المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 08.doc

انتهينا في محاضرتنا السابقة إلى حديث يرتبط بالقراءات القرآنية وقلنا أن هذه القراءات تظل مطبوعة بتفاوت ملحوظ بين قارئ وآخر وقلنا أن بداية الاختلاف في القراءات حدثت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتداداتها إلى أجيال متنوعة وتسائلنا في حينه ما هي الوظيفة التي يمليها الموقف علينا إزاء هذه القراءات التي تفاوت الباحثون والقراء في تحديدها.

وقلنا أن المعصومين (عليه السلام) أرشدونا إلى ذلك من خلال المقولة المعروفة القائلة أو الآمرة بأن نقرأ القرآن كما علمنا والسؤال الذي طرحناه في نهاية المحاضرة السابقة ونطرحه الآن هو ما هي القراءة التي علمناها الإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا في الواقع أن نحدثكم ولو عابراً أو سريعاً عن القراءات من حيث تأريخها وما انتهت إليه ومن ثم ارتباط ذلك بالقراءة التي علمناها بحيث أصبحت حجة علينا وهذا ما يقتادنا أولاً إلى أن نحدثكم عن الاختلافات من حيث النشأة فنقول مر عليكم أن الاختلاف في القراءات بدأ منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاته. فمع أن القراء والكتبة كانوا يتلقون القرآن الكريم مباشرة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا حريصين كل الحرص على أن يحفظوا هذه القراءة وأن يدونها ولكن مع ذلك نجد ما يشير إلى أن الاختلاف في القراءات حتى بين الأصحاب الذين كانوا على مقربة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تفاوتت قراءاتهم فيما بينهم كما يشير إلى ذلك أكثر من نص و يحدثنا عن هذا الجانب.

فمثلاً هناك من يذهب إلى أن بعض الأشخاص كان جالساً في المسجد وسمع قراءة من زميله تخالف القراءة التي يعرفها هذا الشخص وحينئذٍ ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله عن قراءتيهما فأقرهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال بما مؤداه أن كلاً من هاتين القراءتين حسنة وجميلة.

وفي نص آخر أن أحد الأشخاص ذهب أيضاً بدوره إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر له أنه سمع قراءة أبي بنحو تختلف عن قراءة ابن مسعود وسمع قراءة ثالث تختلف عن قراءة ذينك الشخصين وهكذا وكانت الإجابة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفس الإجابة السابقة وهي أن هذه القراءات جميعاً هي قراءات صائبة وذلك من خلال إشارته إلى الإمام علي (عليه السلام) وكان جالساً إلى جنبه فأمره أن يجيب هذا السائل فقال الإمام علي (عليه السلام) بما مؤداه أيضاً قراءة حسنة وجميلة وان يقرأوا كما علموا..الخ. 

وهناك أيضاً رواية ثالثة تشير إلى وجود جماعة أيضاً قرأوا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت الإجابة ذاتها مع إشارة إحداها كانت أقرب من الأخريات وهكذا. 

والسؤال الآن لماذا هذا الاختلاف مع أن هؤلاء القوم كانوا على مقربة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمكننا أن نقدم للإجابة عن السؤال المتقدم جملة نقاط أولها هو الاختلاف الواضح في لغات ولهجات المجتمع الذي كان آنئذٍ يعاصر الرسالة الكريمة حيث يشير المؤرخون إلى وجود عشرات اللغات وعشرات اللهجات التي انتشرت آنئذٍ في المجتمع المذكور ومع هذا الاختلاف في اللغات وفي اللهجات نتوقع أن تكون قراءة هذا الشخص متفاوتة عن قراءة الشخص الآخر هذا من جانب، ومن جانب آخر يظل كل من السهو والخطأ والاجتهاد عاملاً آخر في نشوء الاختلاف بين القراء فالإنسان معرض إلى الخطأ والسهو دون أدنى شك صحيح أنه سمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه القراءة أو تلك إلا أنه عندما ينقل هذه القراءة إلى الآخر أو عندما يقرأها هو بنفسه حينئذٍ قد يسهو وقد يخطأ أيضاً في تلكم القراءة وأما من جانب ثالث بأن الاجتهاد أيضاً يعمل عمله في الاختلاف بين القراءات وسنرى لاحقاً إن شاء الله كيف أن الاجتهاد تسبب في إقراء أكثر من قراءة من قبل هذا الشخص أو ذاك كما أن هناك من الأسباب ما سنشير إليها حينما نتابع حديثنا عن نشأة الاختلاف بين القراء في قراءاتهم للنص القرآني الكريم.

نقول إذا كان الاختلاف في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فرض واقعه على القراء حينئذٍ فإن الاختلاف واتساع مداه سوف نتوقعه بشكل أكثر عندما يتقادم الزمن فأنتم تعرفون جميعاً بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعنى بالقرآن الكريم كل العناية ويحرص على أن يوصل قراءته إلى أكبر عدد ممكن وبالفعل يشير المؤرخون إلى أن الحفاظ والقراء بلغ العشرات في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنه قتل الكثير منهم بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض المعارك كما يشير المؤرخون إلى ذلك.

المهم إن هؤلاء القراء الذين كانوا في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتشروا بطبيعة الحال في أكثر من مدينة أو في اكثر من مصر أو في أكثر من مجتمع وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) اتسع هذا المدى دون أدنى شك ووصل إلى جملة أقطار وفي مقدمتها بلاد الشام والكوفة والبصرة واليمن والبحرين فضلاً عن كل من مكة ومن المدينة. وكان الاختلاف بين القراء في هذه الأمصار قد وصل مدى إلى أن تحتفظ كل مدينة أو كل مصر بطابع خاص من القراءة حيث كان المؤرخون يشيرون مثلاً إلى قراءة أهل البصرة وقراءة أهل الشام وقراءة أهل الكوفة وقراءة أهل المدينة وقراءة مكة وهكذا. بالإضافة إلى ذلك كان لكل مصر من هذه الأمصار قارئ أو قارئان أو أكثر عرفوا بانتسابهم إلى الأمصار المشار إليها فمثلاً فاسم عبد الله بن عامر في الشام وعرف اسم يعقوب الحضرمي في البصرة واسم عاصم بن أبي النجود في الكوفة وعرف اسم نافع بن أبي نعيم في المدينة وعرف اسم عبد الله العطار وسواه في مكة وهكذا. 

إن هذه الأسماء وسواها تظل في غالبيتها من الطبقة الثالثة والرابعة فصاعداً كما سيتضح لنا فيما بعد والمهم انهم اختصوا بالقراءة أي أصبح لهم اختصاص معرفي بهذا الجانب واكتسبوا بذلك شهرة واسعة بالنحو الذي أشار المؤرخون إليه في مدوناتهم المختلفة. المهم أن القارئ أو الطالب بمقدوره أن يتابع هذا الجانب ليلاحظ عشرات الكتب المؤلفة بالنسبة إلى القراء وطبقاتهم منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى بعد جملة قرون تمتد ربما إلى القرن الثامن أيضاً من حيث شهرة القراء والطبقات المتفاوتة بين هؤلاء القراء ومن ثم وهذا ما نريد أن نركز عليه الآن هو أن هذه الطبقات من القراء طيلة هذه القرون قد اكتسب بعضها طابعاً خاصاً من قبل المؤرخين وهذا ما حدث في بداية القرن الرابع أي عام 1300 فصاعداً حيث يشير المؤرخون إلى أن هذا القارئ قد أسندت إليه رئاسة القراءة أو كرسي القراءة في بغداد حينئذٍ حيث توفى هذا القارئ عمل هو أنه حدد أو بالأحرى انتخب من القراء المعروفين انتخب سبعة أشخاص دون سواهم وانتخب لكل شخص راويين فحسب أن هناك العشرات من القراء ومن الرواة إلا انه اكتفى بهذا النمط من الإحصاء أي انتخاب قارئ واحد وانتخاب راويين عنه وقد انتخبه المؤرخون في مختلف أجيالهم على هذا العمل واعتبروه عملاً شائناً لجملة أسباب منها أن القراء بالعشرات ممن عرفوا بشهرة أكثر من هؤلاء السبعة وممن عرفوا بالعلم وبالإتقان وبالضبط وبسائر المميزات التي تتبع هذا القارئ أو ذاك.

ويشير المؤرخون في هذا السياق إلى أن المؤلف انتخب هؤلاء ا لسبعة لجملة أسباب منها أولاً أن الأقطار أو الأمصار التي أرسلت إليها المصاحف في عهد عثمان كانت سبعة هناك خمسة أمصار لا تشكيك فيها وهي كل من المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام وهناك مصران مشكوك فيهما هما اليمن والبحرين وتبعاً لذلك اختار أو انتخب هذا القارئ سبعة قراء خمسة منهم كما قلنا معروفون ولا تشكيك في وجود المصاحف المرسلة إليهم وأما الاثنان المشكوك فيهما عوض عنهما بقارئين من الكوفة أيضاً فأصبحوا سبعة ولذلك يقول المؤرخون إن هذا المؤلف تيمناً بهذا العدد انتخب سبعة وأطلق عليهم القراء السبعة أو القراءات السبع وهناك تسويغ آخر أو سبب آخر ينقله المؤرخون وهو أن هذا الشخص تيمناً بنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف تيمناً في هذا جعل هؤلاء السبعة محكومين بالعدد المشار إليه بيد أن هذا العمل كما قلنا انتقده عليه الكثير من المؤرخين قدمائهم ومعاصريهم لجملة أسباب منها أولاً أنه في انتخابه لهذا العدد فحسب دون سواه كان إجحافاً وظلماً بعشرات من القراء الذين قد يفوقون هؤلاء الذين انتخبهم ابن مجاهد، وأهم من هذا كله هو الانتقاد المرتبط بتيمن هذا المؤلف بتيمنه بهذا العدد الموافق للحديث القائل بأن القرآن نزل على سبعة أحرف حتى استتبع ذلك بأن يظن بعض الجهلة أو من لا حظ لهم من المعرفة يظن أن هذه القراءات السبع هي نفس الحديث الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن القرآن نزل على سبعة أحرف أي السبعة الأحرف هي نفس القراءات السبعة التي انتخبها الشخص المشار إليه، وبالفعل نجد من يذهب إلى هذا الاتجاه وهو يخيل إليه أن القرآن الذي نزل على سبعة أحرف هو نفس هذا الانتخاب الممثل للقراءات السبع. والملاحظ أن الانتخاب لأمثلة هذه القراءات بدأ في الواقع في بدايات القرن الثاني حيث ألف أكثر من شخص مصنفات تتعلق بهذا الجانب كما أن المؤلفات أو المصنفات التي أعقبت هذا التصنيف أي تصنيف ابن مجاهد توفرت أيضاً على دراسة هؤلاء القراء أو دراسة هذه القراءات فظهر من بعد ذلك إضافة ثلاثة قراء إلى القراء السبعة فأصبحوا عشرة قراء وهناك أيضاً من أضاف إليهم أربعة قراء آخرين فأصبح يطلق عليه القراءات الأربع عشر وهكذا. وتبعاً لذلك ألفت كتب عن القراءات السبع والقراءات العشر والقراءات التي تفوق ذلك كما قلنا.

والمهم هو الحديث عن هذه القراءات وما تتميز به من وجهات نظر عند المؤرخين ذهاب إلى أنها متواترة أو إلى أنها غير متواترة وإلى أنها شاذة إلى آخر ما نلاحظه من تفاوت وجهات النظر حيال هذه القراءات وبخاصة القراءات السبع حيث اكتسبت طابعاً لم تكتسبه القراءات الأخرى للأسباب التي ذكرناها.

طبيعياً إن أي اتجاه يذهب إلى أن هذه القراءات وحدها دون سواها هي قراءات متواترة أو قراءات لا تشكيك في صحتها مثل هذا القول لا نريد أن نطيل الحديث عنه كما أطاله الباحثون القدماء والمعاصرين بقدر ما نريد أن نشير عابراً إلى أن القراءات جميعاً ليست مطبوعة بسند التواتر إلا بنحو استثنائي نشير إليه بعد لحظات إن شاء الله ونعني بها قراءة واحدة وهي اكتسبت طابعاً إيجابياً بسبب كونها تنتسب في نهاية المطاف إلى الإمام علي (عليه السلام).

وأما عدا ذلك فإن القراءات جميعاً تظل مطبوعة بسمة الاجتهاد الصرف من قبل القراء أنفسهم فضلاً عن القراءات الشاذة التي أشارت إليها المؤرخون.

والذي يلاحظ ما كلف في هذا الصدد يجد بنحو ملحوظ كيف أن الباحثين قدماءهم ومعاصريهم قد استشهدوا بعشرات أو بمئات النماذج التي تشير إلى شذوذ هذه القراءات من حيث مخالفتها للنص القرآني الكريم فحسب بل حتى في مخالفتها لأبسط قواعد اللغة العربية ولا نجدنا بحاجة إلى الاستشهاد بنماذج من هذه الأخطاء ما دمنا متيقنين بأن ثمة قراءات واحدة هي القراءة التي تمثل بالنسبة إلينا نحن الطائفة المحقة تمثل إلينا حجة شرعية على نحو ما أشرنا إلى ذلك عابراً وما نشير إليه خلال محاضرتنا الحالية أيضاً.

وهذا يقودنا في العودة إلى مواصلة الحديث عن تدوين القرآن الكريم في عهد عثمان حتى نربط بين ما دون في المصاحف الموحدة وما ربط بينها أو بين هذه القراءات و في مقدمتها القراءة التي قلنا أنها تمثل الحجة الشرعية علينا ونعني بها قراءة أحد هؤلاء القراء السبعة وهي القراءة الواردة برواية حفص عن عاصم وعاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي وأبو عبد الرحمن السلمي عن الإمام علي (عليه السلام) وبطبيعة الحال الإمام علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى.

إذاً لنعد إلى الحديث عن تدوين المصاحف في عهد الحاكم الثالث فنقول مر علينا أن القرآن لا أقل في نطاق توحيد القراءات قد تم جمعه في عهد عثمان كما هو واضح مع ملاحظة أن المؤرخين ذهب بعضهم إلى أن المصاحف التي وحدها هذا الشخص لا تنحصر في القراءات فحسب بل تظل مرتبطة بجملة مميزات منها ترتيب سور القرآن الكريم ومنها حبس ما ورد من زيادات في مصاحف الصحابة وبهذه المناسبة نود أن نشير أيضاً إلى نقطة مهمة جداً كانت سبباً لاختلاف بين القراءات أيضاً ألا وهو الاختلاف الملحوظ في مصاحف الصحابة حيث أن كثيراً منهم كان يجمع بالإضافة إلى النص القرآني الكريم يجمع إلى ذلك شرحاً أو تأويلاً للنص النازل حتى خيل للبعض أن هذه الزيادة هي جزء من القرآن الكريم ولعل مصحف ابن مسعود يحفل بهذه الزيادات التي ذكرها المؤرخون والتي ظن بعض المؤرخين أنها أيضاً جزء من القرآن الكريم ونوقش عليها.

ولابد أنكم تتذكرون في محاضرات سابقة تتذكرون أننا أشرنا إلى هذا الجانب وقلنا أن الإمام علي (عليه السلام) عندما جمع القرآن الكريم جمع إلى جانب النص النازل وحياً من الله سبحانه وتعالى قرآناً جمع إلى جانبه كلاً من الشرح والتأويل لكثير من النصوص القرآنية الكريمة وهذا يعني أن من يجمع القرآن الكريم أو من أتيح له أن يجمع القرآن الكريم في تلكم العصور إنما جمعها إما من خلال النص القرآني الكريم وحده وإما من خلال الإضافة الشارحة أو الإضافة المؤولة ومن هنا نشأ اختلاف بين المعنيين بهذا الشأن اختلاف في القراءة حيث ظن البعض أن القراءات الزائدة أي الواردة شرحاً أو تأويلاً هي جزء من القرآن الكريم وبهذا يشكل هذا الجانب كما قلنا واحداً من أسباب الاختلاف في القراءات.

والآن بغض النظر عن ذلك كله فإن من المؤرخين من يشير إلى أن الحاكم الثالث لم يكتف بتوحيد القراءات فحسب بل أضاف إلى ذلك كما قلنا ترتيبه للسور ومن ثم حذف كل ما ورد من الزيادات في مصاحف السابقين وبهذا يكون هذا التدوين أو هذا التوحيد للمصاحف يتميز بسمات إيجابية في مقدمتها ما أشرنا إليه ولكن الذي يعنينا من ذلك هو ان نشير  إلى المائز المتمثل في توحيد المصاحف من خلال القراءة فنقول:

مع أن التوحيد للقراءة يظل هو المائز لهذا الجانب ولكننا من جانب آخر نجد أن هذا المائز نفسه قد انطوى على ظواهر أو على سمات سلبية وهذه السمات السلبية تتمثل في كون هذه المصاحف أيضاً لم توحد من جانب القراءات وذلك بسبب ما يذكره المؤرخون ألا وهو أن قضية رسم القرآن الكريم قد تم وفق أسلوب خاص وجد فيه التفاوت بين المصاحف التي كتبت آنئذ وهذا التفاوت يفرض على القارئ أن يستخلص منه أيضاً واحداً من الأسباب التي جعلت القراء يتفاوتون في قراءتهم بالنص القرآني الكريم.

ومن الطريف جداً أن نشير إلى أن المؤرخين ينشطرون إلى نمطين من الآراء أو وجهات النظر حيال هذا التدوين للمصاحف حيث يذهب البعض إلى أن الكتبة الذين دونوا هذه المصاحف كانوا عباقرة من النمط الأول بينما يشير الاتجاه الآخر إلى أن هؤلاء الكتبة كانوا من الجهلة إلى درجة كبيرة لاحظوا هذا التفاوت بين التكوين للجماعة التي توفرت على كتابة هذه المصاحف التكوين الإيجابي المبالغ فيه والتقويم المراد له تماماً وهو التأرجح بين عبقرية هؤلاء وبين جهل هؤلاء الكتبة بالنسبة إلى أسلوب الكتابة.

إن وجهة النظر السلبية حيال هؤلاء الكتاب تشير إلى جملة أسباب جعلتهم بهذا النمط من الجهل بكتابة النص القرآني الكريم يقول هؤلاء إن العرب في عصر الرسالة الإسلامية لم يكونوا ملمين بالكتابة وأنفار معدودين وأن تعلم الكتابة فيما بعد قد تم خلال التعامل مع مجتمعي الشام والعراق حيث أن الخط السرياني كان معروفاً في العراق وكان الخط النبطي معروفاً في الشام وأن الخط الكوفي المعروف قد تفرع في النهاية من الخط السرياني وأن الخط النسخي المعروف حالياً قد تفرع من الخط النبطي والمهم هو أن القرآن الكريم دون في هذا السياق دون بشكل خاص وهو التدوين الخالي من النقط ومن الشكل بحيث كتب الحروف فحسب دون أية حركة إعرابية ودون أية نقاط من هنا يظل نشوء الاختلاف بين القراء متحكماً من خلال كتابة أمثلة هذا الخط الخالي من التشكل أو من التنقيط مما يجعل الاختلاف متفاقماً دون أدنى شك وذلك عندما تكتب هذه العبارة بالنص القرآني القائل وانظر إلى العظام كيف ننشزها عندما تكتب هذه الكلمة الأخيرة ننشزها بدون النقاط المتمثلة  في النونين الأولين وفي نقطة الزاي حينئذ ستقرأ إما أن ننشزها وإما تقرأ ننشرها هكذا بالنسبة إلى عشرات أو مئات الكلمات الخالية من التنقيط ومن التشكل حيث أن الخلو منهما سوف يسمح دون أدنى شك بأن يختلف القراء في العثور على واحد من هذه الخطوط.

وفي هذا السياق يقول المؤرخون الذين يحكمون على كتبة القرآن الكريم في عهد الحاكم الثالث يقول هؤلاء إن هؤلاء الكتبة كانوا جهلة بالنسبة إلى معرفتهم باللغة العربية من جانب وبالإملاء العربي من جانب آخر حيث أن القرآن الكريم ملأ بأخطاء معروفة إملائية لا يشكك أحداً في خطأها حتى أن بعضهم احصى إلى الآلاف من الأخطاء كحذف الألف مثلاً من الكلمات وكإثبات الألف فيما لا يثبت فيه في كلمات مثل يدعو أو حذف الألف في كلمات ينبغي أن تثبت بها مثل جاءوا وهكذا وإضافة الياء إلى كلمة مثل والسماء بنيناها بأيد حيث ذكرت فيها ياء وهكذا.
والطريف كما قلنا أن الاتجاه الآخر الذي يذهب إلى عبقرية هؤلاء الكتبة يقدم مسوغات أو يقدم تحليلات نقدية ذات طابع فني في تسويغ أمثلة هذه الأخطاء فيقول بعضهم مثلاً أن إضافة هذه الياء الجديدة في كلمة بأيد إنما تشير إلى رمز مهم هو أن الله سبحانه وتعالى يتمتع بقوة متميزة متفردة وهذه الإضافة أي إضافة الياء ترمز إلى تلك القوة التي تختلف عن القوة العادية في الموجودات الأخرى.

من أمثلة هذه المسوغات مثلاً ذهاب هذا النمط من المحللين أو النقاد أو المقومين ذهابهم إلى أن الواو المحذوفة في كلمة مثل يمحو الله الباطل حيث حذفت الواو من هذه الكلمة وكتبت بثلاثة حروف فحسب الياء والميم والحاء والواو حيث يعلل ذلك بأن حذف الواو يتناسق تماماً مع حذف الباطل ومحوه أي إن الواو عندما حذفت فهي ترمز أي أن الباطل يحذف ويمحى وهكذا سائر الكلمات التي  ثبتت فيها الواو في مكان لا ينبغي أن تمحى أو محيت الواو في مكان ينبغي أن تثبت وهكذا.

إن أمثلة هذه المسوغات لا يمكن أن يطمئن إليها القارئ الجاد بقدر ما يذهب من خلال ذلك إلى أن هؤلاء المؤرخين أرادوا أن يضفوا الشرعية على الكتابة المذكورة وكان مثل هذا التقويم يتسم بالصواب فعلاً في حالة ما إذا وردت نصوص من المعصومين (عليه السلام) تشير إلى هذا المعنى. أما أن يجتهد الباحث فيذهب إلى أن هذه الزيادات أو هذه الأنماط من الحذف تنطوي على الأسراب فأمر لا يمكن أن نتقبله. والطريف أيضاً هو أن نلاحظ أن نفس الكلمة التي تكتب في مكان ما محذوفة الواو أو الياء تكتب في مكان آخر مثبتة بذلك وهذا الأمر أيضاً يسوغه المدافعون عن  الكتبة يسوغه بأنه منطو على أسرار قد لا يفقهونها.

وأما بالنسبة إلى خلو التدوين من التنقيط ومن التشكل فيسوغ هؤلاء المدافعون عن الكتبة يسوغ ذلك بأنهم كانوا متعمدين في ذلك وليس لجهل منهم مثلاً يقولون إن الكلمة التي يحتمل فيها أن تقرأ قراءتان أو أكثر تكتب بنحو يحتمل ذينك القراءتين أو القراءات الأكثر فمثلاً يستشهدون بالكلمات الآتية وهي يخادعون الله مالك يوم الدين ووعدنا موسى الخ. حيث يستشهدون بأن كتابة هذه الكلمات ويخادعون ومالك ووعدنا بحذف الألف حينئذٍ فإن هذا الحذف يجعل القارئ محتملاً للقراءتين أي القراءة القائلة يخادعون والقراءة القائلة يخدعون وعندما يكتبون التاء مثلاً مرة مفتوحة ومرة مغلقة فللإشارة إلى أن المفتوحة دلالة على لغة طي مثلاً ويشيرون مثلاً إلى أن الألف عندما تكتب واواً في مثل الصلاة والزكاة فإنما يكون ذلك من أجل التفخيم لكل من الصلاة والزكاة ولعل التسويغ الأقل سوءاً مما تقدم هو ما يشير إليه البعض من أن حذف الألف في الصلاة والزكاة إما هو عائد إلى أن الأصل في ذلك هو الواو حيث قلبت إلى ألف وهكذا.

المهم لا نريد أن نتابع الحديث عن هذه الجوانب بشكل مفصل حيث أن الكتب التي تتحدث عن علوم القرآن وتاريخه تحفل بعشرات الصفحات المدونة لهذه الجوانب فيما لا نرى ضرورة لذلك جميعاً ما دمنا قد قلنا أن المصحف الذي وصل لأيدينا الآن هو ما روي عن طريق رواية حفص عن عاصم عن السلمي عن الإمام علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن جبرائيل (عليه السلام) عن الله سبحانه وتعالى وكفى بذلك وهو أمر أجمع عليه غالبية المؤرخين أو غالبية المعنيين بشأن القرآن الكريم وبشأن القراءات حيث أن هذا الإسناد إلى علي (عليه السلام) حيث قرأ عليه عبد الرحمن السلمي وحيث أخذها عاصم منه وحيث رواها حفص عنه أولئك جميعاً بالنسبة إلينا تظل حجة شرعية بالإضافة إلى ما قلناه من أن المعصومين (عليه السلام) صرحوا في مختلف عصورهم بأن القرآن الذي علمناه هو حجة شرعية علينا وكفى الله المؤمنين شر القتال.

أما بالنسبة للأخطاء الإملائية ونحوها فلا شأن لنا بها ما دام القرآن يقرأ وحتى في حالة كتابته فإن الكتابة تظل هي في الواقع مجرد شكل خارجي والأصل هو المضمون والمضمون يتمثل في القراءة الصحيحة كما هو واضح. فعندما نتلفظ بكلمة الصلاة حينئذٍ فإن الصلاة تشير إلى المعنى المحدد لهذه الكلمة بغض النظر عن كونها كتبت بالألف أو الواو كما هو واضح أيضاً المهم نود أن نشير إلى أننا نكتفي من الحديث عن القراءات بما قدمناه من إشارات عابرة وإذا أراد الطالب أن يأخذ تفصيلات متنوعة عن هذا الجانب فعليه أن يرجع إلى المضان التي تتحدث عن هذا الجانب وهي كتب مفصلة جداً ولكننا نكتفي بما قدمناه على أن نحدثكم في محاضرات لاحقة عن موضوعات جديدة إن شاء الله سبحانه وتعالى وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.