المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 21.doc

نواصل حديثنا عن الإعجاز القرآني الكريم حيث تحدثنا في المحاضرة السابقة عن أحد عناصر هذا الإعجاز وهو العنصر القصصي وانتهينا في ذلك من إلى جملة من الموضوعات وكان آخر الموضوعات هو موضوع الحوار في القصة القرآنية الكريمة وكان بودنا أن نتابع هذا الحديث الحوار الذي حدثناكم عنه حصلنا على الكلام فيه في جملة أنماط من الحوار كالحوار المشترك والحوار المسرحية والحوار المنقول وما إلى ذلك.

بينما نجد أن هناك أنماط أخرى متنوعة من الحوار أثبتناها في كتبنا المتنوعة ككتاب الإسلام والفن وكتب القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي وكتاب تاريخ الأدب العربي في ضوء وكتاب الإسلام والأدب...الخ.

تحدثنا عن كل هذه المستويات بشكل مفصل إلى أن متابعة الحديث عنها في محاضرتنا الحالية يظل في الواقع غير متناسق مع حجم المحاضرة التي لم تأخذ تفصيلات في هذا الجانب بقدر ما نود أن نشير إلى الخطوط العامة للإعجاز القرآني الكريم.

المهم أن هناك جملة حوارات متنوعة أطلقنا عليها مصطلحات من أمثال الحوار المختزل والحوار المفترض والحوار المبهم و...و.. الخ مما يحسن الطالب إذا أراد التفصيل في هذا المجال أن يرجع إلى الكتب المشار إليها.

المهم أن ما كنا قد تحدثنا عن الحوار من جانب وتحدثنا قبل ذلك عن اللغة القصصية من حيث الضمائر التي تصاغ القصة من خلاها حينئذٍ نتقدم إلى موضوع جديد يتصل بالواقع لبناء القصة القرآنية الكريمة وفي مقدمة ذلك البداية التي تستهل بها أية قصة في القرآن الكريم.

وهنا نود أن نلفت الانتباه إلى أهمية أو بداية قصصية في القرآن الكريم بجملة أسباب منها ما يتصل ببناء السورة القرآنية الكريمة في ذاتها حيث كررنا ونكرر لاحقاً إن شاء الله فنقول أن السورة القرآنية الكريمة تظل هي الوحدة اللغوية المتسمة لأهمية الكبيرة القياس إلى سائر العناصر المرتبطة بالقرآن الكريم لأن السورة أساس وجدت لتؤدي وظيفة قد تخفى عن الكثير ممن يعنون بتاريخ القرآن الكريم وعلمه حيث لاحظنا أكثر من باحث وقف صامتاً حيال هذه الظاهرة أي أنه لم يستطع أن يتحدث عن بناء السورة القرآنية الكريمة لملاحظة أولاً وجود موضوعات متنوعة وفي رأيي أن هذه الموضوعات لم تترابط عضوياً أو لملاحظته وجود آيات معترضة تأتي في سياق موضوع معين الخ.

حيث وقف كثيراً من الباحثين صامتين عن تفسير هذا الجانب الفني.

المهم تظل القصة القرآنية الكريمة أيضاً واحدة من العناصر التي توظفها السورة القرآنية الكريمة لكي تلقي بإنارتها على موضوعات السورة أي أنها القصة القرآنية الكريمة هي العنصر من عناصر التوظيف لإنارة ما تتضمنه الصورة القرآنية الكريمة من أفكار تستهدف توصيلها إلى المتلقي.

وفي هذا السياق حيث سياق الحديث عن القصة القرآنية الكريمة حينئذٍ فإن بداية أية قصة لابد أن ترتبط بما تتضمنه السورة الكريمة من آثار أي تجيء بداية قصصية أيضاً متناسبة مع الأفكار المطروحة في السورة ولذلك نجد أن القصص المتكررة كقصص موسى (عليه السلام) أو قصص الأنبياء وقصص معاد  نجد أن هذه القصص عندما تبدأ إنما تتناسب هذه النقطة المعينة التي تبدأ بها تتناسب مع طبيعة ما في السورة من موضوعات وإلا فستلاحظون كيف أن أية قصة إنما تتنوع بداياتها وفي مقدمة ذلك ما تلاحظونه مثلاً من قصة موسى (عليه السلام)  حيث يبدأ الحديث حيناً من وسط الأحداث وحيناً آخر من آخر الأحداث وحيناً من أولها أي أن الحديث عن أية قصة تتمثل بدايتها حيناً من الحديث أو من الاستهلال من وسط الحوادث أو المواطن التي تربط أو ترسم هذه الشخصية فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أية قصة إذا أخذنا التسلسل الموضوعي حينئذٍ بأن التسلسل الزماني هو الذي يأخذ مجراه في هذا المجال ولو قلنا القصة القرآنية الكريمة وأن تنحو منحى آخر هو الزمان النفسي أي تخضع الحوادث وتخضع المواقف للزمان النفسي الذي يتطلبه الموقف وليس للزمان المبعد على أية حال سنقف عند مستويات متنوعة من هذا الجانب عندما نتابع الآن حديثنا عن البداية في القصة القرآنية الكريمة وسنستشهد أولاً بنموذج من إحدى القصص القرآنية الكريمة الواردة في سورة البقرة وان هذه السورة تناولت موضوعات متنوعة ولكن هذه الموضوعات التي تعد بالعشرات تخضع بالواقع لخيطين أو ثلاثة خيوط فكرية تتمحور هذه الموضوعات حولها بالشكل الذي فصلنا الحديث عنه في كتابنا التفسيري الكبير التفسير البنائي للقرآن الكريم حيث يستطيع الطالب الرجوع إلى هذا النص أو إلى هذا الكتاب ليلاحظ ما قصدناه من التفسير البنائي وفي مقدمة ذلك الصورة التي تتسم بقول كبير ألا وهي سورة البقرة حيث أن موضوعات هذه السورة وسائر السور الطوال والمتوسطة والقصار جميعها تخضع لبناء فكري بغض النظر عن عشرات الموضوعات وبغض النظر حتى عن موضوع واحد تتخذه سورة قصيرة أو متوسطة.

المهم نستشهد الآن بنموذج قصصي من سورة البقرة وهي سورة تتضمن عدة قصص كما سنرى ذلك بعد قليل وسنرى أن هذه القصة التي نستشهد بها أولاً سوف توضح للطالب أهمية ما نريد أن نقدمه إليه وهو الإعجاز الفني أو البناء الفني للقصة القرآنية الكريمة ولابد وأنكم جميعاً طالعتم سورة البقرة وطالعتم إحدى قصصها واعني بها قصة طالوت حيث أن هذه القصة تتحدث عن جماعة من الإسرائيليين تقدموا بطلب إلى أحد أوليائهم وذلك بأن يرسل الله بشخصية بشرية ينضمون تحت لوائها لتخلصهم من الذل الذي لحقهم  من تشريد وسبي وغيرهما من قبل الأقباط إلا أن نبيهم شكك بصدق ادعائهم الذاهب إلى أنهم مستعدون للقتال لكنهم أكدوا عليه استعدادهم لهذا المجال ولذلك قال لهم نبيهم إن الله بعث لكم نبيكم طالوت ملكاً ولكنهم اعترضوا عليه لأن هذا القائد لم ينتسب إلى أسرة مالكة من سلالتهم ولم يكن ذا سعة من المال فأجابهم النبي بأن الله سبحانه وتعالى منحه سعة في الجسم والعلم فوافقوا على ذلك بعد أن طلبوا تقديم دليل إعجازي عليه قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن ياتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وهارون تحمله الملائكة عندها التحق الإسرائيليين به إلا أن القائد عرضهم لاختبار بنائي قبل وصولهم بساحة الاقتتال عند مرورهم على نهر فأمرهم بعدم الشرب منه إلا غرفة يد ولكنهم تمردوا عليه إلا قليلاً وعندما وصلوا إلى ساحة القتال تمردوا من جديد قائلين لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.

فطبيعي أن المقصود بجالوت هو قائد عدوهم لكن القليل من جيش طالوت الذين ثبتوا بالمعركة هاتفين كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وهزموهم في نهاية المطاف وكان داود هو الذي تولى قيادة المعركة في جيش طالوت وقتل جالوت وانتهت المعركة هذا ملخص القصة التي عرضتها السورة الكريمة ولكن كيف تم البناء الفني لها وكيف بدأت القصة هذا هو المهم جداً فيما نود أن نلفت الانتباه في نظركم إليه حيث بدأت الأحداث أو بالأحرى بدأت القصة ترسم لنا الأحداث والممارسة من وسطها وليس من بدايتها الزمانية الذي يقتضيه التسلسل الموضوعي.

لقد بدأت بهذا النحو بسم الله الرحمن الرحيم ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله إلى هنا القارئ لا يعرف سبباً لهذه المطالبة بالقائد ولكننا حين نتابع النص نتعرف ذلك حيث أجابهم النبي هل عسيتم أن كتب عليكم القتال  الا تقاتلوا قالوا وما لنا إلا أن نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا و أبناءنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم السبب هو أن الإسرائيليين استغلهم أحد الجبابرة فطلبوا من نبيهم أن ينقذهم منه وهذا يدل أن الحادث ينبغي أن تبدأ من نظرية الاستذلال للإسرائيليين وليس من طلب الإنقاذ فما هو السر في هذه البداية القصصية التي تحدثت من وسط الوقائع والمواقف وهو الطلب بإرسال قائد قلنا أن لكل بداية قصصية مسوغ نفسي والمسوغ هنا يتضح بجلاء إذا استطاع لابد أن يقرأ سورة البقرة حتى يجد في سياق ذلك أن هذه السورة عرضت المواقف المتنوعة المنحرفة للإسرائيليين أي استعرضت ذلك في عشرات من الآيات القرآنية المتصلة بهذا الجانب من حيث تمردهم وكذبهم وجبنهم...الخ.

وحينئذٍ بأن التقاط الحدث أو الموقف حينما يبدأ أو تبدأ به القصة من هذه الزاوية أو تلك إنما يعني أهمية خاصة يستهدفها النص والقرآن الكريم أي السورة نفسها فالسورة لا تريد التركيز على استغلالهم بقدر ما تريد التركيز على فضح الكذب في مواقف اليهود ولذلك بدأت السورة من خلال القصة بتسليط الضوء من هذا الجانب مشددة في إبراز الحوار الذي تضمن ادعاء هؤلاء الجبناء للحرص على القتال ولذلك ما إن بدأت القصة بهذا الموقف البادئ في وسط الأحداث حتى ارتدت أولا إلى  الأحداث فذكرت لنا تشريد الإسرائيليين ثم عرضت لنا لترسم هذه الآية مواقفهم متمثل أي هذا التعقيب القرآني الكريم القائل فلما كتب عليهم القتال ولوا إلا قليلاً.

إذاً القصة سلفاً قررت قبل أن تذكر لنا تفاصيل سلوكهم فيما بعد قررت أن الإسرائيليين تولوا عن القتال إلا قليلاً منهم وهنا السؤال الآتي لماذا أعطت القصة النتيجة قبل مقدماتها أن أهمية البناء الهندسي للقصة تتمثل في الواقع في هذا التقطيع للحوادث وهذا التقطيع للزمن ثم وصل ذلك عبر عبارات فنية تتضح من خلاها عبارة التلاحم العضوي بين أجزاء القصة وفي مقدمة ذلك البداية القصصية والحق أن تشكيك نبيهم وإعطاء النتيجة قبل مقدماتها ينطوي على مهمة فنية هي إنماء الحدث أو الواقع أي جعل القارئ يتهيأ ذهنياً من خلال تشكيكه وصدق الإسرائيليين بحيث يجد جواباً على ذلك التشكيك في أحداث اللاحقة من القصة كما أن تعقيب القصة من خلال ذهابها من أنهم تولوا إلا قليلا أخذ على عاتقه إنماء الحدث أيضاً حرجة الوقائع التي سردتها القصة فيما بعد كاعتراضهم على طالوت وتمردهم في حاجة وجبنهم عن مواجهة جيش جالوت جاءت هذه الوقائع جواباً تفصيلياً على تلك المقدمة الإجمالية التي لوحت بها القصة فهاهم الإسرائيليون يتولون عن القتال كما قالت المقدمة وهاهم يقللون فحسب وكما قالت المقدمة يتقدم إلى القتال إذا جاءت بداية القصة مرتبطة بوسطها ونهايتها من خلال هذا التقطيع للحوادث ووصل ذلك من جديد على النحو الذي لاحظناه.

وأما من حيث تلاحم الجزئيات ذاتها فهذا ما يمكن ملاحظته أيضاً فمثلاً نجد أن الإسرائيليون  اعترضوا على طالوت بعدم توفر سببين لديه هما السلالة العسكرية والمال إلى أن القصة وازنت ذلك هندسيا بالتقديم سنتين يعوضان عن السنتين الأوليين والسعة في الجسم والعلم مع ملاحظة سخط المطالب الإسرائيلية وجهة التعويض الذي ألمح إليه طبيعياً نال تجانسات كثيرة في هذا المجال لا نحدثكم عنها الآن ولكن نحدثكم عنها لاحقاً إن شاء الله عندما نتحدث عن البناء الفني للقصة القرآنية الكريمة.

أما الآن فإن حديثنا ينصب على البداية فحسب دون العناصر الأخرى المرتبطة بالبناء ونقصد بها الوسط والنهاية وارتباط كل من البداية والنهاية والوسط وكل واحد منها بالآخر وارتباط عشرات العناصر المتصلة ببيان اللغة وبالمواقف والأحداث والشخصيات فارتباط ذلك كله فيما بين هذه العناصر هو تساوي أو تلاحم هذه الأجزاء فيما بينها بالنجوم الذي نحدثكم عنه إن شاء الله فيما بعد.

أما الآن فقد استهدفنا فحسب إلى أن نشير إلى أهمية الآية القصصية حيث قلنا أن أهمية هذه الآية تتمثل في كون سورة البقرة وتتضمن موضوعات كثيرة في مقدمته الموضوع الذي يتصل بسرد سلوك الإسرائيليين ومواقفهم من الحركة طوال التاريخ سواء كان ذلك في زمان موسى (عليه السلام) أو الزمان الذي أعقب وفاة موسى فهذه القصة التي حدثنا هي في الواقع حديث بعد حياة موسى أي أن النص صرح بوضوح قائلاً كما سمعتم ألم تر إلى الملأ إلى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيهم.

إذاً الزمن الذي حدث فيه هذا المثال من الانحراف في سلوك الإسرائيليين هو زمن في حياة موسى وأما الانحراف الذي كان في زمان موسى فإن القرآن الكريم يتحدث عنه في سورة البقرة حسب ما أحصيناه رأينا أن مجمل هذه السورة تقريباً تتحدث عن هذه الطائفة المنحرفة والمعروفة بانحرافها أثناء التاريخ بل وجدت أثناء انحرافها لحد الآن نجد انحرافها وجبنها وتمردها و... الخ. أمر واضح لدى كافة الأجيال.

المهم بغض النظر عن ذلك نعود فنؤكد أن البداية القصصية تكتسب بعدها الفني والجمالي من خلال بناء السورة القرآنية الكريمة ذاتها فما دام السورة تتحدث عن مواقف الإسرائيليين حينئذٍ فإن بداية هذه القصة الجديدة التي انتزعت من وسط الأحداث وليس من بدايتها ونهايتها إنما جاءت لتتجانس ما طرحته السورة الكريمة من موضوعات تتصل بسلوك الإسرائيليين لذلك نجد أننا في حالة ما التجأنا إلى القصص القرآنية الكريمة التي وردت في سورة البقرة نجد أن هذه القصص بدورها وهي تدور حول اكثر من موضوع نقول نجد أن هذه القصص تبدأ بدايتها بنحو يتجانس مع ما طرحته السورة الكريمة فبالنسبة إلى سلوك الإسرائيليين بمقدورنا أيضاً أن نبدأ بداية قصصية التي تتحدث عن قصة جديدة لإسرائيل تظل مرتبطة بنفس المحور الذي حدثناكم عنه قبل قليل وسأقرأ عليكم الآن البداية القصصية التي تتصل بهذا الجانب حيث تقول القصة بسم الله الرحمن الرحيم وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بعد ذلك تتحدث القصة عن جملة من اقتراحاتهم السخيفة كالسؤال عن لون البقرة وما إلى ذلك وينتهي الحديث عن هذه القصة بقوله تعالى وإذ قتلتم نفسا فاداراتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوها ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون.

إنكم إذا قدر لكم أن درستم سورة البقرة من خلال التفسير البنائي لها وهذا ما ندعوكم إليه ونكرر ذلك نقول إذا لاحظتم هذا الجانب حينئذ ستجدون أن المحور العام الذي تدور عليه هذه السورة القديمة يدور حول ظاهرتين أو ثلاث من جملة هذه الظواهر التقوى و من جملة هذه الظواهر ظاهرة الإماتة والإحياء حيث تجدون أن قصصاً متنوعة تتحدث عن ظاهرة الإماتة والإحياء وتجدون أيضاً موضوعات أخرى تتحدث عن هذه الظاهرة بالإضافة إلى المحور الآخر وهو محور التقوى أو التقاء الذي تحوم سورة عليها منذ البداية وحتى النهاية من خلال طرح مصطلحات تتصل بعبارة التقوى أو الاتقاء بالشكل الذي ندعوكم إلى ملاحظته للحديث عنه ولعلنا نحدثكم عنه إن شاء الله تعالى عندما نتحدث عن التفسير البنائي للقرآن الكريم.

المهم هنا تجدون أن هذه القصة بدأت بالحديث عن الأمر بذبح البقرة وانتهت بالحديث عن ماذا لاحظوا جيداً يقول كذلك يحيي الله الموتى أن هذه العبارة التي اختتمت بها ا لقصة المشار إليها أي عبارة يحيي الله الموتى تقبل محوراً كبيراً مهماً جداً في سورة البقرة حيث تدور عدة قصص كما قلنا مثل قصة إبراهيم مع الطيور الأربعة وقصته عن القرية الذي أماته الله مئة عام وقصة الذين قال لهم الله وأحياهم وقصص أخرى نحدثكم عنها في حينها إن شاء الله في حينها.

المهم أن هذه النهاية أيضاً تظل مرتبطة بظاهرة الإحياء والإماتة التي وظفت جملة قصص للحديث أو لإلقاء الإنارة على هذا الجانب والمهم هنا ليس لنتحدث عن نهاية القصة بل الحديث الواقع هو عن بداية القصة ونقول في هذا المجال أو بالأحرى نتساءل في هذا المجال قائلين عندما نقف عند قصة البقرة نجد أنها أيضاً تبدأ من وسط الحوادث وليس من أول الحوادث أو آخرها وهذا يعني أن حادثاً خاصاً وراء هذا الاستهلال للقصة من وسطها فالقصة كما لاحظتم تتلخص في حادثة قتل لأحد الأشخاص حيث كان نزولاً ثم حدث اختلاف الناس في معركة اتجهوا إلى موسى (عليه السلام) للكشف عن هويته فأمرهم حينئذٍ ببقرة لها سمات خاصة من ثم أن يضرب القتيل ببعض أجزاء البقرة حتى أحيي القتيل وكشف عن هوية القاتل.

إذاً أول الحوادث هو حادثة قتل لأحد الأشخاص وأما وسط الحوادث فهو الاختلاف في معرفة القاتل واللجوء إلى موسى للكشف عن ذلك وعن البقرة بعد ذلك وأما آخر الحوادث فهو إحياء القتيل كما هو واضح ولكن القصة كما لاحظتم بدأت في عرض المواقف من وسطها حينئذ أي نعني بها البقرة ثم ارتدت إلى البداية وبعد ذلك حضرت الوسط تتحدث عن النهاية بهذا النحو وإذ قتلتم نفساً فادّارئتم فيها والله مخرج ما كنتم  تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها...الخ.

فالقتل يمثل بداية الحوادث وضرب القتيل ببعض البقرة يمثل نهاية الحوادث يمثل النص القصصي يمثل بعد أن بدأ من وسط الحوادث متصلاً في الأمر ذبح البقرة والسؤال هو ما هو المسوغ الفني لأن تبدأ القصة للأمر من البقرة بدلاً من أن تبدأ لأول الحوادث بحسب تسلسلها الطبيعي إن أول ما يسوغ ذلك هو أننا حيال أمر من السماء إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وبمجرد كونه أمر من الله كاف باستشعار الأهمية ولكن الأهم من ذلك هو ما نريد أن نحدثكم عنه الآن هو أن القصة تستهدف لفت الأنظار إلى أن ذبح البقرة الذي يشكل بؤرة تشكل عندها وظاهرة الإحياء للميت أي أن ظاهرة الإحياء التي كتبت فيها القصة ولفتت الانتباه إليها عبر الترتيب القائل كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون.

هذه الظاهرة هي هدف كبير من أهداف القصة وحينئذ عندما تبدأ القصة من حادثة ذات صلة بعملية الإحياء للميت إنما تعني أن هذه الظاهرة ذات دلالة كبيرة تستهدف القصة أن تشدد فيها وتلفت انتباهنا عليه لكن ما نود الآن أن نؤكد عليه بالإضافة إلى هذا الهدف الذي سنحدثكم عنه أيضاً إن شاء الله عندما نصل إلى التفسير البنائي للقرآن الكريم أو عندما نصل إلى التفسير البنائي للقصة القرآنية أيضاً نقول بغض النظر عن ذلك ما نود أن نقوله الآن أن نلفت نظركم إليه من جهة ثالثة حيث أن القصة جاءت في سياق الحديث تمرد الإسرائيليين ونعم الله عليهم حيث يظل استهلال القصة بحادثة تكشف المواقف فإن التي بدءوها حتى في طبيعة الذبح ثم نعمة السماء عليهم نقول يظل مثل هذا الاستهلال يتساوق مع سياق السورة الكريمة التي تتحدث عن الإسرائيليين فهؤلاء قد اعترضوا على موسى قائلين أتتخذنا هزواً ثم نتوقع في طلباتهم بأن سألوا عن سنه وعندما أجابهم بذلك سألوه عن لونه وعندما أجابهم عن ذلك سألوه عن حركته فأجابهم ومع ذلك فإنهم كما يقول النص القرآني الكريم ما كادوا يفعلون إذا استكشف بوضوح أن المسوغ الفني بأن تبدأ القصة من وسط الحوادث أي المتمثل في أمر البقرة هو أن القصة جاءت في سياق عرض المواقف الإسرائيلية التي يطبعها التمرد ونعم الله عليهم فيما كشفت هذه البداية عن نفس الطابع الذي رسم ولكن بطريقة أخرى من السلوك متمثلة في تلك الذهنية البليدة التي تتوقع في ذاتها وتتردد في تنفيذ وتشكك في صدق ما أمر موسى (عليه السلام) فلا عن أن هذه الحادثة تستدني كما قلنا عملية إحياء الميت بما تشكل هذه العملية وحسب القصص التي ستواجهنا لاحقاً في سورة البقرة ومع ذلك أيضاً يمكننا أن نضيف إلى ما تقدم بالنسبة إلى الإسرائيليين وعلاقتهم لتقديس البقرة كما هو واضح في سلوكهم المعروف ولكن إن الأمر بذبحها في الواقع يظل مرتبطاً أو يظل ضارباً في الصميم من سلوكهم الملتوي الذي يقدس البقرة كما هو واضح أيضاً ثمة مسوغات متنوعة جعلت هذه البداية القصية تبدأ من الأمر بذبح البقرة وهي وسط الأحداث وليست بدايتها ولا نهايتها وسبب ذلك يعود إلى ما أوضحناه قبل قليل ولعل من أوضح النماذج التي توضح لنا أن كل قصة إنما تبدأ بديتها بسياق خاص وما نلاحظه في قصص موسى (عليه السلام) حيث نلاحظ مثلاً أن الأحداث في قصة موسى الواردة في سورة القصص تبدأ من البداية حيث يتضح النص القرآني الكريم يتضح على أن موسى أن ترضعه وإذا خافت عليه أن تلقيه في اليم...الخ.

وهذا هو أولى الحوادث كما هو واضح ولكننا عندما نتجه إلى سورة الشعراء نجد أن أول الحوادث يجيء من خلال أمر موسى أن ياتي القوم الظالمين قوم فرعون إلا يتقون وأما في سورة النمل فإن البداية تبدأ من حيث أن موسى التمس ناراً وقال لأهله سآتيكم منها الخ وحينذاك بدأ الأمر بنبوة موسى (عليه السلام) لاحظوا كيف أن هذه البدايات الثلاث كل واحدة قد اختلفت عن الأخرى ففي إحدى القصص خلال الحديث عن موسى (عليه السلام) منذ بدء حياته وفي قصة أخرى جاء من وسط حياته وفي قصة ثالثة جاء أيضاً من وسط حياته ولكن من خلال الأمر الذهاب إلى فرعون وهذا يعني أن لكل بداية من البدايات المشار إليها لكل بداية من هذه البدايات السياق الذي يفرض هذه البداية أو تلك مع ملاحظة  أن البداية التي تبدأ بها هذه القصة أو تلك لا يعني أنها في الحالات جميعاً تظل مرتبطة بسياق السورة الكريمة لأن السورة الكريمة ذات وتريد أن تطرح فكرة ما قد تتوكأ على القصة في طرح هذه الفكرة فمثلاً سور الكهف تركز على ظاهرة زينة الحياة الدنيا ونبذ هذه الزينة ولذلك تجيء أول آية تسبق القصص تتحدث عن زينة الحياة الدنيا عبر قوله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها...الخ.

وبعد ذلك تجيء قصة أهل الكهف كتعبير واضح أو كتجسيد حي لمن ينبذ زينة الحياة الدنيا وتجيء بعد ذلك قصص أخرى تشير إلى تشبث البعض بزينة الحياة الدنيا كصاحب الجنتين الخ  وهذا يعني أن البداية القصصية تعني حيناً ورودها في سياق السورة الكريمة وتعني حيناً آخر أن السورة الكريمة نفسها تريد أن تطرح موضوعاً خاصاً فتوظف القصة لهذا الموضوع ولذلك نجد على سبيل المثال أن القصة القرآنية الكريمة التي تستقل في سورة في حد ذاتها كسورة يوسف مثلاً أو سورة نوح أو سورة الجن هذه السور الثلاث تبدأ فيها القصة عبر تسلسلها الزمني أي لا تبدأ بوسط الأحدث ولا تبدأ بنهايته بل تبدأ من الحدث من خلال تسلسله الزماني بأنها تتحدث عن قصة مستقلة تستهدف توصيل هذا المضمون أو ذاك إلى المتلقي من خلال طرح القصة وهذا ما يتمثل بوضوح تماماً في قصة يوسف (عليه السلام) حيث تبدأ في قصة الرؤية التي رآها وتنتهي إليه بما انتهت إليه القصة بالشكل المعروف بالنسبة إلى سورة تبدأ بالإنذار فعلاً وتنهي بالطوفان وهكذا بالنسبة إلى سورة الجن إن ما نود أن نستخلص من ذلك جميعاً هو أن البداية القصصية الواقع تظل أساساً مرتبطة من جانب بسياق الصورة التي وردت القصة خلالها وترتبط من جانب آخر بسياق الظاهرة التي يريد القرآن الكريم أن يطرحها فمن البين أن القرآن الكريم يتضمن مئات الظواهر التي يستهدف توصيلها إلينا وهذه الظواهر لا يسوغها عبر سورة واحدة وإنما يوزعها عبر السور القرآنية الكريمة بما يناسب المقام.

إذاً البداية القصصية وهذا ما نود أن نؤكد عليه وما نؤكد عليه أيضاً أن النهاية القصصية والوسط القصصي كل ذلك يخضع لسياق فني وليس لمجرد سرد أو حوار خاليين من الهدف المشار إليه وأما وإننا قد استشهدنا بنماذج من القصص الطويلة نود أن نختم حديثنا عن البداية القصصية بالإشارة إلى اقصر قصة أيضاً وردت في القرآن الكريم وهي قصة أصحاب الفيل حيث بدأت هذه القصة بقوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل الم يجعل كيدهم في تظليل لاحظوا هذه البداية تتحدث عن المعركة التي حدثت بالنسبة إلى أصحاب الفيل حيث تبدأ من نهاية الحدث وإلا وهو خسران أو خسارة العدو الذي استهدف أن يلحق الأذى ببيت الله الكريم فالسورة في الواقع تريد أن تركز على هذا الجانب وأن الظاهر سبحانه وتعالى يقف بالمرصاد لكل من تسوغ له نفسه إلحاق الأذى بالبيت الكريم ولذلك بدأت هذه الأقصوصة أو الحكاية بالحديث عن نهاية الحدث أو الواقعة وهو انهزام العدو عبر قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ماذا فعل الله سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل إنه هزمهم هزيمة هي نهاية الحادث بينما بداية الحادث هي إرسال الله عليهم طيراً أبابيل...الخ.

إذاً بدأت القصة من نهايتها لكي تلفت نظرنا إلى الأهمية التي يريد الله سبحانه وتعالى أن يلفت نظرنا إليها وهي الفقرة القائلة أن الله سبحانه وتعالى كل من يحاول إلحاق الأذى بالبيت الحرام وبهذا نفهم أن هذه القصة تختلف عن القصص الثلاثة السابقة التي كانت بدايتها جميعاً وفق التسلسل الزمني بل ليست وفق التسلسل الزمني بل جاءت نهاية الحادثة لأن فكرة السور أساس هي لهزيمة العدو الذي يريد إلحاق الأذى ببيت الله الحرام.

إذاً نكتفي الآن بهذا المقدار ونواصل الحديث في المحاضرات القادمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.