المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 015.doc

الوحدة والتنوّع

المقصود من (الوحدة) هو: الموضوع الواحد أو الفكرة الواحدة التي يتضمّنها النّص، وأمّا المقصود من (التنوّع) فهو: الظواهر أو الأشياء المختلفة التي يتضمّنها النّص، فقوله تعالى:

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) يتضمّن (وحدة) و(تنوّعاً)..

الوحدة هي (مسؤوليته) عن الأعمال التي يمارسها.

والتنوّع: هو: هذه الأشياء الثلاثة (السمع والبصر والفؤاد) حيث تشكّل (مفردات) أو (مصاديق) لممارسة العمل العبادي المسؤول عنه.

وبما أن الوحدة ترتبط مباشرة بالعنصر (البنائي) الذي خصّصنا له حقلاً مستقلاً، لذلك لا نعرض لها الآن، إلاّ بقدر ما لها علاقة بالظاهرة الأخرى وهي (التنوّع) علماً بأن (التنوع) بدوره لا ينفصل عن (الوحدة).

إلاّ أن طريقة طرحه وما يتضمّنه من التفصيلات، تجعل طرحه هنا أمراً له مسوّغاته على نحو ما نبدأ بتفصيل الحديث عنه ضمن عنوان:

التنوّع

قلنا إن (التنوّع) ظاهرة فنيّة تتمثّل في كونها مجموعة من الأشياء المختلفة فيما بينها.

والأهميّة البلاغيّة للتنوّع هي أنّه يجسّد أدوات لبلورة الفكرة التي يستهدفها النص، أو أدوات للموضوع الذي تتألّف منه هذه الأشياء المتنوّعة، فالسمع والبصر والفؤاد (في النص القرآني الكريم الذي ذكرناه) هي: أدوات متنوّعة قد عرضها النص بأسلوب إحصائي، ليدلّل بها على مسؤوليّة هذه الأعضاء المختلفة عن سلوك الإنسان.

والمهم أنّ طرح هذه الظواهر المتنوّعة يكتسب طابعاً بلاغيّاً حينما يخضع لمبادئ خاصّة في صياغته: من حيث الأشكال والأساليب والمستويات إلى آخره. وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عنها مفصّلاً، فيما نبدأ ذلك بالحديث أوّلاً عن:

 

 أشكاله:

إن التنوّع بين الأشياء قد يتم على نحو لا علاقة لأحدها مع الآخر، أو يتم بنحو من العلاقة البعيدة أو القريبة فيما بينها(1).

ولذلك يخضع التنوع لجملة من أشكال العرض، منها:

1- التباين: أي الظواهر المتنوّعة المعروضة التي لا علاقة لإحداها بالأخرى مثل قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فالنجم لا علاقة له بالشجر، وكل واحدة من هاتين الظاهرتين تجسّد ظاهرة كونيّة خاصّة، ولكنّها تخضع لممارسة واحدة هي السجود.

2- التآزر: ويقصد به أن يخضع التنوّع لعلاقة بعيدة فيما بين مفرداته، إلاّ أنّها متآزرة فيما بينها مثل (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ)، حيث إن كل واحدة منها تختلف عن الأخرى في وظيفتها وموقعها من الجسم، ولكنّها جميعاً (تتآزر) فيما بينها بالنسبة إلى تحمّل المسؤولية، بصفتها أدوات ممارسة.

3- التجانس: ويقصد به أن يخضع التنوّع لعلاقة قريبة فيما بين مفرداته، بحيث تتجانس إحداها مع الأخرى، مثل قوله تعالى: (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) فاللسان والشفتان ينتسبان إلى جهاز متجانس (في الوظيفة التعبيريّة) وإن كانا مختلفين عضويّاً.

4- التقابل: ويقصد به أن يكون التنوّع خاضعاً لنمط من العلاقة المتقابلة بين الظاهرتين أو الظواهر، مثل قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ) حيث يقف الأعمى متقابلاً مع البصير. وهذا النط من التنوع على شكلين:

1- التضاد: ويقصد به أن يقتصر التنوّع على ظاهرتين فحسب، بحيث تقف إحداها على نحو التضاد مع الأخرى كالأعمى والبصير، والليل والنهار، والوجود والعدم، والسماء والأرض(2).

2- التقسيم: و يُقصد به أن تكون الأشياء المتقابلة (منقسمة) إلى أجزاء يقف كل واحد منها قبالة الأجزاء الأخرى، مثل قوله تعالى: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ...) فهنا نواجه ثلاث مجموعات تقف كل واحدة منها قبالة المجموعتين الأُخريين(3).

ولكل واحد من هذه الأشكال، مسوّغاته الفنيّة.

فالتنوّع المتباين يشير إلى ما هو ظاهرة مستقلّة عن الأخرى، ولكنّها تخضع لعمل عبادي واحد.

والتنوّع المتآزر يشير إلى ما هي ظواهر متآزرة جزئياً داخل ظاهرة عامّة (كأعضاء البدن).

والتنوّع المتجانس يشير إلى ما هي ظواهر (ليس متآزرة فحسب) بل إلى ما هي ظواهر متجانسة في الوظيفة الواحدة كـ(اللسان والشفتين).

وأما التنوع (المتقابل) فيشير إلى ما هي ظواهر متقابلة فيما بينها، على نحو تقف إحداهما قبالة الأخرى، لا أنّها منفصلة عنها أو متآزرة معها أو متجانسة...

 أساليبه:

عندما تُعرض الأشياء المتنوّعة، حينئذ تأخذ أسلوباً خاصّاً من العرض، نطلق عليه مصطلح:

 التتابع:

ونقصد به أن تعرض الأشياء المتنوّعة، بشكل يقف أحدها مع الآخر على نحو متوالٍ أو متتابع، بحيث يجيء أحدهما بعد الآخر: كالسمع والبصر والفؤاد، حيث عرض السمع ثم البصر ثم الفؤاد... وهذا التتابع أو التوالي يتمّ وفق أساليب متنوعة منها:

1-التجاور:

ويُقصد به أن يتم تتابع الأشياء على نحو الموازاة فيما بينها، بحيث يقف كل شيء إلى جانب الآخر على نحو أفقي، مثل قوله تعالى: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ..).

2- التعاقب:

ويُقصد به أن يتم تتابع الأشياء على نحو التعاقب بينها، بحيث يعقب أحدها الآخر (لا أنه يتوازى معه كالنموذج السابق)، وهذا مثل قوله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً...).

فالنطفة أعقبتها العلقة، والعلقة أعقبتها المضغة، والمضغة أعقبتها العظام، وهكذا.

3- التكوّر:

ويُقصد به أن يتم تتابع الأشياء بصورة (متجمّعة) لا يلحظ من خلالها الموازاة أو التعاقب، بل مجرّد تجمّعها في موقع ما، مثل قوله تعالى: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) حيث لم ينظر في هذا التتابع تعاقب أو موازاة السدر والطلح والظل؛ كما هو واضح.

 ملاحظة:

إنّ كلاًّ من الموازاة والتعاقب والتكوّر، يتم وفق أساليب متنوّعة، منها:

1- التفريع: ويقصد به أن تتفرع الأشياء المعروضة: بعضها من الآخر وهذا كالنطفة والعلقة والمضغة...

2- التداخل: ويقصد به أن تتداخل الأشياء المعروضة: بعضها مع الآخر، مثل قوله تعالى: (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ...).

فالمشكاة والمصباح والزجاجة يتداخل بعضها مع الآخر في عمليّة الإنارة كما هو واضح.

3- التقسيم: ويقصد به (ما سبق أن أشرنا إليه) أن تكون الأشياء المعروضة (منقسمة) إلى أجزاء متقابلة فيما بينها أو غير متقابلة، مثل التقسيم إلى السابقين. وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال بالنسبة إلى ما هو متقابل، ومثل التقسيم إلى اليتيم والسائل.

4- الفرز: ويقصد به أن يتم عرض الأشياء منفصلاً أحدها عن الآخر، مثل قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) حيث أن عرض هذه الأشياء لا يخضع للتداخل ولا التفريع ولا التقسيم، بل ينفرز أحدها عن الآخر، كما هو واضح.

ــــــــــــــــ

الهامش

(1)- في اللغة المنطقية الموروثة، تتحدد العلاقة بين الأشياء وفق نسبها الأربع المعروفة، إلا أن لغة (الفن) تختلف عن لغة (المنطق) كما أوضحنا ذلك في الفصل الأول من هذا الكتاب.

(2)- في اللغة المنطقية الموروثة، يطرح مصطلح (التقابل) ويقسم إلى أربعة أشكال (النقيضين) (الضدين) (المن) (الضدين) (الم وعدمها) إلا أننا كما كررنا لا نخضع الفن للغة المنطق، بخاصة أننا نجد أن (الضد) ينسحب على كل هذه الأشكال المتقابلة، فالعمى والبصر، والوجود والعدم، والسماء والأرض، جميعاً لا تفترق (من حيث كونها ضداً) عن الليل والنهار، ما دامت المعايير هي: وقوف أحدها على عكس الآخر؛ كما هو واضح.

(3)- بالرغم من أن السابقين وأصحاب اليمين يقفان (مقابلاً) لأصحاب الشمال من حيث كونهما ينتسبان إلى الفرقة المؤمنة قبالة الفرقة الفاسقة إلا أنهما (من الزاوية الهندسية) يقف أحدهما مقابل الفريق الآخر. كل ما في الأمر أن هذا النمط من التقابل يخضع لما أسميناه بالتقابل المتداخل على نحو ما سنوضحه لاحقاً إن شاء الله.