المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 30.doc

نواصل حديثنا عن الإعجاز الصوري في القرآن الكريم حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة عن هذا العنصر وأهمية هذا العنصر وحدثناكم عن أشكال متمثلا ذلك في أشكال كالتشبيه والاستعارة والرمز والفرضية والتقريب و..و الخ.

حيث وقفنا عند واحد من هذه الأقسام وهو عنصر التشبيه، وقلنا أن هذا العنصر يجسد من جانب اكبر نسبة من الاستخدامات الصورية بالقياس إلى الأشكال الصورية الأخرى، وقلنا من جانب آخر أن هذا النمط من الصورة أي التشبيه يختلف أو يتفاوت أو يتميز عن سواه، من حيث استخدامه أو من حيث توكأه على أدوات خاصة به متمثلة بالأدوات الثلاثة الكاف وكأن ومثل، وأوضحنا في حينه كيف أن هذه الأدوات الثلاث يتميز كل واحد منها أو تميز كل واحدة منها بميزة خاصة، بحيث تستخدم الأداة كاف للمقارنة بين طرفين يمثلان الدرجة المتوسطة من التماثل، وتجسد الأداة كأن مقدارا أقل وهو 25 بالمئة تقريباً، وعلى العكس من الأداة الثالثة وهي مثل حيث تجسد النسبة الأكبر من النصف ونعني بها نسبة 75 بالمائة واستشهدنا بأمثلة في هذا الميدان.

وأما الآن فنتابع حديثنا عن هذا الجانب ونقول في الواقع أن هذه الأدوات الثلاث التي استخدمها القرآن الكريم استخداما بلاغياً إعجازياً، أي الدقة الملاحظة في استكمال أي واحد من هذه الأدوات بخلاف عدم الدقة الملاحظة بالاستخدام البشري، نقول: إن هذا الاستخدام في الواقع لهذه الأدوات الثلاثة هذا الاستخدام يواكبه استخدام آخر يعوض عن هذه الأدوات بتعبيرات أو بألفاظ أو بكلمات أخرى تقوم مقام هذه الأدوات الثلاث من حيث الوظائف، على سبيل المثال الأداة كأن قلنا أن هذه الأداة في الواقع تمثل أصغر نسبة محدودة من التماثل بين طرفي السورة واستشهدنا في حينه بقوله تعالى عن حور العين كأنه الياقوت والمرجان حيث قلنا أن الياقوت تجسد ماهية تتباين تماماً عن ماهية الحور، ولذلك فإن نسبة لابد وأن تكون بهذا القدر القليل من التماثل بين الجانبين، بالقياس إلى النسبة التي لاحظناها مثلا بين الأنعام وبين الكفار لأنهما ينتميان إلى نسبة حيوانية بينهما، وإن العنصر المشترك هو انعدام العقل مقابل التشبيه الذي استشهدنا به عن حوار أحد ابني آدم عندما أراد أن يدفن جثة أخيه، حيث بعث الله غرابا ليريه كيف يواري جثة أخيه حينئذ دفن أخاه في التراب جاء الاستخدام على لغته أو على لسانه على هذا النحو، قال: (يا ولتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب)، فاستخدام مثل هنا تجسد النسبة الكبيرة جدا من التماثل لأن كليهما الغراب والمقتول ينتميان للجنس الحيواني، ولأن كليهما يملك وعيا ولأن كليهما يملك طموحا ولأن كليهما يوارى في الأرض، وكليهما مقتول..الخ.

هنا نقول أن النص القرآني الكريم قد يستخدم أحياناً عبارات تقوم مقام هذه الأدوات ويمكننا أن نستشهد بهذه الأدوات ومنها الأداة كأن حيث استخدم لها القرآن الكريم أكثر من أداة بلاغية، منها على سبيل المثال استخدم كلمة (حسبتهم) إن كلمة حسب ويخال و..الخ.

أن يلاحظها في القرآن الكريم وفي النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام). أيضاً تأتي هذه الأدوات أو بالأحرى تأتي هذه العبارات بديلاً عن الأدوات المستخدمة في مجال التشبيه لأسباب سنوضح أيضا دلالتها بعد قليل إن شاء الله تعالى. ولكننا نود أن نشير إلى أن الأدوات التي يمكن أن تبدل أو تعوض، وأن العبارات التي يمكن أن تعوض عن الأدوات يتمثل بعضها بالنسبة إلى الأداة كأن التي تمثل النسبة الضئيلة من التماثل بين ظاهرتين، لاحظوا قوله تعالى (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤ منثورا)، فهنا أيضاً يتحدث عن الحور العين، ويتحدث عن التشبيه بين الحور العين وبين اللؤلؤ المنثور تماماً كما لاحظنا باستخدامه لأداة كأن المستخدمة في سورة الواقعة، القائلة (كأنهن الياقوت والمرجان)، فالياقوت والمرجان يتماثلان مع اللؤلؤ المنثور في كونهما مادتين تتباينان على العنصر المتمثل في الحور.

من هنا نجد أن القرآن الكريم استخدم كلمة حسب بدلاً من كلمة أو بدلاً من كأن، وطبعا هنا سوف نتسائل لماذا استخدمت هنا حسب بدلا من كأن، هذا ما نؤجل الحديث عنه بعد أن نحدثكم عن الأدوات الأخرى التي عوضت أيضاً بكلمات مماثلة لها، فمثلا نجد في موقع آخر من القرآن الكريم تعبيراً يتحدث أيضاً عن التشبيه باللؤلؤ والمرجان وما إلى ذلك، ولكنه لم يستخدم كلمة كأن بل استخدم كلاً من الكاف زائدة كلمة مثل، لاحظوا قوله تعالى (كأمثال اللؤلؤ المكنون)، هنا قد يتساءل الطالب قائلا إذا كانت النسبة بين الحور وبين اللؤلؤ المكنون هي تلكم النسبة الضئيلة التي تكفلت الأداة كأن بها فلماذا هنا استخدمت الأداة كاف التي هي مجسدة للنسبة المتوسطة بالإضافة إلى كلمة أمثال ألا يتناقض هذا مع ذهابنا في الاستشهاد السابق إلى أن كأن هي تمثل النسبة الصغرى من التماثل.

هنا نقول أن كلمة مثل في الواقع تستخدم أيضاً استخداما بلاغيا خاصا، نتعرض له في حينه إن شاء الله أيضاً.

إن كلمة مثل تستخدم عبر أكثر من دلالة وفي مقدمتها بمعنى أمثال أو النموذج، فهنا نجد أن النص القرآني الكريم عندما شبه الحور العين بأمثال اللؤلؤ المكنون من خلال أداة الكاف إنما توكأ على الأداة مثل، وهذه الأداة مثل هي في الواقع أداة أيضاً لا تمثل الواقع الحرفي بشيء، وإنما تمثل أيضاً أنموذج واحد من نماذج المماثلة بين الشيئين، عندما نقول هذا الشيء مثال ذلك أو هذا النموذج مماثل لذلك النموذج، حينئذ فإن المقارنة بين النموذجين يعتبران تشبيها دون أدنى شك، من هنا عندما جاءت عبارة مثل في الواقع لتجسد نمطا من التشابه الذي يتوافق تماماً مع تلك النسبة الضئيلة التي تقول كأن هي التي تتوكأ عليها. ويمكنكم ملاحظة ذلك في عشرات النصوص القرآنية الكريمة التي تستخدم كلمة مثل وإليكم بعض هذه الأمثلة.

يقول تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة أنبتت سبع سنابل)، هنا تلاحظون أن الاستشهاد أو المقارنة بين الإنفاق وبين الزرع يمثل نسبة صغيرة لأن كل من الإنفاق المترتب بالبشر يختلف عن الزرع بصفته أيضاً مادة كاللؤلؤ أو كسواها، من المواد التي تتباين مع طبيعة الإنسان، فالإنفاق عملية معنوية والزرع عملية مادية كما هو واضح ولذلك فإن التماثل يظل مجسدا للنسبة الصغيرة بيد أن الكاف زائداً المثل هي التي اجتمعتا لتعوضا عن الأداة كأن من حيث مماثلة كل منهما لتسيير النسبة الضئيلة التي أشرنا إليها.

يبقى أن نتساءل لماذا جاءت عبارة (مثل + الكاف) تساوي كأن، هذا ما نبدأ بتوضيحه الآن.

إن النص يريد أن يقول لو الآن حللنا هذا النص وهو التشبيه السابق وهو مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة الخ. نقول أن المثل يريد أن المثل يريد أن يقول ما يلي: إن نموذج الأشخاص الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كنموذج الحبة التي أنبتت سبع سنابل..الخ.

إذا الكاف التي تمثل النسبة الوسطى من التقريب بين الطرفين جاءت في سياق النموذج، ولا تجيء في سياق مباشر مع الظاهرة التي تمثل الطرف الثاني، لذلك قالت بأن النموذج الذي يجسد هؤلاء الأشخاص يشبه النموذج الذي يجسد الزاوية، فالتشابه هنا أو بالأحرى استخدام كلمة الكاف إنما جاءت في مرحلة ثانية من مراحل التماثل بين الطرفين فالمرحلة الأولى وهي التي تمثل التماثل الصغير الحجم هو التماثل بين الحبة وبين الإنفاق، ولكن بما أن كلاً من الحبة والإنفاق يمثل نموذجا فإن التشبيه جاءت لتجسيد هذا النموذج أو هذا التمثيل للنموذج وليس للنموذج نفسه، إذا لاحظتم كيفية الدقة البلاغية التي استخدمها النص القرآني الكريم من حيث العبارات التي عوضت عن الأداة كأن.

وإذا تركنا هذه الأداة واتجهنا إلى ما يضادها وهي الأداة التي تستخدم لتجسيد النسبة الكبيرة من التماثل، ونعني بها الأداة مثل حيث استشهدنا بنموذج واحد فحسب، وهو النموذج القائل أحد ولدي آدم (يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب)، لقد قلنا أن استخدام كلمة مثل بالقياس إلى كأن يظل أقل حجما وكلا من استخدام كأن ومثل يظل اقل حجما بالنسبة للأداة الكاف. وسنوضح أيضاً أسباب ذلك لاحقا إن شاء الله. بيد أننا الآن في صدد أن نحدثكم عن عبارات التي تعوض عن الأداة مثل وهذا ما نجده أيضاً في اكثر من أسلوب يتبعه القرآن الكريم من حيث البعد البلاغي، حيث يستخدم في الكثير من الحالات المصدر، كتعبير مماثل تماما للأداة مثل.

لاحظوا قوله تعالى على سبيل المثال وهو يتحدث عن الكفار (فشاربون شرب الهيم)، لاحظوا أن الشرب تماثل تماما الأداة مثل حيث أن الطرفين والهيم التي تشرب الماء بنهم الكفار الذين يشربون الحميم بنهم أيضاً لاحظوا التماثل في عملية الشرب، كما لاحظتم التماثل في عملية المواراة بين الغراب وبين أحد ابني آدم.

فالتماثل بين الجنس البشري والجنس الحيواني يظل من الوضوح بمكان كبير كذلك هنا نلاحظ تماثلا بين الجنس الحيواني والجنس البشري، من خلال عملة الشرب ومن خلال عملية المواراة هناك، إذا (الجنس البشري+ الحيوان) وهناك أيضاً (الجنس البشري + حيوان) أيضاً، حينئذ هذان الجنسان اللذان يتماثلان في طبيعة عضويتهما الحيوانية، نجد أن النص القرآني الكريم يتخذ لهما ظاهرة مماثلة هي ظاهرة الشراب أو ظاهرة المواراة وما إلى ذلك، وهي بهذا طبيعيا تختلف عما لاحظناه بالنسبة إلى التشبيه بين الكافر وبين الحيوان من حيث انعدام العقل، لأن انعدام العقل هو الملاحظ في السمة المشتركة بينهما، بينما هنا ليس انعدام العقل الملاحظ هنا بعمليات فيزيقية خاصة أي يشترك فيها البشر مع الحيوان، بينما ظاهرة انعدام العقل فإن المسألة هي ظاهرة معنوية تتمثل في انحطاط الذهنية لدى الكاف.

المهم يمكننا أيضاً أن نلاحظ أمثلة متنوعة لهذا الجانب ولكننا نكتفي من ذلك بما تقدم ونشير بعبارات سريعة جدا هو أن النص القرآني الكريم عندما يستخدم أدوات التشبيه أو الكلمات المعنونة عنها، إنما يستخدمها وفق أسلوب دقيق جداً، لم تتوفر التعبيرات البشرية على صياغته كما هو مألوف لمن يقرأ عشرات أو مئات النصوص الموروثة والحديثة حيث تستخدم الأدوات فيه بشكل اعتباطي لا يخضع للموازين التي لاحظناها سابقا.

وهذا فيما يرتبط بالتشبيه الذي يعتمد الأدوات المقارنة بين الطرفين، وهناك تشبيهات أو تقسيمات في الواقع للتشبيه تتفاوت أيضاً كل واحدة من هذه الصور التشبيهية عن الأخرى من حيث السياق الذي ترد فيه ومن حيث انتخاب الشكل الصوري الذي ترد فيه أيضاً، من ذلك ما نلاحظه بالنسبة إلى هذه الأدوات التي تتحدث عن التفاوت بين الشيئين ففي الأمثلة الماضية لاحظتم أن أدوات التشبيه كانت تكفل بإبراز الجوانب التشبيهية في الشي، أما الآن نوجه تشبيها من نمط آخر نركز على إبراز نقاط التفاوت أو التباين أي على عكس الحالة السابقة ولكنه مع ذلك فهو تشبيه، فمثلا نقرأ قوله تعالى بالنسبة إلى اليهود حيث يقول عن قلوبهم: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، وبالنسبة إلى الكفار أيضاً يكون بنص محدد بالنسبة إلى عقولهم أنهم (كالأنعام بل هم أضل سبيلا)، هذا النمط من التشبيه نسميه التشبيه المتفاوت أي التشبه الذي يبرز نقاط الفراق بين الطرفين، وليس إبراز نقاط التلاقي بينهما.

فالنص القرآن الكريم عندما يشبه أولاً قلب اليهودي بالحجارة إنما يقدم لنا تشبيها يقوم على إبراز عنصر التماثل كما هو واضح، وقد استخدم الأداة الكاف التي تعني النسبة المتوسطة أو العادية أو الطبيعية من التماثل بين الأشياء، ولكن بعد ذلك أعقبتها بعبارة تشبيهية متفاوتة تقول أو أشد قسوة، أي إنها أبرزت القسوة الأشد حجما من القسوة المعروفة عند الحجارة، وطبيعيا إذا كان المسوغ للتشبيهات السابقة أي التشبيهات التي تعتمد على إبراز عنصر التماثل إذا كان المسوغ هو إبراز هذا العنصر لكلي يتبين للمتلقي، أو لكي تتعمق قناعة المتلقي بوجود هذه السمات المماثلة بين الحيوان مثلا والإنسان من حيث انعدام العقل، حينئذ فإن وظيفة النمط الآخر من التشبيه وهو التشبيه المتفاوت، هو ليس مجرد تعميق القناعة بوجود أطراف مماثلة في هذا الجانب، بل يستهدف من ذلك إبراز ما هو أشد مفارقة من الطرف الآخر، فبالنسبة إلى قلب اليهودي عندما يشبهه هو أولاً بالحجارة حينئذ سيعمق معنى القسوة التي توجد في قلب اليهودي، ليشير بذلك بان درجة القسوة عند اليهودي هي درجة كبيرة، كما أن درجة الانحطاط العقلي عند الكافر هي درجة كبيرة.

ولكن هذه الدرجة الكبيرة تظل مفترقة عن درجة اكثر كبراً أو حجما من سابقتها إلى درجة تفوق التصور، وهذا ما تتطلع به الأنماط الأخرى من التشبيه، وفي مقدمتها هذا التشبيه الذي يحتمل التفاوت، فيقول هي كالحجارة أو أشد قسوة، أي أن الحجارة وهي ظاهرة مادية للقياس إلى الإنسان وهو ظاهرة بشرية، هذه الحجارة هي بالواقع أقل قسوة من قلب اليهودي، إذا كم يستطيع المتلقي أن يستخلص من هذا التشبيه المتفاوت من حيث وظيفته كم يستخلص أن لليهودي قلبا لا يرقى إليه من حيث القساوة حتى الحجر، لأن الحجر قد ينفجر منه الماء بالشكل الذي تحدث عنه السورة الفرعية القائلة (وإن من الحجر لما تفجر منه الأنهار)..الخ.

إذا تشبيه التفاوت يطلع بوظيفة هي إبراز ليس حجم التماثل بين القسوتين بالدرجة الأكثر التي تفوق حتى الظاهرة الحجرية، أو تفوق حتى الظاهرة الحيوانية بالنسبة إلى التشبيه الأسوأ الذي يقول انهم كالأنعام بل أضل سبيلا أي أن ذهنية الكافر هي أشد انحطاط وتخلفا ودونية من ذهنية الأنعام.

إذا تبين لنا أهمية هذا النمط من التشبيه الذي أسمناه بالتشبيه المتفاوت.

ننتقل من ذلك إلى نمط آخر من أنماط التشبيه الذي أسميناه بالتشبيه المتضاد فإذا كان النمط المتقدم يرتبط بإبراز النمطين بين طرفي الصورة فثمة نمط آخر يتطلع بإبراز التضاد بين الطرفين لاحظوا قوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، فالأعمى في مضادته للبصير، والأصم في مضادته للسميع، يرتكز إلى صورة تشبيهية أيضاً، إلا أن الهدف هو المقارنة بين شيئين من خلال تضادهما ما دام هدف التشبيه هو الدلالة، حينئذ فإن مقابلة الشيء بما يضاده يعد وسيلة معرفية بدوره من حيث التعميق للدلالة كما هو واضح، بالإضافة إلى أن الأشياء تعرف بأضدادها، فإن نفس الانتخاب الذي أفرزه النص القرآني الكريم، وهو الأعمى مقابل البصير، والأصم مقابل السميع، حيث أن كلا من جهازي السمع والبصر يجسدان جهازاً أو يجسدان مجموعة أجهزة يعتمد الإنسان عليها كوسائل لاكتساب المعرفة كما هو واضح، وحينئذ عندما ينتخب أسلوبين أو طرفين متضادين من خلال الأجهزة المعرفية عند الإنسان حينئذ يكون قد أبرز من جانب البعد المعرفي، ومن جانب آخر أبرز التضاد بين المنحرف وبين الصوي، بين المسلم وبين الكافر، بين المؤمن وبين العاصي..الخ.

طبيعيا ثمة نكتة بلاغية مهمة جدا في هذا النموذج الذي استشهدنا به، حيث انه تعالى كان يمكن أن يقول مثلاً مثل الفريقين كالأعمى والبصير وكالأصم والسميع، إلا انه جعل كلا من الأعمى والأصم في خط ثم جعل السميع والبصير في خط آخر جعل كلا منهما طرف للآخر لأسباب فنية أيضاً يمكننا أن نوضحها من خلال الإشارة إلى وحدة الجهاز المعرفي المتمثل في السمع والبصر، حيث الإنسان يتلقى المعرفة إما من خلال بصره من خلال ما يشاهده من الحقائق والبراهين أو الأدلة أو لما يستمع إليه من الأقوال، وحينئذ فإن جعل هاتين الأداتين أو هذين الجهازين من الأجهزة المعرفية جعل هذين الأداة واحدا إلى جانب الآخر بحيث لا ينفصل عنه يفرز النكتة التي لاحظناها الآن ونعني بها وحدة الجهاز المعرفي من جانب، وعدم انفصال أحدهما عن الآخر من جانب آخر.

المهم نتجه إلى نمط آخر من التشبيه وهو ما أسميناه بتشبيه التكرار وهذا من أنماطه ما لاحظناه قبل قليل من المقارنة بين الأعمى والبصير، وبين الأصم والسميع حيث خضع لتكرار صورتين صورة الأعمى والبصير والأصم والسميع، فإن أحدهما كاف لما يستهدفه النص من الدلالة، إلا أن النص كرر صورتين بدلا من الواحدة لجملة مسوغات منها ماقلناه ومنها أن التكرار يسهم أساساً في عميق أكثر للدلالة ومن هنا فإن الأنماط الأخرى تسهم بدورها في تعميق الدلالة وبهذا مثلا قوله تعالى (كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) ومن نحو قوله تعالى (كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منه)، ففي الصورة الأولى أن النص قد اتخذ جهاز السمع دون البصر وكرر ذلك من خلال الفقرة كأن لم يسمعها، ثم من خلال الفقرة كأن في أذنيه وقر، فانتخاب السمع فحسب له دلالته المدهشة هنا، بصفة أن النص بصدد أن المنحرف ليس لديه استعداد لاستماع الحقيقة بتاتا، وأما الصورة فإن المنحرف في المرحلة الأولى من استجابته يصطنع عدم استماعه مع انه قد سمع قول الحقيقة، ولكنه غير مستعد لأن يؤمن بها، فيصطنع عدم الاستماع ثم إن عدم الاستماع في واقعه حائد إلى خلل عضوي في السمع وهو الوقر، حينئذ فإن التشبيه المتكرر كأن في أذنيه وقرا يحمل مسوغه الجمالي في الإفصاح عن بلوغ الدرجة القصوى في انغلاق الذهنية، لأن عدم الاستماع إذا اقترن بالوقر عندها تنغلق تماما قابلية الاستماع إلى الحقيقة وهذا ما استهدفه النص من الصورة المتقدمة أي الأولى.

وأما الصورة التكرارية الأخرى ونعني بها قوله تعالى (كمثل الذين من قبلهم) ثم إردافها كمثل الشيطان..الخ، فلها صياغتها الخاصة وسياقها الخاص حيث شبه النص في الصورة الأولى من النص موقف المنافقين من اليهود في وعدهم للنبي بالنص وخذلانهم فيما بعد شبههم بمن قبلهم من المشركين أو من طائفة يهودية أخرى ووعدهم المنافقون لما تخلفوا عن نصرتهم، وأما الصورة التالية بموقف الشيطان بعامة من المنحرفين حيث يشجعهم على الكفر وهذا يعني أن السياق يتطلب هنا تكرار لتشبيهين يتماثلان في كونهما يصبان في دلالة مشتركة هي الوعد بالنصرة ثم خلف الوعد، والمسوغ للصورة التشبيه المتكرر هو أن الشيطان يمثل في الحالات جميعا عنصر السلوك المذكور أي التشجيع على الانحراف والبراءة ومن ثم شجع في نهاية المطاف.

على أية حال إن التكرار المتقدم لهذه الصورة التشبيهية إذا كان السياق قد فرضها بهذا الشكل فثمة نمط آخر من التكرار للصور، ولكن ليس من خلال التكرار لصور متماثلة بل لصور تتداخل فيما بينهما، وهي ما أسميناها بالصور المتداخلة، ونقصد بذلك صياغة تشبيهين أو أكثر يتمثل أحدهما على الآخر طبيعيا أن هذا التداخل لا يخص التشبيه فحسب بل يشمل جميع الصور ولذلك كان الأجدر أن نتحدث عن هذه الظاهرة بشكل عام أي بشكل ليس بالتشبيه فحسب بل أيضاً بالاستعارة والتمثيل والرمز والكناية الخ. ولكننا مع ذلك استهدفنا الآن أن يشير إلى أنماط التشبيه حتى يستطيع الطالب أن ينظر إلى من خلال هذا النمط من التشبيه يستطيع أيضاً أن يستخلص أنماطا أخرى من التداخل تشبه هذا الجانب، نقول:

أن التشبيه المتداخل يخضع لبلاغات قرآنية متنوعة ومنها صياغة تشبيهين يترتب أحدهما على الآخر من حيث الطرف المشبه به كقوله تعالى (كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم)، حيث شبه طعام أهل النار بالمهل، ثم شبه المهل بالحميم من حيث غليانه، ثانيا صياغة تشبيهين يترتب أحدهما على الآخر ولكن من حيث تعدد الشبه لقوله تعالى (ترمي بشرر كالقصر كأنه جمال)، لاحظوا هنا أن هذا التشبيه ينطوي على أداتين إحداهما الكاف والثانية كأن ومع أن هذا التشبيه الواحد المتداخل ولكنه استخدم في القسم الأول من التشبيه الكاف، واستخدم في القسم الثاني الأداة الأخرى كأن، وهذا يضطرنا إلى أن نذكركم بالبلاغة المتمثلة في استخدام أدوات التشبيه بشكل إعجازي ودقيق، بحيث يحسب الآن أن نعيد هذا الكلام ولو عابرا لفائدته، لاحظوا كيف أن قوله تعالى في القسم الأول من التشبيه عن النار كأنها ترمي بشرر فهو يتحدث عن عمود النار من حيث ضخامته، حيث شبهه بالقصر وكما تقول النصوص المأثورة أن العرب أنئذ كانوا يشبهون الشرارة الكبيرة بالقصر، نظرا لأن القصر يتسم بضخامة بنيانه فهنا من حيث وجود عنصر مشترك بين الطرفين متعادلين وهما الضخامة في الشرر، و الضخامة في القصر أو البنيان بما أن هنا التشابه من حيث الضخامة يظل متقاربا، حينئذ فإن النسبة المتوسطة هي التي تتناسب مع هذا التشبيه، ولذلك استخدم أداة الكاف، ولكنه بالنسبة إلى القسم الآخر بالنسبة إلى التشبيه نفسه بعد أن شبه الشرر بالقصر شبه الشرر أيضاً كأنه جمالا تنسفه أي كأنه الناقة الصفراء، لأن الناقة الصفراء تتمثل من حيث اللون كونها ذات لون أسود ولكنه مشوبة بالصفرة، أو بالعكس ذات لون أصفر مشبة بالسواد، ولكنه نفسه بالنسبة إلى لون الشرر فلون الشرر يشبه لون الناقة الصفراء أو السوداء المشوبة بصفرة، بيد أن الملاحظ هنا لان وجه التشابه بين لون النار وبين لون الناقة لا يصل إلى نفس الدرجة الموجودة بين ضخامة النار، وبين ضخامة القصر، ضخامة النار وضخامة القصر متماثلتان، ولكن لون الشرر ليس كلون الناقة الصفراء، نعم يشتركان في السواد المشبع بصفرة أو الصفرة المشبعة بسواد ولكن هذا لا يصل إلى درجة التوازن بينهما كالتوازن الموجود بين حجم القصر وبين حجم النار، لذلك كان التماثل بين حجم النار وبين حجم القصر يعتمد الأداة كاف بينما اعتمد التماثل بين لون الشرر، ولون الناقة الصفراء أو الناقة السوداء المشوبة بالصفرة اعتمد الأداة كأن لأن الشبه بينهما لا يصل إلى درجة الشبه بين البنيان والقصر كما قلنا.

المهم هناك نمط ثالث من التشبيهات المتداخلة وهي صياغة تشبيهين يترتب أحدهما على الآخر ولكن يترتب على ذلك تشبيه ثالث وذلك نحو قوله تعالى (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رآاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلب)، هنا تلاحظون انه شبه المنان بالمرائي، ثم شبه كلا من الرجل المنان والرجل المرائي بالحجر الذي أصابه وابل وأزال ترابه وصار صلباً لا يمكن التراب إليه، أما النمط الرابع فصياغة التشبيهين يترتب على تفريعات الأول تشبيه الآخر، وهذا كقوله تعالى (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب ذري)..الخ.

فالتشبيه الأول كمشكاة تفرع إلى جملة صورة ثم ترتب على التفريع تشبيه آخر وهو قوله تعالى (كأنها كوكب ذري)، والمهم بعد هذا العرض لأمثلة هذه التشبيهات أن نبين المسوغات البلاغية لكل من هذه الأنماط، ففي التشبيه الأول يظل غليان النار هو المسوغ بصفة أن المهل هو المذاب من معدن الرصاص أو أي معدن آخر، ويما أن المعدن لا يغلي في البطن كما انتبه لذلك بعض المفسرين، فإن المسوغ للتشبيه بغلي الحميم يفرض تداخل هذين التشبيهين، وأما في التشبيه الثاني فإن الهدف هو إبراز ضخامة الشرر من جانب ولون هذا الشرر من جانب آخر، بصفة أن الضخامة ترتبط بالهول المادي ويرتبط اللون بالهول النفسي، لاحظوا بلاغة هذا التشبيه كيف انه يستهدف جعل المتلقي المنحرف، أو جعله يواجه قولا ماديا هو ضخامة النار، وهولا نفسيا هو لون النار، حيث تسحب على النفس أثرها أي هذا اللون المد الذي يتسم بما هو مدلهم ويضفي على النفس كما هو واضح.

وأما التشبيه الثالث فإن الهدف من إبراز المن من حيث إفساده للصدقة يجيء هذا التشبيه للعمل العبادي واضح بصفة أن الرياء عمل ليس من اجل الله فهذا مسوغه أيضاً لوضوح ذلك القياس لضبابية المن، ثم جاء التشبيه الثالث لهما حسيا وهو الحجر الذي أصابه وابل من حيث التشبه المشترك من حيث المحاء الأثري له وبهذا يحقق مثل هذا التوافق بين التشبيهات أهدافا مزدوجة من حيث استحضاره للمتلقي عملية من خلال بلورة فساد هاتين العمليتين من خلال التشبيه الحسي المذكور، اعني تشبيه ذلك بالحميم كما هو واضح.

وأما التشبيه الأخير كمشكاة الخ. فإن المسوغ لتفريعات هذا التسويغ يظل من الوضوح بمكان ما دام النص استهدف إبراز معطياته من خلال قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)..الخ.

فشبهه بالمفتاح أو الكوة أو العمود ثم فرع عن ذلك وضع المصباح فيه، ثم وضع المصباح في زجاجة أي هيئة الإنارة ولكن بما أن الزجاجة هي العاكسة للأضواء لذلك جاء التشبيه فيها هو المسوغ لتشبيهها داخل مع الكوة أو العمود الذي تنبعث منه الإنارة المذكورة، إذا هذا التداخل بين التشبيهات فرض مسوغاته بالنحو الذي قلناه وإلا كان من الممكن أن يعتمد التشبيه على طرف واحد ولا تتداخل فيه هذه المستويات بالنحو الذي لاحظناه.

والحق هناك أنماط متنوعة أخرى من التشبيه وفي مقدمتها التشبيه بالمثل، حيث وعدناكم أن نتحدث عن هذا الجانب ولكن بما أن المحاضرة الآن على وشك الانتهاء من جانب، وبما أننا لا نريد أن نتسوع في إثارة هذه الجوانب البلاغية من جانب آخر لذلك نحيلكم أيضاً إلى الكتب المختصة التي تتولى فيها هذا الجانب ككتاب الإسلام والأدب وكتاب الإسلام والفن وكتاب تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، وكتاب القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي.

والآن نكتفي بما تقدم من الحديث عن العنصر الصوري المتمثل في التشبيه على أن نتحدث في محاضرة لاحقة إن شاء الله عن الأنماط الأخرى من الصور وفي مقدمتها الصورة الاستعارية، حيث قلنا أن العنصر الصوري في القرآن الكريم يتفاوت استخدامه من حيث الحجم، من صورة إلى أخرى، والصورة الأكثر هي التشبيه وتليها الاستعارة.

نوضح إن شاء الله كيف أن المبادئ الأرضية في البلاغة أي المبادئ البشرية ترسم مبادئ خاصة للتشبيه ليختلف عن المبدأ الذي سنلاحظه في القرآن الكريم، كما ترسم مبادئ أخرى للأنماط الأخرى من الصور، كل ذلك يجعلنا عبر حرص شديد على إبراز البعد البلاغي في السورة القرآنية الكريمة وهو أمر سنحدثكم عنه في المحاضرة اللاحقة والى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.