المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 046.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم عن الأشكال الأدبية حيث سبق أن تناولنا هذا الجانب في المحاضرات السابقة عبر حديثنا عن العنصر الثامن والأخير من عناصر البلاغة ألا وهو العنصر الشكلي وقلنا في حينه أن العناصر البلاغية هي ثمانية عناصر العنصر الفكري العنصر الموضوعي العنصر المعنوي ، العنصر الصوري ، العنصر اللفظي، العنصر الإيقاعي، العنصر البنائي وهذه العناصر ينتظمها عنصر ثامن وهو العنصر الشكلي مجسداً للهيكل الخارجي الذي تنتظم فيه العناصر المذكورة.

أولاً العنصر الشكلي كما سبقت الإشارة هو نمطان النمط الشرعي والنمط العرفي.

أما الأشكال الشرعية فقد حدثناكم عنها متجسدة في جملة أشكال منها السور القرآنية الكريمة ومنها الدعاء ومنها أشكال مشتركة بين الشكل الشرعي والشكل العرفي كالخطبة والرسالة والمقالة وما إلى ذلك إلاّ أن كل تلك الأشكال حدثناكم عنها من خلال الشكل الشرعي لها أي من خلال النصوص التي توفرالمشرع الإسلامي عليها كتاباً وسنة حيث انتهينا من ذلك بمحاضرتنا السابقة وبقي أن نحدثكم عن الأشكال العرفية أي عن الأدب في فنونه أو أجناسه أو أشكاله التي توفر عليها قديماً و حديثاً ولكن مع تشددنا في الحديث عن الأشكال الحديثة أو المعاصرة وفي مقدمة ذلك نبدأ بالحديث عن الشعر ونتبع ذلك بالحديث عن السرديات  كالقصة والرواية وسائر أنماط الأدب الحديث.

إذاً نبدأ ونتحدث عن الشعر وفي هذا الميدان نقول:

تاريخياً يعتبر الشعر أسبق الفنون اللفظية ظهوراً بصفته كما تعلمون من حيث الدلالة النفسية للسلوك البشري بعامة يظل تعبيراً عن نظام عصبي يقوم على الاستجابة الموزونة للظواهر.

فعملية التنفس مثلاً وحركة المشي وسائر النشاط الحيوي تظل ذات بعد إيقاعي ملحوظ لكل من حاول أن يرصد سلوكنا الحركي من هنا فإن المسوغ إلى التماس التعبير عن حاجة ذات أصل حيوي يبرز قبل سواه من أشكال التعبير التي يضئل ارتباطها بالأصول البايولوجية حيث يقول بعض مؤرخي الفن عبر محاولات تحديد نشأة الشعر أن أول عملية إيقاعية وجدت لها تعبيراً حركياً في نشاط الإنسان هي الدبكة ثم تطورت هذه العملية وهي عملية شاذة بطبيعة الحال من خلال تصورنا الإسلامي إلى الظواهر تحولت إلى نمط آخر من النشاط وهو أشد شذوذاً من سابقه وهو الرقص.

طبيعياً مثل هذا الكلام قد لا نوافق عليه ولكننا ننقل فقط، ما  نقله المؤرخون أو ما قاله المؤرخون في هذا الصدد حيث أضافوا قائلين أو بالأحرى حاولوا أن يربطوا أيضاً بين شكلي الإيقاع الوزن والقافية وبين الأنماط الحركية التي سبقت ظاهرة الشعر بالأشياء المتنوعة في مختلف مراحل التاريخ.

قلنا إن أمثلة هذا التفسير ليس من التفسيرات التي يمكن أن يطمئن الملاحظ لها ولكنها من الممكن في بعض الحقائق أن تتسم بالصواب ولو بالقدر الضئيل من ذلك من حيث التحديد لنشأة الشعري وجذوره الأولى إلا أن ذلك كله مؤشر إلى أن كون الإيقاع قد أسيء استخدامه حينما  استخدم و استثمر في نشاط شاذ كالدبكة والرقص ولكن أمثلة هذا التفسير التاريخي تبقى من جانب مرتبطة بالتفسير الأسطوري لأصل الأنواع وتطورها المزعوم حيث انسحب تفسير هؤلاء المؤرخين لأصل الإنسان على تفسيرهم أيضاً لأصل الفن وذلك من خلال إخضاعهم مختلف الفنون من شعر وخطابة ورواية ومسرحية إلى آخره لنفس خطوات التطور الاسطوري المزعوم.

والحق نحن لا نجد أنفسنا بحاجة إلى مناقشة أمثلة هذا التفسير الذي ابتذل طوال ما يقرب من القرنين ما دام الزمن قد تجاوزه وما دام أنصار النظرية ذاتها يقرون بكونها مذهبا عقلياً وليس ممارسة تجريبية وما دام وهذا هو المعيار المهم، مضاداً للتصور الإسلامي حيال الأصل الإنساني والفني.

المهم أن ما نعتزم توضيحه الآن هو أن الحركة الإيقاعية العامة لا غبار عليها كلما في الأمر أن المشرع الإسلامي أفرز نمطين منها أحد هذين النمطين يتصل بالاستجابة السوية للإيقاع والآخر يتصل بالاستجابة الشاذة حياله فأقر النمط الأول وحرم النمط الآخر وهذا أمر من الوضوح بمكان إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن غالبية أو جميع الدوافع المركبة فينا  يمكن أن يستمثرها الإنسان من خلال الإشباع السوي لها ومن الممكن أن يستثمرها من خلال الإشباع المرضي لها ومن ذلك مثلاً الحاجة الجنسية حيث يمكن لكل منا أن يشبع هذه الحاجة بطرق مشروعة ويمكن أن يشبعها بطرق غير مشروعة.

المهم أن قضية الإيقاع وهذا ما نستهدف الآن أن نوضحه بجلاء قضية الإيقاع لا تنحصر في  كونها مجرد تنظيم صوتي بل في طريقة التنظيم ذاته من حيث صلتها بطبيعة استجابتنا العصبية حياله وفقاً لما هو سوي أو شاذ من الاستجابة.

ومن ثم فإننا هنا نعتزم الإشارة إلى أن الإيقاع من حيث ارتباط الشعر به مضافاً إلى ارتباطه بالعنصر العاطفي أيضاً حيث يضل الإيقاع والانفعال في مقدمة هذا الضرب من الفن وهو أمر يستوقفنا من الواقع لاستشفاف وجهة النظر الإسلامية حيال الفن المذكور.

ومن حيث البعد التاريخي يبقى الشعر كما تعرفون ذلك أيضاً يحتل من أدب اللغة العربية مساحة كبيرة  بل هو ديوان هذه اللغة وسجل تاريخها حتى أن القصيدة والبيت كما قيل كانت تقعد قبيلة وتقيم أخرى وتغير شريحة من شرائح التاريخ.

وجاء الإسلام فأقر هذا الشكل الفني بل شجعه وثمن مواقف الشعراء ووعد بثواب ومنح الهدايا وأشار إلى تأثيره السحري في النفوس ولكن يلاحظ أن الإسلام في آن ذاته وقع متحفظاً حيال الشعر وهو أمر يستوقفنا حقاً.

من الممكن أن يجيب البعض بسهولة إلى أن الطائفة الأولى من النصوص أو الأفعال المثمنة للشعر ناظرة للشعر الملتزم.

و أن الطائفة المانعة عنه ناظرة إلى الشعر المنحرف مثلاً، لكن يمكن القول بأن قضيتي  الالتزام أو الانحراف لا تنحصران في فن الشعر فحسب بل تنسحبان على مطلق الفنون من خطبة وخاطرة ومقالة إلى آخره. فلماذا  يتجه المنع أو الندب إلى الشعر فحسب يضاف إلى ذلك أن هناك طائفة ثالثة من النصوص تتحفظ حتى حيال الشعر الملتزم إسلاميا حيث تمنع من إنشاده من أزمنة وأمكنة خاصة كما أن تنزه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك من خلال الآية الكريمة التي تقرر بأنه لا ينبغي له يعزز التحفظ المذكور مما يعني أن هناك سراً وراء ممارسة الشعر مقترناً بما هو سلبي من السلوك المصاحب للممارسة المذكورة.

على أية حال إن المعنيين بشؤون الفن والتفسير والفقه يحاولون تقديم أكثر من وجهة نظر بهذا الصدد فنجد من يذهب إلى كراهية الشعر جمعاً بين الأحاديث ونجد  من ينقل الظاهرة إلى إطارها التاريخي فيحدد المنع بما اقترن بالشعر من الرقص والغناء ونحوهما ونجد من قرنه بالتصورات التي كانت تغلف المجتمع الإسلامي في ذلك الحين من حيث ذهابها إلى أن جنياً مثلاً يتكفل بممارسة هذه المهمة على نحو ما هو مألوف في الأساطير الإغريقية عن أفولو مثلاً. وفي هذا الاتجاه هناك من يربط بين الكاهن والساحر والشاعر إلى آخره.

وفي تصورنا أن هذه الأسباب مجتمعة ساهمت في ظاهرة التحفظ الإسلامي حيال الشعر بيد أن الأهم من ذلك هو أن ارتكان الشعر إلى كونه استجابة انفعالية خارجة عن حد الاعتدال هو الأمر الذي يمكن أن نلتمس له تفسيراً عبر الموقف الإسلامي المتحفظ حيال الشعر.

إن تعامل أهل البيت (عليهم السلام) في حقل الفن التشريعي أو في حقل الحياة العامة يقودنا إلى القناعة بأن مباركتهم للشعر أو أن استشهادهم به أو حتى الإنشاد أحياناً يظل ناظراً إلى  الشعر ليس من حيث كونه فناً بل من حيث كونه مجرد أداة في التعبير عن الحقائق يتطلبها الموقف العابر وإلاّ فالأراجيز مثلاً في المعارك تتوفر بدورها أو تتكىء على صياغة شعر صياغة خاصة تتطلبها التقنية الفنية ومعاييرها التي يرسمها نقاد الشعرعصرئذٍ

كما أن تعاملهم مع أكثر من شاعر كان متسماً بعدم إكساب الصوت أو الصورة أهمية ذات بال بل إن أحد المواقف التي استشهد بها المعصوم (عليه السلام) ببيت شعري ذات يوم لم يُعنى فيه بمضطلعات الوزن حمل أحد الأشخاص على أن ينتقد المعصوم (عليه السلام) فأجاب (عليه السلام) بأنه لا يعنيه الوزن  بل تعنيه الدلالة أي الهدف العبادي الذي أشار إليه.

كما أن تعقيبات المعصومين (عليهم السلام) على قصائد الشعراء كانت منحصرة في الدلالة حيث طالبوا بتغيير بعض الأفكار وطالبوا بإضافة أفكار أخرى دون أن يتعرضوا إلى الجانب الفني من ذلك بل يظل الجانب المعنوي هو المعني من ذلك.

على أية حال إن مسألة أمثلة هذه المواقف من أهل البيت (عليهم السلام) تعد مؤشراً  إلى أن تمثلهم بهذه الأبيات أو استماعهم أو تقويمهم كان منصباً على القيم الفكرية للشعر وليس على قيمه الجمالية من بُعد تخيلي أو إيقاعي وهذا على العكس من عنايتهم (عليهم السلام) بالصياغة النثرية بخاصة صياغة الخطبة حيث نلحظ الفارق الكبير بين الخطب التي توفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة على صياغتها وبين الشعر حيث أن بسط مقارنة على سبيل المثال بين خطب نهج البلاغة وبين الشعر الذي أشرنا إلى تمثلاتهم (عليهم السلام) به يدلنا على الفارق الكبير بين نص نهج البلاغة مثلاً من حيث قيمه الجمالية وبين الشعر المشار إليه في افتقاده إلى الصياغة التي نلاحظها في الخطب.

هذا إلى جانب أن عدم توفر المعصومين (عليهم السلام) على كتابة الشعر بالقياس إلى النثر الفني ينبغي أن لا نحصر ذلك في كون النثر أيسر توصيلاً إلى الأذهان  فحسب بل نتجاوزه إلى أن الشعر بصفته عملية انفعالية لا تتسم مع النضج الإنساني هو المفسر لغيابه  عن ممارسة المعصوم (عليه السلام) وهذا ما يتوافق و العبارة القرآنية الكريمة والتي تقول نسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي له والمعصومون أيضاً اتساقاً مع امتدادهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمهم نفس الطابع أي لا ينبغي لهم.

على أية حال لقد سبق أن أوضحنا أن حديثنا عن عنصري التخيل والعاطفة كيف أن عدم مراعاتهما من حيث الصلة بالواقع يفسد عمل الفن، نضيف أن التركيبة النفسية للشاعر وهو متميز عن غيره بكونه يرث جهازاً فطرياً من الحس الإيقاعي يفتقده العادي من الناس هذه التركيبة مصحوبة عادة باستجابة خاصة هي التعامل الإيقاعي والصوري أي التخيلي مع الآخرين أيضاً وليس مع التجربة الشعرية فحسب مثل هذا التعامل لا يتناسق مع ما ينبغي أن تسلكه الشخصية الإسلامية من النضج الانفعالي في ممارساتها.

ومن البين أن الشخصية بقدر ما تسمح لجهازها الوراثي وهو الحس الإيقاعي المتضخم عند الشاعر بالتحرك وبممارسة هذا النشاط يتضخم الحس المذكور لديها بحيث يسحب أثره على استجابةه الإنفعالية حيال الظواهر جميعا.

من هنا ينبغي أن نضع فارقاً بين شاعر يصب جميع اهتماماته في تجربة الشعر وبين آخر يستثمر الحس الإيقاعي لديه في تجارب شعرية محدودة يمليها موقفاً ضرورياً وعابر كما لو افترضنا متمثلاً في دخوله إلى ساحات القتال في الأراجيز أو الأناشيد العسكرية مثلاً أو تحريض الجمهور عبر قضية مصيرية أو استثارة النفوس خلال التعبير عن ضخامة الشدائد التي يواجهها أهل البيت (عليهم السلام) مثلاً إلى آخر ذلك إن أمثلة هذه المواقف تتطلب التجربة الشعرية دون أدنى شك مضافاً إلى أن الظروف الاجتماعية تفرض ذلك أيضاً وهذه جميعاً ينبغي أن نشير إليها إلى أنها تشكل استثناءاً وليس قاعدة مع ملاحظة أن الاستثناء لا غبار عليه بل قد يصبح ضرورة كما نلاحظ ذلك كما يمكننا أن نفسر ذلك بالنسبة إلى تشجيع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الشعراء الذين كانوا يباركون الحروب التي خاضها (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك بالنسبة إلى موقف الأئمة (عليهم السلام) من الشعراء الذين كانوا يناصرون الإسلام.

وبالمقابل فإن سلخ الإستثناء  من طابعه وجعله سلوكاً عامّاً يفضي إلى وقوع الشخصية في وهدة الإنحراف على تفاوت درجته وأياً كان الأمر في ضوء الطابع الاستثنائي المذكور يمكننا أن نفسر الموقف التشريعي حيال الشعر من حيث مباركة المعصومين (عليهم السلام) كما قلنا لبعض الشعراء وإنشادهم الشعر واستشهادهم به على نحو تقدم الحديث عنه.

والآن بعد أن تحدثنا عن الموقف التاريخي حيال الشعر والتصور الإسلامي حيال ذلك والسماح بصياغته في سياقات خاصة حينئذ نتقدم ونتحدث عن الشعر لهذا السياق الذي أشرنا إليه ونقول:

الشعر كما تعرفون ذلك جميعاً بالنسبة إلى حياتنا المعاصرة تنتظمه ثلاثة أنماط هي:

الشعر العمودي

الشعر الحر

الشعر النثري

وأما الشعر العمودي فهو ذلك الشعر الموروث الذي خبرته الحياة منذ عصر ما قبل الإسلام وامتداد ذلك حتى حياتنا المعاصرة أي الشعر الذي يلتزم بنظام خاص من التفعيلات المنتظمة في بحور معروفة ويلتزم قرارا أو يلتزم قافية موحدة أو متنوعة بحسب الظروف التي مر بها الشعر العمودي والمهم أن هذا الشعر بأنماطه المتنوعة التي لا نجد ضرورة للحديث عنها يظل امتداداً كما قلنا للموروث وتظل القصيدة العمودية فارضة ذاتها في حياتنا المعاصرة وإن كان هذا الفرض هو بالواقع في طريقه إلى التضاؤل شيئاً فشيئاً بالقياس إلى ظهور نمط آخر من الشعر هو الشعر الحر

والشعر الحر في الواقع كان له بعض نماذجه غير الناضجة في الموروث إلى أن الشعر بنمطه الحديث يظل في الواقع منتسباً إلى التيار الأوروبي الوافد على المناخ الذي يحياه شعراء الإسلام والعرب.

لقد بدأ هذا الشعر قبل ما أكثر من نصف قرن وفرض كما قلنا وجوده على الساحة الأدبية والأمر ذاته بالنسبة إلى نمط ثالث من الشعر هو ما أسميناه بالشعر النثري حيث وفد هذا الشعر بدوره من التيار الأوروبي بعد الشعر الحر. وهذا الشعر يتمثل في أشكال متنوعة بعضها يطلق عليها بالشعر المنثور حيث يمثل تجارب غير ناضجة بالنسبة لشعراء برزوا في بداية هذا القرن أي بداية القرن العشرين ومن ثم ظهر نمط آخر هو النمط الناضج ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وهو ما أطلق عليه مصطلح قصيدة النثر.

حيث تختلف قصيدة النثر من حيث نضجها الفني عن ما أطلق عليه مصطلح الشعر المنثور في القرن الماضي.

المهم أن هذا النمط الثالث من الشعر وهو قصيدة النثر لم يلقى استجابة كالاستجابة التي لقيها الشعر الحر ولكن مع ذلك كما قلنا فرض هذا الشعر كثيراً من نماذجه على شعراء وعلى قراء يتذوقونه.

وبغض النظر عن الأشكال الشعرية التي أشرنا إليها يعنينا أن نشير إلى الموقف الإسلامي حيال هذه الأنماط الشعرية ليس من حيث المحتوى الذي سبق الحديث عنه وأوضحنا طبيعة التصورات الإسلامية حيال ذلك بل من حيث الشكل الخارجي للإيقاع أيمن حيث الأنماط المتنوعة لهذا الشعر من حره ونثره وعموده نقول بما أن الإسلام كما سبقت الإشارة إنما يستهدف من الفنون جميعاً ليس كون ذلك هدفاً في حد ذاته بل من خلال كون ذلك مجرد أداة حينئذٍ فإن الموقف الإسلامي أو  التصور الإسلامي يظل دون أدنى شكل موسوماً بالطابع ذاته بالنسبة إلى الأشكال الشعرية.

فلا مانع من أن يتخذ الشاعر أي شكل شعري يجده متجانساً مع هدفه الذي يرميه من وراء الصياغة للقصيدة عبر الهدف العبادي بطبيعة الحال، نقول لا مانع بالتصور الإسلامي باتخاذ أية صياغة تحقق الهدف التوصيلي الذي تستهدفه القصيدة من ذلك.

نقرر هذا ليس من خلال التوكؤ إلى النص الوارد من المعصوم (عليه السلام) بل نستخلص ذلك استخلاصا من خلال وقوفنا على النصوص والمواقف المتنوعة التي صدرت عن المعصومين (عليهم السلام).

فمن الحقائق التي نود أن  نلفت انتباهكم إليها هو:

أن المسألة لا تتصل  بالشعر فحسب بل تتصل بكثير من المظاهر المعرفية والثقافية حيث نجد أن المشرع الإسلامي يقف من هذه الظواهر موقفين أحدها يتسم برسم المبادئ التي طالبنا بأن نعمل بموجبها والآخر يترك المجال لنا مفتوحاً بأن نمارس هذه العملية الثقافية وتلك في ضوء الظروف الاجتماعية أو التاريخية التي تفرض علينا هذا النمط أو ذاك.

ويمكننا أن نستشهد ببعض الظواهر الفنية في هذا الميدان فمثلاً:

لو لاحظتم  ظاهرة السجع للاحظتم أن السجع منذ عصر ما قبل الإسلام وعصر صدر الإسلام كان السجع فارضاً أهميته أو فارضاً أشكاله الملحوظة على المناخ الأدبي حين ذاك حيث نجد أن المعصومين (عليهم السلام) قد توفروا على أمثلة هذه الصياغة المسجوعة ولكنهم قبالة ذلك توفروا أيضاً على صياغة النثر غير المسجوع أي النثر المرسل مما يعني أنهم (عليهم السلام)  يراعون من جانب طبيعة العصر ويراعون من جانب آخر طبيعة ما تفرضه الحياة بنحو مطلق أو ما تفرضه الحقائق النفسية بنحو مطلق حيث أن النثر المرسل يظل طابعاً لجميع الأجيال.

ففي عصر ما قبل الإسلام وفي عصر صدر الإسلام كما كان السجع ملحوظاً كان النثر المرسل أيضاً ملحوظاً في الآن ذاته. وظل النثر المرسل طابعاً لجميع القرون الإسلامية كما كان طابعاً لجميع القرون التي بدأت مع عصر الغيبة وامتدت مع حياتنا المعاصرة التي نحياها حيث أن هذا النثر المرسل لا يزال فارضاً وجوده بصفته هو التعبير الطبيعي عن الحقائق لأن إيصال الحقائق إلى الآخرين يظل من حيث الأصل موسوماً بأهمية معينة هي ضرورة تحقيق عملية التوصيل. فإذا قيدنا عملية التوصيل بنمط خاص من الإيقاع كالسجع مثلاً حينئذ فإن هذا قد لا يتواسق وضرورة أن يكون التوصيل طبيعياً ومن هنا كان النثر المرسل التعبير الطبيعي عن طبيعة الإنسان وطبيعة تعامله اللغوي مع الآخرين.

لذلك نجد أن السجع مثلاً في بداية القرن العشرين قد انقرض وظهر النثر المرسل بشكل ملحوظ ، على أية حال هذا يفصح لنا أن المسألة تظل ذات بعدين البعد الأول هو أن النص الإسلامي وأن المشرع الإسلامي قد رسم لنا من جانب قواعد بلاغية تمثل طابعاً مشتركاً بين الأجيال جميعاً ككثير من النصوص البلاغية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) حيث يعرفون البلاغة بسمات ذات طابعاً مشتركاً للأجيال جميعاً كالاقتصاد اللغوي وعمق المعنى وما إلى ذلك.

ولكنهم لا يحدثوننا عن الأشكال الفنية التي يتعين علينا أن ننسج على أمثلتها بل تركونا ونحن نتخذ ما يتناسب مع طبيعة الجيل الذي نحياه.

إذاً التعامل مع القصيدة في حياتنا المعاصرة ينبغي أن يأخذه المنشئ الإسلامي بنظر الاعتبار وذلك بأن يتناول أو يتوفر على أي شكل يجده متناسباً من جهة مع طبيعة العصر وأن يلاحظ عملية التوصيل من جانب آخر حيث أن عملية التوصيل هي مهمة جداً وعليه يمكننا على سبيل المثال أن نعقب على ما نلاحظه في حياتنا المعاصرة من الظاهرة الفنية التي لا تسم الشعر فحسب بل تسم كثيرا من الفنون ألا وهو ظاهرة الغموض الملحوظ في النصوص الفنية.

وظاهرة الغموض في الواقع لا يمكن أن تشكل لنا مسوغاً مهما يقدمه المعاصرون من مسوغات تحدد لنا بأن طبيعة التجربة العميقة مثلاً وطبيعة الإنسان المعاصر  مثلاً تفرضان على المنشئ الأدبي أن يصوغ لغته المضببة إلى آخر هذا الكلام الذي لا يتسق البتة مع التصور الإسلامي.

إن التصور الإسلامي للظواهر ينطلق من أساس مبادئ طالما كررنا الإشارة إليها ألا وهو أن الهدف من الفن توصيل مبادئ الله سبحانه وتعالى إلى الآخرين وتوصيل المبادئ لا يمكن أن يتم من خلال الغموض بل ينبغي أن يتم من خلال الوضوح الذي ييسر عملية التوصيل تبعاً لإشاراتهم (عليهم السلام) إلى ضرورة مخاطبة الناس بقدر عقولهم ومخاطبتهم بلغتهم إلى آخر ما نعرفه في هذا الصدد عن المشرع الإسلامي.

إذاً مع قناعتنا بهذا النمط من التصور الإسلامي حيال الشعر بعدها يظل الحديث عن الشعر وعن صياغته بهذا الشكل أو ذاك لا ضرورة له بل نترك المسألة للشاعر ذاته بأن ينتخب ما يجده مناسباً كما قلنا مع طبيعة العصر من جانب وأن يعنى وهذا هو الجانب الأهم بصياغة لغة توصيلية . طبيعيا ينبغي على المنشئ الإسلامي أو الشاعر الإسلامي أن لا يعنى بالزخرف أو المتاع الدنيوي التي توفر عليه الأرضيون في مختلف تصوراتهم للفن أو الأدب بشكل عام بل ينبغي عليه أن يستقل بتصوره وأن يستقل بصياغته للنص الأدبي بشكل يتسق مع التصور الإسلامي للظاهرة.

فبدلاً من أن يقلد التيارات المعاصرة عليه أن ينسج لنفسه صياغة خاصة تفرض وجودها على الآخرين وليس من خلال فرض الآخرين وجود صياغاتهم على المنشئ الإسلامي وهذه ظاهرة ينبغي أن نشدد النظر فيها ونلفت الانتباه عليها وأن نكررها قائلين المنشئ الإسلامي ينبغي أن ينسج لنفسه صياغة خاصة كأن يتوفر على القصيدة الحديثة مثلاً سواء كانت قصيدة حرة أم عمودية أم نثرية  عليه أن يصوغها وفق لغة توصيلية من جانب وأن تكون ذات عمق من جانب آخر وهو أمر ليس من السهولة بمكان ولكن ما دام المنشئ الإسلامي قد انتخب ظاهرة القصيدة مثلاً تعبيراً عن الهدف العبادي الذي ينشده حينئذ عليه أن يرهق نفسه في صياغة ذلك وليس عليه أن يكون مقلداً بشكل لا ينسجم مع طبيعة الوظيفة الإسلامية التي ينبغي أن ينطلق منها في تحقيق هدفه.

ومهما يكن من أمر فإن الحديث عن الشعر ينسحب أيضاً على الفنون الأدبية الأخرى مما ينبغي علينا أن نتحدث عنها ولكن من خلال حديث آخر يتصل بطبيعة الفارقية بين الفنون الأدبية فالشعر على سبيل المثال يظل متميزاً تماماً عن القصة أو الرواية أو المسرحية أو الخاطرة ونحو ذلك حيث نجد هذه الأشكال الأدبية قد تمتلك من الفاعلية على  الأقل في حياتنا المعاصرة.

بالقياس إلى الحياة الموروثة لقد كان الشعر في الحياة الموروثة له أهميته الكبيرة وكانت السرديات  كالقصة بأشكالها المعروفة لا وجود لها في الحياة الموروثة إلاّ بشكل نادر جداً وبشكل ساذج جداً أيضاً ولكن الحياة المعاصرة تختلف بطبيعة الحال عن الحياة الموروثة حيث نجد أن السرديات تحتل مكاناً كبيراً كما أن الأشكال الأخرى من مقال وخاطرة ونحو ذلك تفرض وجودها على الحياة الأدبية المعاصرة مما يعني أن المنشئ الإسلامي ينبغي أن يراعي في انتخابه لهذه النمط الأدبي أو ذاك ينبغي أن يراعي المبادئ التي سبق الحديث عنها ومن ثم يتعين علينا الآن أن نحدثكم عن سائر الفنون والأشكال الأدبية الأخرى وفي مقدمتها السرديات وهذا ما نؤجل الحديث عنه إلى محاضرة لاحقة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته