المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 041.doc

الــخــطبـة

 الخطبة شكل فني يعتمد الإثارة العاطفية عنصراً في صياغته. وبالرغم من أن العمل الفني بعامة يظل متميزاً عن التعبير العلمي بخلو هذا الأخير من العنصر العاطفي وتجسده في العمل الأول، لأن النسب العاطفية تحتفظ بتفاوت ملحوظ من شكل لآخر؛ ففي حين تكاد القصيدة الغنائية مثلاً تتمحض للعنصر العاطفي، نجد أن العنصر المذكور تضؤل فيه نسبة الأشكال الشعرية الأخرى، ويكاد يختفي في العمل القصصي في بعض أشكاله ويطغى في أشكال أخرى، وهكذا.

وفيما يتصل بالخطبة، فإن العنصر العاطفي يظل طابعاً ملازماً لهذا النمط من الفن، نظراً لطبيعة (الموقف) الذي يستدعيه.

ومن الحقائق المألوفة في حقل (الاجتماع) أن (الجمع) يكتسب سمة جماعية يفقد من خلالها كل فرد سمته الشخصية ليندمج في المجموع. وعملية الاندماج المذكورة تقوم أساساً على (عاطفية شديدة). ويحدد علماء الاجتماع ثلاث سمات لهذا الجمع هي: الاتهام، الإيحاء، العدوى، وكل من السمات المذكورة تقوم على الأساس الانفعالي الذي أشرنا إليه. ومعلوم أن (الخطبة) هي التي تضطلع بمخاطبة هذا (الجمع) فيما تستثمر هذه السمات لتمرير أفكارها التي تستهدف إيصالها للجمع، ومن ثم تستطيع الخطبة أن تكسب (الجمع) بنحو لا تستطيع الأشكال الفنية الأخرى أن تحققه.

المهم، مادام العنصر (الانفعالي) هو السمة المميزة لفن الخطبة، حينئذٍ فإن السمة المذكورة ستحدد أيضاً بناء الخطبة وسائر عناصر الشكل الذي تقوم عليه. وبالرغم من أن (الأساس الانفعالي) الذي تقوم عليه (الخطبة) تتطلب مجرد انتقاء (المواقف) وطريقة طرحها، إلاّّ أن الأدوات الفنية من إيقاع وصورة، ستساهم دون شك في تصعيد الموقف الانفعالي أيضاً.

من هنا تجيء الخطبة مماثلة لسائر أجناس الأدب الإنشائي من حيث توفر العناصر الأساسية الأربعة للفن وهي: الصوت والصورة والبناء والطرافة.

مع ذلك، فإن (السمة الانفعالية) لا تعد في كل الحالات أمراً ضرورياً في الخطبة، بخاصة فيما يتصل (بالفن التشريعي) الذي لا يلجأ في الغالب إلى الاستشارة العاطفية إلاّّ في نطاق تجارب الأرض إذ لا يمكننا - في الواقع - أن نقر الاتجاه الأدبي الذاهب إلى ضرورة طغيان العنصر الانفعالي في الخطبة، ما دمنا نلحظ نماذج كثيرة من أدب الخطبة تحتفظ بالموضوعية أو لا أقل بالنضج الانفعالي قبال الهياج العاطفي الذي لا يلتزم مع سوية الشخصية. هذا إلى أن كثيراً من المواقف لا تتطلب انفعالات حادة بقدر ما تتطلب طرح الظاهرة بنحو منطقي هادئ، كما لو كان الموقف يتصل بطرح مفهومات فلسفية عن الكون والمجتمع والإنسان مثلاً.

أخيراً، ينبغي ألاّّ نرسم حدوداً فاصلة بين ما ألفه الأدب الموروث من (الخطبة) وبين ما نألفه في حياتنا المعاصرة من شكل نصطلح عليه بـ(الكلمة). فكلتاهما - أي الخطبة والكلمة - تخضعان لنفس المعايير التي يستلزمها (موقف جمعي) مستعد للاستماع إلى معرفة حقيقة من حقائق الحياة الاجتماعية في تطلبها تغييراً اجتماعياً ما.

على أية حال، يعنينا من العرض المتقدم لفن الخطبة أو الكلمة، أن نتجه إلى (الأدب التشريعي) في هذا الصدد لملاحظة القيم الفنية والفكرية التي تنطوي عليها نماذج الفن المذكور.

وسلفاً، سنأخذ بنظر الاعتبار أن الأسس الانفعالية من جانب وإبقاء التخوم الفاصلة بين الخطبة والكلمة، سوف لن تبقى موضع عناية كبيرة في النموذج الذي نختاره، فضلاً عن إننا لا نحرص على عرض النماذج بكاملها، إما لعدم وصول البعض من الخطب إلينا كاملة أو أن الاكتفاء ببعض من أقسامها كاف في التعرف على قيم الخطبة فنياً وفكرياً.

 نموذج (1)

من خطبة للإمام عليّ (عليه السلام)، يقول فيها بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله): (أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال، ووقّت لكم الآجال، وألبسكم الرياش، وأرفع لكم المعاش، وأحاطكم بالإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ، وأنذركم بالحجج البوالغ وأحصاكم عدداً، ووظف لكم مدداً في قرار خبرة ودار عبرة أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها، فإن الدنيا رنق مشربها ردغ مشرعها، يونق منظرها ويوبق مخبرها، غرور حائل وظل زائل وسناد مائل، حتى إذا أنس نافرها واطمأن ناكرها قمصت بأرجلها وقنصت بأحبلها وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق المنية قائدة له إلى ضنك المضجع ووحشة المرجع... إلخ)

ثم تتجه الخطبة أو الكلمة إلى ظاهرة النشور حيث ينهي بذلك القسم ويعنينا من هذا النموذج أن نعرض عابراً إلى قيمها الفنية أولاً، حيث نلحظ (القيم الصوتية) متمثلة في ما أسميناه بـ(رياش، معاش)، ثم (التجانس) ثم (لتوازي). فالخطبة في غالبيتها ذات قرارات متنوعة (رياش، معاش - سو ابغ، بوالغ - حائل، زائل، مائل - إلخ) أما عنصر (التوازي) فيحتل مساحة ضخمة من النص تكاد تتكافأ مع مساحة (القرارات) ذاتها. ولنقرأ مثلاً:

مختبرون فيها - محاسبون عليها

رنق مشربها - ردغ مشرعها

يونق منظرها - يوبق مخبرها

قمصت بأرجلها - قنصت بأحبلها.. إلخ، حيث أن كل (قرار) مسبوق بجملة متوازية مع الأخرى: كما هو واضح.

أخيراً: (التجانس) الصوتي بين مختلف أنماط العبارة، حتى أن (الجملة المتوازية) أيضاً تخضع للتجانس بين أصواتها مثل (يوبق ـ قمصت، قنصت)، مضافاً إلى التجانس الذي يتجاوزها ليشمل فقرات لاحقة مثل الفقرات الثلاث:

(قمصت بأرجلها وقنصت بأحبلها وأقصدت بأسهمها) حيث يلاحظ إيقاعاً بالغ المدى في تجانس الأصوات الثلاثة (ص)، مضافاً إلى الصوت (س) في الفقرة الأخيرة، فيما تتجانس مع (ص) وانتسابهما مع حرف (الزاي) إلى مجموعة صوتية واحدة؛ كما هو واضح.

ونتجه إلى عنصر (الصورة) فنجدها محتشدة في المقطع الخاص بالحياة الدنيا. ولا نحتاج إلى أدنى تأمل لندرك السر النفسي وراء الارتكان إلى العنصر الصوري في هذا المقطع، متمثلاً في الحرص على تعرفها تماماً فيما يجيء العنصر الصوري معتقاً ومجلياً ومبلوراً مفهوم الحياة الدنيا، وفيما تتركز عندها وظيفتنا الخلافية فضلاً عما يتوقف عليها مصير الحياة الأبدية.

والمهم، أن العنصر الصوري يتلاحق في هذا المقطع الذي استشهدنا ببعض نماذجه المتصلة برنق المشرب وردغ المشرع وقمص الأرجل وقنص الأحبل إلخ... فلو وقفنا ـ على سبيل المثال ـ على الصورتين الأخيرتين (قمص الأرجل وقنص الأحبل)، لحظنا أنهما تنتسبان إلى خبرات مألوفة يومياً لكنها متسمة بالطرافة في الوقت ذاته وهما سمتا الصورة الناجحة فنياً، أي: قدرتها على الاستشارة. فقمص الأرجل هو (رفعها وطرحها معاً) وقنص الأحبل هو (الاصطياد بحبائلها)، وهذا يعني أن الصورتين تريدان أن تقولا لنا: أن الموت هو النهاية للحياة التي صوّرتها الخطبة قبل هذه الفقرات، إلاّّ أن هذا القول تم من خلال صورتين، أولاهما: تجسد عنصر (المباغتة) التي ترفع الأرجل وتضعها فجأة لينتهي كل شيء، والثانية: تجسد عنصر (المخادعة) التي تصطاد ضحيتها بشباكها.

إذن: كل من (المباغتة) و(المخادعة)، وهما ـ كما نعرف جميعاً ـ من أبرز مظاهر (الحرب)، وأنجح وسائلها في إحراز النصر، يظلان من سمات (الحياة الدنيا) في حربها مع الكائن الآدمي.. من هنا ينبغي أن ينتبه القارئ إلى أهمية هذا العنصر (الصوري) في الخطبة بالرغم مما يبدو للمتأمل العابر بساطة هذه الصور وألفتها في الحياة اليومية، إلاّّ أن هذه البساطة أو الألفة كانت من العمق والاصطفاء والغنى والتنوع إلى الدرجة التي جسدت من خلالها أبرز ما يمكن استخدامه في الممارسات العسكرية التي تفصح عن (العداء المستحكم) بين طرفي الحرب. ولا نعتقد أن ثمة صورة أخرى يمكنها أن تكشف لنا طبيعة المظهر الدنيوي في (محاربته) للآدميين واستخفاء ذلك عليهم، بمثل الصورة المتقدمة، بالرغم من بساطة الصورة وألفتها في الحياة اليومية وهي حركة الفرس المذكورة.

وهذا هو ما يفصل بين (فن تشريعي) لا يصدر عن بشر عادي، وبين (فن وضعي) لا يمكنه أن يحقق كل أطراف الصورة الناجحة بالنحو الذي لحظناه.

أما فيما يتصل بالعنصر الرابع من أدوات الفن ونعني به (البناء)، فلا يمكننا أن نتحدث عنه ما دمنا قد اخترنا قسماً من الخطبة؛ علماً بأن أهمية البناء الهندسي للنص لا يمكن أن يتضح إلاّّ بالوقوف على النص بأكمله. لكن مع ذلك يمكننا أن نتعرف بوضوح على (نمو) مقاطع هذا القسم الصغير الذي اقتطعناه من الخطبة حيث لحظنا كيف إنها ابتدأت بتعريف الوظيفة الخلافية لنا وانتقالها إلى رسم معالم (الحياة الدنيا) ثم انتقالها إلى حدث (الموت)، وانتقالها بعد ذلك إلى الحياة (الآخرة)، حيث أخذت كلا من التسلسل الزمن والنفسي بنظر الاعتبار، وهو أمر له أهميته الكبيرة في عملية الاستجابة الفنية للنص.

الآن، بعد أن لحظنا عناصر الإيقاع والصورة والطرافة والبناء، يتعين علينا أن نتجه إلى (قيمها الفكرية) وعناصرها (الانفعالية) بالنسبة للقارئ والمستمع وليس بالنسبة إلى صاحب الخطبة بطبيعة الحال. أما قيمها الفكرية فمن الوضوح بمكان ما لحظناه من خلال العرض السريع لأفكار الخطبة الحائمة على التعريف بطبيعة الحياة الدنيا، وموقعنا العبادي منها. وأما قيمها العاطفية، فقد لحظنا أن هذا العنصر قد صيغ بطريقة رصينة لا مجال للتهريج الانفعالي فيها، بل أن (المنطق) الممتزج بإثارة عاطفية هادئة هو السمة المحكمة للخطبة.

ولو تابعنا سائر أجزاء الخطبة، للحظنا أن هذا العنصر يتصاعد حيناً ويتراخى حينا آخر تبعاً للموقف النفسي الذي نستجيب له حيال هذه الظاهرة أو تلك. فمثلاً نجد أن (التصاعد) بالعاطفة يأخذ مساره حين نواجه هذه التحذيرات:

(فاتقوا تقية من سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، وعُبّر فاعتبر، وحذر فازدجر، وأجاب فأناب) بغض النظر عن الجمال الإيقاعي لهذه الفقرات التي احتفظت كل واحدة منها بـ(قرارين متصلين) مثل: سمع فخشع، اقترف فاعترف، وجل فعمل إلخ... وبغض النظر عن هذا الإيقاع الذي احتل له صياغة خاصة في هذا القسم من الخطبة وأهمية (التنوع) في أشكال الإيقاع من مقطع لآخر،... وبغض النظر عن هذا كله نجد أن الإيقاع بشكله المتقدم ساهم في (التصاعد) بالموقف العاطفي للمستمع والقارئ، حيث جاء توالي الفقرات وتوالي تجانسها بالشكل المتقدم متناسباً مع توالي (التحذيرات) التي تتصاعد بمشاعرنا إلى أن (ننفعل) أكثر بهذه التوصيات، وأن نتحمس بنحو أشد في الإفادة من التجارب، بحيث تصبح فرص (التعديل) لسلوكنا أكثر ملائمة في هذا الموقف.

ثم يتصاعد الموقف (الانفعالي) بنا نحو درجة أعلى حينما نواجه هذا التهديد:

(فهل ينظر أهل بضاضة الشباب إلاّّ حواني الهرم، وأهل غضارة الصحة إلاّّ نوازل السقم، وأهل مدة البقاء إلاّّ آونة الفناء؛ مع قرب الزيال وأزوف الانتقال، وعلز القلق، وألم المضض... إلخ)، أيضاً، بغض النظر عن العنصر (الصوري) الذي احتشد في هذا المقطع من الخطبة، بالقياس إلى العنصر (الإيقاعي) الذي احتشد في سابقه،... وبغض النظر عن هذا البناء الهندسي الذي يرسم حيناً في أحد جوانب العمارة هيكلاً إيقاعياً، وحينا آخر في جانب ثان منها يرسم هيكلاً صورياً، ويناسق بين مختلف الجوانب... وبغض النظر عن جمالية هذا المبنى الهندسي للخطبة، نجد أن (التصاعد) بالموقف الانفعالي يأخذ طابعه الملحوظ من خلال نقلنا إلى المواجهة المباشرة مع وقائع الحياة. فالهرم والسقم والقلق وسواها تشكل مظاهر يومية نأسى لها وننفعل بمشاهدتها لدى الآخرين أو لدى أنفسنا بالذات، فالشاب مثلاً حينما يواجه قريباً له قد احتوشه الهرم أو المرض الذي لا شفاء منه أو المرض الذي لا يسمح بممارسة العمل العبادي المطلوب... مثل هذا الشاب (ينفعل) بالضرورة، حيال مشاهدته أو تذكره بأمثلة هذه الوقائع التي يواجهها يومياً...

إذن: التصاعد العاطفي بلغ درجة أعلى من سابقتها في نطاق هذا الموقف الذي يتطلب مثل هذا التصاعد...

أخيراً، لو تابعنا تمام الخطبة المذكورة، لأدهشنا ما تنطوي عليه من قيم فكرية وعاطفية مصوغة بطرائق هندسية متنوعة من المد أو التراخي العاطفيين، فضلاً عن الصياغة الإيقاعية والصورية التي لحظنا جانباً من تنوعها وتواسقها، وفضلاً عن (البناء) الضخم الذي (يوحد) بين مختلف أفكار الخطبة وموضوعاتها، وهو أمر نحيله إلى القارئ ليمارس بنفسه عملية كشف لهذا النمط من الفن عند أهل البيت (عليهم السلام).

الخطبة المتقدمة تمثل نموذجاً من النصوص التي تعنى بقيم الإيقاع والصورة، مصحوبة بدرجات متفاوتة من ملاحظة البعد (الانفعالي) عند المتلقي تبعاً للموقف ومتطلباته.

قبال ذلك، نلحظ نماذج أخرى من الخطب التي لا تعنى بقيم الإيقاع والصورة بقدر ما تعنى بملاحظة الاستجابة الانفعالية عند المتلقي، أو لا تعنى بهذه السمة الأخيرة بقدر ما تعنى بالعنصر الإيقاعي والصوري، أو لا تعنى بهما جميعاً بقدر ما تحرص على إيصال حقيقة من الحقائق العبادية إلى الجمهور، معوضة عن القيم الصورية وغيرها بقيم الحديث المباشر مع الجمع. لكن وفق انتقاء للعبارة المثيرة، المتوازية هندسياً، المتعاقبة سريعاً، المنتقاة أصواتياً مع سهولة وإشراق وتمكن وليونة لفظية.