المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 003.doc

3-البلاغة والنقد

هنا ينبغي أن نشير إلى جنس أدبي آخر يرتبط بمصطلح (البلاغة) وهو (النقد الأدبي) الذي يعني: دراسة النصوص الأدبية أو الفنّية في ضوء (القواعد البلاغيّة)، أي: أنّ (النقد) هو عمليّة تطبيق لقواعد البلاغة: كما لو قمنا مثلاً بدراسة إحدى القصص وكشفنا ما فيها من خصائص إيجابية أو سلبيّة، معتمدين في ذلك على قواعد البلاغة في دراستنا للقصة المشار إليها، وفي هذا المجال تكون للنقد الأدبي قواعده الخاصّة التي تعتمد المعيار البلاغي في دراسته النصوص، بحيث يجسّد ضرباً مستقلاً من المعرفة.

والآن في ضوء الحقائق التي عرضنا لها يمكننا أن نقدّم مبادئ البلاغة وفق منهج يتوافق مع طبيعة الفن أو الأدب من حيث أدواته العقليّة والعاطفيّة والتخيّليّة، ومن حيث مادّته التي يتعامل بها، ومن حيث (عناصره) اللفظيّة والإيقاعيّة والصوريّة والبنائيّة والموضوعيّة والشكليّة.

عمليّاً إن هذه الأدوات والمواد والعناصر يظل بعضها خاضعاً لقواعد مشتركة، مثل الأدوات والمواد وأمّا العناصر فأيضاً: يظلُّ بعضها خاضعاً لقواعد مشتركة مثل (العنصر الموضوعي)، ومثل العناصر اللّفظيّة والصوريّة والإيقاعيّة والبنائيّة. ونجد بعضها الآخر خاضعاً لقواعد خاصّة بالعنصر الشّكلي الذي يخصّ أنواع الأدب أو الفن مثل: السّورة، القصّة، الخطبة.. إلخ، حيث إنَّ لكلّ نوع من هذه الأجناس الأدبيّة قواعد خاصّة به، على العكس من العناصر اللّفظيّة والصوريّة... إلخ، حيث تنسحب على كل الأشكال الفنيّة، فالتشبيه: مثلاً (وهو أداة صوريّة) يخضع لقواعد عامّة لا تخصُّ صياغته في قصيدة أو قصّة أو خطبة، بعكس عنصر الوزن الذي يخصّ القصيدة مثلاً، وعنصر الحوار الذي يخصّ المسرحيّة، أو عنصري السّرد والحِوار اللّذين يخصّان القِصّة، وهكذا...

وبالرغم من أنّنا نقتصر في تقديمنا لقواعد البلاغة على النّصوص الشّرعيّة فحسب (أي القرآن والسّنة)، إلاّ أنّنا نعرض ـ ولو عابراً ـ إلى الأشكال الفنيّة الأخرى، بُغية استثمارها إسلامياً ما دُمنا نُخضعها لمبادئ البلاغة.

ونبدأ بالحديث أوّلاً عن:

4ـ التعبير الفنّي أو النص الأدبي

أدواته، مادّته، عناصره.

1- أدواته: ويُقصد بها الأدوات الإدراكيّة أو الذهنيّة التي يتعامل معها النّص، وهي: العقل، العاطفة، الخيال.

2- مادّته: ويُقصد بها المواد الخام التي يتعامل معها النّص، وهي: الشّخصيّات، الحوادث، البيئات، القيم.

3- عناصره: ويُقصد بها العناصر التي تكوّن بمجموعها هيكل النّصّ الأدبي وهي: العنصر الفكري، الموضوعي، اللّفظي، المعنوي، الصوري، الإيقاعي، الشكلي البنائي.

ونقف مع كلّ واحدة منها، حيث نبدأ بالحديث عن:

5- أدوات الفن

كلّ تعبير فنّي لا بدّ أن يتعامل ذهنيّاً مع الأدوات التّالية: العقل، العاطفة، التخيّل.

أمّا العنصر (العقليّ) فلا بد من توفّره في الحالات جميعاً ما دامت العمليّات الذّهنيّة التي نصدر عنها في تعاملنا مع ظواهر الحياة، تقوم أساساً على التعامل مع (الواقع). صحيح أنّ البعض من النّاس يتعامل مع (الأوهام) أو مع (العواطف)، إلاّ أن هذه حالات استثنائيّة تتّصل بالمرض العقليّ أو النفسيّ للشخص. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإسلام (وهو يقوم أساساً على تحقيق مهمّة الخِلافة في الأرض) إنّما يعتمد (الواقع) و(الجدّيّة) في كلّ تحرّكات الإنسان ـ وليس الأوهام أو العواطف ـ حينئذٍ ندرك أهميّة التعامل (العقليّ) أو (المنطقيّ) مع حقائق الحياة.

لكن: بما أنّ عنصر (العواطف) يتميّز عن عنصر (الأوهام) بكونِه جزءاً من المهارات الذّهنيّة للإنسان، حينئذٍ فإن الصدور عن هذا العنصر (أي العواطف أو الانفعالات) يفرض مشروعيّته في حالات خاصّة مثل: البُكاء من خشية الله تعالى، أو تلاوة الدّعاء الذي يقترن بتصعيد عاطفيّ: حيث يساهم مثل هذا التصعيد في تعديل سلوك الإنسان، شريطة ألاّ تتحوّل حياة الإنسان إلى كتلة من العواطف والانفعالات بحيث يفقد صفة النضج والرصانة والسيطرة على الأشياء، ممّا يتنافى مع واقع التركيبة البشريّة التي يحتلّ (العقل) منها موقعاً رئيساً، بينا تحتلّ (العاطفة) موقعاً عرضيّاً تفرضه بعض المواقف: كما أشرنا.

من هنا جاء (الفن أو الأدب) ليسمح للعنصر العاطفي بالتحرّك في نطاق محدود، أي أنّ (العاطفة) تحتل نسبة ضئيلة من العمل الفنّي مقابل (العقل) الذي ينبغي أن يحتلّ المساحة الكبيرة منه. ويُلاحظ أنّ بعض المعنيّين بشؤون الأدب والفن يزعمون بأنّ العواطف أو (الذاتيّة) هي التي تميّز التعبير الفنّي عن التعبير العلمي وأن عنصر (العقل) أو (المنطق) بمثابة ضوء ينير المواقف العاطفية أو بمثابة لجام يضبط العاطفة من الاسترسال والهيجان. وهذا المعيار ـ في التصوّر الإسلامي ـ غير صائب، لأنّ المفروض ليس هو أن نتحرّك عاطفيّاً ثمّ نضبطه بنور (العقل)، بل المفروض أن نتحرّك عقليّاً ثمَ نسمح للعواطف بأنْ تتحرّك نسبيّاً في نطاق لا يخرج الشخص عن خط الاستواء النفسي. إنّ الغضب مثلاً أو الفرح الشديد أو القهقهة مثلاً، أو شق القميص أو ضرب اليد على الأرجل: عند المصيبة مثلاً، تُعد تعبيرات عاطفيّة يضؤل فيها عنصر العقل ويتضخّم فيها العنصر العاطفيّ كذلك، فإنّ التّضخّم العاطفي ـ في بعض نصوص الأدب ـ ينبغي أنْ يظلّ محكوماً بنفس المعيار.

من هنا، فإنّ القاعدة البلاغيّة في هذا الميدان تتحدّد: بأن يظلّ العنصر العقليّ هو الغالب، ويظلّ العنصر العاطفيّ بمثابة محطّة توقّف أو استراحة أو تلطيف للموقف: عدا حالات خاصّة تتطلّب التصعيد العاطفيّ مثل: حَمْل الناس على التوجّه إلى ساحات القتال أو تشويقهم إلى الجنّة أو تخويفهم من المعاصي... إلخ.

وأمّا عنصر (التخيّل) فهو بدوره ينبغي أنْ يحتلّ نسبة محدّدة من النّص الأدبي للسبب ذاته. فإذا كان الأصل في سلوك الإنسان أنْ يتعامل مع (الواقع) فإنّ الخروج منه إلى ما هو (وهم) أو (مُتخيّل) يظلّ محظوراً دون أدنى شك: كلّ ما في الأمر أنّ إدراك الواقع من خلال المهارات الذهنيّة التي يُسهم (التخيّل) فيها يتطلّب حيناً أنْ يعتمد عنصر (التخيّل) في تحقيق ذلك. ومن المعلوم أنّ (التجريد) – وهو من عمل الخيال ـ يظلّ واحداً من أهم عناصر (الإدراك) حيث يقوم ـ في بعض وظائفه على ربط الأشياء بعضها مع الآخر من خلال علاقات التشابه والتباين بينها، كما أنّ من مهمّته إحداث علاقة جديدة بين الأشياء التي لا علاقة بينهما في عالم الواقع. والفارق بين النمط الأوّل من عمل الخيال وبين النمط الأخير هو: أنّ ربط الأشياء بعضها مع الآخر يظلّ جزءاً لا ينفصل عن مهارات الذهن الرئيسيّة، فنحن حينما نواجه شيئاً جديداً إنّما نربطه بخبراتنا السابقة، وهذا على الضد من النمط الأخير من عمل الخيال، أي (إحداث علاقة جديدة بين الأشياء التي لا علاقة بينهما في عالم الواقع) حيث أن هذا العمل لا يتم إلاّ في حالات خاصّة يستحضرها الشخص في ذهنه بنحو مقصود (وليس بنحو عضوي كما هو طابع العمل الأول من الخيال) كما لو أراد شخص مثلاً أنْ يُحدث علاقة بين مفهوم (القناعة) وبين (الكنز) أو (المال) الذي لا ينفد، فيقول: (القناعة كنز لا ينفد) مستهدفاً من ذلك تعميق مفهوم القناعة في ذهن الإنسان، حيث لا علاقة ـ في عالم الواقع ـ بين الكنز أو المال الّلذين يمثّلان عيّنة حسّيّة وبين القناعة التي تمثّل سمة نفسيّة أو عباديّة. من هنا يجيء عنصر (التخيّل) ـ في صعيد ما أشرنا إليه ـ موسوماً بأهميّة كبيرة في ميدان العمل الفنّي ما دام مستهدفاً تعميق الحقائق وتوضيحها.

بيد أن (التخيّل) ينبغي إسلاميّاً ـ أن يستند إلى ما هو مرتبط بـ(واقع) حسيّ، أو نفسيّ، أو غيبيّ، وليس إلى واقع (وهمي) لا سند له في التجربة البشريّة. لذلك فإنّ ما يميّز مادّة (التخيّل) في النصوص الأدبيّة الإسلاميّة هو ارتكانها إلى الحقائق الثلاث: الواقع الحسيّ أو النفسيّ أو الغيبيّ... وهذا على العكس من النصوص الأرضيّة التي يكتبها البشر المنعزلون عن الله تعالى ورسالاته، حيث يجنحون في الكثير من أعمالهم الأدبيّة إلى (الأوهام) أو يركنون إلى (الأساطير) في عرض الحقائق... فعندما يوجد الإمام علي (عليه السلام) علاقة بين الكنز أو المال وبين القناعة إنما يرتكن في (عمليّة التخيّل) إلى واقع (حسّيّ) هو الكنز أو المال وعندما يشبه النّبي (صلى الله عليه وآله) شعور المؤمن بالذنب بالجبل الجاثم على صدره، إنما يرتكن في (عمليّة التخيّل) إلى واقع (نفسيّ) هو شعور المؤمن بضخامة ما مارسه من المعصية، لأن المهم ليس هو وقوع الجبل فعلاً على قلب المؤمن، بل انعكاس ذلك على أحاسيسه... وعندما يقول (عليه السلام) عن المؤمنين: (وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم فظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم) إنما يرتكن في (عمليّة التخيّل) إلى واقع (غيبيّ) هو الشعور بزفير جهنم وشهيقها من خلال الواقع (الغيبي) الذي يستشرفه المؤمن. لكن عندما يمتدح الشاعر أحد الأشخاص بالبطولة، ويقول بأنّه قد أرعب ببطولته حتّى النطف التي لم تُخلق بعد، إنّما يرتكن في (عمليّة التخيّل) إلى واقع (وهميّ) لا أساس له في تجارب البشر حسيّاً أو نفسيّاً أو غيبيّاً. وهذا هو ما يميّز عنصر (التخيّل) في البلاغة الإسلاميّة وافتراقها عن البلاغة الأرضيّة.

إذاً: أدوات البلاغة تعتمد أساساً (العقل أو المنطق)، وتعتمد العنصر (العاطفيّ) بصورة ثانويّة تتطلّبها مواقف خاصّة، وتتوكّأ على (الخيال) الواقعي في ربط الأشياء بعضها مع الآخر على نحو ما يتوفّر عليهِ الكتاب الكريم والنصوص المأثورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السّلام)، وفق (مواد) خاصّة تقوم على ما أسميناه بـ: