المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 048.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم في محاضراتنا عن الفنون الأدبية وبلاغة هذه الفنون حيث حدثناكم في لقاء سابق عن بلاغة الشعر أما الآن فنحدثكم عن بلاغة السرديات أو بلاغة القصة وبلاغة المسرحية وقبل أن نحدثكم عن بلاغة هذا الفن القصصي ينبغي أن نشير من حيث البعد التاريخي إلى أن القصة بمختف أنماطها لم نألفها في تاريخنا الإسلامي إلا من خلال نمط خاص هو القصة القرآنية الكريمة وهذه لها شأن خاص وسوى بعض أعمال تنتمي إلى الترجمة أو بعض الأعمال القصصية التي تُجرى على ألسنة الحيوانات وبعض القصص الرمزية...الخ، ولكنها جميعاً تضل مجرد عمل ساذج لا يتوافق والسرديات بمستوياتها الحديثة، على أية حال مع إطلالة القرن العشرين أو ما يسمى بالنهضة الحديثة بدأ التيار الوافد من أوربا يعكس أثره على اللغة العربية وأدبها أو من ذلك الأدب القصصي والمسرحي حيث بدأت هذه الأعمال القصصية ساذجة بطبيعة الحال ثم تطورت وأخذت تتنامى إلى أن انتهت في حياتنا المعاصر بمستويات جديرة بالتسجيل المهم عندما نتحدث عن الفن القصصي أو الأدب القصصي ينبغي أن نشير إلى أن القصة في تصورات الأرضيين لا تختلف عن القصة والمسرحية ونحوهما لا مناص لنا أولاً من التمهيد ببعض الظواهر المرتبطة بهذا الفن وأول ذلك ما ينبغي أن نضطلع به هو تقديم تعريف للقصة حيث يمكن أن نقول بأن القصة في أوسع دلالتها عمل فني يقوم على مبنى هندسي خاص يصطنع كاتبها واحداً أو جملة من الأحداث والمواقف والابطال والبيئات عبر لغة تعتمد السرد أوالحوار أو كليهما  وتتضمن هدفاً فكرياً محدداً يخضع الكاتب عناصره إلى ما هو ممكن أو محتمل من السلوك كما يمكن إخضاع ذلك لما هو ممتنع عن السلوك ولكن من خلال كونه يتضمن رمزاً يستهدف هدفاً فكرياً خاصاً كل ذلك يتم وفق عملية اصطفاء خاصة للعناصر المذكورة، وهذا التعريف للقصة يضل في الواقع تعريفاً لقصة في مستوياتها التي خبرها العصر الحديث بغض النظر عن القصة التي بدأت في الواقع لا تتسم بالنضج وانتهت أخيراً في العقود التي نعاصرها الآن بمستويات من الممكن أن نلقي بعض الإنارة عليها في حينه ولكن ينبغي أن نشير إلى أنها قطعت شوطاً في عقودنا المعاصرة بنحو ينبغي أن نتحفظ حياله بشكل أو بآخر، على أية حال القصة بعد أن عرفناها في أوسع دلالاتها ينبغي أن نقارن الحديث عنها بالتصور الإسلامي حيال ذلك بخاصة إذا عرفنا أن القصة في التصور الشرعي ونموذجها واضح في القصص القرآني الكريم تختلف بطبيعة الحال عن القصة الأرضية من جملة زوايا فالملاحظ أولاً أن القصة القرآنية الكريمة هي قصة عملية بينما نجد أن القصة الأرضية هي قصة اصطناعية  وهذا الفارق بينهما يجرنا إلى عدة تساؤلات ينبغي أن نطرحها أولاً ثم نتحدث عن الفن القصصي بعد ذلك وهنا نود أن نشير لك أن هذا النمط من العمل الفني قد يكون عملاً مفرداً يطلق عليه مصطلح القصة بمختلف أشكالها حكاية، أقصوصة، قصة قصيرة، قصة طويلة، أو رواية...الخ، وقد يكون هذا العمل مشاهداً يطلق عليه مصطلح المسرحية مع ملاحظة فوارق بين المسرحية وبين القصة من حيث بنائها وعناصرهما مما قد نعرض له في حينه إلا أننا هنا يعنينا أن نعرض للتصور الإسلامي حيالهما بصفتهما نمطاً من الممارسة الفنية التي تقوم على ما هو متخيل أو وهمي من السلوك وليس على ما هو عملي أو واقعي منه مع ملاحظة الفارق بين عمل تخيلي كالشعر من حيث كونه يعتمد التخيل بمثابة عنصر ساهم في تجلية الدلالة بينما تعتمد القصة التخيل أرضية لها وليس مجرد عنصر فضلاً عن أن التخيل الشعري هو إحداث علاقة بين الأشياء متجسداً في عنصر الصورة بينما تضل القصة خلقاً لأشياء وليس لعلاقة بين أشياء وهذا كله يسوغ لنا طرح السؤال القائل وقد طرح فعلاً عند بعض المعنيين بالشأن الفقهي طرح هذا السؤال وهو هل أن الإسلام يقر تمأملنا مع الظواهر المختلفة أساساً أم أن إقراره ينحصر في إحداث العلاقة بين الظواهر كما هو شأن الصورة الفنية التي تحدث علاقة بين شيئين لا علاقة حقيقية بينهما كالعلاقة بين الكفار والأنعام حينما يشبه القرآن الكريم الكفار بالأنعام، لنتحدث أولاً تاريخياً ثم نلق الإضاءة على هذه  الجوانب التي أثيرت حيال العمل القصصي بنمطيه الروائي والمسرحي حيث يمكن أن نذهب إلى ذلك من الزاوية التاريخية لنقرر بأن العمل القصصي بشكليه الملحوظين في مناخ الرسالة الإسلامية لم ينشط كما تمت الإشارة إلى ذلك ولا قبل المناخ الإسلامي أيضاً سوى ما أشرنا إليه من القصة القرآنية العملية والقصص الأسطورية التي ظهرت في القرون الثانية والثالثة صاعداً المهم إن مؤرخي الأدب يحاولون أن يلتمسوا جملة من الأسباب الكامنة وراء عدم ظهور القصة بمعناها الفني بالقياس إلى ظهور أشكال فنية أخرى كالشعر أو الخطابة مثلاً وقد ذهب البعض إلى أن الخيال العربي يتسم بالمحدودية بالقياس إلى غيره بصفة أن العمل القصصي يقوم على عملية تخيل للأحداث والمواقف والأبطال والبيئات مما لا تسنح الصحراء القاحلة التي يحياها العرب أتئذٍ بتنشيطه في العمليات الذهبية وهنالك من يذهب إلى أن القرن الهجري قد خبر بعض الأشكال القصصية عبر الترجمة التي توفرت لعلوم الأغارقة واليونايين والفرس والهنود بيد أن الطابع الوثني الذي يسم تلك الفنون وقف حاجزاً عن الاستجابة له وهناك أسباب أخرى لا يعنينا أن نعرضها الآن بل يعنينا أن نقول بأن السبب مهما كان كامناً وراء عدم ظهور القصة بمعناها الفني فإن ما يعنينا هو أن المشرع الإسلامي لم يتعرض نظرياً لهذا الفن رفضاً أو تقبلاً او تحفظاً إلا بعض الإشارات العابرة التي يمكن إخضاعها لتأويل أو إلى آخر، ولكن الملاحظ وهذا هو موضوع الأهمية وقد أشرنا إليه هو أن النص القرآني الكريم توفر على العنصر القصصي بنحو لافت كل اللفت للانتباه، ولكن هل أن القصص القرآني مماثل للقصص الأرضي المشار إليه كلا، إن التقنية القصصية من الممكن أن تتماثل مع ملاحظة التميز من جانب والفارق الإعجازي من جانب آخر بطبيعة الحال لدى كل من القصة القرآنية والأرضية من حيث أدوات البناء وعناصره...الخ، بيد أن الفارق الكبير بينهما هو أن القصة القرآنية تتعامل مع واقع تاريخي بينما تتعامل القصة البشرية مع واقع مصطنع أو وهمي والفارق بينهما بمكان كبير من حيث مسوغات الفن ومع أن هناك بعض الأشكال القصصية الأرضية يعرف بالقصة التاريخية حيث تتعامل هذه القصة في بعض أنماطها مع الواقع التاريخي حيث تعرض لأحداث وقعت قبلاً ولكنها كما تعرفون ذلك تبقى موشاة بوقائع مختلفة أيضاً، مما يخرجها من نطاق صرفية الواقع، المهم أن معرفتنا بالخطوط السامية لجوهر التشريع الإسلامي من حيث مطالبته عموماً بأن نتعامل مع الواقع وليس مع اختلاق الواقع والمعرفة بأن عملية القصة قد اقترنت ببعض الحضر مثل ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من ذهابه إلى أن القاص ممقوت نظراً لما يصدر عنه من نقيصة أو زيادة في النقل ومثل ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) من أنه طرد بعض القصاص من المسجد مضافاً إلى أن الكذب  ممقوت أساساً والقص بعض نماذجه مثلاً، هذا فضلاً عن أن القرآن الكريم لم يعرض إلا للقصص العملي أي القصص الذي وقع فعلاً دون أن يتجه إلى اختلاق الظواهر أولئك جميعاً قد تجعل البعض يتحفظ بأن يسمح الإسلام بممارسة القصص المختلقة لكن مع أن التحفظ المذكور قد يفرض أهميته ولكن ينبغي أن نقول أو من الممكن أن نجيب على تلك التساؤلات بجملة حقائق منها أن التعامل مع الواقع مجرد افتراض أو فرضية لواقعة أو موقف يقر بافتراضه طرفان هما: القاص والقارئ بمعنى أن القاص والقارئ كليهما مدرك بأنه حيال عمل مختلق فيكون هذا بمثابة اتفاق ضمني بين الكاتب الذي يقدم لقارئه مادة فنية يتقبلها القارئ على أنها مصطنعة وتستهدف إيصال بعض الحقائق لا أكثر ومع هذا العقد بين الكاتب والقارئ تنتفي الملاحظة القائلة بأن القصة تتعامل مع الوهم كما ينتفي في الواقع طابع الكذب عن القصة لماذا؟ لأن إذا أدركنا أن مجرد الافتراض لشيء ما لا يدعى كذباً بل يدعى افتراضاً فإذا قال أحدكم للآخر افترض أن حادثة قتل وقعت لمجموعة من الأشخاص وأن الجناة مثلوا أمام القضاة فحكم عليهم القضاء بالإعدام، أقول مثل هذا الكلام أو القص عن حادثة القتل المفترضة لا غبار عليها ما دام الكاتب والقارئ على إحاطة بأن الحادثة المذكورة هي مجرد افتراض بدليل قول أحدكم للآخر افترض أن حادثة قتل وقعت وهذا في الواقع يصاغ لهدف خاص هو التنبيه على أن ممارسة القتل سوف لا تمر على أحد دون قصاص مثلاً، إذاً القصة قد تعد مجرد ضرب لمثال يريد صاحب النص توصيل الهدف من ذلك إلى المتلقي وهذا بالنسبة إلى التحفظ الذي يذهب إلى أن القصة تنهض على أساس الكذب وليس من الصدق حيث نجيب عنه بالشكل الذي أشرنا إليه الآن وأما ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أنه وسم القاص بأنه ممقوت نظراً لمايزيد أو ينقص في كلامه فإن ذلك لا علاقة له بعملية الفن القصصي بل بالقصة الواقعية ذاتها حيث يعرض الشخص لحادثة أحد أو لقصة تاريخية دون أن يكون متأكداً في نقلها بل يزيد أو ينقص فيها إما عمداً أو نسياناً أو عدم تقيد بها وهو أمر ينسحب في الواقع والذهن منه إلى نقل الحديث الشرعي بعامة دون أن تكون له صلة بالعمل الفني أي الحديث الشرعي الذي لا صلة له بالعمل الفني المتمثل في القصة وأما ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) أنه طرد بعض القصاص من المسجد فمن الممكن أن يستند الطرد إلى قدسية المسجد وليس إلى عملية القص حيث تعرفون أن ورود النهي في المسجد قد ورد عن إنشاد الشعر أيضاً كما ورد النهي في سياقات خاصة عن النوم في المسجد أو البيع والشراء في المسجد مع أن البيع والشراء والنوم وما إلى ذلك ليست ظواهر محرمة وهذا أمر لا علاقة له بمشروعية الشعر أو النوم أو البيع بل كما قلنا بقدسية المسجد الذي ينبغي أن يتمحض للعمل الشعائري وليس لتحقيق الراحة كالنوم أو كسب المال أو سائر أشكال الإبداع النفسي والجسمي هذا فضلاً عن أن القاص عصرئذٍ كما يذكر المؤرخون كان نشاطه مغايراً لما تستهدفه القصة الفنية من الأفكار حيث كان بعض المرتزقة يحترف القص لاستدرار المال فيفتعل قصصاً مثيرة من أجل تسلية المستمعين وتزجية الفراغ مقابل الفائدة المالية أو الاجتماعية التي يحصل القاص عليها، بخاصة أن هناك من الأشخاص مضافاً إلى النمط الذي أشرنا إليه من يختلق القصة كي يلتمس له مجداً في الجاهلية أو مطلق الأمجاد الزائفة التي كانوا يعنون بها عصرئذ إذاً من الممكن أن لا يقترن مع العمل القصصي بصفته فنياً أي محذور شرعي في ضوء الاعتبارات التي أشرنا إليها، وهذا فيما يتصل بالعمل القصصي، ولكن ماذا بالنسبة إلى العمل المسرحي؟.

نعتقد أن الأمر ذاته ينسحب على العمل المسرحي أيضاً حيث أن التمثيل أو التجسيد يضل بديلاً عن الكلمة لا غير وهذا يمكن مقارنته مثلاً بعملية وضوء يقوم أحدكم بها وهو ليس بحاجة إلى أن يتوضأ إلا أنه يصطنع الوضوء حتى يتعلم الآخرون المشاهدون لوضوئه يتعلمون كيفية الوضوء كما حدث بالنسبة لبعض المعصومين (عليهم السلام) الذي أرادوا أن يعلموا الآخرين عملية الوضوء بنحو غير مباشر إلى هنا أمكننا أن نجيب على التساؤلات التي طرحها بعض المتحفظين حيال صياغة العمل القصصي أو المسرحي من زاوية التصور الإسلامي وهنا نود أن نقرر إلى أنه مع عدم وجود أو مع ترتب محذور إسلامي من كتابة القصة أو المسرحية في ضوء الاختلاف لظواهر الواقع ولكن من المؤكد بأن التعامل مع الظواهر بنحوها العملي كما هو شأن القصة القرآنية يضل أمراً لا غبار عليه البتة كما أنه يجنبنا أي احتمال سلبي نتوقعه حيال كتابة ما هو مصطنع أو وهمي من الظواهر إنه من الممكن حقاً أن نوفر للقارئ قسطاً من الإمتاع الجمالي من خلال انتقائنا شرائح معينة من الحياة العملية وصياغة هذه الشرائح وفق بناء عماري خاص على نسق ما نلحظه في النص القرآني القصصي حيث ينتخب في سورة ما أحداثاً ومواقف لأحد الأبطال وينتخب أحداثاً ومواقف غيرها للبطل نفسه في سورة أخرى حسب ما يستدعيه سياق السورة إن انتخاب حدث أو موقف من الأحداث المعاصرة من الممكن أن تقتطع منها ما يتواسق ووجهة النظر التي نستهدفها ونحرص على إبراز مضمونها الإسلامي حيث نصوغها في ضوء اللغة القصصية التي تنتخب من الحادثة والبطل ما يتجانس مع أدوات الحوار والسرد وما يواكبها من عمليات التقطيع والاختزال والتكثيف...الخ، إن القصة كما تعملون ذلك تتميز بكونها أشد لصوقاً بواقع التركيبة البشرية عن سائر أشكال الفن فالدافع إلى الاستطلاع مثلاً وطريقة الاستجابة للشيء تجعلان القصة أشد إثارة للنفوس بخاصة أن رصد حركة الآدميين تضل هي التجسيد الحي لحركة القارئ ذاته وحيال ذلك فإن عملية الرصد لما هو عملي تكتسب قدراً من الإثارة أشد ما هو محتمل الوقوع لأن القارئ حين يتابع قراءة قصة مصطنعة بما تنطوي عليه من عناصر الإثارة تشويقاً ومماطلة ونحو ذلك يضل انفعال هذا القارئ انفعالاً فنياً أكثر منه انفعالاً وجدانياً بمعنى أن انفعاله بمضمون القصة الوهمي لا يترك فاعلية ذات أثر إلا في حينه ما دام سلفاً على إحاطة تامة بأنه حيال أحداث وهمية يفتعلها القاص وهذا بخلاف ما لو علم حيال هدف فعلي حينئذٍ فإن انفعاله بالحدث سيكتسب سمة الفعلية أيضاً بحيث يترك فاعليته في النفس ويسحب آثاره على عمليات التعديل للسلوك بصفة أن عمليات التعديل تضل هي الهدف من وراء العمل الفني كما هو واضح يضاف إلى ذلك أن تدريب الشخصية على أن تتعامل مع الواقع يقتادها إلى النضج الانفعالي وتماسك بنائها على العكس من تدريبها على التغذية من الوهم حيث ذلك ينسحب أثره على بنائها العقلي والنفسي ومن ثم يؤهلها للوقوع في وهدة الشذوذ التي يفصلها عن أرض الواقع ويدعها نهباً للخيالات والأوهام والوساوس...الخ إذاً إن ما يتسق مع التصور الإسلامي للسلوك هو أن يلتزم القاص الإسلامي بصياغة العمل الفني المرتكز إلى الواقع الفعلي كما هو طابع القصة القرآنية الكريمة، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن فعل وممارسة ما يتصل بالحقل التشريعي يضل هو النموذج لسلوكنا الفني أيضاً بالنحو الذي أكدناه عند محاضراتنا عن عناصر الفن في هذا الميدان نكرر أن القاص الإسلامي ينبغي أن يصوغ له اتجاهاً قصصياً يتميز به ويتفرد بممارسته بحيث يصبح اتجاهاً خاصاً به قبالة الاتجاهات الأرضية في ضوء البحث الذي يطبع رسالة الإسلام ذاتها، إن القاص الإسلامي بدلاً من أن يبذل جهده ذاته في انتقاء ما هو واقع من الظواهر وانتقاء ما هو مثير من حوار الأبطال مثلاً، أو ما هو مثير من جزئيات الحوادث أو المواقف من حيث طريقة تقطيعها وتوصيلها وطريقة تعامله مع الزمن من حيث توحيده وتذويبه وفقاً لنموه النفسي أو لنموه الموضوعي حسب ما يستدعيه السياق، طبيعياً إن الحرص على تسجيل وقائع فعلية وما يواكبها من المواقف لا يمكن أن يتم بسهولة إذا أخذنا بنظر الاعتبار صعوبة رصد العمليات الذهنية بالقياس إلى رصد الأحداث التي يمكن أن ينتقي منها القاص ما يتسق ووجهة النظر التي يستهدفها وهذا على العكس من العمليات الذهنية التي لا يمكن تسجيلها إلا من خلال النقل المباشر من لسان الأبطال أنفسهم فالقصة القرآنية مثلاً عندما تنقل لنا أفكار البطل إنما ترتكن إلى كون الله تعالى عالماً بما في الصدور بخلاف القاص الذي لا يمكنه معرفة أعماق الآخرين إلا إذا هم كشفوا  أنفسهم عن ما تحمله أعماقهم من الأفكار والعواطف والاتجاهات ولذلك من الممكن أن يتغلب على هذه الصعوبة من خلال إحدى الوسائل التي يمارسها القاص فمثلاً يمكن أن يدخل إلى أعماق البطل مباشرة على نحو ما يفعله الخبير أو المرشد النفسي الذي يعقد لقاء مباشراً مع الأشخاص ثم يبدأ بتسجيل كل ما يتحدثون به موجهاً إليهم مختلف الأسئلة حيث ينتخب من هذه الإجابات ما يتواسق مع الهدف الفكري الذي يريد توصيله للآخرين من خلال القصة ويخضعها من ثم لعمليات التقنية الفنية التي يتطلبها شكل القصة كما أنه من الممكن في ضوء الخبرة الثقافية التي يمتلكها القاص بالنسبة إلى التركيبة البشرية وطرائق استجابتها أن يرصد أعماق البطل فيصف ذلك أو يصوغ ذلك من خلال الحوار الداخلي أو الحوار الجمعي شريطة أن لا تتجاوز المبادئ العامة التي تحكم استجابات الأشخاص عادة وإلا فإن الأمانة القصصية تفرض عليه بخاصة في عمليات الصراع والشدة والمواقف المعقدة حيث لا يمكن التعرف على العمليات النفسية والذهنية التي رافقت الأبطال إلا إذا وقف بنفسه على الحديث المباشر منه، على أية حال الوسيلة الأخرى التي يمكن أيضاً للقاص أن يكون أميناً من خلالها بالنسبة إلى نقل الحقائق الذهنية والنفسية للأبطال هي أحد أشكال قصة الحوار الداخلي حيث حدثناكم عنها عندما تحدثنا عن القصة القرآنية الكريمة وكذلك قصة السيرة الذاتية هذان الشكلان القصصيان يتيحان للقاص أن يكون هو البطل نفسه حيث هو يكشف عما يدور في أعماقه من الأفكار إن هذا الشكل يعتمد تداعيات البطل من حيث تحرك أفكاره من موقف إلى آخر والمجاورة مع نفسه كما أن الشكل الآخر وهو السيرة الذاتية يعتمد النقل المباشر لما يخبره القاص من الأحداث أو المواقف أو البيئيات التي تخص تجربته الفردية فإذا افترضنا أن القاص الإسلامي كان في صدد صياغة عمل قصصي يتصل بإمكانية التعديل للسلوك ونقل الآخرين من الظلمات إلى النور سواء أكان ذك في نطاق الموقف الفلسفي من الكون أم النطاق السياسي أم النطاق الأخلاقي أم غيرهما حينئذ بمقدوره أن يتوكأ على تجاربه الشخصية إذا كانت شخصيته قد شهدت فعلاً معالم هذا التعديل في السلوك وفي حالة كونه مثلاً ذا شخصية منبسطة بحسب المصطلح القصصي ولم يتعرض لأزمات فكرية ونفسية حينئذٍ بمقدوره ما دام يستهدف تعديلاً لسلوك الآخرين  أن يختار شخصية أخرى تنطبق عليها سمة الشخصية النامية أي الشخصية التي تخبر تغييراًَ في معالم سلوكها كما لو كانت ضالة فاهتدت مثل هذه الشخصية إذا كان القاص ممن يرتبط بعلاقة فردية أو علاقة غير مباشرة بمقدوره أن يرسمها بطلاً لقصته بعد أن يكون قد عقد لقاءات مباشرة معها بالنحو الذي أشرنا إليه إذاً ثمة أشكال قصصية من الممكن أن ينتخبها القاص بنحو يستطيع من خلاله أن يسجل هدفه الفكري الذي ينشده من وراء كتابة القصة دون أن يقع في مفارقات الاختلاق القصصي ويلغي من ثم تلك الاتفاقية الصامتة بينه وبين القارئ في أسسها المختلفة ويعوضها في تقديم قصص واقعية قد حدثت فعلاً، على أية حال بغض النظر عن كل ما تقدم ما دمنا نتحدث عن الشكل القصصي يجدر بنا أن نشير ولو عابراً إلى بعض المبادئ البلاغية المرتبطة بالعمل القصصي وبهذا الصدد ينبغي أن نمهد لذلك بالإشارة إلى أن الشكل القصصي قد مر بأشكال متنوعة خلال القرن الحالي أو بالأحرى خلال المائة عام الأخير حيث نجد أن القصة بدأت تقليدية تعتمد على الأسلوب الذي يبدأ ببداية خاصة وبوسط ونهاية تتطور الأحداث أو المواقف من خلالها وتتأزم ثم تجيء لحظة إنارة وينحدر الموقف إلى الحل وتُحسم القصة وخلال ذلك بدأت مع القرن العشرين ومع ظهور علم النفس التحليلي ظهرت أشكال قصصية أخرى وهي ما أطلق عليها بالقصة النفسية التي تعتمد التداعي الذهني ونحو ذلك ثم ظهرت القصة الموقفية والوجودية والعبثية وتطورت إلى ما أطلق عليه اليوم بالقصة المضادة أي المتمردة على الأساليب القصصية التقليدية وهذا كله تم من خلال القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي العقود الأخير مع ظهور الاتجاهات البنيوية والتفكيكية وما بعدهما ظهرت اتجاهات قصصية أخرى لا نجد ضرورة للتحدث عنها من الزاوية الإسلامية ما دمنا قد حدثناكم بالنسبة لفن الشعر من خلال الإشارة إلى أن الإسلام في الواقع ترك لنا نمطين من السلوك الفني أحد هذين النمطين رسم له قواعد مشتركة والنمط الآخر تركه مفتوحاً وهذا ما يتمثل في الشكل القصصي لذلك يتعين على الكاتب الإسلامي أن ينتخب من الأشكال القصصية مع ما يتوافق والتصور الإسلامي من هنا لا نجد ضرورة كما قلنا بأن نؤثر شكلاً أدبياً قصصياً على شكل آخر فسواء أكانت القصة تصاغ بالشكل التقليدي أو الحديث أو بالشكل الأكثر حداثة المهم أن الهدف الذي تستنبطه القصة ينبغي أن يبرز في المقام الأول وتضل التقنية القصصية مجرد أداة لتمرير الأهداف التي يريد القاص الإسلامي توصيلها إلى الآخرين، وما يتصل بالشكل القصصي من حيث المظهر الخارجي كذلك ينسحب على المظهر الداخلي للقصة وعلى أدواتها فكما أن الأدوات القصصية من حوا ر أو كما أن المادة القصصية التي تتحرك في سياق الحدث أو الشخصية أو الموقف أو البيئة كل ذلك أيضاً من الممكن أن يتوفر عليه القاص الإسلامي دون أن يقيد نفسه بأداة دون أخرى بقدر ما ينبغي أيضاً توظيف الأداة بالشكل الذي يتوافق والهدف الإسلامي الذي يستهدفه إن كل واحد منا يمكنه أن يقرأ على سبيل المثال ما كتبه المعاصرون من مبادئ القصة الحديثة والقصة التقليدية والقصة التي نشأت بعد عصر الحداثة أو ما أطلق عليه ما بعد الحداثة أقول: إن كل واحد منا يستطيع أن يقرأ هذه المبادئ وأن ينتخب منها ما يتوافق والتصور الإسلامي للظاهرة من حيث الشكل ومن حيث الأداة ومن حيث المادة أيضاً ولكن كل هذا ينبغي كما تمت الإشارة في محاضرات سابقة ينبغي أن يتم من خلال لغة توصيلية وليس من خلال اللغة المعقدة أو الملتوية أو حتى من حيث الصياغة الشكلية التي بدأنا نلحظها في القصة المعاصرة حيث تلتوي في لغتها وحتى أنها تلتوي في طريقة صياغتها للقصة حتى أننا وجدنا أشكالاً من العبث القصصي من حيث رسمه في الورقة بحيث يثير السخرية ولا نريد أن نعرض لذلك بقدر ما نريد أن نلفت نظر المنشئ الإسلامي إلى أن من الضروري بمكان أن لا  يتساوق مع أي شكل فني عابث أو غير مجدٍ أو غير موصل للهدف الإسلامي الذي ينوي ويعتزم تقديمه للآخرين من خلال توكأه على الشكل القصصي أو المسرحي ونحوهما، على أية حال نكتفي بهذا القدر من الكلام عن القصة والمسرحية ونحوهما على أن نحدثكم في محاضرات لاحقة عن بعض المبادئ العامة التي ينبغي أن يلتفت المنشئ الإسلامي إليها وهذا ما نحدثكم عنه في محاضرة لاحقة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.