا الجانب يرتبط من جانب بالحياة الفردية للشخص المنشئ وانعكاسات نفسيته على ذلك حيث يتناول العلماء النفس بكل ما يحمله علم النفس من مبادئ متنوعة. كل ذلك ينبغي أن نعالجه من هذا الجانب ونتبين ما إذا كان من المسوغ اسلامياً أن نتعامل مع النص من خلال نفسية صاحبه أو نتعامل مع النص من خلال الدلالة التي يتضمنها النص فحسب.

طبيعياً ثمة تحفظات كثيرة قد أوضحناها مفصلاً في كتاباتنا النقدية والبلاغية خاصة فيما يتصل بكتاب الإسلام والأدب فيما يجدر منكم ملاحظة ذلك كما أن كثيراً من الكتب الأدبية قد تناول هذا الجانب حتى تلكم المؤلفات العلمانية في الواقع عندما تطرح هذه الجوانب يمكن أن تفيد منها بالنسبة إلى  معرفة ما إذا كان الناقد البلاغي من حقه أن يتناول النص من زاوية صلة ذلك بالشخصية ونفسيتها أم لا؟ والواقع أن ثمة تحفظات كثيرة من هذا النمط من التعامل وفي مقدمتها كثيراً من النصوص الأدبية لا يمكن أن تعد انعكاساً واقعياً لسلوك صاحبها فكم من جبان مثلاً يكتب قصائد عن الشجاعة وكم من منحرف يتحدث عن الفضيلة إلى آخره.

طبيعياً يستطيع المتخصص في علم النفس أن يستكشف ما إذا كان هذا النص حتى لو كان مصطنعاً يستطيع أن يستكشف نفسية صاحبه ولكن حتى في هذا النطاق فإن الكشف عن الشخصية مرة يكون عن ايجابية السلوك ومرة يكون كشف عن سلبيته طبيعياً نحن كإسلاميين مطالبون بأن نتستر على عيوب الآخرين. وإذا كان من حقنا أن نبين خصائص النص الأدبي أو البلاغي حينئذ لا يمكننا أن نتبين خصائص الشخصية التي صدر عنها النص البلاغي. لأن النص البلاغي مسألة فنية ينبغي أن نسلط عليه الأضواء حتى يفيد الآخرون من ذلك. وأما الشخصية ذاتها فأمر يختلف عن النص بطبيعة الحال لأننا مطالبون بأن لا نفضح الشخوص بل ينبغي أن نستر عليها تبعاً للتعاليم الإسلامية.

لكن من الممكن أن نمارس هذا النمط من التعامل بالنسبة إلى الشخصيات المنحرفة.

فمثلاً إذا واجهنا نصاً منحرفاً وقد سبق أن قلنا قبل لحظات في هذه المحاضرة أن الناقد البلاغي الإسلامي لا يحق له أن يتناول نصاً منحرفاً إلاّ إذا كان بصدد أن يبين انحرافه للآخرين حينئذٍ فإن الانحراف الكامن في النص يستطيع البلاغي الإسلامي أن يربط بين هذا النص الرديء وبين النفسية التي صدرت عنه هذه النصوص المنحرفة دلالياً.

وهذا من الوضوح بمكان كبير حيث أن الانحراف ينبغي أن يفضح عند الشخصيات المستهترة والتي لا تبالي بما يصدر عنها من الانحراف فيما سمح لنا الإسلام ذاته بأن لا نتحفظ حيال  هذه الشخصيات المستهترة غير المتسترة.

على أية حال هذا هو النمط الثالث من التعامل مع النص بالنسبة إلى الناقد البلاغي. وكما قلنا ثمة تفصيلات كثيرة ترتبط بهذا الجانب. بخاصة ان نفس المفهومات النفسية أو المبادئ النفسية التي يحاول الناقد البلاغي أن يربط بينها وبين الكاتب هي تحتاج إلى متخصص حتى يستطيع أن يكوّن الرابط بينهما بشكل دقيق ولنفترض أن ذلك في مجال الربط بين الشخصية السوية وبين الدلالة الايجابية التي صدر عنها صاحب النص حتى في هذا المجال من الممكن أن يخطئ الكاتب البلاغي من حيث استخلاصه للخيط الرابط بين نفسية صاحب النص وبين الدلالة التي ينتظمها النص نفسه. حيث أن النص البلاغي كما قلنا هو عملية الصناعة وعملية الصناعة لا ارتباط لها بنفسية صاحب هذه الصناعة.

فمثلاً يمكننا أن نلاحظ وهذا ما حدث فعلاً أن بعض كتابات ورد فيها لفظ (العملاء) وكان صاحب النص يستهدف كتابة لفظة (العلماء) ولكنه كتبها بلفظة العملاء وجاء الناقد البلاغي وقال إن هذا الشخص يحمل في لا شعوره نزعة عدوانية نحو العلماء وهذا من انعكس على كتابته حيث أراد أن يصوغ كلمة العلماء فصاغها بكلمة العملاء حتى يحرر بذلك مكبوتات نفسه المتمثلة في كراهيته للعلماء.

والواقع في هذا الاستخلاص من الخطأ بمكان كبير حيث أن مخارج الحروف بين العلماء والعملاء متماثلة ومن الممكن جداً أن هذا التماثل بين مخارج الحروف هو الذي حمل صاحب النص على أن يكتب كلمة العملاء بدل العلماء. طبيعياً من الصحيح أيضاً أن يكون الأمر كذلك. ولكن أنى يستطيع الناقد البلاغي أن يتيقن تماماً بأن شخصية صاحب النص هي شخصية  تصدر عن نزعة عدوانية لا شعورية حيال العلماء.

مع أن الإتجاه الذاهب إلى أن اللا شعور قد يطفح على لسان الإنسان هذا من الوضوح بمكان كبير وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا الجانب حينما قال بأن ما يضمره الإنسان تظهر على فلتات لسانه.

في حال يبقى أن نشير أخيراً إلى النمط الرابع من العلاقة بين النص والمحور الرابع وهو التعامل مع النص من خلال البعد البيئي الذي ولد النص في نطاقه.

وهنا نقول من الزاوية الإسلامية أو من خلال التصور الإسلامي لهذه الظاهرة لا مانع البتة من أن يربط الناقد البلاغي بين البيئة التي ولد فيها صاحب النص وبين العناصر البلاغية المتوفرة في النص حيث أن للبيئة دون أدنى شك الأثر الكبير في صياغة النص ولكن التحفظات التي أبديناها خلال صلة النص بصاحبه تنسحب أيضاً على صلة النص بالبيئة الاجتماعية التي ولد في نطاقها.

فنحن نجد كثيراً من النقاد البلاغيين يربطون بين النص وبين البيئة الاجتماعية من دون أن نجد أية صلة واقعية بين هذه البيئة وبين النص الذي صدر عنه صاحبه.

هذا إلى  أن الأثر البلاغي يختلف عن الأثر الدلالي فإذا كنا نحن  في صدد أن نبين الخصائص البلاغية في النص حينئذٍ إذا اكتفينا بالحديث عن الخصائص الدلالية يكون تعاملنا مع النص غير متسق مع الوظيفة التي يقوم بها الناقد البلاغي. فنحن كما قلنا حينما نتناول نصاً إيجابي الدلالة ينبغي علنيا أن نبحث عن خصائصها البلاغية. وحينئذ فإن الصلة بين البيئة الاجتماعية وبين النص إنما تنعكس في الغالب على الدلالة كما لو ربطنا مثلاً بين البيئة التي تحيا مناخاً منحرفاً وبين القصيدة التي تتناول موضوعاً منحرفاً أو بالعكس حينما تتناول القصيدة الايجابية تتناول هذه الظاهرة من خلال المناخ الإيجابي الذي تحياه.

ولكن بالنسبة إلى الصلة بين البيئة وبين انعكاساتها على الخصائص البلاغية يظل من النادر بمكان طبيعياً وهذا ما لاحظناه أيضاً في كثير من النصوص أي ما لاحظناه من انعكاس البيئة حتى على الخصائص البلاغية فمثلاً البيئة الصحراوية تنتج شاعراً تطفح على شعره لغة البداوة ولغة الجفاف على العكس من ذلك من البيئة الزراعية مثلاً أو البيئة المترفة حيث تترك أثرها على لغة الشاعر البلاغية من حيث نعومة ورقة العبارة التي يستخدمها الشاعر.

إلاّ أن ذلك يظل في نطاقات محدودة بيد أن الغالب الذي نلاحظه لدى النقاد البلاغيين وهم يتناولون النص من حيث ربطه بالبيئة الاجتماعية نجدهم أحياناً يقدمون كلاماً لا طائل من ورائه مطولاً بحيث يطغى حتى على الكلام الخاص بالحديث عن الخصائص البلاغية بالنص.

كأن يقطع مائة صفحة مثلاً من سرد التاريخ والبيئة ليحدثنا بعد ذلك عن مقطوعة شعرية أو نثرية لهذا الشاعر أو ذاك الكاتب.

على أية حال نجد أن السياق في الواقع يحدد في ما إذا كان بمقدور البلاغي الإسلامي في حالة كونه ناقداً أن يربط بين النص البلاغي وبين البيئة الاجتماعية التي ولد فيها.

على أية حال نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن البلاغة في المستويات التي عرضنا لها في محاضراتنا السابقة وبهذا نختم حديثنا عن البلاغة في ضوء التصور الإسلامي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.