المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 027.doc

الحوار الصامت

وهو نوع من الحوار (بالقوة) أيضاً - مثل الحوار الفرضي والرمزي - إلا أنّه يفترق عنهما بكونه: لم يُترجم إلى كلام فعلي، بل أنّ (صمته) هو (حوار) بدون النطق،... وهذ ا من نحو قوله (عليه السلام) عن الموتى:

(فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجسام النواعم، ولبسنا أهدام البلى... إلخ).

فالموتى صامت خلال (التعم، إلاّ أنّ لسان حالهم هو: ما نطقت به العبارات الحوارية المشار إليها.

أمّا المسوّغ الفني لمثل هذا الحوار، فأمرٌ واضح؛ ما دام الميت (يعي) - في حياة البرزخ - كل ما يجري حوله، ويأسف لما فاته - في دنياه - من ممارسة العمل الذي ينتفع با أخروياً...

 حوار الرسائل:

وهو نمط من الحوار مع النفس، إلا أنّه حوار (مكتوب) وليس (منطوقاً). هذا من نحو قوله (عليه السلام) لمن اشترى داراً، واقتراحه (عليه السلام) بكتابة الوثيقة التالية:

(هذا ما اشترى عبدٌ ذليل، من عبدٍ قد أزعج للرحيل، اشترى منه داراً من دار الغرور... إلخ).

فالحوار هنا نوع من الحوار مع النفس، إلاّ أنه بدلاً من مخاطبة النفس بأنها قد تعاملت مع دار مؤقّتة من متاع الحياة الدنيا، اتجه بكتابة ذلك بدلاً من أنْ ينطق به، ويفكّر به مع نفسه.

والمسوّغ الفني لمثل هذا النمط من الحوار، يتمثّل في أنّ شراء الدار يقترن عادة بالتدوين لتثبيت حق الملكية وحينئذٍ فإنّ محاورة النفس من خلال (الكتابة) تظلّ متجانسة مع السياق المذكور.

الحوار وأطرافه

لحظنا، أنّ الأشكال المتقدمة من الحوار، تنحصر في نمط واحد هو (العنصر البشري)... إلاّ أنّ (الحوار) ما دام مجسداً للمحادثات بين الأطراف، فإنّ هذه الأطراف تتسع لتشمل المخلوقات الأخرى: كالملائكة والطير والنمل و... إلخ، بل تتّسع وتشمل الظواهر الطبيعية من سماء وأرض... إلخ.

إلاّ أنّ الأهم من ذلك هو: التحاور مع الله تعالى بالنسبة إلى مخلوقاته، وتحاورهم بالنسبة إلى الله تعالى، من خلال أدوات خاصّة، ينبغي أن نعرض لها...

لذلك، نبدأ بعرض هذا الجانب أوّلاً، ثم نعرض لأطراف الحوار الأخرى، مما أشرنا إلى بعض نماذجها.

إذن: لنتحدث أولاً عن:

 حوار السماء (أو المحاورة الخاصة):

هناك نمط خاص من (المحاورة) يتفرد بكونه محاورة تجري بين طحاورة تجري بين طمخلوقات... ولابد لهذا النمط من المحاورة أنْ يتفرّد بخصائص تتناسب مع طبيعة السماء التي تتنزه عن التجسيم أو الحدوث بعامة. لذلك يظل هذا النمط من التحاور (رمزياً) في طابعه في جميع الحالات.

ويمكن شطر هذا النمط من المحاورة إلى قسمين:

- محاورة السماء مع المخلوق.

- محاورة المخلوق مع السماء.

ونقف أولاً مع:

محاورة السماء مع المخلوقات:

تتخذ هذه المحاورة مع المخلوقات طابعين:

1- الطابع الخطابي:

وهو أنْ (يخاطب) الله تعالى المخلوق بتعبير من نحو: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ...).

وهو نمطان:

-تساؤلي: مثل (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها).

وهذا النمط (أي الحوار التساؤلي)، قد يقترن بجواب من السماء ذاتها، وقد لا يقترن.

ومن أمثلة النمط المقترن بالجواب قوله تعالى: (أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ... بَلى...).

- طلبي: وهو نمطان:

1- يعتمد أداة المخاطبة (النداء) مثل (يا..)

2- لا يعتمد الأداة المذكورة،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إلى أَمْوالِكُمْ...)

 الطابع الخطابي والانفرادي:

ويُلاحظ أنّ هذا النمط من الحوار يتّسم بكونه (انفرادياً) يصدر عن الله تعالى، دون أنْ يقترن بجواب من الطرف الآخر... والسر في ذلك: أنّ الله تعالى يتقدم بتوصيات عبادية من أجل توصيلها فحسب، دون أنْ تكون هناك ضرورة لأنْ تقترن التوصيات بإجابة (لفظية) من الطرف الآخر، لأنّ المهم هو العمل بالتوصيات: كما هو واضح. كما أنّه تعالى (بالنسبة لسائر المخلوقات) يستهدف إبراز قدرته وهيمنته تعالى، فيما لا حاجة أيضاً لأنْ يقترن ذلك بجواب من الطرف الآخر، بشراً أم سواه...

2- الطابع الذاتي:

وهو أن يتمّ التحاور من خلال نسبة القول إلى الله تعالى... وهذا من نحو: (اسْجُدُوا لآدَمَ...).

وهذا النمط من التحاور يجري وفق مستويين: (ضمير المتكلم، الغائب):

- فالأول من نحو قوله تعالى:

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ...).

- والآخر من نحو قوله تعالى:

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...).

أطراف المحاورة:

محاورة السماء مع المخلوقات قد تخص البشر وحده، وقد تخص المخلوقات المتنوعة من إنسان وملائكة وجن وجماد وحيوان إلخ... وهو نمطان أيضاً:

1- المحاورة الانفرادية غير المقترن بجواب مثل:

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ...).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ...)

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ...).

2- المحاورة المشتركة:

إنّ محاورة السماء مع المخلوقات قد لا تقترن بجواب كما لحظنا في النصوص المتقدمة، للأسباب التي ذكرناها، وقد تقترن بجواب، حيث إنّ بعض المواقف تتطلب ذلك كما سنوضّحها بعد، وهذا ما يقتادنا إلى النمط الآخر من محاورة السماء المقترنة بالجواب، وهذا مثل:

- التحاور مع البشر:

وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ).

- التحاور مع الملائكة:

وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها...).

- التحاور مع المخلوقات المادية:

وهذا من نحو قوله تعالى:

(فَقالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

فالملاحظ في هذه النماذج، أنّ البشر والملائكة والسماء والأرض قد حاورها الله تعالى وتحاورت بدورها مع الله تعالى...

والمسوّغ الفنيّ لأمثلة هذا (التحاور المشترك)، أنّ طبيعة الموقف تستدعي جواباً من الطرف المتحاور مع الله تعالى... فعيسى (عليه السلام) عندما يُوجه إليه السؤال عن أنّه هل قال للناس باتخاذ الشركاء لله تعالى، كان من الطبيعي أنْ يُجيب بالنّفي؛ حيث أنّ المسوّغ للسؤال والجواب هو: زعمهم ذلك، أو إرادته تعالى بأنْ يوضّح بأنّ اتخاذهم الشركاء إنما هو مجرّد زعم لا واقع له في أيّة وثيقة يستند إليها. كما أنّ محاورته مع الملائكة وإجابتهم بوجود تجربة سابقة في الأرض استتلت الفساد وسفك الدماء، كان المسوّغ له هو إبراز القصور العلمي لدى الملائكة من جانب، وإكساب الخليفة الأرضي طابعاً علميّاً يفوق معرفة الملائكة من جانب آخر، بدليل أنّهم عجزوا عن إنبائه تعالى بالأسماء، بينا أنبأهم آدم بذلك، حتى اضطرّوا إلى التسليم بهذه الحقيقة.

وأمّا محاورته تعالى مع السماء والأرض وقوله بأن يأتيا طوعاً أو كرهاً وإجابتهما بأنّهما يأتيان طوعاً فإنّ المسوّغ له يظلّ مرتبطاً بإبراز قدرة الله تعالى وهيمنته على الكون ممّا ينبغي أنْ يعتبر البشر بها في تطوعهم بما أمروا به عبادياً.

 محاورة المخلوقات مع الله تعالى:

يتمّ تحاور المخلوقات مع الله تعالى على مستويين:

1- التحاور الانفرادي.

2- التحاور المشترك.

- التحاور المشترك:

وهو أنْ يتحاور العبد مع الله تعالى في قضية خاصة تستتلي الجواب من الله تعالى،... وهذا من نحو:

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ...).

والمسوّغ الفني لمثل هذا التحاور: يتمثّل في كون زكريا قد طلب آية على عملية الإنجاب من عاقر، فحينئذٍ يستتلي ذلك إجابة على سؤاله.

- التحاور الانفرادي:

وهو أن يتحاور العبد مع الله تعالى في قضية خاصّة: لا تستتلي ضرورة الاقتران بجواب من الله تعالى،... وهذا على نحوين:

1- تحاور خاص: وهو يجري في حالات خاصّة ترتبط ـ غالباً بسلوك الشخصيات المصطفاة، وهذا من نحو:

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي...) حيث طلب سليمان من الله تعالى أنْ يهب له ملكاً، وحينئذ سخّر الله له ما طلب دون أنْ يخاطبه بكلام بل استجاب دعاءه، وسخر له الريح والشياطين: (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ...)، فالملاحظ هنا أنّ الله تعالى حقّق له الطلب دون أن يخبره (من خلال المحاورة)، حيث لا ضرورة للمحاورة، ما دام الهدف هو تحقيق الحاجات التي طلبها سليمان.

- التحاور العام: وهو أن يتحاور العبد مع الله تعالى، خلال الذكر والدعاء والمناجاة ونحو ذلك ممّا يتّصل بتعامل الإنسان وجدانيّاً وعباديّاً مع الله تعالى... وهو يشمل الأشخاص المصطفين والأشخاص العاديّين أيضاً، بصفة أنّ الدعاء ونحوه هو: ممارسة عامة قد فرضها الله تعالى على عباده، وأمرهم بإيقاعها،... وحينئذٍ يظلّ هذا النوع من التحاور (انفرادياً لا يقترن بالجواب؛ نظراً لكونه جزءاً من سائر ممارسات الإنسان العبادية مثل الصلاة، الصوم،... إلخ.

أطراف الحوار الأخرى

الأشكال المتقدمة من (الحوار) تخص (النماذج البشرية) عدا أحد أشكالها الخاصة بالتحاور مع السماء... إلاّ أنّ الحوار لا ينحصر طرفاه أو أطرافه في مخلوقات بشرية، بل يتجاوزها إلى أطراف غير بشرية: (مثل الملائكة، الجن، الطيور) بل يتجاوزها إلى مخلوقات أو ظواهر تنتسب إلى النبات وُمْ: مَنْ خً، وحتى إلى ظواهر (معنوية) مثل: الحياة أو الأخلاق حيث (تُخاطب) هذه الظواهر، أو يجري الحوار من خلالها بحيث تُمنح سمة (النطق) على نحو الاستعارة.

وبعامّة، يمكن تصنيف الأطراف الحوارية إلى نمطين:

1- طرف بشري مع طرف غير بشري.

2- أطراف غير بشرية مع أطراف مماثلة لها.

- النمط الأول: وهو الحوار البشري مع أطراف غير بشرية: وهذه الأطراف على أنماط متنوعة، منها:

- الحوار مع الملائكة: وهذا من نحو محاورة الملائكة مع مريم (عليها السلام):

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ...).

- الحوار مع الجن: وهذا من نحو محاورة سليمان مع الجن:

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ).

- الحوار مع الحيوانات: وهذا من نحو محاورة سليمان مع الطائر:

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ).

إنّ المسوغ الفني لأمثلة هذا (الحوار) بين طرف بشري وطرف غير بشري هو: طبيعة (الواقع) الذي فرض ذلك، فمريم (عليها السلام) قد بشرت من قبل الملائكة؛ نظراً لكونها شخصية مصطفاة، تتعامل مع ظواهر إعجازية... كذلك سليمان (عليه السلام) في محاورته مع الجن والطير؛ حيث سخّر الله له ذلك؛ لكون شخصيّته مصطفاة تتعامل مع ظواهر إعجازية أيضاً...

النمط الثاني: وهو الحوار غير البشري مع طرف مماثل له: وهذا من نحو قول النملة لزميلاتها:

(يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ).

ومن نحو قول نفر من الجن إلى زملائهم:

(يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً...).

واضح، أنّ المسوغ الفني لهذا الحوار هو: لفت النظر إلى التركيبة الحيوانية وكونها تمتلك غريزة (الدفاع)، فضلاً عن (الوعي) و(اللغة الخاصة) بها كما أنّ المسوغ الفني لإبراز الحوار بين الجن هو: لفت النظر إلى رسالة الإسلام التي آمن بها (الجن) - مع أنّ القرآن نزل على قوم ليس من جنسهم - حتى يتعظ العنصر البشري ويتعمّق إيمانه... وهذا يعني أنّ تنوع الأطراف الحوارية وتجاوزها إلى غير البشر، إنّما وُظف من أجل أهداف عبادية تخصّ البشر.

 صيغ الحوار:

الحوار تتم صياغته من حيث مراحله وفق مرحلتين:

1- مرحلة المقول.           2- مرحلة التخاطب.

والأولى - في غالب النصوص - هي ما تتصدر الحوار من الأداة المعروفة (قال) ونحوها... إلاّ أنّ هذه الأداة قد تُحذف، مثل: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) حيث حذفت الأداة (يُقال) أو (قيل) ونحوهما، وذلك أنّ عبارة (أدخلوا...) لابدّ أن تتصدرها عبارة (ويقال لهم) أو (فتقول الخزنة).

وأمّا الأخرى - أي الصيغة الخطابية - فقد تتصدرها الأداة (يا...)، وقد لا تتصدرها كما لحظنا في نموذج (وآتوا...).

وأما من حيث نمطه فينشطر إلى:

1- حوار خطابي.              2- حوار تساؤلي.

والأول هو ما يوجه إلى الآخرين أو الذات (أي الخارجي والداخلي).

والآخر هو ما يتمّ من خلال الاستفهام والتعجب... وباقي الصيغ الإنشائية وغيرها ممّا يذكرها البلاغيون والنحويون.

ونترك صياغة الألفاظ ـ من حيث صلتها بالحوار والسرد ـ ونتّجه إلى صياغة ضمائرها التي تتنوع إلى ثلاث صيغ (الغائب والمخاطب والمتكلم) وندرجها ضمن عنوان:

الضمائر

المقصود بـ(الضمائر) هو: صياغة العبارات أو الألفاظ (بنمطيها: الحوار والسرد) بأشكالها اللغوية الثلاثة (صيغة الغائب والمتكلّم والمخاطب).

فالنّص الأدبي يكتب بواحد أو باثنين أو بثلاثة صيغ لا غير(1).

وحينئذ فإن انتخاب أحدها أو بعضها أو جميعها، يخضع لنكات بلاغيّة ينبغي أن نعرض لها تفصيلاً.

ونبدأ بالحديث أوّلاً عن:

وحدة الضمائر أو الصيغ

1- ضمير الغائب: إن الأصل في عرض الحقائق هو أن تكتب بصيغة الغائب بصفة أنّنا عندما نتحدّث عن سلوك شخص أو وقوع حادثة أو وصف بيئة أو تقويم فكرة، إنّما نتحدّث عنها من حيث كونها ظاهرة (غائبة) ليست موضع مخاطبتنا، ولا موضع حديث عن أنفسنا، بل موضع حديث عن شيء (غائب) عنّا...

لذلك نجد أن أمثلة هذه الظواهر تكتب بصيغة الغائب مثل قوله تعالى: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِياتِ قَدْحاً... إلى آخره).

وقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ... وَامْرَأَتُهُ...).

وقوله (عليه السلام): (الأعمال بالنيّات).

وقوله (عليه السلام): (القناعة كنز لا ينفد) حيث تتحدّث هذه النصوص عن وقائع وشخصيّات وقيم (تخبر) عنها، بحيث تتطلّب كتابتها بصيغة الغائب الذي يتناسب مع عمليّة الإخبار عنه.

إلاّ أن الملاحظ أن هذا الأصل ليس (ثابتاً) بقدر ما يشكّل غالبيّة التعبير.

لذلك، فإن الموقف أو السياق إذا تطلّب بطبيعته أن يكون متّجهاً إلى مخاطبة الشخص أو الشيء، أو إذا تطلّب بطبيعته أن يتحدّث عن المتكلّم نفسه، عندئذ فإن ضميري (الخطاب) و(التكلّم) يفرضان ضرورتهما في أمثلة هذه المواقف. فبالنسبة إلى:

2- ضمير المخاطب: هذا الضمير يفرض ضرورته في جملة سياقات منها:

- أن يوجّه إلى صاحب النص مثلاً سؤالاً خاصاً، مثل قول أحدهم للإمام (عليه السلام) أوصني، حيث أجابه (عليه السلام): (لا تحدّث نفسك بفقر ولا طول عمر)... ومنها:

- أن يتجّه صاحب النص إلى شخصيّة خاصّة أو عامّة بكلام، مثل قوله (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): (أوصيك بتقوى الله...) ومنها:

- أن يتجه صاحب النص إلى مطلق الناس في حثّهم على ممارسة عمل من الأعمال كما لو خاطبهم في حشد أو بصورة مطلقة مثل قوله (عليه السلام): (أيها الناس، إيّاكم وحبّ الدنيا فإنها رأس كل خطيئة)... ومنها:

ـ ما يتّصل بأدب الرسائل والقصص، حيث يتّجه صاحب النص إلى مخاطبة الآخرين برسالة وجدانيّة أو إدارية... إلى آخره، أو تكتب قصّة أو رواية من خلال أسلوب خاص هو: ما يصطلح عليه بالقصّة (الرسائليّة)... وبالنسبة إلى:

3- ضمير المتكلّم: يفرض هذا الضمير ضرورته في سياقات متنوّعة كما لو يتحدّث فيها النص عن تجربة شخصيّة له، مثل قوله (عليه السلام) لمن قال له (فيك عظمة) فأجاب (عليه السلام): (بل فيّ عزّة)... ومنها:

- أن يتحدث صاحب النص عن نفسه ولكن يستهدف عن ذلك لفت نظر الآخرين، مثل قوله (عليه السلام): (ما أهمّني ذنب أمهلته حتى أصلّي ركعتين) ومنها:

- قصّة الحوار الداخلي: ويقصد بها نوع من الأدب القصصي الذي يعتمد (الحوار الداخلي) أسلوباً له، بحيث تكتب القصّة بلغة المتكلّم الذي يتحدّث مع نفسه.

ويندرج ضمن هذا النوع، ما يسمّى بقصة (السيرة الذاتية) حيث يتحدّث القاص عن سيرته الشخصيّة بضمير المتكلّم...

ـــــــــــــ

الهامش

(1)- نفضّل استخدام الصيغ اللفظية بدلاً من الضمائر نظراً لكونها تشمل مطلق العبارات (بما فيها العبارة المجردة) أو الجملة المجردة التي لا تشتمل على ضمير بارز أو مستتر أو متصل أو منفصل، ولكننا نعتبرها ذات صيغة (غائبة) إذا لم تقترن بأحد الضميرين (المتكلم والمخاطب، أي أن السرد) مقابل الحوار، يتضمن بالضرورة صيغة (غائبة). فعندما نقول مثلاً: (جاء الحق) أو (الصلاة واجبة) يعد هذا السرد مكتوباً بصيغة (الغائب) حتى لو لم يشتمل على أحد الضمائر المعروفة.