المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 17.doc

 نتابع حديثنا عن القرآن الكريم من حيث علمه وتأريخه حيث حدثناكم في المحاضرات السابقة عن القسم الثاني من هذا الجانب أي القسم الثاني من علوم القرآن وتاريخه ونعني به الظاهرة الإعجازية متمثلة في الظاهرة البلاغية حيث قلنا أن المعصومين (عليهم السلام) أشاروا إلى أن القرآن ظهر عبر معجزة بلاغية تتناسب والمناخ الثقافي الذي يتبع عصر النزول وقلنا أيضاً أنه بقيام الطابع البلاغي بالنسبة إلى مناخ الرسالة من سواه لا يعني أن الإعجاز البلاغي هو الإعجاز الوحيد الذي يسم الظاهرة القرآنية الكريمة بقدر ما نود الإشارة التي كررنا الحديث عنها إلى أن الظاهرة اللغوية هي أكثر ألفة بالنسبة إلى مستمع الإسلام آنئذ وانعكاسه أيضاً أو انسحابه أيضاً على مختلف الأجيال اللاحقة فإن الظاهرة الإعجازية الكبرى كالإعجاز الطبيعي والإنساني..الخ.

هذه الضروب من المعرفة أيضاً قد وسمها طابع الإعجاز بنحو مدهش دون أدنى شك بيد أن البيئة الثقافية في عصر الرسالة لم تألف تلكم المستويات من الإعجاز بقدر ما خبرت الإعجاز البلاغي وهو إعجاز كما قلنا ينسحب على مختلف الأجيال وفي نطاق النزول فحسب بل يمتد إلى سائر الأعصر أو الأجيال حيث يستطيع كل جيل من الأجيال أن يكتشف سمات إعجازية جديدة في القرآن الكريم بقدر ما تتوفر لديه من العناصر المعرفية الجديدة التي يحياها هذا الجيل أو ذاك وقد قلنا أن جيلنا المعاصر استطاع أن يكتشف وجوهاً جديدة من الوجوه البلاغية التي لم يخبرها الأقدمون ومن ذلك العنصر القصصي والعنصر الصوري الجديد وسائر العناصر الأخرى التي سنشير إليها إن شاء الله في محاضرات لاحقة.

وقد استشهدنا في المحاضرة السابقة ببعد واحد من العناصر البلاغية ألا وهو البعد اللغوي وقلنا أن هذا البعد اللغوي يختلف عن سائر الأبعاد البلاغية أو أن هذا العنصر البلاغي يختلف عن سائر الأبعاد البلاغية بكونه يتسرب في عصب النص القرآني الكريم بأكمله بينما لا تتوفر سائر العناصر في النص القرآني بقدر ما يتطلبه السياق فالقصة مثلاً لا ترد في جميع النصوص القرآنية إلا في صياغات خاصة يتطلبها الموقف وكذلك العنصر الصوري من تشبيه واستعارة ورمز وتقريب وتبعيد وفرضية إلى الأنماط الأخرى من الصور. كل ذلك لم تستخدم إلا في نطاق محدد يمليه الموقف أو السياق الذي يفرض هذا النمط من العنصر الصوري أو يفرض عدمه وكذلك سائر العناصر الأخرى بيد أن هناك عناصر مشتركة كالعنصر اللغوي وكالعنصر البنائي الذي سنفرد له حديثاً خاصاً نظراً لأهميته من جانب ونظراً لصمت الباحثين معالجة له من جانب آخر.

المهم لا نزال نتحدث في الإطار اللغوي الذي قلنا أن الإطار اللغوي يختلف عن سواه كونه هو اللغة التي يتوكأ عليه النص القرآني في صياغته المواقف والأحداث والأفكار.. الخ. ولذلك فإن اللغة لا تخص موضوعاً دون آخر ولا تخص عنصراً دون آخر بل هي الأداة الوحيدة التي تستخدم للتعبير عن الأهداف التي يطرحها النص القرآني الكريم ولذلك طرحت لغة بشكل جميع النصوص القرآنية الكريمة ونقصد بذلك من البعد اللغوي ليس هو مجمل أو مجموعة عناصره كلا فإن عناصره قد تنسحب على عناصر أخرى ولكننا نقصد بذلك وحسب العنصر التركيبي والعنصر الإيقاعي أي انتخاب المفردة في سياق مرتب وانتخابها بأصوات خاصة لهذه المفردة أو المركبة والتشابه بين هذه الأصوات وهذه الأساليب بإحكام وبجمالية تنسحب على جميع لغة القرآن الكريم ولذلك فإن الجانب وهو جانب البعد اللغوي المتمثل في الأحكام وفي الإيقاع يظل المتمثل في الأحكام وفي الإيقاع يظل هو العنصر الأشد بروزاً في الظاهرة الإعجازية للقرآن الكريم حيث أوضحنا في المحاضرة السابقة جملة من السمات التي تطبع هذا الاستخدام اللغوي فيما لا نرى الآن الحاجة إلى تجديد الكلام عنها أو إلى تقديم المزيد من النماذج في هذا الصدد بل نكتفي بما قدمناه لننتقل من ذلك إلى موضوع يرتبط به أي بالبعد اللغوي وهذا الموضوع هو ما يطرحه الباحثون المعاصرون بخاصة ألا وهو القرآن والترجمة.

 

ترجمة القرآن

طبيعياً إن الترجمة هي القرآن الكريم ألفها العصر الحديث كما هو واضح نظراً لانتشار اللغات الأجنبية ومنها طرح الباحثون المعاصرون  قضية الترجمة من القرآن الكريم وكان الطرح خلال مستويات متنوعة بعضها يجيز ترجمة القرآن الكريم وبعضها لا يجيز والبعض الثالث يتحفظ..الخ.

ولكن في تصورنا أن هذه المستويات من الطرح لا تتسم بأهمية كبيرة بقدر ما نود الإشارة إلى جانب واحد من حيث الترجمة ألا وهو صعوبة أو استحالة حدوث ترجمة متوافقة تماماً مع النص القرآني الكريم ولكن هذه الصعوبة لا تحتجز مثل أي واحد من المثابرين لا تحتجزهم من التوفر على الترجمة لأسباب أخرى غير فنية بل لأسباب تتسم بالبعد الفكري كما هو واضح.

إذاً حين نطرح ظاهرة القرآن والترجمة نكتفي أن لا نتحفظ فنقول لا تجوز ترجمة القرآن لأن ترجمته تفقد الجمالية أو الإعجاز الذي يسم القرآن الكريم صحيح أن الإعجاز إذا كان في نطاق ما هو لغوي صرف أي ما هو إيقاعي وإحكام في العبارة فهذا صحيح كل الصحة أما سائر الظواهر التي ترتبط بالعنصر الإعجازي فليس هناك البتة من مانع من الترجمة إذا كانت الترجمة دقيقة وتفصح عن المستوى الدلالي وحتى المستوى الأسلوبي الذي يطرحه القرآن الكريم ونعتقد أن هذا الجانب يفتقر إلى شيء من التوضيح أي الى أي مدى نستطيع أن نعتمد الترجمة من اللغة القرآنية الكريمة إلى اللغات الأخرى أياً كانت هذه اللغات بالنسبة إلى الترجمة الحرفية لما هو بعد لغوي صرف يتصل بالأحكام وبالإيقاع من الممتنع أساساً أن تقوم أية ترجمة أو تستطيع أية ترجمة أن تنقل الواقع النظري الموجود في القرآن الكريم إلى واقع لغوي آخر وقد قلنا في المحاضرة السابقة أن نمط الإيقاع ونمط التركيب نفسه يظل موسوماً بالإعجاز دون أدنى شك حتى لو افترضنا أن بعض المتفقهين لا يكادون يتفقهون ما يقول القرآن الكريم ولكن بمجرد أنهم يستمعون إلى التنظيم الصوتي الذي يطبع النص القرآني الكريم حينئذٍ سوف يحسون بحلاوة هذا الإيقاع دون أدنى شك.

وهذا يعني أن هذا الإيقاع الجميل أو أن هذا الإحكام للمركبة هذان النمطان من الأساليب الفنية يستحيل على أي واحد يستطيع نقلها بشكل دقيق إلى اللغة الأخرى لأن أي مفردة أخرى تستبدل من حيث المفردة القرآنية الكريمة حينئذٍ سوف تفقد إيقاعها دون أدنى شك فمخارج الحروف للكلمة العربية تختلف عن مخارج الحروف في الكلمات الأجنبية كما هو واضح وهذا بالواقع لا ينسحب على النص القرآني الكريم بل ينسحب على مطلق النصوص التي تترجم من لغة إلى أخرى إذا كان النص المترجم نصاً فنياً ويعتمد في أبرز عناصره على العنصر الإيقاعي ولكن بالنسبة للقرآن الكريم يكتسب الحديث عن هذا الجانب أهمية أخرى من حيث كونه إعجازياً وبما أن السمة الإعجازية تفتقد من خلال ترجمة النص الأصلي إلى نص آخر حينئذٍ عدم ترجمة هذا النص من خلال النظر من الزاوية المشار إليها يظل محظوراً دون أن نسحب هذا الحظر على سائر الجوانب الأخرى وإلا فإن الترجمة تفرض ضرورتها لأن الدين الإسلامي كما هو واضح دين عالمي ينبغي أن نوصل مبادئه إلى البشر جميعاً والقرآن الكريم هو الدستور الذي ينبغي أن تنقل مبادئه إلى العالم أجمع وهذا ما لا يتوفر إلا من خلال الترجمة ولكن مع الإشعار إلى أن الإعجاز اللغوي سوف يفقد طابعه من خلال الترجمة المذكورة مما ينبغي للمتلقي الأجنبي أن يفهم هذه الحقيقة وأن يتلقى القرآن ليس من كونه ظاهرة لغوية لكن من حيث كونه ظاهره الدلالي كما قلنا على أية حال إذا تجاوزنا هذا الجانب وقلنا أن القرآن يمتنع أن يترجم من حيث البعد الإحكامي للغة ومن حيث البعد الإيقاعي لها فإن سائر الأبعاد من الممكن أن تترجم وتكتسب نفس الطابع الذي يلاحظه المتلقي العربي للقرآن الكريم.

هنا قبل أن نغادر الحديث عن عدم إمكانية الترجمة الإيقاعية والإحكامية للغة القرآن الكريم نقول قبل أن نعبر هذا الحديث ونتجاوزه إلى إمكانية الحديث عن الجوانب الأخرى ينبغي أن نلفت النظر أيضاً إلى ثمة سياقات خاصة أو ثمة ظواهر وثمة مبادئ بلاغية أيضاً يتعذد في الواقع ترجمتها إلى اللغات الأجنبية وذلك بسبب ما هو ملاحظ من عنصر الترادف في اللغة العربية وهذا الترادف هو بدوره مطروح أيضاً في اللغات الأخرى ولكن ثمة فوارق كبيرة بين اللغتين من حيث إمكانية انسحاب أية مفردة بكامل دلالاتها الدقيقة على اللغة الأجنبية على سبيل المثال نجد في القرآن الكريم آية قرآنية كريمة تقول وإن تعفواو تصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم لاحظوا أن كلمة  تعفو تصفحوا وتغفروا هذه العبارات الثلاث تشترك في دلالة واحدة حينئذٍ معنى هذا الاشتراك في الدلالة الواحدة هل يعني ذلك أنها تتوافق جميعاً في دلالتها الأخرى طبيعياً كلا إن القرآن الكريم لا يستخدم الترادف البتة في نص واحد لأن هذا من فضول الكلام وهذا ما يميز الإعجاز القرآني الكريم عن سواه لذلك عندما يأتي بمصطلح تعفوا وتصفحوا وتغفروا حينئذٍ يعني بالصفح غير الغفران ويعني بالغفران والصفح غير المغفرة وهكذا والواقع أن هناك فوارق دقيقة بالعشرات نجدها في القرآن الكريم وحتى في النصوص الحديثة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) إن هذه الفوارق التي نجدها بين مفردة وأخرى مع اشتراكها في دلالة عامة كالجلوس والقعود مثلاً هذا الاشتراك بينهما في دلالة واحدة يظل من جانب آخر موسوماً بافتراق بينهما حيث أنهما يعني أن هذه الهيئة الخاصة من وضع البدن على الأرض مرة يكون عن قيام ومرة يكون عن نوم ولذلك يظل الجلوس أي القعود من هذا الجانب.

نقول هنا عندما يريد المترجم أن ينقل نصوص من هذه الأنماط إلى اللغة الأجنبية حينئذٍ فإنه من المتعذر عليه أن يجد كلمة مناسبة تماماً مع الكلمة الصفح وافتراقها تماماً مع كلمة الغفران وافتراقهما تماماً عن كلمة العفو وهكذا بالنسبة إلى عشرات النصوص التي يرد فيها أمثلة هذا التعبير اللغوي المحكم.

إذاً الظاهرة اللغوية من حيث الإحكام من جانب ومن حيث الإيقاع من جانب آخر ونضيف إلى ذلك جانباً ثالثاً ألا وهو وجود العبارات تبدو وكأنها مترادفة إلا أنها متباينة بالشكل الذي قلناه نقول هذه المستويات الثلاث كلها ترتبط بالبعد اللغوي الذي يتعذر أو يصعب جداً الترجمة من خلاله إلى لغة أخرى تحتفظ بنفس الإحكام والإيقاع والاستخدام اللغوي.

خارجاً عن ذلك فإن الترجمة للنص القرآني الكريم تكتسب أهمية بالغة لأن هناك ظواهر إعجازية كما قلنا تتصل بالعناصر البلاغية الأخرى للقرآن الكريم من جانب وتتصل من العناصر الدلالية أيضاً فبالنسبة إلى العناصر البلاغية سنجد مثلاً بأن الترجمة لهذه القصة أو تلك دون أدنى شك سوف يترك أثره على المتلقي الذي سوف يكتشف كيف أن القصة القرآنية الكريمة التي نزلت قبل خمسة عشر قرناً كيف كانت تكتب أو بالأحرى كيف كانت تنزل من السماء بأسلوب قصصي مدهش ومثير وهكذا بالنسبة إلى سائر العناصر البلاغية وفي مقدمتها العنصر الصوري المتمثل في التشبيه والاستعارة ونحو ذلك حيث ستجدون ونحن نتحدث في حينه عن هذه العناصر كيف أن هناك تشبيهات واستعارات ورموز و..و.. الخ. قد استخدمت بشكل دقيق يختلف تماماً عما تألفه في الأدب الذي يستخدم هذه العناصر وكذلك عندما نتحدث عن العنصر البنائي مثلاً حينئذ سيجد المتلقي الأجنبي أن النص القرآني الكريم يمارس أسلوباً بنائياً في صياغة القرآن الكريم وما تعكسه هذه الصياغة من آثار نفسية على المتلقي من حيث تحديد نمط استجابته حيال النص القرآني الكريم وهذا كله فيما يرتبط بالعنصر البلاغي الصرف.

وأما فيما يرتبط في العنصر الدلالي فلا نعتقد أن هناك حاجة الى تبيين أن الترجمة والقرآن الكريم للغة العربية واللغات الأجنبية يفرض ضرورته لأن الدلالات التي يحملها القرآن الكريم سواء كانت دلالات تتصل بالعلوم الطبيعية أو دلالات تتصل بالعلوم البحتة أو دلالات تتصل بالعلوم الإنسانية كل ذلك سوف يكتشفه المتلقي الأجنبي دون أدنى شك مما يعمق دلالته بالإعجاز القرآني الكريم ما دام هذا النص يتحدث عن هذه الضروب من المعرفة  في زمن متقدم على الجيل المعاصر الذي اكتشف بعض هذه الحقائق التي ألمح إليها النص القرآني الكريم.

طبيعياً أن نجد من الباحثين من يطرح موضوعات أخرى تتصل بالترجمة للنص القرآني الكريم ومن ذلك مثلاً طرح ظاهرة المس للقرآن الكريم حيث وردت الآية الكريمة القائلة لا يمسه إلا المطهرون حينئذ يطرح هؤلاء الباحثون إذا ترجم النص القرآني الكريم إلى لغة أجنبية فهل تنسحب الأحكام الشرعية على هذه الترجمة من حيث التعامل مع بعض الظواهر التي ترتبط بهذا الجانب ومنها ظاهرة مس القرآن الكريم أي مس الحروف التي فيه إن البعض من ذلك يشير إلى أنه لا مانع من ذلك لأن الحرف الذي ترجم إليه لا يشكل نفس الحرف العربي النازل من السماء أما البعض الآخر يرى أن ذلك لا فارق فيما بينهم وبين الحرف العربي النازل من السماء لأن الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى سواء كان في لغته الأصلية أي لغته المترجمة وهناك مسائل أخرى أيضاً تطرح في نطاق الحديث عن الترجمة وعدم السماح بذلك أو إمكانية ذلك وما سيترتب عليه من أحكام شرعية.. الخ.

نقول إن طرح هذه الموضوعات لا علاقة لها بعلوم القرآن الكريم بقدر ما لها علاقة بالحكم الشرعي الذي يتوفر الفقيه على مناقشته وهو خارج عن مجال دراستنا الخاصة لعلوم القرآن وتاريخه على أية حال نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن القرآن والترجمة وبالأحرى نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن الإعجاز القرآني الكريم فيما يتصل بالبعد اللغوي أو بالعنصر اللغوي ونتجه إلى الحديث عن ظواهر إعجازية تتصل بالعناصر البلاغية الأخرى وهي متنوعة إلا أننا نبدأ الحديث عن واحد من هذه العناصر وهو عنصر متسم بأهميته الكبيرة ونعني به العنصر القصصي.

 

العنصر القصصي

 وقد سبق أن حدثناكم في محاضرة سابقة عن هذا الجانب وقلنا أن القصة كفن أدبي لم يؤلف في عصر نزول الرسالة ولا حتى في العصور الأولى من الإسلام ولا حتى في العصور الوسطى بل انبثق هذا الفن مع أخريات القرن الماضي أي القرن التاسع عشر الميلادي ومع بدايات القرن العشرين واستمر لحد فترتنا المعاصرة ولا يزال وهو يقطع مراحل متنوعة من التطوير الفني لهذا الجانب وأن الشرق الإسلامي والعربي إنما تأثر بالتيار الأوروبي الوافد الذي أوفد معه هذا الفن القصصي بمستوياته المتنوعة وما استهدفناه من هذه الإشارة هو أن النص القرآن الكريم الذي نزل بلغة إعجازية في جزيرة العرب إنما نزل وفق ما تترجم به بيئتهم الثقافية من ظواهر أو من فنون أدبية تكتسب هذا الطابع البلاغي أو ذاك حيث جاء القرآن الكريم متناسقا أو متجاوباً مع هذه الانساق الفني ولكن مع التميز هو إعجازه أو بالأحرى تفرده بهذا النمط من التعبير اللغوي وقلنا أيضاً أن التعبير اللغوي في الواقع وإن كان يشكل ظاهرة إعجازية في زمن نزول الرسالة إلا أن هذه الظاهرة تمتد وتنسحب على مطلق الإعجاز بدليل أن الظاهرة الإعجازية من حيث البلاغة لم تنحصر في جانب الأحكام والإيقاع اللغوي الذي تمت الإشارة إليه بل يتجاوزه إلى عناصر لم يخبرها ذلك العصر وفي مقدمة عنصر القصة والعنصر البنائي نحو ذلك وقلنا أن القصة بما انه لا وجود لها البتة حينئذ إما مجرد حكايات وإما أن تكون مترجمة أو منقولة على لسان الحيوانات دون أن يواكبها أي فن في السرد أو في الحوار أو في سرد الشخصيات أو الحوار أو الأحداث..الخ.

كل ذلك لم يألفه العرب بدليل أن البلاغة التي تطورت عند العرب وبلغت الذروة في القرن الخامس عشر لم يتحدث أي بلاغي واحد عن العنصر القصصي في القرآن الكريم بينما تحدثوا عن عشرات المبادئ البلاغية المرتبطة بالمعاني والبيانبرز عناصره على العنصر الايقاعي ولكن بالنسبة إلى لاقرآن الكريم يكتسب الحديث عن هذا ا والبديع كما هو واضح كل ذلك أشرنا إليه في محاضرات سابقة وقلنا أن القصة بما أنها تشكل واحداً من الظواهر الإعجازية المتسمة بالاستمرارية وليس المتسمة بالثبات الذي لاحظناه بالنسبة إلى البعد اللغوي في بعض مبادئه بطبيعة الحال وإلا فإن الأبعاد اللغوية الأخرى قد اكتشفها العصر الحديث واستطاع أيضاً بعض النقاد والكتاب المعاصرين أن يتحدثوا عنها من خلال نصوص قرآنية كريمة استخلصوا منها هذه الدلالات الإعجازية.

المهم أن ما نستهدفه من كل ذلك أن نشير إلى أن القصة القرآنية الكريمة بما أنها ظاهرة لم يألفها العرب حينئذ من جانب ولم تألفها البلاغة الموروثة من جانب آخر فإن الحديث عنها ونحن نتحدث عن الإعجاز يفرض ضرورته ليؤكد أن الظاهرة الإعجازية البلاغية في القرآن الكريم لا ينحصر إعجازها في جيل دون آخر بل تظل كسائر الطوابع الأعجازية التي تتسم بالنص القرآني الكريم الذي وجد لكي يصبح أسطورياً للبشر معاً منذ نزوله والى قيام الساعة.

إذاً لنتحدث عن هذا العنصر فنقول الحديث عن العنصر القصصي يرتبط أولاً بتحديده ثم بتحديد مستوياته وأنماطه وتاريخه و..الخ.

ولعل أول ما ينبغي أن نشير إليه في هذا الميدان أن القصة التي ألفت أو بالأحرى القصة التي اكتسبت طابعها الناضج الحديث تظل قصة من نمط واحد يعتمد على ما هو مصطنع من الحكايات وليس على ما هو واقعياً وإذا اتجهنا إلى القرآن الكريم نجد أن القصة القرآنية الكريمة تختلف عن القصة الحديثة أو مطلق القصة في هذا الجانب لأنها تتحدث عن واقع تاريخي بينما تتحدث القصص الأرضية عن واقع مصطنع لا أساس له من الصحة.

طبيعياً القصة الأرضية أيضاً تحمل في بعض نماذجها طابع ما يسمى بالقصة الواقعية أو القصة العملية إلا أن ذلك أمر نادر جداً ولا يكاد ينطوي على أهمية كبيرة إلا حينما يطعم بحبكة قصصية لها مبادئ خاصة تفقد ذلك النمط التاريخي واقعيته المقصودة ولا أدل على ذلك ما نلاحظه من عشرات الروايات التي صدرت في بداية القرن العشرين والتي أطلق عليها مصطلح الراويات التاريخية حيث سجلت أحداثاً ماضية سواء أكان ذلك في نطاق أوروبا أو نطاق العالم الإسلامي حيث تأثر كما قلنا روائي العالم الإسلامي بالتيار الوافد وكتبوا قصصاً تاريخية تتحدث عن كثير من الشخصيات والفوائد التاريخية المتنوعة ولكن عندما كانت تتحدث عن هذه القضايا التاريخ كانت تجعل حبكة القصة مثلاً ذات بعد غرامي حتى تشد القارئ إلى متابعة رصده لما تنتظر القصة من حوادث واقعية بيد أن اختلاف هذا الواقع الوهمي يفقد القصة دون أدنى شك واقعيتها وهو أمر يختلف تماماً عن النص القرآني الكريم الذي يحتمل القصة الواقعية بحذافيرها.

والمهم أن السؤال هو أن القصة بما أنها عمل فني حينئذ فإن المطلوب من العمل الفني هو الأسلوب المتبع في صياغة هذا العمل سواء أكان هذا العمل مصطنعاً أو كان ذا واقع تاريخي محدد من هنا نجد أن القصص القرآنية الكريمة يتميز عن القصة الأرضية بجانب واقعيتها وبجانب تميزها بالمبادئ الفنية التي اكتشفها الأرضيون فيما بعد كما هو واضح وفي هذا الانطلاق نقول من الصعب جداً لمن يريد أن ينقل حدثاً واقعياً من الصعب جداً أن ينقل هذا الحديث الواقعي وفق أسلوب قصصي مثير ومدهش دون أن يرتطم بصعوبة تجعل هذا العمل هشاً يفتقر إلى العنصر الإيقاعي أو بالأحرى يفتقر إلى العنصر الإبداعي الذي ينشده المتلقي بقارئ القصة ومثلاً على العكس نجد أن القصة القرآنية الكريمة تتميز بهذه السمة أي السمة التي تجعل المتذوق متشوقاً لمتابعة قراءة القصة القرآنية الكريمة وهو أمر يشكل أحداً من الظواهر الإعجازية الناشئة والآن لندع هذا الجانب أي لندع الجانب المتصل بالفارق بين القصة المصطنعة وبين القصة الواقعية حينئذ نقول أن الواقع أن القصة المصطنعة لا تحمل تلك الأهمية التي تحملها القصة الواقعية بدليل أن المتلقي أساساً انه حيال أحداث وهمية لا أساس لها من الواقع وحينئذ سوف لن ينفعل بالمواقف ولن يتأثر بها إلا إذا كان في حالة لا شعورية حينئذ يستطيع وتسطيع القصة ان تترك أثراً ما في تعديل سلوكه ولكن إذا كان القارئ واعياً تماماً وواعياً بالأسلوب الفني الذي اتبعه هذا القاص أو ذاك حينئذ سوف تفقد القصة أهميتها المتمثلة في عنصر الاقتناع أي إقناع المتلقي بما حدث في هذه القصة من وقائع أو مواقف نقول بغض النظر عن ذلك كله فإن المطلوب منا أن نتحدث عن القصة بصفتها عملاً فنياً ينطوي على جملة من المبادئ بغض النظر عن كون هذه القصة تحمل طابعاً مصطنعاً أو طابعاً واقعياً نقول بغض النظر عن ذلك مع ملاحظة أن القصة التي تحمل طابعاً واقعياً تظل ذات أثر أشد أهمية من الكثير مما لو كانت القصة ذات طابع وهمي مصطنع نقول مع ذلك كله ينبغي أن نضع في عين الاعتبار أننا الآن أمام مستويين من التلقي المستوى الأول كون القصة قصة واقعية ثانياً كون هذه القصة قد صيغت وفق أسلوب فني يستفيد القارئ ويجعله خاضعاً للإثارة من خلال أسلوب الإقناع بالشكل الذي سنتحدث عنه فيما بعد إن شاء الله ولعل أول ما تنبغي ملاحظته هو أن الملاحظ أن القصة من الممكن أن نشطرها إلى نمطين أحد هذا النمطين هو القصة المألوفة التي تكتب وتقابلها القصة التي تسرح أي تجعل مسرحية لها شخوص يمثلون أدواراً معينة في إدارة الوقائع والمواقف بمعنى آخر أو بتعبير آخر القصة نمطان أحدهما ما يطلق عليه مصطلح القصة والثاني ما يطلق عليه بمصطلح المسرحية ومع وجود فارق بين وجود هذين النمطين ولكن بوجود قصة ولكن في الواقع هناك مبادئ مشتركة بينهما تخضع جميعاً للنص القصصي بمعناه المألوف هذا من جانب ومن جانب آخر فإن النص القصصي نفسه ينطوي على أشكال متنوعة من حيث الحجم ومن حيث المبادئ التي تحكم هذا الحجم فهناك الحكاية وهناك الأقصوصة وهناك القصة القصيرة وهناك القصة القصيرة الطويلة وهناك الرواية.

هذه المستويات من النمط القصصي ترفد في الواقع بحجم القصة التي قد تتناول حكاية بسيطة وقد تتناول موقفاً بسيطاً وقد تتناول حدثاً يتصل بما هو عرضي من سلوك الشخصية وقد تتناول حدثاً ومجموعة من الأحداث والمواقف التي تتبع الحياة الطولية للشخصية إلى آخر ما هنالك من الفوارق التي يسمها المعنيون بالشأن القصصي فيما لا حاجة لنا الآن بالحديث عنها لأن الحديث عنها يتصل بدروس البلاغة الفنية أو البلاغة القصصية والنقد الأدبي للدراسات الأدبية..الخ.

ولكننا ونحن نعنى بعلوم القرآن يهمنا من ذلك فحسب أن نشير إلى أن العنصر القصصي سواء أكان يأخذ أشكاله الذي يحمل اسم القصة القصيرة أو أحد أشكاله الذي يحمل اسم الرواية أو أحد أشكاله الذي يحمل بين القصة القصيرة وبين الرواية نقول بغض النظر عن هذه الأشكال وحجومها.

فإن هناك في الواقع مجموعة من المبادئ الفنية التي تسم رسم القصة وهو ما نعنى به ولا نعنى بأن هذه القصة هي قصة قصيرة أو طويلة أو هي أقصوصة أو هي حكاية أو حتى رواية أو هي مسرحية بالمعاني.

المهم سنخصص المحاضرة اللاحقة إن شاء الله للحديث عن الجانب القصصي في القرآن الكريم مما يتسم به من الظواهر وذلك بشكل عابر بطبيعة الحال ونترك للطالب كتاباً دراسياً في قصص القرآن الكريم نترك لهذا الطالب إذا شاء أن يوسع تلقيه أو قراءته للقصة القرآنية الكريمة وما تحمله من خصائص مذهلة يستطيع من خلال ذلك أن يتوفر على دراسة الكتاب المذكور الذي سردنا فيه أو بالأحرى الذي تحدثنا فيه عن غالبية القصص للقرآن الكريم بحسب تسلسلها من سور القرآن الكريم وبحسب ورودها في سلسلة السورة القرآنية الكريمة الواحدة كل ذلك يمكنه أن يقف عنده عبر مطالعته الكتاب المذكور والى ذلك الحين إلى حين محاضرتنا اللاحقة إن شاء الله نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.