المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 018.doc

التقابل المتوازن الأطراف

عندما تتعدّد أطراف التقابل أو تتكرّر أو يفصّل الحديث عنها، حينئذ فإنّ التفصيل أو التكرار أو التعدد يأخذ ثلاثة إشكال من الصياغة:

1- الصياغة الاعتيادية التي تخضع لمتطلّبات الموقف، مثل قوله تعالى: (ثُمَّ كانَ مِنَ الذينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) فالملاحظ هنا أن النص (قابل) بين أصحاب الميمنة والمشأمة من خلال كون أولاهما متميزة بـ(الإيمان) و(الصبر) و(المرحمة) وكون أخراهما متميّزة بـ(الكفر) وإنها من أصحاب الجحيم.

فالتقابل بين الفريقين جاء متفاوتاً، حيث أن الموقف فرض تفصيلات لأصحاب الميمنة مختلفة عن التفصيلات المرتبطة بأصحاب المشأمة.. وهذا النمط من الصياغة يختلف عن نمط آخر هو:

2- الصياغة المتوازنة التي تجعل التفصيلات فيما بين طرفي التقابل (متوازنة) وهذا التوازن يأخذ أشكالاً متنوعة، منها ما يتصل بـ:

1- التوازن الكمّي: ونعني به (التوازن) بين المفردات المتقابلة فيما بينها، وهي متنوعة منها:

  أن يتوازن الطرفان في سمة واحدة: مثل قوله تعالى: (إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) حيث (توازنت) سمة (نعيم) مع سمة (جحيم) المقابلة لها..

 أن يتوازن الطرفان في سمتين:

مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) حيث (توازنت) سمتان اثنتان هما (طغى) و(آثر) مع السمتين المقابلتين لهما، وهما (خاف) و(نهى)....

 أن يتوازن الطرفان في ثلاث سمات أو أكثر:

مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) حيث (توازنت) ثلاث سمات هي (أعطى) و(اتقى) و(صدق) مع سمات ثلاث مقابلة لها، وهي (بخل) و(استغنى) و(كذّب)...

ومن الواضح أن لكل من هذه الأعداد مسوغاته الفكرية والفنية... حيث كان المسوغ لجعل التوازن في سمة واحدة هو: أن النص كان في صدد المقابلة بين (الأبرار) و(الفجار) بنحو مطلق من الجزاء الأخروي، وهو: النعيم أو الجحيم... وحيث كان المسوغ لجعل التوازن في سمتين، هو: أن النص كان في صدد الحديث عن ظاهرتين من سلوك الإنسان، وهما: المرحلة النظرية: (وهي: الخوف أو عدمه) والمرحلة العملية (وهي: ممارسة الفعل متمثلة في نهي النفس عن الهوى مقابل الانصياع له)... وحيث كان المسوغ جعل التوازن ثلاث سمات، هو: أن النص كان في صدد التأكيد على ثلاث ظواهر يستهدفها، وهي: الإنفاق، والتقوى، والتصديق باليوم الآخر، بصفة أن الإنفاق يظل واحداً من أهم المبادئ التي يركز النص القرآني عليها في ميدان السلوك بصفة أن التقوى تجسيد لقمة العمل العبادي، وبصفة أن الإيمان باليوم الآخر واحداً من أهم المبادئ التي تحمل الشخص على ممارسة الإنفاق والتقوى... طبيعياً أن كل واحد من المبادئ الإسلامية يظل موضع اهتمام المشرّع الإسلامي، إلا أن النص الفني بما أنه يستهدف في كل سورة ـ أو أي نص شرعي آخر ـ أن يطرح مبدأً خاصاً، حينئذ فإن هذا الطرح يكتسب أهميته التي يستهدف لفت النظر إليها، وهذا هو ما يميز النص الأدبي عن سواه، حيث يمكن حشد كل المبادئ أو القوانين في نص واحد (في ميدان اللغة العادية)، بينا يتعين (في ميدان اللغة الفنية) أن توزع المبادئ على نصوص متفرقة، يطرح في كل واحد منها مبدأ أو أكثر حسب السياقات التي تفرض ذلك.

بغض النظر عمّا تقدم، فإن ما يعنينا من ذلك هو: أن نشير إلى أن هذه المستويات من (التقابل المتوازن) تظل مرتبطة بـ(التوازن الكمي).. وهناك نمط آخر، هو:

2- التوازن النوعي:

ونعني بهذا النمط من (التقابل المتوازن): توازناً بين (الدلالات) المتقابلة فيما بينها، وهو توازن يتمثل في:

1- التوازن بين الطرفين الأولين من الأطراف المتقابل فيما بينها... مثل قوله تعالى:

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ).

حيث توازن كل من الطرفين الأولين: (أعطى، اتقى، صدق) مقابل (بخل، استغنى، كذب).

2- التوازن بين الطرفين الآخرين من الأطـراف المتقابلة فيما بينها... مثل قوله تعالى: (إِنَّ الذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

حيث توازن الطرفان الآخران (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

3- التوازن بين الأطراف الأربعة المتقابلة فيما بينها... مثل قوله تعالى:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)

حيث توازنت الأطراف الأربعة (افلح، خاب) وهما الطرفان الأوليان، مع (زكاها، دساها) وهما الطرفان الآخران.

 التقابل المتداخل الأطراف:

وهو نوع من التقابل الذي تتداخل أطرافه: بعضها مع الآخر، بحيث يفضي مثل هذا التداخل إلى الموازنة بين طرفي التقابل، وهذا مثل قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)، حيث أن التداخل بين الفجور والتقوى، وأفلح وخاب، وزكاها ودساها، قد تم من خلال توازن كل من (التقوى) و(أفلح) و(زكاها) مع ما يقابلها من السمات الثلاث: (الفجور) و(خاب) و(دساها).

 

التقابل الرمزي:

ونقصد بهذا النمط من (التقابل) أن يكون أحد طرفي التقابل أو كلاهما (رمزياً) يشير إلى دلالته بلفظ آخر يحمل نفس معنى التقابل... وهذا يتم على نحوين:

1- أن يكون أحد طرفي التقابل صورة رمزية، مثل قوله تعالى: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ...) (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ...) فالطرف الأول من التقابل (وهو: أفمن كان ميتاً.. إلخ) يجسد عبارة رمزية تشير إلى دلالة خاصة هي مفهوم (النور) مقابل الطرف الآخر وهو (الظلمات) لأن من كان ميتاً فأُحيي، إنما يرمز إلى من كان ضالاًّ فهُدي، وهو ما يقابل رمز (النور) بالنسبة إلى الطرف الآخر، وهو قوله تعالى: (كمن هو في الظلمات؟)...

2- أن سكون أحد طرفي التقابل عبارة مباشرة وليست رمزية، بحيث تشير هذه العبارة إلى طرف (محذوف)،... وهذا من نحو قوله (عليه السلام) لمن سأله أن يصف العاقل قائلاً: (هو الذي يضع الشيء مواضعه) ثم قيل له: صف لنا الجاهل، فقال (عليه السلام): (قد فعلت)... فإن عبارة (قد فعلت)، تشير إلى طرف التقابل المحذوف، وهو (الجاهل) أو الشخص الذي لا يضع الشيء مواضعه، مقابل (العاقل) أو الشخص الذي يضع الشيء مواضعه.

والأهمية الفنية لمثل هذا النمط من التقابل هو: الاقتصاد اللغوي، فضلاً عن سماحه للمتلقي بأن يستخلص ويستوحي الدلالة المحذوفة المشار إليها.

 التقابل أو التضاد من خلال الوحدة أو التماثل:

يُعدّ التضاد من خلال التماثل واحداً من أهم المعايير النقدية أو البلاغية الحديثة، نظراً لانطوائه على قيمة فنية لافتة للنظر. ويقصد بهذا المصطلح: أن هناك تضاداً بين شيئين بين الخير والشر، إلاّ أنهما يخضعان لعنصر مشترك يتماثلان فيه، (مثقال ذرة) من الخير و(مثقال ذرة) من الشر، فقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) ينطوي على تقابل بين عمل الخير وعمل الشر، ولكنّه يخضع لـ(تماثل) في مقدار العمل وهو (مثقال ذرّة) ويخضع له (تماثل) في رؤية الجزاء المترتب على ذلك العمل، متمثّلاً في قوله تعالى: (يره) فعبارة (مثقال ذرة) و(يره) تكرّرت في هذه الآية الكريمة بالنسبة لكل من المتضادين: الخير والشر، وها هو عنصر (التماثل) مقابل عنصر (التضاد) وحينئذ تكون صياغة التضاد من خلال التماثل متجسّدة في عبارتي (الخير والشر) من خلال عبارتي (مثقال ذرة) و(يره)... وهذا هو المقصود من العبارة أعلاه.

والمسوّغ الفنّي لهذه الظاهرة يتمثّل في تعميق مزيد من المعرفة للشيء، فإذا أدركنا أن الأشياء تتبلور معرفتها إما من خلال التشابه بين أطرافها، أو من خلال التضاد بينها حينئذ يكون الجمع بين التضاد والتماثل أشدّ فاعليّة في تعميق المعرفة، حيث يتآزر عنصران فنيّان في تحقيق هذا الهدف.

 مستوياته:

تظل ظاهرة (التضاد من خلال التماثل) خاضعة لنفس المستويات التي لحظناها في ظاهرة (التقابل) من حيث الإجمال والتفصيل والإفراد والتركيب والتنوّع والوحدة... إلخ، بيد أن أهم مستوياته التي ينبغي لفت النظر إليها، هو:

- النمط المباشر: وهو النّمط الذي يتم التقابل من خلاله لفظيّاً، أي يتم من خلال الألفاظ المتقابل فيما بينها، مثل قوله تعالى:

(وَسِيقَ الذينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاءُوها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها...) مقابل قوله تعالى:

(وَسِيقَ الذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاءُوها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها...).

فالملاحظ هنا أن ألفاظ (التماثل): (وسيق) (الذين) (زمراً) (حَتَّى إِذا جاءُوها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) هذه العبارات وردت نصّاً في كلّ من الآيتين المتقابل فيما بينهما، حيث يجسّد مثل هذا (التماثل) بين العبارات نمطاً مباشراً من ظاهرة (التضاد من خلال التماثل).

 - النمط غير المباشر: وهو النمط الذي يتم التقابل من خلاله بنحو يستخلصه القارئ، دون أن تكون هناك عبارات (متماثلة) فيما بينها، وهذا من نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى... قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً... قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلأَامْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ...).

فالملاحظ هنا أن الملائكة قد جاءت بالبشارة لإبراهيم (عليه السلام) بولادة ولد له، إلا أنّها في نفس الوقت جاءت لتخبره بإهلاك قوم لوط... وحين نتأمل مهمة الملائكة بدقة، نجد أن ظاهرة (التضاد من خلال التماثل) تأخذ أشكالاً متنوّعة في هذا الموقف... فالملائكة يشكّلون عنصر (تماثل) بالنسبة إلى أداء مهمّتهم، ولكنّهم يشكّلون عنصر (تقابل) أو (تضاد) بالنسبة لنمط المهمة التي يقومون بها، حيث نواجه منهم بشارة بـ(ميلاد) بشر، مقابل (موت) بشر... ونواجه ميلاد (أنبياء) مقابل موت (منحرفين)... إذن: ثمة (تضاد) وهو: ميلاد أنبياء وموت منحرفين ـ من خلال (التماثل) ـ وهو: قيام الملائكة بهذه المهمّة... كذلك: نواجه عمليّة (تضاد من خلال التماثل) بالنسبة لظاهرة أخرى، هي: امرأة مؤمنة مقابل امرأة منحرفة (الأولى: امرأة إبراهيم والأخرى: امرأة لوط) من خلال (التماثل) وهو: كونهما امرأتين من جانب، وكونهما زوجتين لنبيين من جانب آخر... وهكذا نجد أشكالاً متنوّعة من عمليات (التضاد والماثل) فيما يتمّ ذلك بنحو يستخلصه القارئ من خلال مطالعته مجموع النص، بالنحو الذي أوضحناه.