المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 03.doc

سنواصل حديثنا عن القرآن الكريم من حيث علومه وتاريخه علومه حيث بدأنا بالمحاضرتين السابقتين بالحديث عن الوحي بصفته القناة الموصلة لمبادئ الله تعالى ومنها مبادئ الشريعة الإسلامية متمثلة بالقرآن الكريم وما أوحى به الله سبحانه وتعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من توصيات وتعليمات ومبادئ متنوعة تتصل بهذا الجانب، حيث استهللنا الحديث عن علوم القرآن أولاً بالإشارة إلى أول ظاهرة يطرحها الباحثون في علوم القرآن، ألا وهي ظاهرة الوحي وقضاياه المتنوعة وكان أول ما طرحناه في هذا المجال هو أنحاء الوحي أي الأشكال التي يتم الوحي من خلالها وأشرنا إلى أنماطه الأربعة المعروفة وهي الوحي المباشر والوحي من خلال جبرائيل (عليه السلام) أو الملك وثالثاً الوحي من خلال التكليم ثم الوحي من خلال الرؤية وأوضحنا بشكل مجمل طبيعة الاتجاهات المتفاوتة في وجهات النظر حيال هذه الأنماط الأربعة وطريقة التعامل مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال هذه الأنماط من الوحي أو خلال البعض منها بالشكل الذي تم الحديث عنها سابقاً وانتهينا بعد ذلك إلى الموضوع الثاني من موضوعات الوحي وقضاياه وهو الموضوع المرتبط ببداية الوحي ونهايته حيث عرضنا أيضاً وجهات النظر المختلفة التي تحدثت عن هذا  الجانب وانتهينا من ذلك إلى موضوع ثالث في نهاية محاضرتنا السابقة ألا وهو كيفية نزول الوحي وطرحنا السؤال القائل هل أن الوحي نزل تدريجاً؟ أم نزل جملة وتدريجياً؟ وعرضنا أيضاً بشكل عابر وجهات النظر المتفاوتة التي يذهب بعضها إلى أن القرآن نزل تدريجياً ويذهب البعض الآخر إلى أنه نزل تدريجياً وجملةً ويذهب الاتجاه الثالث إلى تفصيلات أخرى سنقف عليها إن شاء الله خلال مواصلتنا الحديث عن هذا الجانب.

 

 ولعلكم تتذكرون جيداً كيف أننا طرحنا في نهاية محاضراتنا السابقة عرضاً للاستدلال أو الدليل الذي قدمه الاتجاه الأول وهو الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم نزل تدريجياً وكان الدليل الذي يقدمه هذا الاتجاه متمثلاً في جملة نقاط منها:

النقطة الأولى يذهب هذا الاتجاه إلى أن القرآن نزل متفرقاً أو تدريجياً تبعاً للنص الصريح الذي تعرضت له الآية القرآنية الكريمة المعروفة من خلال ما اعترضه المنحرفون المعاصرون لرسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اعترضوا على ذلك بالإشارة إلى أن القرآن نزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرقا ولم ينزل جملة وذلك من خلال الآية الكريمة القائلة:

بسم الله الرحمن الرحيم

(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و ورتلناه ترتيلا).

أما هذا الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم نزل تدريجياً يرتكن أو يستند إلى هذه الآية المباركة التي عارضت تحدثت عن اعتراض المنحرفين على نزول القرآن متفرقاً وليس جملة واحدة. كما قدم دليلاً آخر ألا وهو أن كثيراً من قضايا القرآن الكريم وموضوعاته قد طرحت بزمان ومكان خاصين كسؤال المرأة عن زوجها وكمعاتبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حادثة زوجة زيد... الخ. حيث تظل هذه الموضوعات موضوعات طارئة في زمان خاص ومكان خاص، الأمر الذي يستدعي نزول القرآن إجابة أو تساوقاً مع هذه الظواهر أو المشكلات المتنوعة أو الأحكام أو الحوادث أو المواقف المختلفة التي تفرضها البيئة آنئذٍ مما تتطلب نزولاً ويتناسب وتلكم المواقف أو الوقائع أو الظواهر الأخرى.

والاتجاه المذكور حينما يقدم هذين الدليلين يواجه اعتراضاً من نفسه قائلاً بالنسبة إلى وجود آيات قرآنية كريمة تشير بظاهرها إلى نزول القرآن جملة واحدة مما يتنافى هذا النص أو هذه النصوص مع النص القرآني الذي قرأناه قبل قليل ألا وهو اقتراب المنحرفين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم نزول القرآن جملة واحدة بل متفرقة نقول هذا الاتجاه عندما واجه آية قائلة بأن القرآن الكريم نزل في ليلة القدر أو الآيات الأخرى المشيرة إلى هذا المعنى حاول أن يوفق بين هذه النصوص التي تتعارض ظاهراً مع النص الأول حيث حاول أن يؤولها تأويلاً خاصاً قائلاً بأن المقصود من نزول القرآن الكريم في ليلة القدر هو أن أول نزوله حدث في هذا الزمان وهذا لا يتعارض مع كون القرآن نزل متفرقاً حيث أن أول نزوله كان في شهر رمضان المبارك.

كما قدم هذا الاتجاه من خلال وجهة نظر أخرى دليلاً آخر هو مع فرضية أن القرآن الكريم نزل جملة في شهر رمضان المبارك فإن هذا النص لا يتعارض مع الذهاب إلى أنه نزل متفرقاً أيضاً حيث يربط هذا الاتجاه بين نزول القرآن الكريم جملة واحدة وبين نزوله متفرقاً يربط بينهما من خلال ذهابه إلى أن نزول القرآن  جملة إنما كان نزولاً إلى البيت المعمور أو إلى السماء الدنيا وهذا لا يعني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أحاط خبراً بما أن نزل إلى البيت المعمور بقدر ما يمكن أن يشار إلى أن نزوله إلى البيت المعمور آنئذٍ ظل محتفظاً بفاعليته ومن ثم كان النزول تدريجياً بحسب ما يتطلبه الموقف هو الأمر الذي حدث بالفعل وهذا يعني أنه لا تعارض البتة بين نزول القرآن الكريم جملة واحدة إلى البيت المعمور دون أن يطلع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك هو بين ذهاب إلى نزوله متفرقاً بحسب المناسبة التي يمليها الموقف.

هذا باختصار ما يجسد وجهة النظر الأولى أو ما يجسد الاتجاه الأول الذي يذهب في شطر منه إلى أن القرآن الكريم نزل تدريجياً ولم ينزل جملة واحدة حيث فسر الآية الكريمة أو الآيات الكريمة التي صرّحت بنزول القرآن الكريم في ليلة القدر أو في شهر رمضان المبارك فسّر النزول المشار إليه بأنه أول نزول القرآن متفرقاً كان في شهر رمضان المبارك وبهذا انتهى هذا الاتجاه إلى الذهاب إلى أن القرآن لم ينزل إلا متفرقاً دون أن يؤكد ذلك نزوله بالجملة الواحدة.

وكان الشطر الآخر من هذا الاتجاه يقر بأن القرآن الكريم أشار بالفعل إلى نزول القرآن جملة واحدة إلا أن هذا الاتجاه ذهب إلى أنه لا تعارض بين نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور دون أن يطلع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك وبين الذهاب إلى نزوله متفرقاً حيث تبلي المناسبة ما يتطلب ذلك من نزول هذه الآية الكريمة أو تلك السور الكريمة... الخ.

والآن بعد أن عرضنا وجهتي نظر هذا الاتجاه المنشطر إلى نمطين كما لاحظتم، بعد هذا العرض لوجهتي نظر المشار إليهما نتقدم الآن ونناقش هاتين الوجهتين فنقول:

هذا ولا نغفل في نهاية عرضنا من وجهة النظر الذاهبة إلى أن القرآن الكريم نزل متفرقاً أو نزل أيضاً جملة دون أن يطلع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك نقول يمكننا أن نضيف إلى ذلك جملة من التعليلات التي يقدمها هذا الاتجاه منها ما هو ملاحظ في النص القرآني الكريم نفسه ألا وهو التعليل الذاهب إلى أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن متفرقاً ليثبت به فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أن تكرار الوحي بين مناسبة وأخرى يظل نمطاً من التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشجيعه على مواصلة الرسالة.

وأما التعليل الآخر فيذهب إلى أن نزول القرآن متفرقاً إنما هو أمر يسر للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حفظ القرآن وتلقيه بيسر.

هذا هو مجمل ما قدمناه إليكم من حيث العرض لوجهات النظر الذاهبة إلى أن القرآن الكريم نزل متفرقاً أو أن القرآن الكريم نزل متفرقاً بالإضافة إلى نزوله جملة واحدة ولكن إلى البيت المعمور دون أن يكون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اطلاع بذلك.

والآن بعد أن عرضنا هذه الخطوط المتفاوتة في وجهات النظر بالنسبة إلى نزول القرآن الكريم متفرقاً أو جملة بالنحو الذي أوضحناه نتقدم الآن لمناقشة هذه الوجهات فنقول:

أولاً: نناقش وجهة النظر الذاهبة إلى أن القرآن الكريم نزل متفرقاً وأن الآية أو الآيات الكريمة المشيرة إلى أنه نزل في ليلة القدر أو في شهر رمضان المبارك إنما تؤول بمعنىً هو نزول القرآن من حيث أوله من بداية ليلة القدر شهر رمضان، وهذا لا يتنافى مع الآية الصريحة القائلة بأن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن تدريجياً أو متفرقاً بحسب ما لاحظناه من الاعتراض القائل بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لولا نزل عليه جملة واحدة حيث أن الله سبحانه وتعالى أجاب على ذلك بأنه لتثبيت فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم).

نقول أولاً أن القرآن الكريم مع كونه صرح بنزول القرآن تدريجاً فإن هذا لا يتعارض البتة مع قوله تعالى بنزول القرآن جملة واحدة وأما التعليل الذي قدمه هذا الاتجاه الذاهب إلى أن المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر هو نزول أول القرآن بادئاً ذلك في شهر رمضان أو في ليلة القدر منه نقول إن هذا التأويل من قبل هذا الاتجاه مردود أساساً لأنه لا شاهد له من النصوص من جانب كما أنه يتعارض أساساً مع الظاهر القرآني الكريم بل يتعارض أساساً مع التعبير البلاغي الوارد في هذه الآية الكريمة القائلة مثلاً (إنا أنزلناه في ليلة القدر) حيث يفهم القارئ من خلال الظهور اللفظي الواضح لهذه الآية الكريمة أنه نزل جملة واحدة ولا يمكن أن يؤول بأن أول نزوله كان كذلك هذا من جانب.

ومن جانب آخر نستطيع بكل وضوح ويسر أن نقول إن هذا يتعارض أساساً مع ما أجمع عليه عند الطائفة المحقة من أن القرآن الكريم نزل مع بداية البعثة النبوية في السابع والعشرين من شهر رجب كما هو واضح، فإذا كان التأويل الذاهب إلى أن المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر هو أول نزوله حينئذٍ فهذا يتعارض مع الإجماع المشار إليه بالنسبة إلى صدور أول القرآن في السابع والعشرين من رجب.

إذاً الذهاب إن الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم نزل متفرقاً فحسب، هذا القول يظل مطبوعاً بالخطأ كما لاحظنا لأنه يتعارض أولاً مع النص القرآني القائل: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وأن التأويل الذي ذهب إليه هذا الاتجاه لأن المقصود من ذلك هو أول نزوله يتعارض هذا تماماً مع ذهابنا إلى أن القرآن أول نزوله كان في السابع والعشرين من شهر رجب، هذا فيما يتصل بوجهة النظر في شطرها الأول الذي ذكرناه.

أما وجهة النظر في شطرها الآخر الذي ذهب إلى أنه لا تعارض البتة بين نزول القرآن الكريم متفرقاً وبين نزوله جملة واحدة لا تعارض بينهما وذلك من خلال ذهاب هذا الاتجاه إلى أن المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر هو نزوله إلى البيت المعمور، وأن ذلك لا يتعارض مع ذهابنا إلى نزوله تفريقاً بسبب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن له اطلاع على هذا النزول من حيث تفصيلاته بقدر ما يتحقق الموضوع من خلال النزول المتفرق للآيات والسور. وبتعبير آخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يطلع على ما هو مكنون في القرآن الكريم الذي نزل جملة إلى البيت المعمور ومما يعني ذلك أن نزوله متفرقاً لا يشكل أمراً يتنافى ونزول القرآن جملة بمعنى المذكور.

نقول إن هذه المقولة أيضاً لا يمكن التسليم بها لجملة أسباب:

منها ما ورد من النصوص المشيرة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد اطلع على ذلك ومن جملة ذلك الرواية الواردة عن أحد الرواة وهي تتحدث عن محاورة بين راوي والإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام) بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أعطاه الله القرآن في شهر رمضان وكان لا يبلغه إلا في وقت استحقاق الخطاب ولا يؤديه إلا في وقت أمر ونهي... إلى آخر هذه الرواية).

فأنتم تلاحظون بوضوح أن هذه الرواية تقول أن الله سبحانه وتعالى أعطى محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن في شهر رمضان ومعنى إعطاءه محمداً القرآن في شهر رمضان هل يعني ذلك أنه غير مطلع على ذلك أم يعني العكس من ذلك تماماً هذا من جانب، ومن جانب آخر نجد في رواية أخرى الإشارة إلى نزول القرآن متفرقاً خلال عشرين عاماً، وهذه الرواية تقول:

أن الراوي سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) كيف أنزل فيه القرآن، وإنما أنزل القرآن في طول عشرين سنة من أوله إلى آخره، فقال الإمام الصادق (عليه السلام): (نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم أنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة).
لاحظوا من الإشارة إلى العشرين سنة لها نقطة خاصة عن المعروف أن رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استغرقت ثلاثة وعشرين سنة، وحينئذٍ عندما يقرر الإمام الصادق أن القرآن نزل متفرقاً خلال عشرين عاماً فهذا يعني أنه اختزل ثلاثة أعوام من البعثة وطواها عن نزول القرآن، فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن القرآن عندما نزلت منه خمس آيات في السابع والعشرين من رجب عند بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذٍ كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بأن يمارس مهمته الرسالية في نطاق خاص به وبمن يحيط حوله دون أن يأمر بتبليغ الرسالة إلى المجتمع البشري آنذاك، ولذلك بعد مرور ثلاث سنوات أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يبلغ الرسالة بشكل عام عبر الآيات الكريمة المطالبة بأن ينذر عشيرته الأقربين...الخ.

ومن هنا نستدل مما يأتي : أن القرآن الكريم نزلت منه الآيات البادئة ببعثة الرسالة ثم انطوت ثلاث سنوات وبعدها نزل القرآن جملةً واحدةً على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على ذلك هو أن بعد هذه الثلاث من السنوات قد عبر الإمام الصادق عنها بنزول القرآن تفريقاً خلال عشرين سنة.

إذاً لا تعارض بين الذهاب إلى أن القرآن نزل في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك بشكل كلي وبين الذهاب إلى أن بعض الآيات القرآنية الآمرة بصدوع الرسالة نزلت في شهر رجب المبارك، وبهذا نستطيع أن نقرر بوضوح أنه لا تعارض بين ما ذهبنا إليه من أن القرآن بدأ بنزول بعض آياته في شهر رجب ونزل جملة واحدة في شهر رمضان المبارك وذلك مع بداية الأمر الذي أمر به وهو أن يصدع (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة إلى المجتمع البشري بصورة عامة بعد مرور ثلاث سنوات من البعثة المباركة.

هذا فيما يرتبط بإزالة التضارب بين نزول القرآن جملة واحدة في شهر رمضان المبارك وبين إمكان أن يعترض المعترض فيقول أن بداية نزول القرآن كان في شهر رجب في السابع والعشرين منه مع انطلاق البعثة النبوية.

وأما الرد على المقولة الذاهبة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن مطلعاً على ذلك فأمراً أشرنا إليه من إجابتنا المتقدمة وذلك عندما استشهدنا بنص ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن في شهر رمضان وكان لا يبلغه إلا في وقت استحقاق الخطاب، هذا يفصح بوضوح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان على إحاطة علمية بالكتاب الكريم الذي أنزل عليه جملة في شهر رمضان المبارك.

هذا بالإضافة إلى إمكانية الذهاب إلى أن القرآن الكريم في السياق المذكور نزل على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى البيت المعمور جملة إنما نزل بما هو قرآن بنحو عام أو معان بنحو عام أي بصفته مخزوناً معرفياً إذا سمح لنا بهذا التعبير ألمّ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه نزل لزوماً بحسب ما يتطلبه الموقف ففي الأمثلة الخاصة أو العامة التي وردت عبر مناسبة ما كالمرأة المشتكية مثلاً من زوجها أو كحادثة امرأة زيد مثلاً ونحو ذلك نقول لا مانع من الذهاب إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان على معرفة إجمالية بذلك ولكن بحسب ما يتطلبه النظام الإلهي من التبليغ فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظر جديداً الوحي بالشكل التفصيلي وهذا يماثل كثيراً من المواقف التي سلكها المعصومون (عليه السلام) في تعاملهم مع أحداث العصر بحيث تكشف لهم حجب الغيب ولكنهم يتصرفون بالشكل الطبيعي حيال ذلك، لأن وظيفتهم هي كذلك. فمثلاً عندما ينبأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنصر أو بشدة ونحوهما فهذا لا يحتجزه من أن يسلك السبيل الطبيعي في تعامله مع الحدث العسكري أو السياسي... الخ. مع معرفته سلفاً بالنتائج المترتبة على ذلك.

إذاً نزول القرآن الكريم جملة كما هو صريح النصوص الحديثية وظاهر النص القرآني (إنا أنزلناه في ليلة القدر) لا يتعارض مع نزوله متفرقاً كما هو صريح النص القرآني الكريم أيضاً.

ويمكننا أن نضيف الآن دليلاً آخر على ذلك بالنسبة إلى ما تزخر به النصوص الحديثية المتوافرة من الإشارة إلى أن الله تعالى جعل ليلة القدر بمثابة سجل لحوادث ومواقف السنة وأن الملائكة تتنزل على الناس بما قدر لهم خلال السنة مما يعني أن نزول الواقعة أو الموقف في سجل سنوي لهذه الشخصية أو لتلك ليلة القدر من الممكن حصول ذلك تحسيساً لأهمية ليلة القدر.

هذا ولا نغفل وجهات نظر أخرى تتحدث عن محاولة التوفيق بين النص القرآني الكريم الذاهب إلى نزول القرآن تفريقاً وبين النصوص الذاهبة إلى نزوله جملة في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك حيث تذهب بعض هذه الاتجاهات إلى أن المقصود من ذلك أن القرآن الكريم كان ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال العشرين عاماً في كل عام ينزل عليه في ليلة القدر قسم من القرآن الكريم.

كما أن هناك من الاتجاهات تذهب إلى أن المقصود من ذلك أن نزوله في معظم شهر رمضان المبارك وان هناك  اتجاه يقول بأن المقصود من ذلك هو أهمية الصوم في شهر رمضان الذي أنظره القرآن الكريم إلا أن هذه الوجهات من النظر تظل من الضعف بمكان كبير حيث لا تستحق عناء الرد أو المناقشة فيها.

والآن بعد أن انتهينا من الحديث عن نزول القرآن جملة وتفريقاً وقبل ذلك بعد أن عرفنا ظاهرة الوحي وطرائق ذلك وكيفية نزول ذلك، حينئذٍ نتساءل عن انتظام القرآن الكريم في أكثر من مئة سورة بهذا النحو الذي نلاحظه حيث أن طرح هذا السؤال يظل متسماً بأهمية كبيرة فيما أهمله المعنيون بشؤون التفسير قديماً وحديثاً إلا شذرات عابرة تتحدث باستحياء عن هذا الجانب وفي هذا السياق نقرر فنشير بشكل عابر إلى أن نفصل الحديث بعد ذلك في حينه فنقول من الواضح أن القرآن الكريم نزل بعض منه سوراً كاملة ونزل البعض الآخر منه سوراً متفرقة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأن توضع الآيات المتفرقة في مواضعها من السور في سياق خاص كلاً بحسب ما يتطلبه الموقف وقد اعتاد الباحثون أن يسهموا في الحديث عن السور التامة أو الآيات التي انتظمت في ما بعد في سورة أو أخرى ولكننا في الواقع لا نجد فائدة في ذلك سواء كانت السورة التي يتناولها الباحثون قصيرة كسور الكوثر والنصر وسواهما أو متوسطة أو حتى طويلة.

فالمطلوب أو المستهدف هو ملاحظة النص القرآني الكريم في صيغته النهائية المتمثلة في عنصر السورة وهي الطابع الذي يسم القرآن الكريم ويخرجه عن سواه من الأشكال الفنية التي يألفها المجتمع آنئذٍ كالمقالة والبحث والخاطرة والخطبة والقصيدة وما يألفه الآن من نصوص كالمسرحية والقصة وما إلى ذلك.

وهذا كله يقودنا إلى أن نتحدث عن أهمية السورة الكريمة وما تتميز به من سمات خاصة، لكن بما أن هذا الجانب من تناول النص القرآني الكريم يتطلب تفصيلات مهمة لم يتناولها الأقدمون وحتى لم يتناولها المعاصرون إلا بشكل عابر كما قلنا، لذلك سوف نؤجل الحديث عن هذا الجانب إلى أن نطرحه في حقل آخر يتصل بالإعجاز الفني للقرآن الكريم إلا أننا أشرنا إليه الآن عابراً وهدفنا من هذه الإشارة هو تساوق طرح هذا الموضوع مع الموضوعات المتصلة بكيفية طرائق الوحي وكيفية نزوله ومن ثم كيفية انتظام هذا النزول في آيات أو سور، ولذلك فإن الحديث عن هذا الجانب يفرض مسوغه الفنية أو العلمي ما دام متساوقاً مع هذه الأبحاث المتسلسلة التي طرحناها.

ولكن كما قلت بما أن هذا الموضوع لم ينحصر في هذا الجانب بقدر ما يتجاوزه إلى الإعجاز الفني وإلى ظواهر فنية وعلمية أخرى حينئذٍ نؤجل الحديث عنه إلى حقل لاحق إن شاء الله.

وأما الآن فنظل نتابع ما يرتبط بالوحي القرآني الكريم بعد أن حدثناكم عن كيفيته وطرائقه وبعد أن أشرنا عابراً إلى كيفية انتظامه في آيات وسور ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن موضوع آخر يتسم بأهمية كبيرة ويقترن أيضاً بوجهات نظر متفاوتة ليس كتفاوت وجهات النظر التي لاحظناها بالنسبة إلى كيفية نزول الوحي، وإلى كيفية نزوله تدريجياً وجملة بل تتجاوز وجهات النظر هذا الجانب فتظل من الضخامة، بمكان كبير حيث يتعين علينا أن نحاول حسم الموقف بشكل أو بآخر.

والموضوع الذي استهدفنا الإشارة إليه الآن هو موضوع جمع القرآن الكريم وكيفية إتمام ذلك حيث نجد كما ستلاحظون ذلك في محاضرتنا اللاحقة إن شاء الله نقول حيث نجد أن وجهات النظر في جمع القرآن الكريم ووصوله إلى هذا الشكل الذي تلقيناه، وهو أمر يقتضي في طبيعة الحال بكون هذا التلقي تلقياً متواتراً لا شبهة فيه إلا أن طرائق جمعه وما يرتبط بهذا الجانب يظل من الضبابية  والغموض بمكان كبير بحيث لا يستطيع الباحث المتأني أن يصل إلى نتيجة تحسم له الموقف بقدر ما يظل خاضعاً لمجرد الاحتمال وذلك لسبب واضح هو تضارب الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن الكريم تضارباً ملحوظاً بحيث استدعى ذلك كما قلنا استيلاد وجهات نظر متفاوتة ومتضاربة، لا يستطيع الباحث المدقق بأن يحسم الموقف بوضوح على نحو ما سنحدثكم عنه إن شاء الله في محاضرة لاحقة.

هنا لابد أن نشير سلفاً إلى أننا حين نطرح موضوع جمع القرآن الكريم إنما نتناول ذلك من جانبين أحد الجانبين هو الجمع المرتبط بانتظام السور حسب التسلسل الموجود حالياً وأما من الجانب الآخر فيتصل بالجمع المرتبط بتوحيد القراءة وما يرتبط بذلك من الأمور التي تتحدث عن الأحرف السبعة وعن القراءات السبعة أو القراءات العشرة إلى آخر ذلك مما طرحه المعنيون بشؤون علوم القرآن الكريم إلا أننا سوف نكتفي بطرح ما نراه منطوياً على الفائدة فحسب دون أن نسهم في طرح موضوعات قد لا تعود بالفائدة المطلوبة علينا.

المهم أننا سنحدثكم إن شاء الله تعالى عن هذه الجوانب في محاضرة لاحقة وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق وإلى المحاضرة اللاحقة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.