المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 016.doc

أدواته:

عندما يتكرّر (عدد) المتنوّعات، فإن النص يكتسب جماليّة خاصة، وهو ما يتطلب عرضه بإحدى وسيلتين هما: العطف والامتداد، أي عطف الظاهرة على الأخرى من خلال الأداة (و) وغيرها من أدوات العطف، أو ترك العطف، وذلك بأن تعرض على نحو امتدادي، ومثاله من الأول:

قوله تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) حيث إنّ عرض هذه الظواهر (عمياً وبكماً وصمّاً) قد تم من خلال أداة العطف: ولكنّنا نجد في موقع آخر من القرآن الكريم أن هذه الظواهر الثلاث عرضت بدون الأداة المذكورة، حيث يقول تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، ففي الحالتين نجد أن (الصم والبكم والعمي) قد عرض النص مرّة بدون الواو، وعرضها بالواو مرّة أخرى، مما يعني أن هنا سرّاً فنيّاً وراء ذلك(1)، وهو أمر يتطلّب الحديث عنه في حقلين، أولهما:

1- العطف:

ويُقصد به ـ كما قلنا ـ أن يتم عرض الظواهر المتتابعة من خلال أداة عطفيّة مثل الواو، ثم، أو، إلى آخره... والواقع أن استخدام الأداة العطفية وعدمها يخضع أولاً لطبيعة اللغة التي تستخدم، وثانياً لطبيعة الموضوع الذي يستخدم. ففي كثير من اللغات نجد أن الأداة العطفية تحذف أساساً أو يكتفى فيها بالعطف على الظاهرة الأخيرة من الظواهر المتتابعة.

أما في اللغة العربية، فإن القدماء من البلاغيّين (وهم محدودو المعرفة) ألزموا أنفسهم بقيود خاصّة تدل على جمودهم دون أدنى شك.

وأما المعاصرون لا يتقيّدون بذلك، إلاّ في نطاق محدود؛ كما سنوضّح ذلك لاحقاً. بيد أن المهم هو: أن نلحظ استخدامات القرآن الكريم ونصوص الشريعة (أحاديث المعصومين عليهم السلام) حيث نجد هذه النصوص المتّسمة بالإعجاز (القرآن الكريم) وبالكمال (نصوص المعصومين (عليهم السلام) لا تتقيّد بما رسمه البلاغيّون من القواعد الشاذّة في هذا الميدان.

ومهما كان، يمكننا أن نعرض لبعض الموارد التي تتطلب أداة العطف، أو يكون الأفضل فيها أن تعطف بالأداة... ومنها:

1- الفرز: ويقصد به أن يكون النص في صدد عمليّة إحصائيّة للأشياء بحيث تتطلّب عرضها بأداة عاطفة تشير إلى أنّ هذا الشيء منفرز عن الآخر، مثل قوله تعالى: (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) حيث يتطلّب الموقف فرز الكفّار مطلقاً عن خصوص المنافقين، وإلاّ يخيّل للقارئ بأنّه أمام الكفّار المنافقين فحسب، وليس أمام الكفّار والمنافقين؛ إذا لم تستخدم أداة العطف...

2- المقارنة: المقارنة بين شيئين أو ثلاثة أو أكثر تتطلّب الأداة العاطفة بالضرورة مثل قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فلو لم تستخدم أداة العطف يخيّل للقارئ أنّه أمام عمليّة وصفيّة لشخص واحد يحمل صفتين متضادّتين هما البصر والعمى.

2- الامتداد:

ويُقصد به ـ كما قلنا ـ أن يتم عرض الظواهر المتتابعة بدون أداة عطفيّة مثل قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)... وهذا يتم وفق مبادئ منها:

1- الوصف:

ويُقصد به أن يكون النص في صدد عرض الظواهر الوصفيّة للشيء، كالنموذج المتقدّم، حيث إن الصفة التي تتبع أختها لا تتطلب أداة عطفيّة ما دامت تصبّ في الموضوع.

2- البيان:

ويُقصد به أن تكون الظاهرة المتتابعة بياناً لسابقتها، سواء أكان هذا البيان على نحو التوكيد أو التفصيل لما هو مجمل... و... إلى آخره، مثل قوله تعالى: (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ... تُؤْمِنُونَ بِاللهِ...).

 

 التنوّع والعدد:

إن العدد في حد ذاته، لا يحمل دلالة بلاغيّة لأنّه عمليّة إحصائية للشيء، كل ما في الأمر أن الإحصاء للظواهر قد يكون منحصراً في ظاهرتين أو ظواهر محدودة أو ظواهر ذات عدد كبير...

ومن أمثلته في العددين: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

ومن أمثلته في الثلاثة: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ...)

ومن أمثلته في الأربعة: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ).

ومن أمثلته في الخمسة: (وَالطُّورِ * وَكِتابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ).

ومن أمثلته في الستة: (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ).

ومن أمثلته في السبعة: (فَكَّرَ وَقَدَّرَ *... ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ).

ومن أمثلته في الثمانية: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)..

ومن أمثلته في التسعة: (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ)..

ومن أمثلته في العشرة: (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ)..

وقد يتضخّم العدد إلى المائة أو الألف كما هو ملاحظ في نصوص الشرع التي تطرح مفاهيم أخلاقية، أو الدعاء الذي يتضمّن إحصاءً لعدد محدّد أو غير محدّد.

العدد وأساليبه: لا يخضع العدد إلى أسلوب التتبع المباشر فحسب، بل قد يأخذ التتابع:

1- نمطاً مفرداً، أي  عرض المفردات مثل (الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلامُ...).

2- وقد يأخذ عرض الجمل أو الفقرات أو المقاطع  مثل (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا...).

3- التأرجح ، أي  قد يتّخذ شكلاً مفرداً ثم يتخلّله فقرة، ثم تتابع المفردات وهكذا مثل (فَكَّرَ وَقَدَّرَ... ثُمَّ نَظَرَ...) إلخ.

التنوّع

 التنوّع والوحدة:

إن جماليّة التنوّع تكتسب مبدأ بلاغيّاً عندما يعرض التنوّع من خلال الوحدة التي ترتبط به.

وقد سبق أن لحظنا أنّ أشكال التنوّع تندرج ضمن التباين، بعكس (التضاد) الذي يمثّل حقيقة هي: تقابل الشيئين: أي تقابل أحدهما مع الآخر، وبما أنّ لهذه الظاهرة أهميّة بلاغيّة كبيرة لذلك نعرض لها ضمن عنوان مستقل هو:

 

1- التقابل أو التضاد

التقابل أو التضاد هو: مقابلة الشيء بشيء آخر على نحو يقف كل منهما متقاطعاً مع الآخر، مثل قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وقوله تعالى: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ) وقوله تعالى: (إِذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ وَالذينَ لا يَعْلَمُونَ)... فالملاحظ في هذه النصوص، أن (الليل) جاء متقابلاً مع (النهار)، و(الأعمى) متقابلاً مع (البصير)، و(من فوقكم) متقابلاً مع (أسفل منكم)، و(يعملون) متقابلاً مع (لا يعلمون).

طبيعياً كما سبق القول: هناك فارق بين هذه الأنماط من التقابل بين الأشياء (من حيث اللغة المنطقيّة: مثل تقابل الضدين والنقيضين والمتضايفين... إلخ). إلاّ أن الفن أو البلاغة بما أنّها لا تخضع لصرامة المنطق بقدر خضوعها للغة تجمع بين ما هو عقلي وبين ما هو وجداني (كما أوضحنا سابقاً في مقدمة هذا الكتاب)، حينئذ تصبح كل أشكال (التقابل) ذات طابع واحد هو (مقابلة الشيء لشيء آخر) بل يمكننا إخضاع ذلك لمصطلح واحد هو (التضاد) بالرغم من أن المصطلح يستخدم في أحد أشكال القابل المنطقي لكن ـ كما قلنا ـ أن الفن لا يتقيّد بلغة المنطقة، وأن مصطلح (التضاد) يظل ـ في لغة الفن المعاصر ـ هو المستخدم في هذا الميدان، وذلك لبداهة أن من النماذج المتقدّمة (الليل والنهار) (الأعمى والبصير) (الفوق والأسفل) (الذين يعلمون والذين لا يعلمون) يظل في حقيقته (ضداً) بالنسبة إلى الآخر... فالليل يضاد النهار، والأعمى يضاد البصير، والفوق يضاد الأسفل، وهكذا...

 مسوّغات التقابل أو التضاد:

المسوّغ الفنّي للتقابل أو التضاد يتمثل في: أنّ الأشياء تتميز حيناً، من خلال التعريف بها، وحيناً من خلال مقارنتها بما يماثلها، وحيناً بما يضادّها من الظواهر... فنحن نتبيّن أهميّة الشيء من خلال (ضدّه) في كثير من الحالات... إننا ـ مثلاً ـ نتبين أهمية (الخير) من خلال مقابلته بـ(الشر) ونتبيّن أهميّة (النّور) من خلال مقابلته بـ(الظّلام)، ونتبيّن أهميّة (البصر) من خلال مقابلته بـ(العمى) وهكذا... وبما أن هدف البلاغة أو الفن هو: تعميق المعرفة بالشيء حينئذ يكون اللجوء إلى (التقابل) بين الظواهر واحداً من الوسائل التي تساهم في هذا التعميق... فحينما يقابل النص القرآني الكريم بين (الأعمى) وبين (البصير): حينئذ تتعمّق معرفتنا بأهميّة البصير في دينه، مقابل (الأعمى) الذي يتيه في ضلاله... كذلك، حينما يقابل النص القرآني الكريم بين الكفر وبين الإيمان في قوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) حينئذ تتعمّق معرفتنا بأهميّة الإيمان (وهو النور) مقابل ضدّه (وهو الظلمات) أي (الكفر)... وهكذا سائر أنواع التقابل التي نقف عندها لاحقاً...

 

 مستويات التقابل أو التضاد:

يتم التقابل بين الأشياء وفق مستويات متنوّعة منها:

1- التقابل بين المفردات، مثل التقابل بين الليل والنهار، والموت والحيا الظواهر اوالشر، إلخ...

2- التقابل بين المواقف أو الموضوعات، مثل التقابل بين من أعطي كتابه بيمينه وبين من أعطي بشماله.

ومنها (أي مستويات التقابل):

3- أن يتم التقابل مباشرة، بحيث يشار لفظياً إلى الموضوعين المتقابلين، كما لحظنا ذلك في النماذج المتقدمة.

ــــــــــــــ

الهامش

(1)- يلاحظ أن البلاغيين القدامى قد اصطلحوا على هذه الظاهرة باسم (الفصل والوصل) وأولوا هذا الجانب أهمية كبيرة بحيث زعموا أن البلاغة هي معرفة الوصل والفصل. والحق أن هذا الكلام مبالغ فيه ولا يستحق هذا الادّعاء الذي لا أساس له. ومما يدعو إلى السخرية أن نجد أن كتب البلاغة متخمة بالتفصيلات التي يعرضونها في هذا الجانب، بحيث تدع القارئ تائهاً في غابة من التفصيلات المضللة، لدرجة أنه إذا أراد أن يكتب جملة عادية، فعليه أن يقرأ عشرات الصفحات ليتعلم مثلاً متى يحسن به أو يجب عليه أن يستخدم (الواو)، ومتى يتجنّبها، فإذا كان استخدام حرف (الواو) يستغرق كل هذه التفصيلات، فحينئذ ينبغي أن يفني الإنسان عمره في معرفة كتابة جملة واحدة مثلاً.