المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 044.doc

(الدعاء)

1- السمات العامة:

الدعاء - كما نعرف جميعاً - يُعدّ نوعاً من الممارسة الوجدانية حيال (الله) (تعالى)... ويفترق عن سائر ألوان التعبير الفني بكونه يجسد (تجربة) داخلية تتواصل مع (الله) مباشرة... كل ما في الأمر أن (التجربة) المذكورة لم تخضع لصياغة (الداعي) بل للصياغة الشرعية. بكلمة جديدة: المشرع الإسلامي هو الذي يتكفل بصياغة (تجربة) الداعي، ويقدمها له لـ(يتمثلها) - هذا الأخير - وكأنها من نتاج ذاته.

من هنا يفترق (الدعاء) عن سائر الفنون التعبيرية الأخرى، بكنه: (تجربة داخلية)، لا أنها (أفكار منقولة) إلى الشخص؛ كما هو شأن الخطبة والرسالة والخاطرة وغيرها من أشكال الفن التي تتكفل بعملية (نقل) للمواقف بنحو يكون كل منا مجرد (متلقٍّ) حيالها، في حين أن (الدعاء) يحوّل كلاًّ منا - مضافاً - إلى (منشي) وجداني في توجهنا بالكلام إلى الله...

ويترتب على هذا الفارق بين (الدعاء) وغيره، أن تتم صياغته بنحو لا تتجاوز تجربة الشخص؛ من حيث انفعالاته بالمواقف، سواء أكانت هذه المواقف (فردية) أم (اجتماعية) أم (موضوعية) صرفاً.

والمقصود بالمواقف (الفردية): الحاجات النفسية والحيوية التي تطلع الداعي إلى تحقيقها بالنسبة لـ(ذاته). أما المواقف (الاجتماعية) فيقصد بها دعاء الشخص (للآخرين) وتطلعه إلى تحقيق إشباع حاجاتهم المختلفة.

ولعله يمكن القول بأن (الدعاء) - بخلاف سائر الفنون التعبيرية - يحقق (من حيث عمليات التعديل للسلوك) ممارسة مباشرة للتعديل المتصل بسلوكنا نحو (الآخرين) أو ما يطلق عليه بـ(الغيرية) أو (الإيثار)، حيث (يدربنا) - كما سنلحظ في النماذج التي سنقدمها - على أن نعنى بالآخرين، قبل أن نتجه إلى (ذواتنا)، وهذا ما يجعل (الدعاء) بمثابة (تطبيق) للمبادئ التي تطالبنا (السماء) بها في نصوص الأدب التشريعي التي تقدم الحديث عنها.

وأما المواقف (الموضوعية) الصرف، فيقصد بها: التعامل مع المبادئ بنحو عام - بغض النظر عن فائدتها (الذاتية) - مثل: التعامل مع حقائق الله أو ظواهره الإبداعية أو التعامل مع أهل البيت (عليهم السلام)... وفي الحالات جميعاً لا يضمر حجم التعامل (الوجداني) لدى الداعي إلاّّ من حيث انسلاله من دائرة الحاجات (الفردية). والتوجه بذلك إلى الحاجات (العقلية).

ومن الواضح ـ في حقل العمليات النفسية ـ أن الكائن الآدمي تتوزّعه ثلاث حاجات، يحقق كل منها إشباعاً لشخصيته، وهي:

1- الحاجات النفسية مثل: التقدير والحب ونحوهما، بما في ذلك محبته للآخرين أيضاً...

2- الحاجات الحيوية مثل: الطعام، النوم... إلخ.

3- الحاجات العقلية مثل: استكناه الحقائق وتقويمها، بغض النظر عن فائدتها (الذاتية) كما قلنا.

وطبيعياً، أن ينتسب النمط الثالث من الحاجات إلى ما أسميناه بـ(المواقف الموضوعية) المتصلة بالتعامل مع الله، وظواهره الإبداعية، والمصطفين من الآدميين...

المهم: يظل (البعد الوجداني) هو البطانة العامة لأدب الدعاء بما في ذلك: النمط (الموضوعي) منه، بصفة أن الداعي (ينفعل) بالحقائق الموضوعية التي يتجه بالدعاء من خلالها.

وفي ضوء ما تقدم: يمكننا أن نقرر بوضوح بأن الصياغة الفنية للدعاء تتحدد وفقاً للأسس التي ألمحنا إليها، مضافاً لأدوات الشكل الجمالي (صوت، صورة، بناء، طرافة)...

وإذا كانت الأسس المذكورة من الممكن أن تتجسد في نص محدد حيناً، أو أقل منها، إلاّّ أن خصائص كل من (البعد الوجداني) و(الموضوعي) و(الفني) تظل عصباً رئيساً، يتسرب في الأدعية جميعاً؛ سواء أكانت ذات طابع فردي أم اجتماعي أم عقلي.

ويمكننا على سبيل المثال - أن نأخذ الدعاء التالي: لملاحظة السمات الثلاث التي أشرنا إليها:

(اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي، فلم أنصره ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره ومن ذي فاقة سألني، فلم أوثره ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفّر، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره. أعتذر إليك ـ إلهي ـ منهن ومن نظائرهن اعتذار ندامة يكون واعظاً لما بين يدي من أشباههن. فصل على محمد وآله واجعل ندامتي على ما وقعت فيه من الزلات، وعزمي على ما يعرض لي من السيئات؛ توبة توجب لي محبتك، يا محب التوابين).

إن هذا النص ـ على قصره ـ يتضمن (البعد الوجداني) المتمثل في كل من: (الاعتذار) (الندامة) (العزم على الترك)، ولا يخفى أن كل واحدة من المفردات الثلاث، يجسد عملية نفسية ذات طابع (انفعالي)، فالاعتذار: إفصاح عن حالة داخلية ذات طابع (متوتر)، و(الندامة): انكسار نفسي يجيء نتيجة لتوترات بالغة الحدة، و(العزم على الترك): انفعال حاد على (تصميم) شيء ما...

إذن: (البعد الوجداني) واضح كل الوضوح في هذا النص. أما (البعد الفني) في النص، فيتمثل في أوضح أدواته في (القرار الإيقاعي) من نحو: أنصره، أشكره، أعذره، أوثره، أوفره، أستره، أهجرة... كما يتمثل في (توازن) العبارات هندسياً؛ من حيث توازن عدد المفردات في كل فقرة مع سائر الفقرات المنهية بالقرار الإيقاعي المذكور، وهو أمر يلحظه المتلقي (من حيث جمالية الجرس المذكور) بنحو مدهش دون أدنى شك...

وأخيراً: (البعد الموضوعي)، متمثلاً في: الصلاة على محمد وآله؛ كما لحظنا ذلك في الفقرات الأخيرة من الدعاء المذكور.

ويلاحظ: أن ما أسميناه بـ(البعد الموضوعي) يتخلل الأدعية جميعاً من حيث (الآداب) التي يصوغها المشرع الإسلامي في ممارسة (الدعاء) وإلاّّ فإن (موضوعية) الدعاء تشكل ـ كما قلنا ـ واحداً من أنماط ثلاثة هي (الحاجات الفردية) و(الاجتماعية) و(العقلية) حيث ينتسب (الدعاء الموضوعي) إلى الأخير منها...

ولعل السر الكامن وراء هذه (الآداب) يتمثل في: نقل الداعي من (همومه الذاتية) إلى الهموم الموضوعية ليستكمل بذلك شخصيته ذات الطابع السوي، وإلاّّ فإن التأكيد على ما هو (فردي) فحسب يظل ـ كما هو معروف في لغة علم النفس المرضي - من أبرز معالم الشخصية الشاذة.. ولذلك يحاول (الدعاء) - بصفته واحداً من أشكال التعبير الفني الهادف - أن يدفع بالشخصية إلى (تعديل) سلوكها، من خلال مزج ما هو (ذاتي) بما هو (موضوعي)؛ كما مرت الإشارة إليه فيما يتصل بـ(الغيرية)... والأمر نفسه فيما يتصل بموضوعيته من حيث الثناء على الله، والتوجه نحو ظواهره الإبداعية، والتوجه نحو أهل البيت (عليهم السلام)...

من هنا نلحظ أن غالبية نصوص الدعاء، تبدأ بالثناء على الله أو الصلاة على محمد وآله، أو يختتم الدعاء بهما أو بأية عبارة أخرى تتضمن إحدى صفاته تعالى... أو أن الداعي نفسه ـ وفقاً للآداب المذكورة ـ يبدأ استهلال الدعاء أو اختتامه بذلك، في حالة ما إذا أنشأ الدعاء بنفسه...

المهم: أن موضوعية الدعاء تظل أبرز المعالم في هذا الصدد، حتى أن بعض النصوص تأخذ مبنى هندسياً قائماً على (السمة الفنية) المذكورة، من خلال عمليات البناء الفكري للنص، في تعدد موضوعاته مثلاً، وتنامي مواقفه، متمثلاً في وصل كل موضوع بآخر، وتناميه عن طريق (الحمد) أو (الصلاة)...

ولعل أوضح نموذج في هذا الصدد هو: دعاء مكارم الأخلاق فيما يتضمن عشرين مقطعاً، كل واحد منها يتناول موضوعاً محدداً، وكل موضوع تنتظمه جملة من المفردات، تستهل بفقرة (اللهم صل على محمد وآل محمد) تدليلاً على السمة (الموضوعية) التي أشرنا إليها من جانب، وعلى السمة (الهندسية) التي يتطلبها الانتقال من موضوع لآخر وصلها برباط فكري يوحد بين أجزائها من جانب آخر...

ولنقرأ - على سبيل النموذج -قسماً من النص:

(اللهم صل على محمد وآله: وبلغ بإيماني أكمل الإيمان وبيقيني...

اللهم صل على محمد وآله: واكفني ما يشغلني الاهتمام به...

اللهم صل على محمد وآله: ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ...

اللهم صل على محمد وآله: ومتّعني بهدىً صالح لا استبدل به...

اللهم صل على محمد وآله: وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة...

اللهم صل على محمد وآله: واجعل لي يداً على من ظلمني... إلخ).

إن هذا (الدعاء) الذي يشكل (وثيقة نفسية) من حيث تضمنه لمبادئ السلوك الصحي، مصوغ وفق عمارة هندسية بالغة الدهشة، بدءاً من مقطعه الأول الذي يشكل (تمهيداً)، تفصله المقاطع الأخرى، مروراً بمقاطعه المتلاحمة عضوياً وانتهاءً بمفردات كل مقطع منها وتلاحم هذه المفردات فيما بينها أيضاً، وهو أمر لا تسمح به دراستنا الأدبية السريعة بتناوله مفصلاً...

المهم، أن نشير فحسب إلى أن فقرة (اللهم صل على محمد وآل محمد) وُظّفت فنياً بحيث شكّلت نقلة فنية من (الذات) إلى (الموضوع) من جانب، وأداة وصل وتلاحم بين الموضوعات من جانب آخر...

هذا كله: في حالة ما إذا كان الداعي في صدد حاجاته الفردية...

أما إذا كان في صدد المواقف العقلية مثلاً أي: استكناهه لحقائق الله وظواهره الإبداعية (أو المواقف الغيرية أيضاً) حينئذٍ فإن هذا النمط من التعامل يشكل نوعاً مستقلاً من أدب الدعاء، له سماته الخاصة التي تميزه عن أنواع الدعاء...

وهذا ما نحاول أن نعرض له الآن...

 

2- السمة الموضوعية والفردية:

إن السمة المميزة للدعاء الموضوعي هي: خلو الدعاء من الحاجات الفردية وانصرافه إلى الحاجات العقلية الخالصة، متمثلة في المقولة المعروفة لعلي (عليه السلام) في ذهابه إلى أنه (عليه السلام) لم يعبد الله طمعاً في الجنة أو هرباً من النار بقدر ما وجده (تعالى) أهلاً لذلك...

طبيعيا، أن يتسم هذا النمط من الدعاء بأرفع العمليات النفسية؛ من حيث نبذها لأية شائبة من الذات، وأن ممارسته تعد (تدريباً) على (الاستواء) في السلوك في أعلى تصور له.

ولعل أوضح نماذجه، يتمثل في: (دعاء العشرات) المعروف، وفي نصوص من الصحيفة السجادية وغيرها...

ويمكن تصنيف هذا النمط من الأدعية ـ كما أشرنا ـ إلى ما يتصل بصفات الله، وظواهره الإبداعية، وأصفيائه من الآدميين... كما يمكن إضافة (المواقف الغيرية) إليه أيضاً ما دامت مبتعدة عن دائرة (الذات) أيضاً.. وهذا جميعاً ما يمكن ملاحظته في أدعية (الصحيفة السجادية) مثل دعائه (عليه السلام) (التحميد لله عز وجل) و(الصلاة على حملة العرش) و(دعائه لجيرانه وأوليائه و(أهل البيت عليهم السلام)...

طبيعيا أيضاً أن (الحاجات الفردية) من الممكن أن تتخلل أمثلة هذه الأدعية، إلاّّ أنها تظل عابرة أو ثانوية بالقياس إلى الطابع الموضوعي للدعاء... فلو وقفنا على الدعاء الأول من الصحيفة السجادية للحظنا أن مقاطعه جميعاً تمضي على النحو التالي الذي استهل به الدعاء:

(الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً، واخترعهم على مشيته اختراعاً...) ثم تجيء فقرة عابرة في تضاعيف الحمد على هذا النحو: (حمداً تقرّ به عيوننا إذا برقت الأبصار، وتبيض به وجوهنا إذا اسودت الأبشار، حمداً نعتق به من أليم نار الله، إلى كريم جوار الله...) فهذه الفقرة تفصح عن حاجة (فردية) إلاّّ أنها ليست متصلة بالحياة الدنيا ومتاعها، بل بحاجات (أُخروية) مستهدفة عبادياً دون أدنى شك...

ومهما يكن: فإن السمة الموضوعية للدعاء، يمكن تحديدها في مستويات متنوعة، بعضها يتصل بما هو (عقلي صرف)، وبعضها بما هو (أخروي) وبعضها بما هو (غيري)، على تفاوت في ذلك...

أما السمة (الفردية)، فتتمثل في جملة من الحاجات الرئيسة والثانوية، مما لا حاجة إلى عرضها، بقدر ما تمس الحاجة إلى تحديد (الدعاء) بها؛ من حيث معطياته النفسية ومساهمته في التفريج عن شدائد الحياة، حتى أن الملاحظ يمكنه أن يستقري غالبية الحاجات الفردية ليجد أن لكل منها (وثيقة) من الدعاء تتكفل بمعالجة ذلك... وأهمية (الدعاء) المذكور تتمثل في كونه - أي: الدعاء - يُعدّ طريقة للتفريج عنها من جانب أو تعويضها - لا أقل - بالإشباع العقلي من جانب آخر (وهو أمر عالجناه مفصلاً في دراساتنا النفسية عن (الدعاء) فيما لا حاجة إلى إقحامه في دراستنا الأدبية)...

3- السمات الفنية:

لحظنا في نماذج من نصوص الدعاء، أكثر من سمة فنية تتصل بأدوات التعبير مثل (الإيقاع) و(البناء الهندسي)... ويمكن القول: بأن (الدعاء)، يظل أكثر الأشكال التشريعية احتشاداً بأدوات الفن، بخاصة عنصر (الإيقاع). ولعل السر الفني وراء ذلك، كامن في طبيعة عنصر (التلاوة) التي يمتاز بها الدعاء عن غيره. فالدعاء (يُتلى)، لا أنه (يسمع) أو (يقرأ) فحسب، وتبعاً لذلك، فإن (التلاوة) تتطلب إيقاعاً يتناسب مع وحداته الصوتية التي تنتظم في (سجع) أو (تجانس)، لا أنه خاضع لإيقاع داخلي فحسب...

وأما عنصر (البناء) فيمكننا أن ندرك أهميته أيضاً، من خلال الطابع النفسي الذي ينتظم الأدعية؛ لبداهة أن الأدعية إنما تصاغ من أجل الإفصاح عن الحاجات الشخصية بطريقة خاصة هي (الانفعال) بها،... وحينئذ لا بد أن تصاغ وفقاً للعمليات النفسية التي يستثيرها (منبّه) محدّد و(تستجيب) له بنمط خاص مما يعني أنها ـ أي: الأدعية ـ تخضع لبناء هندسي، يأخذ العمليات النفسية المذكور بنظر الاعتبار. ولنأخذ هذا الدعاء مثلاً:

1- (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة وتسوّفني بالتوبة.

2- إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزيّن لي حب الدنيا ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى.

3- إلهي إليك أشكو قلباً قاسياً، مع الوسواس متقلباً، وبالرين والطبع متلبساً، وعيناً عن البكاء من خوفك جامدة، وإلى ما يسرها طامحة.

4- إلهي لا حول ولا قوة إلاّّ بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلاّّ بعصمتك، فأسألك... إلخ).

فهذا النص، يتضمن أربعة مقاطع، كل مقطع منها موصول بما قبله وبما بعده،... فالمقطع يتحدث عن نفس أمارة بالسوء، بالمعصية، بالخطيئة... نفس هذا المقطع يعرض جانباً من المفردات التي أشار إليها مثل: كثرة العلل والأمل والجزع واللعب والمنع إلخ...، أي: صيغ بنحو يتلاحم عضوياً بالنسبة إلى النفس التي ألمح إلى كونها أمارة بالسوء، ثم تفصيل الإجمال المذكور بمفردات من السلوك المنتسب إلى ذلك.

لعله هنا سقط مقطع رقم (1) يلاحظ الأصل

2- أما المقطع (2): فقد تحدث عن (المنبه) للسلوك المذكور، متمثلاً في: (الشيطان)،... ثم عرض مفردات (التنبيه) متمثلة في: الوسوسة، تزيين الدنيا... إلخ، حيث فصل إجمال المنبه المذكور...

3- المقطع (3): يترتب على سابقه، وهو: الطبع والرين على الفؤاد: نتيجة لممارسة المفردات التي عرضت في المقطع.

4- المقطع (4): يتجه إلى (الله) لإنقاذ النفس من السوء الذي فصلت الحديث عنه المقاطع الثلاثة التي أشرنا إليها...

إذن: (التنامي العضوي) من الوضوح بمكان ملحوظ في النص المتقدم.

***

أما عنصر (الصورة)، فإن استخدامه يضمر حجماً بالقياس إلى (الإيقاع) و(البناء)، بخاصة الصورة غير المباشرة. بيد أن ذلك لا يعني ضمورها في الحالات جميعاً بقدر ما يتطلب الموقف النفسي ذلك.

إن بعض المواقف، تستلزم دلالاتها؛ إلحاحاً في أغوار النفس وتشابك حالاتها، حيث لا يتاح (للإيقاع) الخارجي وحده أن يبرز تشابك الحالات الوجدانية، بقدر ما يتاح لعنصر (الصورة) تحقيق ذلك، بما تنطوي عليه طبيعة (الصورة) من إيحاء آت ورموز وكشوف، تبلور التشابك المذكور...

وإليك المقطع رقم (2) من دعاء (العارفين) في الصحيفة السجادية:

(إلهي! فاجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم. فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون، وشرائع المصافاة يردون... إلخ).

هذا المقطع، مجموعة من (الصور) الفنية، تتوالى واحدة بعد الأخرى دون أن يتخللها تعبير مباشر.. فالقيم الوجدانية في هذا المقطع تتناول أغوار العلاقة بين الله والعبد من حيث (عمق المعرفة) التي لا تتأتى عند العامة من الآدميين، ومن حيث (عمق الوجد) الذي لا يتاح بسهولة لدى الغالبية منهم، وهو أمر يتطلب الركون إلى (تعبير مصور) من حيث ترسيخها وتغلغلها وتعمقها داخل النفس، فالشجر بقدر ما تمتد جذوره إلى باطن الأرض، يأخذ ثباتاً أشد، يقابله: الشوق الذي ترسخ إمكاناته بقدر ما يتكاثر ويتنامى. فهنا لو التجأ النص إلى التعبير المباشر لما زاد على ذلك بقولنا مثلاً: (اللهم! اجعل أشواقنا شديدة نحوك)، لكنه بارتكانه إلى عنصر (الصورة)، حقق ظاهرة تغلغل الشوق وشدته وتناميه؛ حيث نقل القارئ إلى تجربة ات الأخيرة منة ليوحي إليه كثافة الشوق. وكان من الممكن أن يكتفي النص بمجرد (الشجر) دون أن يضيف إليه (الحدائق) ما دام النمو يتحقق في أية أرض صالحة للزراعة، ولكن بما أن النص لم يستهدف مجرد تغلغل الشوق في الأعماق ليكتفي بالزرع، وإنما استهدف أيضاً الإشارة إلى المتعة الجمالية التي نشاهدها في (حديقة) تنتظم أشجارها وتتناسق، فتجمع إلى عملية (النبت): (التنظيم الجمالي) أيضاً، حينئذٍ فإن النص يكون قد استهدف لفت النظر إلى مدى الفرح والحبور اللذين تنشرهما محبة الله في صدور (العارفين) فيما يتحسسونهما ببالغ الجمال الذي يتلاشى معه أي إمتاع دنيوي عابر...

ولو ذهبنا نتابع سائر (صور) المقطع، للحظنا أمثلة هذه الظاهرة التي انطوت الصورة المتقدمة عليها، فيما لا حاجة إلى الوقوف عندها.

المهم: أردنا أن نلفت الانتباه إلى الأسرار الفنية الكامنة وراء حشد بعض الأدعية بعنصر (الصورة)، وضمور ذلك في سائر الأدعية، كما أردنا لفت الانتباه إلى الأسرار الفنية الكامنة وراء حشد غالبية الأدعية (على الضد في عنصر الصورة) بعنصر (الإيقاع) وصلة ذلك بعنصر (التلاوة) الذي يميز (الدعاء) عن غيره من فنون التشريع الإسلامي، بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه.