المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 16.doc

لا نزال نتحدث عن القسم الثاني من علوم القرآن وتاريخه ألا وهو الإعجاز في القرآن الكريم حيث مهدنا لهذا الجانب في المحاضرة السابقة وقلنا أن الإعجاز القرآني الكريم يتمثل في نمطين أحدهما الإعجاز الخاص والآخر الإعجاز العام.

أما الإعجاز الخاص فيتمثل في الإعجاز البلاغي حيث أشرنا أن المعصومين (عليه السلام) أوضحوا لنا سبب ظهور القرآن الكريم مصحوباً بالإعجاز البلاغي بالنسبة إلى أنماط الإعجاز الذي يسم ظاهرة مجيء الأنبياء والرسل.

نقول أن المعصومين (عليه السلام) إشاروا إلى أن القرآن الكريم نزل في مجتمع يعنى بالتعبير البلاغي في جميع الميادين أو جميع الأشكال الفنية من شعر وخطبة ورسالة ومثل و...و الخ.

ولذلك جاء القرآن الكريم إعجازاً تعبيرياً يتسم ببلاغة تذوقها المتلقون ولكن دون مقدمة على الإتيان بمثل ذلك وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم في أكثر من موقع من مواقع النص القرآني الكريم حيث يشير إلى التحدي والإتيان بآية أو بآيات أو بسورة... الخ.

وهذا هو النمط الإعجازي المتمثل بالإعجاز البلاغي أو ما أسميناه بالإعجاز الخاص وهناك الإعجاز العام الذي يعني الإعجاز في كافة الميادين المعرفية سواء أكان هذا في ميدان علم الطبيعية أو العلوم البحتة أو العلوم الإنسانية.. الخ.

نتحدث أولاً وبشكل مفصل عن الإعجاز البلاغي لأن الإعجاز البلاغي هو المستهدف أساساً عند نزول القرآن الكريم في مجتمع يعنى بالبلاغة كما أشار المعصومون (عليهم السلام) من هنا حديثنا عن الإعجاز البلاغي سوف يأخذ جانباً تفصيلياً.

وأما لإعجاز المعرفي العام المتمثل في ظروف من المعرفة التي أشرنا إليها كل ذلك قد نحدثكم عنه إن شاء الله ولكن بنحو عابر حيث أن قسماً من الإعجاز العام يرتبط بالعلوم الطبيعة والعلوم البحتة التي تفتقر إلى متخصص يتحدث عن جانب والبعض الآخر يرتبط بالعلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع والسياسية و.. و.. الخ.

ولربما نحدثكم عن هذا الجانب الأخير بشكل عابر أيضاً.

أما الآن فنبدأ فنتحدث عن الإعجاز البلاغي وهذا ما يدفعنا أولاً إلى أن نقرر الخطوط العامة للحديث عن هذا الإعجاز وفي هذا الميدان قلنا أن ثمة إعجازاً بلاغياً لغوياً يشمل جميع النص القرآني الكريم وثمة إعجاز متنوع يتصل بمختلف الأساليب البلاغية كالأسلوب الدلالي والأسلوب البنائي والأسلوب الشكلي وما إلى ذلك كما أشرنا إلى ثمة عناصر بلاغية أخرى تتواكب مع جميع هذه العناصر ألا وهو العنصر القصصي وعناصر أخرى سنتحدث عنها إن شاء الله أيضاً.

المهم نود أن نشير أولاً بالنسبة إلى الإعجاز اللغوي ونقف عند ذلك عابراً معه أن الإعجاز اللغوي هو الإعجاز الأشد بروزاً بالنسبة إلى القرآن الكريم بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما سبق أن أشرنا إليه أيضاً من أن هذا الإعجاز اللغوي يتمثل بانتقاء المفردة والمركبة وطبيعة الموقع الذي تحتله كل مفردة في سياق ما هو تركيبي يتناغم مع كل واحدة من هذه المفردات من جانب والمركبة من جانب آخر بإيقاعات خاصة لا يمكن أن يتحدث عنها الناقد أو الباحث بشكل يستطيع من خلاله أن يوصل جمالية هذه اللغة إلى الأذهان لأن المسألة تذوقية صرفة ولا يسع البحث العلمي أو التحليلي أن يتحدث عن ذلك.

ومع أن الدراسات اللغوية المعاصرة قد توفرت كما أشرنا على هذا الجانب إلا أن المتلقي عندما يقف على تشريح هذا الجانب وكأنه يقف على تشريح جسد إنساني يشرح من خلال تقطيع كل عروقه و جميع أجزاء بدنه بحيث تصبح الهيئة الجسمية هيئة مشوهة بدلاً من أن يستهدف منها إبراز جمالية الجسد وهكذا بالنسبة إلى النص اللغوي  لذلك كما قلنا ينبغي أن نتحدث عابراً فحسب عن الجانب اللغوي مع أنه أهم من الجوانب الأخرى ولكن السبب المذكور يضطرنا إلى أن نتحدث عن ذلك عابراً ونؤكد هذه الحقيقة حينما نقول أن كثيراً من الظواهر الجمالية لا يمكن البعض منها أن يعبر عنها لغوياً على الإطلاق والبعض الآخر لا يمكن أن تحل لغوياً فإن العناصر الجمالية التي لا يمكن أن تحلل أساساً ما يتصل بالحواس المعروفة كحاسة التذوق أو الذوق وحاسة الشم وما إلى ذلك فليس بمقدورك مثلاً أن تشم رائحة الورد وتميزها عن رائحة الياسمين وتميزهما عن رائحة البنفسج وهكذا لأن الرائحة تشم ولا ترسل وكذلك بالنسبة إلى تذوق الطعام فأنت ليس بمقدورك أن تحدث عن حلاوة هذه الفاكهة وافتراقها عن حلاوة الفاكهة الأخرى إنك لا تستطيع أن تميز حلاوة التمر عن حلاوة العسل مثلاً لأن هذه الظاهرة الجمالية تتذوق وليس تحلل كما هو واضح.

وأما اللغة فهي من جانب آخر من الممكن أن يكتشف بعض عناصرها الجمالية من خلال التحليل والنمط الآخر لا يمكن أن يكتشف في مقدمة ذلك الصوت فإن الصوت لا يستطيع أي واحد منا أن يصفه بأوصاف خاصة فمثلاً إنك لا تستطيع أن تميز أو بالأحرى لا تستطيع أن تحلل القارئ بين هذا المقرأ القرآني تجويداً وبين المقرأ الآخر مع تميزهما دون أدنى شك ولكنك هل تستطيع من خلال التحليل اللغوي أن تميز وتحلل جمالي هذا الصوت وتبرهن على أنه أكثر جمالية من الصوت الآخر هذا من الممتنع جداً.

المهم حتى في حالة استطاعتنا كما قلنا من خلال التحليل الإيقاعي وصلة ذلك بالنسبة للفم والمخارج للحروف كل ذلك إذا توفرنا عليه سوف نخرج بالقطعة اللغوية وكأنها جسد مهشم ومقطع من خلال التشريح بحيث لا يستطيع أحد البتة أن يستخلص أية سمة جمالية من ذلك المهم لا نطيل الحديث عن هذا الجانب بل نشير إلى أننا نكتفي بما نتذوقه بحسب دون أن نجد هناك ضرورة بأن نتحدث عن التعليل الفني لهذا التذوق بالنسبة إلى الأصوات فمثلاً إنك عندما تقرأ هذه الآية الكريمة في سورة الملك.

بسم الله الرحمن الرحيم: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) لاحظوا أن في هذه الآية القرآنية الكريمة أو هذا النص القرآني الكريم إيقاعاً جميلاً جداً وهذا الإيقاع يتمثل في حروف ثلاث وهي حرف السين والصاد والزاي وهذه الحروف الثلاثة كما هو معروف تنسب إلى مخرج واحد من مخارج الجهاز اللساني ولأنها تتجانس في نمط الجهاز الصوتي حينئذٍ فإنها تكسب النص جمالية فائقة يتحسسه كل واحد منا إذا قدر له أن يتأمل هذا الجانب بدقة بحيث يجد كيف أن حرف الزاي في العبارة زيناً وحرف السين في العبارة السماء وحرف الصاد في عبارة مصابيح عبر قوله تعالى: (ولقد زينا السماء بمصابيح) حيث نجد أن جمالية هذه الحروف الثلاثة واضحة بالنسبة لكل من يملك تذوقاً إيقاعياً لهذا النص أو ذاك والأمر كذلك بالنسبة إلى مئات الآيات الكريمة التي تتجانس فيها أمثلة هذه الأصوات.

والحق إنك عندما تقرأ هذه السورة الكريمة ونعني بها سورة الملك ستجد أن أصداء هذه الحروف الثلاثة ونعني بها ما يصطلح عليها حروف الصفير تتجاوب طوال السورة الكريمة إذا لنستمع أولاً إلى السورة الكريمة مع ملاحظة أننا نشدد على كل حرف من هذه الحروف الثلاثة حتى يتبين للمتلقي نمط الإيقاع في هذه السورة الكريمة، بسم الله الرحمن الرحيم:( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة  ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن  من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم لهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميّز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى لقد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا  بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أوأجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فاذا هي  تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا الى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير أمن هذا الذي جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور  أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما انا نذير مبين فلما رأوه سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي او رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا فمن ياتيكم بماء معين).

والآن ندعو كل واحد منكم أن ينتبه الى مدى تكرار هذه الحروف الثلاثة أي حروف الصفير من حيث انتسابها إلى أصل صوتي واحد وقد تلاحقت عبارة السور فيما بينها حتى النهاية وبخاصة الحرف سين والصاد وهذا كالعبارات الآتية أحسن، سبع، سماوات، البصر، البصير، السماء، بمصابيح، السعير النصير، سمعوا، سألهم، زينا، نزل، نسمع، السعير، حاصباً، فستعلمون، صافات، يمسكهن، بصير، ينصركم، يرزقكم، أمسك، رزقه، تميّز، سوياً، صراط مستقيم، السمع الأبصار زلفة سيئت ، فستعلمون اصبحوا.

إن هذه المفردات التي شكلت نسبة تقريبية هي نسبة العشرين بالمئة من عدد كلمات السورة بأجمعها تمثل نموذجاً للتجانس الصوتي في العبارة القرآنية الكريمة وحتى لو فصلنا أحد حروفها وهو السين وجدناه يمثل نسبة تقريبية هي 12 بالمائة وهذا كله من حيث صلة الصوت بمجموع السورة واما صلته بفقرة واحدة أو آية أو قرار فأمر من الوضوح بمكان ملحوظ. لاحظوا مثلاً لو وقفنا عند نفس السورة لوجدنا مثلاً هذه الفقرة ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح لاحظنا التجانس الصوتي في حروف الصاد والسين والزاي عبارة والمذكورة وهكذا في فقرة سحقاً لأصحاب السعير ومثلهما البصر خاسئاً وهي حسير ومثلها سوياً على صراط مستقيم ومثلها السماء يرسل عليكم حاصلاً فستعلمون ومثلها يرزقكم إن أمسك رزقه.. الخ.

وحتى مع افتراض أن نسبة إلى الصوت إلى مجموع السورة قد ينسحب على سور كثيرة أخرى حينئذ فإن التجانس الذي لاحظناه نجد في الفقرة الواحد يعاد في الواقع إفصاحاً عن جمالية العبارة المذكورة ففي الصورة ذاتها مجموعة من الفقرات المتجانسة صوتياً من حروف أخرى مثل اعتدنا لهم عذاب السعير حيث يجيب الحرف عين هو العنصر المجانس بين الأصوات ولكن من الممكن في حالة بيان أحد الباحثين في رصد هذا الجانب من سورة في القرآن الكريم من الممكن أن يكتشف أسراراً صوتية بالغة المدى  ليس في حدود السمة الجمالية فحسب بل السمة الإعجازية أيضاً.

إن هذا النموذج كما لاحظتم هو واحد فحسب من مئات النماذج التي تسم كل مقطع قرآني كريم أو يمثل نموذج من عشرات النماذج التي تسم كل سورة قرآنية كريمة وما نود أن نشدد فيه هو أن الظاهرة اللغوية أو الإعجاز اللغوي أو البعد اللغوي في القرآن الكريم نستطيع أن نتحسسه دون أن نستطيع أن نحلل ذلك إلى مفردات جزئية حتى نبرهن للمتلقي جمالية هذه العبارة القرآنية التي يقرأها المتلقي الكريم وسوف نرى عند حديثتا عن البناء الفني أو عن التفسير البنائي للقرآن الكريم أو عن السورة القرآنية الكريمة التي تشكل في الواقع نصاً أدبياً محكماً من حيث العمارة التي تصاغ السورة من خلالها أي من حيث طرح الموضوعات استهلالاً ووسطاً وختاماً ومن حيث صلة كل واحد من هذه الأقسام بالأخرى ومن حيث صلة كل آية قرآنية كريمة وكل مقطع قرآني كريم مع المقطع الآخر كل ذلك سنلاحظه إن شاء الله عند حديثنا عن التفسير لمبادئ القرآن الكريم أو الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم ولكننا الآن استهدفنا  فحسب الإشارة إلى البعد اللغوي حيث أن هذا البعد يتمثل حيناً بالشكل الذي لاحظتموه أي أن السورة القرآنية الكريمة يغلب عليها طابع صوتي معين كما لاحظتم الآن في حرف السين والصاد والزاي حيث تظل نسبة هذه الحروف أو الأصوات نسبة أكبر من سواها لو قسنا سائر الحروف الهجائية.

وهذا هو واحد من أحد عناصر الجمال الذي يتحسسه المتذوق من خلال النسبة الضخمة التي تسم هذه الصورة أو تلك بحيث نتحسس جمالية هذا من دون أن ندرك الأسرار الصوتية التي استشهدنا الآن بنموذج واحد منها فحسب ويمكننا ملاحظة مستوى آخر من مستويات التعامل الصوتي للكلمة أو البعد اللغوي بصلة هذا البعد بالإعجاز ما نلاحظه بالنسبة إلى البعد البنائي أو العنصر البنائي حيث قلنا أن بناء الصورة القرآنية الكريمة يعتمد من جانب على صلة الأجزاء الدلالية بعضها مع بعضها الآخر من جانب و جانب آخر نجد ثمة تلاحماً وتجانساً وتآزراً وتواشجاً بين العناصر المختلفة في النص القرآني الكريم أي في السورة الكريمة وهناك العنصر الإيقاعي وهناك العنصر القصصي وهناك العنصر الصوري كل هذه العناصر تتواكب مع الدلالة المطروحة في النص لتشكل بناءً فنياً محكماً ومن جملة هذه العناصر العنصر اللغوي متمثلاً في الإيقاع فمثلاً سوف أقرأ عليكم الآن الآيات الكريمة التي ختمت فيها سورة القمر وهذه الآيات كما ستلاحظون تتضمن صوت السين أيضاً ولكن هذا الصوت في الواقع ورد في المقطع الأخير من مقاطع سورة القمر التي استهلت هذه السورة بالحديث عن قيام الساعة وسنجد كيف أن للحديث عن قيام الساعة صلة بهذا الإيقاع الصوتي المتمثل في حرف السين وهذا ما سوف نشرحه على النحو الآتي:

إن سورة القمر كما تعرفون ذلك تحوم فكرتها على قيام الساعة وأهوالها حيث استهلت السورة بقوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر إن حرف السين الذي تتضمنه لفظة الساعة وهي اللفظة المعبرة عن قيام اليوم الآخر وما تكتنفه من الأهوال هذا الحرف المتنوع من عبارة الساعة نجده يتجانس مع دلالة السورة بنحو عام فالسين هو حرف من حروف الاستقبال في دنيا النحو الساعة هي حادث مستقبل كما هو واضح وقد جاء هذا الحرف ليتجانس ليس مع عبارة الساعة فحسب بل مع كونها حادثاً يقع في السماء قيل أيضاً ما دامت السين حرفاً مستقبلياً فإذا أضفنا أن حرف السين من جهة ثالثة قد تكرر في المقاطع التي تحدثت بوجه خاص عن أهوال الساعة ومنها جهنم أعاذنا الله وإياكم منها للاحظنا مدة التجانس المذهل بين أصوات السين ودلالتها أي أهوال الساعة يقول النص إن المجرمين في ضلال وسعير يوم يسحبون في النار ذوقوا مس سقر نلاحظ كيف أن النص استخدم كلمة سقر وهي أسماء أو أوصاف جهنم حيث تضمن نفس حرف السين التي اقترنت بكلمة الساعة التي استهلت بها السورة فجاء الحرف المذكور مع حادثة قيام اليوم الآخر وهو الساعة جاء متجانساً مع النصيب الذي ينتهي إليه المجرمون وهو سقر ثم جاءت في العبارات الأخرى من جهة ثالثة متجانسة من خلال حرف سين مثل قوله تعالى ذوقوا مس سقر فعبارة مس كان من الممكن أن تستبدل بسواها ولكنها جاءت وهي تنطوي على حرف السين بل إن حرف السين ذاته قد جاء مضعفاً أي التشديد الذي يتضمن صوتاً لحرفين من سين ثم من جهة رابعة جاءت أوصاف جهنم الأخرى تتضمن حرف السين أيضاً مثل في الضلال وسعر فكلمة سعر ذات صلة بالسعير الذي هو من أوصاف وأسماء جهنم أيضاً وإلا فإننا نلاحظ أوصافاً لجهنم أو عبارات لجهنم ترد في نصوص قرآنية متنوعة وفق مفردات أخرى ولكنه هنا انتخب المفردات التي لها صلة بجهنم ولكنها تنطوي على حرف السين وإلا فإن الأوصاف الأخرى لجهنم ذات عبارات وأصوات متنوعة كما هو واضح.

إذاً لاحظنا كيف أن الإيقاع في المقطع الأخير من مقطع سورة القمر وهو المقطع الذي يتضمن أوصاف جهنم فحسب هذا المقطع فقد جاء وانطوى عليه حرف السين بالقياس إلى الحروف الأخرى التي لم تطغى بهذا النحو الذي لاحظناه.

إذاً لاحظوا جيداً كيف أن البعد الإيقاعي أو كيف أن العنصر الإيقاعي الذي يجسد واحداً من العناصر اللغوية أو يجسد عنصراً من البعد اللغوي في القرآن الكريم كيف جاء استخدام هذا العنصر الإيقاعي استخداماً فائقاً ومتجانساً مع بناء السورة القرآنية الكريمة في هذا النص وكيف جاء بنحو آخر مع سورة الملك التي لاحظنا طغيان حروف الصفير فيها إذا ثمة جمالية يتحسسها المتلقي ولاشك ولكنه لا يستطع أن يكتشف أسرارها من جانب وإذا اكتشف ذلك كما اكتشفنا  مثلاً هذه الحروف التي طغت في سورة القمر في نحو خاص وطغت في سورة الملك بنحو آخر نقول إذا التفت أحدنا إلى أسرار الإيقاع الذي يهب النص جمالية ولكن التحليل لهذه الأسرار سوف يكتسب صعوبة بالغة أو بالأحرى حتى لو استطعنا أن نحلل ذلك كما توفر على ذلك علماء اللغة في كثير من النصوص التي تناولها ولكنهم عندما تناولوا تلكم النصوص شوهوها تشويه الجسد الممزق المبعثر إلى أشلاء بحيث لا يستطيع المتلقي أن يتذوق أي إيقاع في هذا النص أو ذاك في حالة ما إذا أخضعناه للتحليل بالنحو الذي قلناه.

والحق إذا أردنا أن نتابع سائر لمستويات البعد اللغوي متمثلاً في الإيقاعي لأمكن أن نستشهد بمئات النماذج التي توفر على صياغة إيقاعية جميلة قد لا يدرك أسرارها المتذوق وقد يدرك ذلك ولكنه لا يستطع أن يحلل ذلك بالنحو الذي لاحظناه وبالنحو الذي يمكننا أن نلحظه في مستويات أخرى من التجانس المنتظم بين الأصوات أو الحروف فهناك التجانس المطلق الذي يتمثل في توحيد الأصوات إما في أول العبارة مثلاً مثل قوله تعالى أدهى وأمر و أن يتوحد الصوت في آخر العبارة سبأ بنبأ أو أن يتوحد الصوت في أول العبارة وآخرها مثل يناهون عنه وينهون أو أن يتوحد الصوت في وسط العبارة مثل والنجم والشجر يسجدان أو أي يتوحد الصوت  في وسط العبارة وآخرها مثل سبأ بنبأ أو أن يتوحد الصوت في جميع أصوات العبارة مثل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة حيث أن العبارة الأولى تتصل بالنضارة والعبارة  الثانية تتصل بالنظر.

وأما من حيث التوازن فإن هناك أيضاً مئات العبارات القرآنية الكريمة الواردة في هذا الميدان كما استشهدنا عابراً بنموذج لسورة الواقعة سدر مخضود و طلح منضود و ظل ممدود الخ.

حيث يمكننا أن نجد المئات من أمثلة هذه الآيات التي تتضمن جملاً متوازنة سواء أكانت الجملة تتألف من كلمتين فحسب أو تتألف من ثلاث أو أربع الخ. كل ذلك يشكل نمطاً من أنماط الإيقاع المرتبط بالبعد اللغوي وهناك نمط مهم جداً يتطلب في الواقع أيضاً دراسة وليس مجرد إشارة ألا وهو ما تميز به القرآن الكريم من الفواصل أو من القرارات أو ما يسمى بالنسبة في الشعر بالقافية أو ما يسمى بالنسبة إلى النثر بالفاصلة أي النهاية التي تنتهي بها هذه الفقرة أو تلك وبالنسبة إلى النص القرآني الكريم تعني النهاية التي تنتهي بها الآية الكريمة وجميعاً لعلكم تعرفون أن مسألة الفاصلة في النثر أو القافية في الشعر تخضع لمستويات متنوعة ففي الشعر مثلاً خاصة الموروث تتوحد القافية تقريباً وإن كان الشعر وجد أجيالاً متنوعة قد نوعت القوافي ذلك لقد بلغ منتهاه في العصر الحديث حيث جاء الشعر الحر وأصبح القوافي متنوعة واحدة من أبرز ظواهر هذا الشأن.

وأما بالنسبة إلى النثر فإن النثر قد يتمثل في خطوة واحدة تتوحد جميع فواصلها وهذا نادراً بطبيعة الحال إلا في الخطبة القصيرة جداً كذلك ما نشاهده في الحديث مثلاً أو المثل حيث أن توحد الفواصل خاصة إذا كانت فاصلتين أو ثلاث فواصل حينئذٍ فإن التوحد يفرض ضرورته ولكن بالنسبة إلى الخطبة الطويلة مثلاً حينئذٍ فإن التنوع في ظاهرة الفواصل يأخذ مشروعيته كما هو واضح أيضاً وما يعنينا أن نسير إلى القرآن الكريم بالنسبة إلى فواصله وهذا ما يدعونا إلى أن نمر عليها مروراً عابراً على أن نحدثكم عن ذلك في مناسبات أخرى أو نتحدث ذلك في لقاءات غير هذا اللقاء لأن الأمر يتطلب دراسة شاملة ويتطلب زمناً طويلاً نرجو من الله أن يوفقنا على التوفر على ذلك.

أما الآن فنكتفي بالإشارة إلى ظاهرة الفواصل وما تنطوي عليها من دلالات الملاحظ في النصوص القرآنية الكريمة أن البعض منها تتوحد فواصلها بخاصة إذا كانت السورة قصيرة مثل سورة الكوثر مثلاً بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر) حيث أن الفواصل الثلاثة توحدت في الحرف الذي انتهت الفاصلة به وهو حرف الراء كما لاحظتم وكذلك قد نجد توحد هذه الفواصل في سورة أكبر من هذه السورة وهذا ما يمكن ملاحظته في سورة القمر حيث يبلغ عدد آياتها خمساً وخمسين آية كلها ذات فاصلة موحدة تنتهي بحرف الراء أيضاً بيد أن الغالبية من سور القرآن الكريم تظل فواصلها متنوعة وهذا أمر ينبغي أن نلفت النظر إليه وذلك ضرورة مهمة وهي أن المسألة هي ليست مسألة إيقاعية أو جمالية فحسب بل إن الإيقاع أو الجمال يظل مرتبطاً في واقعه بالدلالة وهذا هو أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم إننا في النماذج الأرضية أو البشرية نجد أمثلة هذا التجانس الإيقاعي وهذه الأنماط الإيقاعية المتنوعة إلا أنها لا تخضع في الواقع إلى ارتباط عضوي دائم بحيث تتجانس الأصوات مع الدلالة وهذا على العكس تماماً من القرآن الكريم الذي يربط بين الصوت وبين الصورة أو الدلالة أي أن ثمة صلة بين الصوت وبين الدلالة فمثلاً في سورة البقرة التي تكاد تصل آياتها إلى ما يقارب الثلاثمائة آية نقول أن هذه السورة تتضمن بطبيعة الحال على عشرات الفواصل وتتضمن عشرات الدلالات وتجدون في هذه السورة وفي السور أن الفواصل تتنوع حيناً آخر تتكرر أي يجيء حرف الراء في مقطع من مقاطع السورة ثم يتكرر هذا المقطع بعد مقطع آخر تنتهي الفاصلة فيه بحرف العين مثلاً وهكذا تجد أن هذه الفواصل تتنوع من جانب وتتكرر من جانب وهذا التنوع والتكرار ليس مجرد إيقاع جمالي يستهدف طرد الملل من القارئ مثلاً بقدر ما يستهدف في الآن ذاته معنى دلالياً أي أن هناك ثمة ارتباطاً بين الصوت وبين الدلالة ويمكننا أن نستشهد نموذج قصير في هذا الميدان لأن البحث عن الاستشهاد بكل سورة البقرة مثلا أو السور الطوال أو السور المتوسطة أيضاً يكلفنا عناء لا تسمح به المحاضرة ولكن نستشهد بنص قصير قد تنوعت فواصله تبعاً لتنوع دلالاته أيضاً لاحظوا مثلاً بالنسبة إلى سورة قريش تقول بسم الله الرحمن الرحيم ايلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لاحظوا كيف أن هذه السورة الكريمة بدأت بفاصلة تنتهي بحرف الشين وهي الفاصلة الأولى وبدأت بفاصلة أخرى هي الفاء وبدأت بفاصلة ثالثة هي التاء ثم تكرر وتوحد حرف الفاء في الآية الرابعة التي انتهت بكلمة خوف.

وهنا نتساءل لماذا تجانست الآية الثانية مع الآية الرابعة أي الآية التي تقول إيلافهم رحلة الشتاء والصيف والآية التي تقول الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لاحظوا توحدت هاتان الآيتان بفاصلتيهما بالفاصلة الثالثة والآية الثالثة المنتهية بفاصلة البيت ما هو سر ذلك سر ذلك نجد أن رحلة الشتاءو الصيف ذات ارتباط بذهاب الجوع وذهاب الخوف ولذلك فقد تجانست الفاصلتان متمثلتين بالحرفين المشار إليهما ولكن بالنسبة إلى آية ايلاف قريش وليعبدوا رب هذا البيت لم يكن الارتباط بينهما بنحو الحجم الذي لاحظناه في الآية الثانية الآية الرابعة لذلك جاء التجانس بين هاتين الفاصلتين متوسط المدى متمثلاً في حرفي الياء من كلمة قريش الياء من كلمة البيت حيث نجد تناسقاً صوتياً بين تلك الكلمتين ولكن من خلال أحد حروف الواقعة في الوسط وهذا يختلف تماماً عن الأصوات الواقعة في نهاية الكلمة.

وإذا أردنا أن نستشهد بنموذج آخر من توحد الفواصل يمكننا أن نستشهد بسورة التكاثر التي بدأت بالقول، بسم الله الرحمن الرحيم: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) حيث نجد أن هاتين الآيتين الكريمتين تنتهيان بفاصلة واحدة كما هو واضح بيد أن هذه السورة الكريمة عندما تتابع حديثها قائلاً :(كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) لاحظوا هنا كيف أن ألهاكم التكاثر توحدت فاصلتها مع زرتم المقابر ولاحظوا أيضاً كيف أن عبارة لترون الجحيم قد توحدت ثم لتسألن يومئذ عن النعيم التوحد هنا يقف على الحالة المضادة للنص السابق أي التوافق أو التوحد في القافية جاء هنا للتضاد بين الجحيم وبين النعيم بينما جاء التوحد الأول أو التوحد الذي لاحظناه في السورة السابقة أيضاً جاء من خلال التجانس بين الدلالتين.

أما الآن فإن التجانس بين الدلالتين يتحقق ليس من خلال التماثل بل من خلال التضاد كما لاحظتم في فاصلتي الجحيم والنعيم.

إذاً أمكننا ملاحظة صياغة هذه الفواصل الإيقاعية المتحدة بمستوييها المتقدمين وذلك كله يكشف عن أن انتخاب الفاصلة وانتهاء ذلك بحرف معين أو صوت معين لا يرتبط فحسب بالإيقاع الجمالي بل يرتبط بالإيقاع الدلالي على النحو الذي لاحظناه على أية حال نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن البعد اللغوي متمثلاً في جانبه الإيقاعي حيث قلنا أن الإفاضة في ذلك تتطلب مجلدات كثيرة على أن نتابع حديثنا عن الإعجاز في جوانبه الأخرى في محاضرة لاحقة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.