المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 23.doc

 حدثناكم عبر أكثر من محاضرة عن القصة القرآنية الكريمة من حيث الإعجاز البلاغي الذي يطبع هذه القصص وكان حديثنا منصبا على أكثر من جانب ومنه الجانب البنائي للقصة القرآنية الكريمة ونحن نشدد في ظاهرة الجانب البنائي للقصة الكريمة لأن السورة الكريمة أساساً يظل إعجازها البنائي كما كررنا هذا الحديث يظل إعجازها البنائي هو الطابع الذي ينبغي أن نتحدث عنه دائماً بصفة أن هذا الطابع أو أن هذا الجانب لم يلق كثيراً من العناية لدى الباحثين القدماء ومعاصريهم على أية حال كان الحديث عن بناء القصة القرآنية الكريمة في  السابق منصباً على ظاهرة هي الاستهلال القصصي حيث أن لهذا الاستهلال القصصي أكثر من روابط بينه وبين وسط القصة وبين نهايتها وقد استشهدنا بأكثر من نموذج في هذا الميدان ومنه أن الموجز الذي ربطنا فيه بين بداية القصص وبين انعكاس هذه البداية على محتوى القصة أساس استشهادنا بقصة يوسف (عليه السلام) كذلك رسمنا إلى ظاهرة أخرى لها أهميتها الأخيرة ألا وهي أن القصة توظف في الغالب إذا لم تكن مستقلة توظف في الغالب الأفكار التي تطرحها السورة الكريمة فتكون القصة عنصراً واحداً مع العناصر المتنوعة تصب جميعاً في الهدف الذي يستهدفه السورة القرآنية الكريمة واستشهدنا أيضاً بنماذج متنوعة ومنها قصص موسى (عليه السلام).

والآن نتابع الحديث عن استهلال القصص أيضاً ولكن من زوايا أخرى ومن جملة تلك الزوايا الإشارة إلى أن السورة القرآنية الكريمة عندما تبدأ عبر قصة من قصص فإنها تتنوع في الواقع تتنوع في تقديم أو في عرض الأهداف التي تستهدفها في هذه القصة أو تلك وإذا عدنا إلى قصة موسى نفسه نجد أو بالأحرى إذا عدنا إلى قصص موسى نفسه نجد أن قصة تستهل بضرب معين من الأفكار تختلف عن القصة السابقة وهذا ما يمكننا أن نلحظه على مستوى ثلاثة أو أكثر حيث يتمثل المستوى الأول في الانطلاق من قصص موسى يتمثل في الانطلاق من الإدمان الموضوعي أي تسلسل الحدث أو تسلسل المواقف التي تعرض فيها قصة يوسف ومنها التقطيع الزمني الذي يتواءم مع طبيعة الفكرة التي تستهدفها السورة الكريمة أو حتى القصة الكريمة في حالة ما إذا كانت هذه القصة مستقلة كسورة يوسف ونوح والفيل ونحو ذلك على أية حال يمكننا أن نستشهد بنماذج من قصص موسى (عليه السلام) لنتبين أسرار الاعجاز البلاغي في هذا الميدان إننا في هذا المقطع من المحاضرة نريد أن نركز أو نشدد في جانب مهم هو أن قصص موسى (عليه السلام) تعد نموذجاً للتقطيع الزمني المنطوي في الواقع على أهداف يستهدفها النص القرآني الكريم وإن للصياغة الفكرية تظل تابعة لنمط هذا الهدف وليس الصياغة الفنية تشكل بعداً جمالياً مستقلاً عن الحدث الذي تستبطنه القصة القرآنية الكريمة فمثلاً نجد أن قصص موسى (عليه السلام) يبدأ بعضها من خلال الإشارة إلى حادثة ذهابه وهو يبحث عن الدفء لأهله وبعض هذه القصص يبدأ من حادثة ذهابه إلى فرعون ليمارس رسالته التبليغية وبعضها يبدأ من المصير الذي يطبع فرعون وقومه.

وأخيراً هناك بعض القصص التي تبدأ أساساً من حياة موسى نفسه منذ البداية أي منذ أن القي في اليم والآن مع ملاحظتنا لهذه الأنماط من البدايات نبدأ فنتحدث عن الأسرار البلاغية الكامنة وراء هذه الأنماط من جانب ثم نتابع حديثنا عن المستويات الأخرى لهذه القصص ذاتها من حيث النقلات الزمانية التي  تبدأ من الوسط أو النهاية أو البداية وتلقي بظلالها على الأقسام الأخرى من القصة القرآنية الكريمة وبنحو عام يمكننا الذهاب بالنسبة إلى النموذج القصصي المرتبط بقصص موسى وفرعون نقول أن السر البلاغي الكامن على سبيل المثال استهلال هذه القصص بحادثة الدفء أو البحث عن الدفء تتمثل فيما أوضحه أحد المعصومين (عليه السلام) بقوله (عليه السلام) كان لما لا ترجو أرجى مما ترجو أي إن ثقتنا وحسن ظننا بالله تعالى ينبغي أن تكون على مستوى بحيث أن الله يرزقنا من حيث لا نحتسب وبكلمة أخرى إذا قدر لنا أن نرجو من الله سبحانه وتعالى شيئاً فإن هذا الرجاء ينبغي أن يتصاعد إلى درجة بحيث نتلقى من الله سبحانه وتعالى اكثر ما كنا نرجوه من خلال طلبنا المذكور وهذا ما ورد في حديث بموسى (عليه السلام) حيث كان راجياً أن يتلقى الدف من  الله وذلك بأن يهيئ الله سبحانه وتعالى له ذلك الدفء وذلك أن يتلقى أخطر ظاهرة بالحياة ألا وهي ظاهرة الوحي حيث أصبح نبياً خلال تلك اللحظات التي ذهب يترجى فيها العثور على دفء لأهله ويمكننا خلال ذلك أيضاً أن نستخلص دلالة أخرى تتمثل في عملية البحث عن الدفء ذاته حيث أنها تجسد أيضاً إشارة أن تكون غير مباشرة إلى آخر ما أريد فيه يبتغي فيها الرجل لامرأته حين أدخلت هذه المواد وسواها حيث أن تولي الخدمة بأمثلة هذه المواقف لها معطياتها ضمن هذا المعطى الذي لاحظناه وأما إذا لاحظنا النمط الثاني من البدايات أو الاستهلالات التي صيغت القصص قصص موسى خلالها نجد أن الأمر الذهاب إلى فرعون يجسد أحدها ونعتقد أن هذا لا يحتاج إلى تعقيب لأنه يجسد مهمة ضخمة عند مطلق الإنسان ألا وهي بضرورة أن يطلع بمهمة تبليغ لمبادئ الله سبحانه وتعالى وأما النمط الثالث الذي يشير إلى استهلال القصة بالإشارة إلى الظلم أو الانحراف أو الفساد الذي يطبع فرعون وقومه وما يترتب من المصائر الكسيحة لأمثلة هؤلاء المفسدين في الأرض حيث تستهدف القصة التذكير بمصائر المنحرفين وهذا بدوره يجسد واحد من الأهداف الكبيرة دون أدنى شك.

إذاً كل استهلال يستهدف هدفاً خاصاً لهذه القصة أو تلك ولكننا بغض النظر عن هذه الأهداف التي أشرنا إليها وأشرنا إلى جانب منها في محاضرة سابقة نقول بغض النظر عن ذلك فإنا نود الآن أن نضيف شيئاً جديداً إلى ما قلناه ألا وهو كيفية التقطيع الزمني ليس لظاهرة الاستهلال فحسب بل لمطلق الظواهر المطروحة في هذه القصة أو تلك من حيث التقطيع الزمني لها وما يكمن وراء هذا التقطيع من أسرار بلاغية ونقف على سبيل المثال على إحدى القصص التي تتحدث عن حياة موسى طوليا ونقارنها أيضاً بقصة أخرى تتحدث أيضاً عن حياة موسى الطولية ونقصد بالحياة الأولية الحياة التي تبدأ منذ أول حدث في حياة هذه الشخصية وتنتهي إلى آخر حدث وهو ما تتناوله أكثر من سورة وخاصة سورة طه من جانب وسورة القصص من جانب آخر إلا أن الملاحظ أن سورة القصص عندما تتحدث عن شخصية موسى عبر حياته الطولية تبدأ متسلسلة من حيث الزمن أي أن التقطيع الزمني لا نجد له أثراً في هذه القصة إلا من حيث البداية التي أشارت إلى أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين كل هذا التقطيع الذي يبدأ من البداية نجد أن القصة تتسلسل زمنياً وهذا على العكس تماماً من ما نلاحظه في سورة طه حيث أن القصة تبدأ من وسط الأحداث ثم ترتد أيضاً إلى بداية حياة موسى ثم تصل بين هذه البداية وتتسلسل زمنياً وهذا ما يمكننا ملاحظته عبر استماعكم إلى القصة القرآنية من حيث نبدأ بها الآن فلنقرأها على النحو الآتي:

وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم بها بقبس أو أجد على النار هدى فلما آتاها نودي يا موسى إلا هنا فإن النبوة قد أطلت على موسى من خلال هذه العبارة خلال ذلك أشار النص إلى بعض المفهومات ومنها إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري وسنجد أن فقرة أقيموا الصلاة لذكري سوف تنعكس  مفهوماً على أجزاء لاحقة من مواقف القصة لكن بغض النظر عن ذلك نجد أن هذه القصة وبعد أن تشير إلى النبوة النازلة على موسى تأمره بأن ينظر إلى عصاه والى يده وانقلاب العصا حية تسعى الخ. كل ذلك عندما يعرضه النص بعد ذلك يقول اذهب إلى فرعون إنه طغى ولكن جاءت الإجابة من موسى رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي الخ هنا يجيء الله سبحانه وتعالى قائلا قد أوتيت سؤلك يا موسى إلى هنا فإن المقطع القصصي الذي تلوناه عليكم يتضح بجلاء انه بدأ من وسط الأحداث أو المواقف وانتهى إلى هذه النقطة التي تأمر موسى بأن يذهب إلى فرعون جواب موسى أو توسل موسى بالله سبحانه وتعالى أن يعينه على ذلك من خلال بعثه أخاه هارون لمشاركته في عملية التبليغ ويجاب على طلبه فعلاً بيد أن ما نود أن نلفت النظر إليه أن هذه البداية القصصية التي ابتدأت أو استهلت بظاهرة الذهاب إلى فرعون هذه الظاهرة قد أردفها النص أو قطع تسلسلها الزمني فارتد بالقصة إلى الوراء مشيراً إلى البداية الأولى لحياة موسى الطولية قائلاً ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فأرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك  بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى لاحظوا بدقة كيف أن النص بدأ بالحديث بالنسبة إلى موسى من حيث الأمر بالتبليغ ومن حيث الذهاب إلى فرعون والإشارة إلى أن فرعون طغى وقد لاحظتم كيف أن الطلب صيغ بصيغة المفرد أي مخاطبة موسى وحده اذهب إلى فرعون أما في هذا النص الذي قرأناه الآن عليكم فإنه طلب من الله سبحانه وتعالى بصيغة المثنى فقال اذهبا إلى فرعون إنه طغى وما نستهدفه الآن هو لفت نظركم إلى الأسلوب الذي اتبعته القصة من حيث الاسترجاع الزمني بعد استباقه كما لاحظتم في بداية القصة نقول من حيث الاسترجاع الزمني لقصة موسى بدءاً من حياته الطولية التي لخصها في آيتين كريمتين فحسب بينما نجد أن هذه الحياة الطولية في قصة موسى (عليه السلام) الواردة في سورة القصص حيث سردت القصة من خلال عشرات الآيات الكريمة كالإيحاء إلى أمه بإرضاعه ثم التقائه ثم قول امرأة فرعون لفرعون إنه قرة عين لها وله ثم عودة الطفل إلى أمه من خلال أخته ثم بلوغ موسى أشده ثم دخوله المدينة على حين غفلة من أهلها ثم مواجهة الرجلين المقتتلين مواجهة الرجل الآخر فيما بعد ثم خروج موسى إلى مدين ثم إلى ملاقاته البنتين فظاهرة الزواج فذهاب موسى بأهله حتى نزلت النبوة الخ.

أولئك جميعاً تحدثت القصة مفصلاً عنها بخلاف الإشارة الإجمالية أو التلخيص السريع جداً لهذه الحياة الأولية التي استغرقت العشرات من هذه السورة تقول لاحظنا بالنسبة إلى سورة طه أن هذه القصة لخصت بذلك التلخيص السريع جداً وسرد ذلك أن القصة في سورة طه تستهدف الإشارة إلى نعم الله سبحانه وتعالى على موسى وهذه الإشارة إلى نعمه تعالى بطبيعة الحال تظل ذات ارتباط عضوي باستهلال السورة ذاتها القائلة طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إن علائم الشقاء أو النعم المترتبة على عملية التبليغ قد انعكس صداها عبر مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتقال ذلك عضوياً إلى موسى (عليه السلام) حيث كانت الإشارة من حيث الارتداد الزمني إلى حياة موسى الأولى بقوله تعالى ولقد مننا عليك مرة أخرى لاحظوا أن النص عندما أمر موسى (عليه السلام) بأن يذهب إلى فرعون وبعد أن طلب موسى من الله سبحانه وتعالى أن يعينه بهذه المهمة أو يعينه على هذه المهمة من خلال إرسال هارون وإياه إلى فرعون نقول بعد أن طلب موسى هذا الطلب فإن الله سبحانه وتعالى أجابه قائلاً أوتيت سؤلك يا موسى وهذه الإجابة تجسد بطبيعة الحال واحدة من النعم التي يستهدف القرآن الكريم أو القصة القرآنية الكريمة الإشارة إليها ولذلك عندما قال له أوتيت سؤلك يا موسى أشار إلى النعمة اً حينما قال له ولقد مننا عليك مرة أخرى أي من هنا ارتدت القصة إلى أول الأحداث أو المواقف ألا وهو حادثة إلقاء موسى في البحر الخ ونجاته في نهاية المطاف ووصوله إلى هذه المرحلة مرحلة النبوة بعد ذلك وتواصل هذه القصة حياة موسى (عليه السلام) بحسب تسلسلها الزمني إنما نود أن نؤكد عليه من خلال هذا التفصيل والتكرار أيضاً لهذه الحادثة نود أن نقول أن قضية الزمن بهذا النحو له مغزاه وأسراره البلاغية متمثلة في ظاهرة تذكير الله سبحانه وتعالى نبيه بالنعم وهذه النعم من جانب أو بالأحرى أن هذا التذكير من جانب له صلة ببداية السورة الكريمة التي أشارت إلى عدم الشقاء في عملية تبليغ الرسالة بالنسبة إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو تجاوب هذا مع عملية الإشارة إلى موسى بنحو غير مباشر أيضاً ثم ملاحظة الارتداد القصصي إلى حياة موسى الطولية من خلال قوله تعالى وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني بعدئذ يقول تعالى واصطنعتك لنفسي إن الإشارة إلى كل من الاصطناع للنفس والصنع على العين وإلقاء المحبة الخ.

هذه الإشارات تجسد بأكملها تجانس عضويا مع هدف القصة التي استهلت أو بالأحرى بعد أن استهلت بالحديث عن عملية التبليغ وأنه ليس بشقاء وارتدت لذلك بالقصة إلى أوائلها لتشير أيضاً إلى أن علمية التبليغ ليست بشقاء بل إنما هي نعم دون أدنى شك حيث واكب ذلك كما لاحظتم عطاء من الله سبحانه وتعالى في إلقاءه المحبة والصنع على العين الخ.

والآن لندع قصة موسى (عليه السلام) أو قصص موسى (عليه السلام) ونتجه إلى أقصوصة أو إلى قصة قصيرة تمثل المقطع العرضي من حياة بعض الشخصيات وليس المقطع الطولي لحياة الشخصية وكي نبرهن أو ندلل على أن مسألة تقطيع الزمن من حيث الاستهلال والارتداد أو من حيث الاستباق والاسترجاع الزمنيين بحسب المصطلح القصصي نقول نستشهد بأقصوصة أخرى حتى يتبين للملاحظ  مدى الأحكام البلاغي الذي تنطوي عليه القصة القرآنية الكريمة وما يفرزه مثل هذا الأحكام من دلالات مستهدفة أساساً بالسورة والقصة القرآنية الكريمة الأقصوصة هي أقصوصة أصحاب المزرعة الواردة في سورة القلم وهذه السورة جاء في بدايتها إنكار لمن بحلف أو لمن يمارس القسم هذا من جملة ما ورد في هذه السورة الكريمة استهلال ويلاحظ أن النص القرآني الكريم بدأ قصة أصحاب المزرعة رابطاً بينها وبين الظاهرة القسم حيث يقول إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين طبيعي القسم هنا لدى أصحاب المزرعة يختلف عن القسم الوارد في بداية السورة الكريمة التي تشير إلى أحد المنحرفين من خلال مخاطبتها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تطع كل حلاف مهين الخ مع أن الحلف في المقطعين من هذه السورة الكريمة يختلف أحدهما عن الآخر إلا انهما يصبان من حيث النوع في مستوى واحد من الانحراف أو من السلوك غير المرضي عند الله سبحانه وتعالى بيد أن ظاهرة الحلف هذه قد واكبها هدف آخر هو الاستثناء من كل شيء بإشاءة الله سبحانه وتعالى أي أن ظاهرة القسم بشيء ما ينبغي أن تقترن بإشاء الله سبحانه وتعالى وليس بمطلق التصميم أو اتخاذ إقرار هذا من جانب من جانب آخر ثمة هدف فكري آخر في هذه القصة الكريمة هي تصميم أصحاب المزرعة على أن يمنعوا عطائهم عن الفقراء حيث تذكر النصوص اواردة أن هذه المزرعة كانت لشخص يتصدق بجزء من ماله على الفقراء ثم توفي إلا أن الأول قد صمم بعدم إعطاء حصة الفقراء من هذه المزرعة إن هذين الهدفين الفكريين لم تنقلهما القصة بنحو مباشر بل سلكت منحى فنياً من خلال التقطيع الزمني للمواقف والأحداث حيث يمكننا أن نستخلص ذلك من خلال هذا التقطيع ومن خلال نمط السرد والحوار اللذين توكأت القصة عليهما في عرض هذا الجانب لنلاحظ أولا أن القصة بدأت على النحو الآتي إذ أقسموا ليصر منها مصبحين ولا يستثنوا هنا الإشارة إلى عدم الاستثناء تشكل سبباً واضحاً لما سوف يحدث من عبادة لهذه المزرعة وهذا ما عربته السورة أي عبرت السورة بداية القصة المتمثلة في القسم بأن يقطعوا ثمارها صباحاً دون أن يستثنى ذلك بمشيئة الله نقول القصة عبرت الزمن أو عبرت النتيجة أو النهاية عبر قول تعالى فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم إلى هنا نجد أن القصة استبقت الحوادث وذهبت إلى عرض الخاتمة قبل أن تحدثنا عن الوسط ثم ارتدت ثانية إلى الوسط فقالت فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين لاحظوا أن هذا الاسترجاع لزمن القصة القائل فتنادوا مصلحين انهم على حرف الخ. هذا الاسترجاع يمثل أو يجسد الهدف الآخر الذي تستنبطه القصة ونعني بها قرار هؤلاء بأن لا يشاركوا الفقراء من حصة المزرعة وهذا ما يمثل في العبارة القائلة أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين هنا تتابع القصة الحدث بحسب تسلسلها الزماني فتقول وغدوا على حرد قادرين ا فلما رأوها قالوا إنا لضالون هنا يفاجأ الأولاد بإبادة مزرعتهم وهي الإبادة التي عرضها النص قبل هذا الوسط من القصة أي عرض الإبادة بعد أن عرض البداية والآن بدأ يواصل حديثه عن الحادثة بالنحو الآتي وهذا ما عرضه من خلال بعد أن لاحظ هؤلاء الأولاد أن مزرعة  قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون إلى هنا نستخلص شيئاً جديداً هو أن هؤلاء كان ردود أفعالهم حيال ما شاهدوه من إبادة المزرعة انهم تركوا كونهم قد أخطأوا في هذا السلوك وهنا أيضاً يعرض النص القصصي جانباً آخر من حوارهم الكاشف عن مستوى آخر من القرار الذي كان قد اتخذه هؤلاء وما واكب هذا القرار من قرار أحدهم عليه حيث تقول القصة  قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منا الخ القصة واضحة هدفاً وواضحة من خلال ما تريد أن توصله إلينا من أنماط السلوك الذي يطبع البشر من حيث تركيبتهم أو دوافعهم فمن خلال هذا الاعتراض الصادر عن أحد الأخوة لوحظ ذلك مثلاً في قصة يوسف (عليه السلام) عندما قرر بعض الأخوة على ما بدر من الآخرين كل ذلك في الواقع يشكل جانبا أن نضعه بعين الاعتبار ونعني به الجانب الذي يستهدف القصة القرآنية للفت نظرنا إليه وهو إلقاء الحجة دائماً على هذه الجماعة أو تلك حتى تكون هذه الحجة بمثابة وثيقة لا يستطيع الإنسان أن يفلت منها عندما يعاقب أو عندما يعاتب على هذا السلوك أو ذاك.

المهم ما نعينه من ذلك أن بناء القصة من حيث ارتباطها بحيث ارتباطها بهذه الأهداف التي لاحظناها الآن لاحظوا كيف أن القصة عندما بدأت بالحديث عن ظاهرة اليم عبرت الأحداث جميعاً وجاءت في نهاية الحديث وهو إبادة المزرعة لا نعتقد إنا نطيل قليلاً حتى نستكشف سريعاً بأن عرض هذه القصة للخاتمة بهذا الشكل يريد أن يلفت نظرنا أساس ومباشرة إلى أن أي قرار يتخذ بخلاف السلوك العبادي المطلوب أو بخلاف التي رسمها الله سبحانه وتعالى لنا في ممارسة هذا السلوك أو ذاك نقول أن النص يستهدف الإشارة إلى أن أي قرار يتخذ بشكل يخالف المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى فإنه سوف ستصاب بالإحباط من جراء ذلك دون أدنى شك وهذا ما حدث فعلاً بالنسبة إلى هؤلاء الذين أقسموا ولم يواكبوا قسمهم أي استثناء من خلال مشيئة الله سبحانه وتعالى هذا هو الهدف الأول بيد أن القصة هي تعبر أو تقفز إلى نهاية الحدث من خلال الاشارة إلى أن المزرعة أصبحت أو أبديت حينئذ تعرض لنا نمطاً آخر من قرار هؤلاء القوم ألا وهو قرارهم بأن لا يساعدوا الفقراء من حصة مزرعتهم لاحظوا كيف هنا ارتدت من جديد إلى الوراء أي بعد أن عرفت النتيجة عرضت علينا الحادثة من خلال بداياتها الأولى أيضاً كما نستهدفه الآن هو الإشارة إلى تقطيع القصة في الزمن بهذا النحو ما ينطوي عليه من الأسرار لذلك يمكن أن نقول أن القصة عندما بدأت أولاً بالإشارة إلى إبادة المزرعة قبل أن ينطلق هؤلاء الأولاد صباحاً إلى حصد ثمارها إنما أرادت أن تشير إلى أن عدم الاستثناء بعدم مشيئة الله سبحانه وتعالى يقف سبباً وراء تعطيل حركة الإنسان حيث أن كل حركة تصدر من الإنسان إنما هي تجري بأمر أو بإشاءة من الله سبحانه وتعالى هذه الظاهرة قد لاحظتموها بدوركم عندما عرضنا لكم جانبا من سورة الكهف أو من قصة أصحاب الكهف حيث جاء في أحد خطوطها بما يشير إلى المعنى المذكور حيث قال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا الخ.

المهم إن هذا المفهوم أو هذه الظاهرة أو هذا المبدأ العبادي أرادت القصة أن توصله إلى القارئ من خلال هذا الأسلوب في تقطيع زمن القصة حتى ينتبه القارئ إلى ذلك وبعد ما لاحظنا هذا الجانب نجد كما قلنا أن القصة ترتد من جديد إلى بداياتها لتواصل عرض الأحداث والمواقف بحسب تسلسلها الزمني بعد أن عبرت الزمن وارتدت من جديد إلى بداياته قائلة فتنادوا مصبحين أن اغدواا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين إن هذه الظاهرة الجديدة تكشف من خلال عودة القصة إلى البداية تكشف عن هؤلاء يبدو انهم عند ذهابهم صباح ذلك اليوم لقطع الثمر عندئذ هجس لديهم هذا الهاجس المتمثل في عدم مساعدة الفقراء من خلال المزرعة المشار إليها من هنا نحتمل احتمالاً فنياً كبيراً أن عودة القصة إلى هذه البداية بعد أن عبرت الزمن إنما يكشف عن سرد دلالي عن طبيعة سلوك القوم قطع هذه المراحل بمعنى أهم أولا عندما فكروا أن يقطعوا ثمار المزرعة صباحاً لم يستثمروا ذلك بمشيئة الله وأنهم عندما ذهبوا صباحاً وهم يحلمن بالجني من المزرعة هجس لهم هاجس شيطاني هو أن يحرموا الفقراء من تلك المزرعة ولذلك العرض بهذا النحو.

وأما العرض الأخير الذي أجراه النص على لسان هؤلاء من خلال المحاضرة المتقدمة فهي تواكب هذه المرحلة الزمنية التي تشير إلى أن مرحلة تذكيرهم للفقراء إنما بدأت متأخرة نكتفي بهذا القدر من الحديث على أن نتابع الحديث عن النمط البنائي وهذا ما نحدثكم عنه إن شاء الله في محاضرة لاحقة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.