المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 04.doc

نتابع حديثنا عن علوم القرآن الكريم وتاريخه حيث بدأنا في الحديث عن هذا الجانب، بدأناه بتعريف الوحي ثم بكيفية حدوثه ثم تحدثنا عن نزوله جملة أو تفريقاً، وانتهينا إلى الحديث عن تنفيذ سوره أو جمع القرآن الكريم بهذا النحو الذي نجده الآن بين أيدينا من حيث الكيفية التي تم خلالها جمع القرآن الكريم وتأريخه بهذا النحو.

وقد ألمحنا في نهاية محاضرتنا السابقة إلى أن الحديث عن جمع القرآن وترتيب سوره يظل من أعقد الموضوعات المرتبطة بعلوم القرآن وتاريخه وهذا ما نبدأ ونوضحه الآن فنقول إذا كان الحديث مثلاً عن آيات القرآن الكريم وترتيبها من الموضوعات شبه المتفق عليها من قبل المؤرخين، نظراً لصراحة النصوص الواردة من جانب وإجماع الباحثين من جانب آخر إلا ما شذ حيث ألمحنا إلى أننا سوف نسلط الإنارة الكاملة على هذا الجانب في محاضرات لاحقة إن شاء الله.

إلا أننا الآن أردنا أن نشير ولو عابراً إلى أن القرآن الكريم من حيث ترتيب آياته يظل واضحاً من حيث صراحة النصوص المشيرة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأن يضعوا كل آية بما يناسبها مع السور التي تتسق موضوعاتها بشكل أو بآخر، وهذا الموضوع كما قلنا هو شبه متفق عليه أو مجمع عليه من قبل المؤرخين إلا من شذ بيد أن المؤرخين لم يقفوا في الواقع لحد الآن على الأسرار المتنوعة التي جعلت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتب القرآن الكريم من خلال آيات يرتبها وفق عمارة خاصة من بناء السورة الكريمة، حيث بلغت السور أكثر من مئة كما هو واضح.

المهم سوف نحدثكم كما كررنا إن شاء الله عن هذا الجانب بشيء من التفصيل مما لم يعرض له الباحثون قديماً أو حديثاً إلا أننا نبدأ الآن لنتحدث عن ظاهرة جمع القرآن الكريم وترتيب سوره وليس ترتيب آياته التي قلنا أنها شبه متفق عليه.

إنما يلفت النظر حقاً أن التفاوت في وجهات النظر بالنسبة إلى قضية ترتيب السور القرآنية الكريمة أو الإشارة إلى جمع القرآن الكريم يظل البحث عن هذا الموضوع مصحوباً بمشكلات بحثية متنوعة حتى أنه نستطيع القول بأن الباحث المدقق سوف لا ينتهي إلى موقف حاسم لهذه المشكلة بصفة أن من بحثها لم يتوفر على إكسابها بعداً تتحقق القناعة أو اليقين العلمي بها كما سنوضح ذلك بعد قليل.

المهم حينما يريد الباحث عن ظاهرة جمع القرآن حينئذٍ فإن الموضوع سوف ينسعب لديه إلى شطرين، أحدهما يرتبط بكيفية جمع القرآن، والآخر يرتبط بكيفية ترتيب سوره ونقصد بجمع القرآن الجمع من خلال الأدوات المتفرقة التي كان القرآن يكتب بها في العشب والأكتاف واللخاف والأقتاب ...الخ. أو ما يطلق عليه مصطلح الرقاع، وأما نحن فنطلق عليه مصطلح الألواح أو الصحائف حيث كانت هذه الألواح أو الصحائف وهي ما تشبه حديثاً الأوراق، حينئذٍ نقول إن هذه الألواح أو الأوراق أو الصحائف كانت متفرقة آنئذٍ حيث يشير المؤرخون إلى أن الوحي كان يكتب بواسطة هذه الأدوات أي الألواح حينما ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي فحينئذٍ تبدأ الكتبة أو يبدؤوا كتاب الوحي ويثبتون ذلك في الألواح المذكورة، ويبقى في مثل هذه الحالة متفرقاً بطبيعة الحال أي ما يكتب في الصحيفة أو جلد... الخ. يبقى متفرقاً ولكن جمعه فيما بعد يظل مسألة أخرى هي ما نود أن نعرض له خلال محاضرتنا الحالية، ولذلك فإن النصوص المؤرخة تشير إلى أن عملية الجمع لهذه الألواح أو الجمع للنصوص القرآنية الكريمة، تشير هذه النصوص إلى أنها جمعت إما في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في العهود التي تلت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أي في زمن كل من أبي بكر وعمر وعثمان حيث وحدت المصاحف في عهد عثمان كما يقول المؤرخون.

وهذا ما يتمثل في الإشارة إلى أن فلاناً من الكتاب أو فلاناً آخر أو مجموعة منهم ألفوا القرآن من الرقاع أو جمعوها وجعلوها في إضبارة مثلاً بحسب لغتنا الحديثة، وهذا هو أحد معاني جمع القرآن الذي تتحدث عنه كتب علوم القرآن الكريم وأما معناه الآخر وهو المقترن بأهمية البحث من حيث كونه يكتشف غموضاً وضبابية لحد الآن كما نرى دون يستطيع أحد أن يكشف عن الحقيقة، فهو ما يقصد به تركيب سور القرآن بهذا النحو الذي وصل إلينا، بدءاً من سورة الفاتحة وانتهاءً إلى سورة الناس، هذا الترتيب للسور يظل هو المستأثر بالبحث والملفع بالغموض والضبابية كما قلنا، وهو أمر يستدعي إلى محاولة إلقاء الإضاءة عليه بشكل ولو شبه مفصل فنقول:

الملاحظ أن المؤرخين عندما يتحدثون عن ظاهرة جمع القرآن يخلطون أحياناً بين دلالته الأولى التي أشرنا إليها وهي مجرد جمع المتفرق من الألواح وجعلها في إضبارة وبين معناه الذي يعني ترتيب سوره بهذا النحو الذي بين أيدينا الآن. ومهما يكن الأمر فإن الباحثين قدماءهم ومعاصريهم أيضاً عندما يتناولون هذه الجوانب نجدهم متفاوتين في وجهات نظرهم بشكل ملحوظ تماماً، ولسوف نركز الآن على هذا الجانب وإن كان البحث يضطرنا بالضرورة إلى أن نتطرق إلى الجمع بمعناه الأول.

وفي هذا السياق نقرر بداية أن الباحثين يذهب شطر منهم إلى أن القرآن الكريم في ترتيب سوره توقيفي كالترتيب في الآيات بلا فارق.

ويقرر هؤلاء أن القرآن الكريم نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا بترتيب خاص في آياته وسوره واحتفظ بهذا الترتيب عند نزوله متفرقاً خلال العشرين أو الثلاث والعشرين سنة وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفاعاً لذلك جمع القرآن الكريم في حياته بأكمله، هذا رأي شطر من الباحثين كما قلنا.

وأما الشطر الآخر من الباحثين فيذهب إلى أن ترتيب السور حدث بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، طبيعياً أن كلاً من الاتجاهين المذكورين يتفاوت أيضاً في وجهات النظر الفرعية من حيث المستوى الذي تم خلاله ترتيب السور القرآنية الكريمة. فمثلاً الاتجاه الذاهب إلى أن جمع القرآن كاملاً تم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الاتجاه يتوزع في أكثر من طائفة، فهناك من يذهب إلى أن السور جميعا رتبت في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهناك من يذهب إلى أن الغالبية من السور رتبت في حياته والبعض الثالث يذهب إلى أن البعض فقط رتب في حياته هذا إلى أن هناك من يذهب إلى أن القرآن الكريم جمع بأكمله عدا سورتين هما البراءة والأنفال تمت بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا هو ملخص الاتجاه الأول بطوائفه المتفرعة كما لاحظنا.

وأما الاتجاه الآخر ففي أحد فروعه أو أحد اتجاهاته الفرعية يكاد يتوافق مع الرأي الذاهب إلى أن جمع القرآن قد تم في الأعصر الأربعة، عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزمن كل من أبي بكر وعمر وعثمان. وهناك من يذهب إلى أن الجمع تم في الأعصر الثلاثة عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل من زمن الأول والثالث وهناك اتجاه ثالث يذهب إلى الأعصر الثلاثة التي تعقبت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن من يذهب إلى أن الجمع قد تم في عصري عمر وعثمان ومضافاً إلى ذلك وهو الاتجاه الأخير الذاهب إلى أن الجمع منحصراً في عصر الثالث فحسب.

نقول إن أمثلة هذا التفاوت الملحوظ في وجهات النظر يدع مشكلة حسم الموقف لا نهاية لها كما كررنا وما يعنينا الآن هو أن نناقش هذه الاتجاهات فنقول:

 

أولاً: إن الشطر الأول من الباحثين يستند قسم منه إلى دليل عقلي، والآخر يستند إلى دليل روائي في ذهابه إلى أن القرآن الكريم قد جمع في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمستند إلى الدليل العقلي هو الذهاب إلى أن اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم وبكتابته وبالحرص على نشره بين الناس حيث كان كتاب الوحي المتنوعين كما هو واضح وحيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحث الحفاظ منهم على تعليم القرآن للآخرين، حتى أن مهر الزوجة مثلاً كان في حالات متنوعة يقوم على تعليم القرآن بالإضافة إلى أن الحفاظ للقرآن كانوا بالعشرات بل المئات خلال سنوات الرسالة، وهنا تشير المصادر إلى أن المئات من هؤلاء القراء قتلوا في معارك حدثت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيما سحبت أثرها على تكليف الموقف بالنسبة إلى جمع القرآن في نظر الاتجاه الثاني الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

المهم إن هؤلاء القراء والحفظة الذين كانوا يعلمون تلامذتهم من جانب ثم انتشار هذه الظاهرة من جانب آخر حيث تشير النصوص المؤرخة إلى أن دوي القرآن الكريم كان يسمع من مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسواه كما يسمع في البيوت وأن الأنصار المختلفة كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرسل إليها من يعلم القرآن الكريم أولئك جميعاً بالإضافة إلى تسريح القرآن الكريم ذاته بأن الله تعالى هو الجامع والحافظ كقوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنا وقول تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). أولئك جميعاً تعني أن جمع القرآن تم في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث وجود العشرات من الحافظين والكاتبين الذين حرصوا على حفظ القرآن في صدورهم بخاصة والقسم الآخر احتفظ بالكتابة كما هو معلوم أيضاً أولئك جميعاً تعني أن جمع القرآن الكريم لا يمكن أن يتأخر إلى ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهناك مسوغات أخرى يذكرها المؤرخون لعلوم القرآن فيما لا نرى الآن مجالاً لاستعراض ذلك وندع الغالب نفسه يقف عند المصادر المشار إليها.

المهم ما تقدم يمثل الأدلة العقلية التي ارتكن إليها هؤلاء الباحثون الذاهبون إلى أن القرآن الكريم جمع في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما فيما يرتبط بالأدلة النقلية فيقول المؤرخون أن قسما من سور القرآن الكريم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل قد علم ترتيبها في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهناك نص يرد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذهابه إلى أنه أعطي السبع الطوال مكان التوراة كما أن ثمة من النصوص ما يشير إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ السبع الطوال وأنه يجمع المفصل في رقعة أو أن أحد المعاصرين ذكر سورة الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء كما هي عليها في القرآن الكريم أو كما هي عليها في الترتيب الحالي للقرآن الكريم بالإضافة إلى ما ورد من أن أحد الوفود سأل أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تحزيبهم للقرآن الكريم حيث كانت الإجابة بأنهم يحزبونه في ثلاث سور أو خمس سور أو سبع سور أو تسع سور أو إحدى عشرة سورة إلى آخره.

هذا بالإضافة إلى أن الحواميم رتبت ولاءا هو كذلك الطواسيم ولكن لم ترتب المسبحات بالشكل الذي رتبت فيه الحواميم والطوسيم من حيث الترتيب أولئك جميعاً تكشف بأن الترتيب للسور هو توقيفي وإلا لو كان الترتيب اجتهادياً لما فصل بين المسبحات مثلاً ولا بين قسم الشعراء وقسم القصص... الخ.

إضافة إلى ذلك جميعاً ما روي أن أحدهم سئل عن تقديم سورة البقرة وآل عمران وقد نزلت قبلهما أكثر من ثمانين سورة حيث جاء الجواب أنه ألف القرآن على علم ممن ألفه ومن كان معه فيه وإجماعاً على ذلك فهذا مما ينتهى إليه أو ينتهي إليه ولا يسأل عنه.

هذا ولا نغفل أخيراً من الإشارة إلى أن هناك من الدلائل أو الأدلة التي ذكرها أصحاب الاتجاه الأول وهو أن جبرائيل (عليه السلام) كان القرآن الكريم يعرض من خلاله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل عام ما عدا العام الذي توفي فيه حيث عرض مرتين مما يعني أيضاً أن العرض كان يتم فيه الترتيب النهائي لسور القرآن الكريم بيد أنه فضلاً عما تقدم فإن ثمة دليلاً يظل من الأحكام بمكان كبير ألا وهو الرواية المعروفة الواردة عن زيد بن ثابت القائلة كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع ومن البين أن قوله كنا مع جماعة نؤلف القرآن من الرقاع يعني أنهم كانوا قد رتبوا سوره بعد أن جمعوه وإلا ليس هناك من معنى للتأليف إذا لم يمكن دالاً على ما ذهبنا إليه وهو أن القرآن الكريم جمع في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذا هو ملخص وجهات النظر التي قدمها أصحاب الاتجاه الأول أي الاتجاه القائل بأن القرآن الكريم جمع في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن سوره رتبت أيضاً في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحو الذي لاحظناه قبل لحظات.

وأما الأدلة التي يقدمها أصحاب الاتجاه الثاني ونعني به الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم قد جمع ورتبت سوره الكريمة في الفترة التي أعقبت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تفاوت في وجهات النظر التي ذكرناها قبل قليل ولكن بنحو عام فإن الذهاب إلى أن القرآن الكريم جمع بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرتكن بنحو عام كما قلنا وليس بالشكل التفصيلي الذي سنعرض له فيما بعد ولكن من النحو العام يمكن أن ترد الأدلة على هذا النحو الآتي:

أولاً يقول هؤلاء أن زيد بن ثابت قد جمع القرآن الكريم في عهد الأول وهو أبو بكر ويحدثنا بهذه المناسبة بأن عمر استدعاه ذات يوم وقال له إن القراء قد قتلوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معارك محددة وأنه يخشى ضياع القرآن الكريم ولذلك إن فكرة جمع القرآن الكريم تفرض ضرورتها إلى آخر ما ورد في الرواية التي ينقلها المؤرخون وهنا يقرر زيد قائلاً بما مؤداه أنه كيف يصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن فيما بعد يبدو أن أبا بكر نفسه عندما أخبره عمر بأن القرآن يخشى من الضياع عليه أنكر ذلك أولاً إلا أنه اقتنع أخيراً وجاء دور زيد الذي أنكر هذه الصنيعة واقتنع في نهاية المطاف وبدأ في حينه بجمع القرآن الكريم حيث ذكر بأن عملية الجمع تمثلت في الارتكان إلى شاهدين يشهدان بصحة ما لديهما من النصوص القرآنية الكريمة.

وفي هذا السياق يقول زيد أنه استطاع من خلال هذه العملية أن يجمع القرآن الكريم من خلال الشاهدين خلا واقعة واحدة وحادثة واحدة هي الآيات الأخيرة من سورة البراءة حيث وجدها عند شاهد واحد إلا أن هذا الشاهد كان من الموثق بهم حيث وثقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حينه واعتبره صاحب شهادتين حينئذٍ وجده زيد أن هذا الشخص فأثبتها في القرآن الكريم.

وفي هذا السياق هناك من المؤرخين من يذهب إلى تفسير الشاهدين وفق تفسير آخر ويقصد به التفسير الذاهب إلى أن الشاهدين هما الحفظ أو الكتابة بمعنى أن الشاهدين أحدهما يشهد قولياً والآخر يشهد كتابياً... الخ. المهم إن هذا الاتجاه ذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتكن إلى هذه الرواية الواردة عن زيد بن ثابت.

هنا نود أن نلفت نظر الطالب إلى نقطة مهمة جداً هي أن هذه الرواية التي يرويها زيد تتناقض تماماً مع الرواية التي قرأناها عليكم قبل لحظات وهي الرواية التي استدل بها الذاهبون إلى أن القرآن الكريم جمع في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أن الراوي هو زيد بن ثابت القائل بأن مؤداه أننا كنا نجمع القرآن الكريم في عهد النبي من الرقع إلى آخر ما تلوناه عليكم من الحديث المشار إليه ألا ترون أن هذا الحديث القائل بأنه جمع القرآن في عهد النبي وبين الحديث القائل أنه جمعه في عهد أبي بكر بل إنه استنكره استنكاراً فظيعاً قائلاً كيف نصنع ما لم يصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنه إلى صحة الرواية الأولى هو الذي جمع ذلك في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الآن ضرب النظر عن هذا التضاد أو التضارب بين الروايتين الواردتين عن شخص واحد هو زيد بن ثابت نقول ذلك بأن الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن جمع في ما بعد حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الاتجاه أيضاً يتشعب إلى اتجاهات أخرى تتفاوت في وجهات نظرها من خلال عملية الجمع المشار إليها فهناك مثلاً من الروايات ما يشير إلى أن الجمع تم في حياة عمر وهناك من الروايات ما يشير إلى أن الجمع تم في حياة عثمان وهناك من الروايات ما يشير إلى أن عمر بدأ بجمع القرآن ولكنه لم يتم إلى آخره.

وأخيراً هناك الاتجاه القوي جداً وهو الاتجاه الذاهب إلى أن الثالث أي عثمان هو الذي توفر على جمع القرآن الكريم وترتيب سوره وفي هذا السياق يقدم المؤرخون جملة أدلة على هذا القول وفي مقدمة ذلك يرون الرواية المعروفة الواردة عن حذيفة عندما كان في سوريا يغازي أهل أرمينية إلى آخره ووجد هناك اختلافاً في القراءات إذ قال لأحد زملائه بأنه رأى أمراً عجيباً في سفره هذا حيث وجد أن أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد وكذلك وجد أهل دمشق يقولون أن قراءتهم خير من قراءة سواهم وأهل الكوفة أيضاً يقولون ذلك أن قراءتهم على ابن مسعود وأهل البصرة يقولون كذلك. بالإضافة إلى ما لاحظه حذيفة نفسه أيضاً في الكوفة عندما كان ذات يوم في مسجد الكوفة وهو يرى آثار الاختلاف المشار إليه مما جعله يغضب ويقرر الذهاب إلى عثمان لإخباره بهذه القراءات التي يتفاوت القراء في قراءتها.. الخ.

وهناك من النصوص ما يشير إلى أن المدينة ذاتها شاهدت هذا النمط من اختلاف القراء في عهد عثمان بدوره حيث أخذ المعلم يعلم قراءة الرجل والآخر يعلم قراءة رجل آخر وهكذا حيثما كانوا يختلفون لذلك مما سحب على أن يكفر بعضهم البعض الآخر . إلى آخره مما تناهى إلى عثمان ذلك وهذا ما حمله على أن يقول بما مؤداه أنهم يلحنون في مدينته فكيف بمن كان ينهى عن الوسط الذي يعيش فيه.

المهم يقول المؤرخون أن حذيفة أخيراً ذهب إلى عثمان وأخبره الخبر وعقد عثمان اجتماعاً في حينه مع بعض الصحابة وأقروه على ذلك وكان هذا المشروع وهو توحيد المصاحف على قراءة واحدة أمراً قد تم الإجماع عليه عدا ما نقل عن ابن مسعود حيث كان قد رفض هذا المشروع ولكن الرواة يقولون أنه في نهاية المطاف قيل كما يذهب البعض إلى أن عثمان أوجعه ضرباً بسبب موقفه ولكن كما قلنا الرواة يقولون أنه اقتنع أخيراً بالمصحف الموحد الذي سنتحدث عن خطوطه بنحو سريع.

والمهم هو قبل أن نحدثكم عن هذا المصحف فإن هدفنا الإشارة إلى أن ثمة اتجاه يذهب إلى أن القرآن الكريم جمع في عصر أو في عهد عثمان مقابل الاتجاهات الذاهبة إلى أنه جمع في عصر أبي بكر والاتجاه الذاهب إلى أنه في عصري أبي بكر وعمر والملاحظ أيضاً في هذا السياق أن هناك من يضع فارقاً بين جمع القرآن من حيث كونه مجرد جمع لمتناثراته وبين كونه تأليفاً لسوره وبين كونه مجرد توحيد للقراءة أي هناك ثلاثة اتجاهات أو ثلاثة أقوال أو ثلاثة آراء يقول أحدها أن الجمع تم في عهد عثمان ولكن في نطاق القراءة فحسب وهناك من يذهب إلى أنه تم في نطاق القراءة وترتيب السور أيضاً وهناك من يذهب إلى أن الجمع قد تم من خلال مجرد جمع النصوص المتناثرة ولم بعضها إلى الآخر وجمعها في إضبارة.

ويقدم كل من هذه الاتجاهات دليلاً على ما يذهب إليه حيث يذهب مثلاً الذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع في نطاق ترتيب السور يستند إلى ما ورد في الرواية به من أن أحدهم سأل عثمان قائلاً بما مؤداه كيف قارنتم بين سورتي الأنفال والبراءة ولم تجعلوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فأجابه بما مؤداه أن السورة الأولى نزلت في أوائل العهد بالمدينة والأخيرة نزلت في أواخر ذلك وأنه وجد تشابهاً بينهما فظن أن أحدهما مكمل للآخر لذلك أدرج هاتين السورتين أو بالأحرى قرن بين هاتين السورتين ولم يضع بينهما بسم الله الرحمن الرحيم.

هنا نود لفت نظر الطالب إلى أن المعروف الرواية الواردة عن أهل البيت (عليه السلام) وهم الحجة بطبيعة الحال في كل ما نقتنع به من وجهة النظر المعروفة أن أهل البيت (عليه السلام) ذكروا بأن عدم وجود البسملة في سورة براءة لسبب هو أن البسملة هي في الواقع أمان ولكن البراءة نزلت بأمر قتال لذلك لا يناسب الموقف وجود البسملة.. الخ.

المهم هذه هي وجهة نظر الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع من حيث ترتيب سوره في عصر عثمان مستنداً إلى هذا الدليل الذي يكشف عن أن عثمان تصرف في ترتيبه للسور وهناك أيضاً وجهات نظر أخرى أو بالأحرى أدلة أخرى أعرضنا عنها اختزالاً للموقف.

وأما الاتجاه الذاهب إلى أن الجمع تم في نطاق القراءة فحسب فهذا ما يذهب إليه الأكثرية من الباحثين ودليلهم على ذلك هو الحوادث التي ذكرناها قبل قليل حيث شوهد اختلاف في المدينة بين القراء وشوهد الاختلاف في دمشق وشوهد الاختلاف في أماكن أخرى كل ذلك حمل المعنيين بالأمر على أن يوحدوا القراءة بالنسبة..

وفي هذا السياق يقول المؤرخون عن عثمان ندب مجموعة من الأشخاص ومنهم زيد بن ثابت وآخرين ندبهم لعمل بهذا الجانب بالنحو الذي ذكرناه قبل لحظات أيضاً. المهم أن الاستدلال الذي يرتكن إليه هؤلاء الذاهبون إلى أن عمل عثمان كان في نطاق توحيد القراءة فحسب الاستدلال على ذلك هو ما لوحظ في الاختلاف في القراءات فحسب دون أن ينسحب ذلك على الاختلاف في ترتيب السور.

وأما الدليل الذي يقدمه الاتجاه الثالث الذاهب إلى أن عملية جمع في زمن عثمان لم تكن إلا جمعاً فحسب لنصوص متفرقة من القرآن الكريم دون أن يرتب ذلك عبر سور هذا الاتجاه يرتكن بشكل واضح إلى الحوادث التي ذكرناها بالنسبة إلى طريقة جمع القرآن من خلال الشاهدين إلى آخره.

المهم أن الاتجاهات المشار إليها بتفصيلاتها المتقدمة تجسد واحداً من الاستدلال الذي يرتكن إليه أصحاب الاتجاه الثاني ونعني به الاتجاه القائل بأن عملية جمع القرآن وعملية ترتيب سوره وتوحيد قراءاته كل ذلك تم في العهد الذي أعقب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس في حياته. هذا كما قلنا واحد من الأدلة التي يقدمها هذا الاتجاه.

الدليل الآخر الذي يقدمه هذا الاتجاه هو الرواية الواردة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى الإمام علي (عليه السلام) بأن يأخذ القرآن ويجمعه قائلاً: (يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه).

وفي هذا السياق يتساءل هؤلاء بما مؤداه ألا يعني أن القرآن الكريم كان منتثراً في الألواح أو الصحائف حيث أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمعه وأن قوله لا تضيعوه يكشف عن ذلك بوضوح كما أنه يعني أنه مجموع أولاً في إضبارة ويعني ثانياً أنه إذا ضيع ففي ذلك خسارة ليس هذا فحسب بل إن ما قام به الإمام علي (عليه السلام) بالفعل يشكل دعماً بالدليل المشار إليه حيث تذكر النصوص التاريخية بأن الإمام علي (عليه السلام) قد نفذ وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه في الوقت الذي كان فيه القوم مشغولين بالسقيفة وأحداثها بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة كان الإمام علي (عليه السلام) مشغولاً بجمع القرآن الكريم وفق ترتيب خاص حيث عبر أحدهم بأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا.

كما أن التوصية بعدم إضاعة ذلك فيحتمل قوياً أنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقصد بذلك ما حدث بالفعل حيث تشير النصوص المؤرخة إلى أنه (عليه السلام) أي أن الإمام علياً (عليه السلام) عرض هذا الترتيب على القوم فرفضوه لذلك أعاده إلى بيته قائلاً لهم بما مؤداه ألا أنكم لن تروه بعد الآن أبداً وحملهم مسؤولية ذلك بطبيعة الحال. وسنعود في حين إن شاء الله إلى الحديث عن هذا الجانب من زوايا أخرى ترتبط بمصحف الإمام علي (عليه السلام) إلى أننا استهدفنا الإشارة فحسب إلى أن هذا الموقف يتمسك بالاتجاه الثاني الذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع ورتبت سوره بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا إلى أن هناك أدلة أخرى سنقف عندها إن شاء الله في لقاء لاحق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.