المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 09.doc

كيفيّة دلالة الكلمة

من المسائل المهمّة التي ترتبط بالدلالة إرتباطا وثيقا كيفيّة دلالة الكلمة على معناها، وذلك لأنّها تتدخّل تدخّلا مباشرا في فهم معنى الجملة ووظيفة الأداة في الجملة، ولما يترتّب على هذا من آثار شرعيّة أو قانونيّة أو عرفية.

والمسألة - في الأصل - هي من مسائل الفلسفة القديمة المدرجة والمبحوثة تحت عنوان (الوضع)، أي وضع اللغة، والمقصود به نشأة اللغة وما يرتبط به من شؤون اُخرى.

ثمّ انحدرت إلى علم اُصول الفقه مع ما انحدر إليه من مسائل الوضع وقضايا اللغة، ورسمت في اُصول الفقه تحت العنوان الفلسفي نفسه الذي هو الوضع.

وعني بها الاُصوليون عناية ملحوظة حتّى أفردوها برسائل خاصّة بها، منها.

- المعنى الحرفي، للسيّد حيدر بن إسماعيل الصدر (ت 1356هـ).

- المعنى الحرفي، للميرزا أبي الحسن المشكيني (ت 1358هـ.(

 -الزلال المرشوف في وضع الأسماء والحروف، للسيّد محمّد جعفر الحسيني الشيرازي الحائري (ت 1377هـ)

 -المعنى الحرفي: في اللغة والفلسفة والاُصول، لاُستاذنا السيّد محمّد تقي الحكيم.

وأطال الاُصوليون الكلام في بحث كيفيّة وضع الألفاظ لمعانيها.

ومن نتائج ذلك أن اتّفقوا على تقسيم المعاني الموضوع لها الألفاظ إلى قسمين:

 -1المعاني الاسمية.

وهي تلك المعاني التي تفهم من اللفظ منفردا، مستقلا عن غيره.

 -2المعاني الحرفيّة:

وهي المعاني التي لا تفهم من ألفاظها إلا إذا انضمّت ألفاظها إلى ألفاظ اُخرى.

ولكنّهم اختلفوا في دراستهم للمعاني الحرفيّة.

 -اختلفوا أوّلا في أنّ الحرف موضوع لمعنى أو غير موضوع.

وثانيا- على تقدير أنّه موضوع لمعنى - ما هو ذلك المعنى؟

هل هو مسانخ للمعنى الاسمي؟

أو أنّه مباين للمعنى الاسمي؟

وتعدّدت الأقوال في المسألة، وذكر منها، اُستاذنا المظفّر في كتابه الاُصولي ثلاثة هي:

 -1أنّ الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى.

فمعنى (من) الابتدائية هو عين معنى كلمة (الابتداء) بلا فرق، وكذا يعني (على) معنى كلمة الاستعلاء، ومعنى (في) معنى كلمة الظرفيّة.. وهكذا.

وإنّما الفرق في جهة اُخرى، وهي أنّ الحرف وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة وآلة لغيره، أي إذا لوحظ المعنى غير مستقل في نفسه.. و(أن) الاسم وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ مستقلا في نفسه.

مثلا: مفهوم (الابتداء) معنى واحد، وضع له لفظان: أحدهما لفظ (الابتداء.(

والثاني: كلمة(من).

لكن الأوّل وضع له لأجل أن يستعمل فيه عندما يلاحظه المستعمل مستقلا في نفسه، كما إذا قيل (ابتداء السير كان سريعا).

والثاني وضع له لأجل أن يستعمل فيه عندما يلاحظه المستعمل غير مستقل في نفسه، كما إذا قيل: (سرت من النجف).

فتحصل أنّ الفرق بين معنى الحرف ومعنى الاسم:

أنّ الأوّل يلاحظه المستعمل حين الاستعمال آلة لغيره، وغير مستقل بنفسه.

والثاني: يلاحظه حين الاستعمال مستقلا.

مع أنّ المعنى في كليهما واحد، والفرق بين وضعيهما إنّما هو الغاية فقط.

 -2إنّ الحروف لم توضع لمعانٍ أصلا، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيّة خاصة في لفظ آخر، فكما انّ علامة الرفع في قولهم: (حدّثنا زرارة) تدلّ على أنّ( زرارة) فاعل الحديث، كذلك (من) - في المثال المتقدّم - تدلّ على أنّ (النجف) مبتدأ منها والسير مبتدأ به.

-3 أنّ الحروف موضوعة لمعانٍ مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني الاسميّة، فإنّ المعاني الاسميّة في حدّ ذاتها معانٍ مستقلّة في أنفسها، ومعاني الحروف لا إستقلال لها، بل هي متقوّمة بغيرها.

ومن هنا رأيت أن أقتصر على المهمّ من أبعاد المسألة ممّا له علاقة في فهم النصّ الشرعي.

الكلمة:

عرفنا في ما تقدّم - معنى الدلالة فلا ضرورة للإعادة، والمطلوب تمهيدا للمسألة أن نعرف المقصود من الكلمة هنا:

المقصود بالكلمة - هنا - الكلمة المعجميّة، والكلم المعجمي هو ما يصطلح عليه بين علماء اللغة العرب بـ(اللفظ المستعمل) الذي يراد به تلك الكلمة التي قرنت بمعنى واستعملت في ذلك المعنى، ويقابله (اللفظ المهمل) وهو الذي لم يقرن بمعنى، وإنّما أهمل وترك لعدم الحاجة إليه.

ونحويا تقسّم الكلمة المعجميّة إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف، وهو التقسيم الثلاثي المعروف، والذي وصل إلينا عن طريق الصحيفة المنسوبة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) برواية أبي الأسود الدؤلي.

وعن طريق أقدم كتاب نحوي وصل إلينا وهو كتاب سيبويه.

ويبدو انّ هذا التقسيم الثلاثي العربي متأثّر بالتقسيم المنطقي اليوناني للفظ.

وربّما كان هذا عن طريق اطّلاع النحّاة العرب عليه بوساطة النحو السرياني القديم، فقد كان النحو السرياني القديم - كما يعرب عنه تاريخه - إنعكاسا في كثير من قضاياه للمنطق اليوناني.

وآية هذا ما نراه من مآخذ على التقسيم العربي سجّلها علم اُصول الفقه مثل وجود أسماء في اللغة العربية كأسماء الإشارة وأسماء الشرط والأسماء الموصولة وأسماء الاستفهام والضمائر أدرجت في النحو العربي ضمن قائمة الأسماء مع أنّها إلى الأداة أو الحرف أقرب منها إلى الاسم، وذلك أنّ من أهمّ خصائص الاسم دلالته على معناه بنفسه، بينما هذه الألفاظ التي اُطلق عليها أسماء لا تدلّ على معناها بنفسها، وإنّما تفتقر في ذلك إلى الغير.

ويرجع هذا إلى أنّ أساس القسمة العربية لم يستمدّ من واقع الاستعمالات اللغوية الاجتماعية عند العرب، وإنّما قيس على المستورد اليوناني.

ومن هنا لم يأت التوزيع على الأقسام عادلا من ناحية فنيّة.

فمثلا: في اللغة اليونانية قام تقسيم الكلمة على أمرين:

 -1على تقدير أنّ الأشياء في الوجود التي يتعامل معها الإنسان ثلاثة: ذات وحدث ورابطة.

2- وعلى واقع الجملة في اللغة اليونانية في أنّها ثلاثية التركيب.

بينما الجملة في اللغة العربية ثنائية، فما يقوم بدور الرابطة في اللغة اليونانية وهو الأداة لا يقوم في لغتنا بهذا الدور، فالحرف عندنا لا يقابل الأداة عندهم مقابلة تامّة وسيتّضح هذا أكثر في ما يأتي.

الكيفيّة:

ونريد بكيفيّة الدلالة: الطريقة التي تدلّ بها الكلمة على معناها الذي تستعمل فيه عند الناس.

وقد استفادت الفلسفة والمنطق القديمان - وتبعهما في ذلك اُصول الفقه - تحديد الكيفيّة كطريقة دلالة من تقديرات العلماء والباحثين الوضع لمفردات اللغة، وتقديرات استعمالاتها الاجتماعية.

ورأينا في الأقوال التي نقلناها عن كتاب اُستاذنا المظفّر أنّ بعض الاُصوليين ذهب إلى أنّ الوضع في الأسماء والحروف واحد، والفرق في الاستعمال، ذلك انّ المستعمل للفظ قد يلحظه مستقلا بنفسه، فيستخدم الاسم.

وسمّي هذا اللحاظ باللحاظ الاستقلالي، لأنّ المستعمل نظرا للفظ مستقلا عن غيره.

وقد يلحظه حالة وآلة ووسيلة لغيره فيستخدم الحرف.

وسمّي هذا اللحاظ باللحاظ الآلي، لأنّ الكلمة نظرت آلة ووسيلة لغيرها، ولم تنظر مستقلّة بنفسها.

وبتوضيح أكثر:

انّ الكلمة المعجميّة مؤلّفة من مادّة وهيئة.

 -المادّة: هي الحروف الهجائية التي تتكوّن منها الكلمة.

- الهيأة: هي صورة الكلمة بعد تأليف حروفها بضمّ بعضها إلى البعض.

والمادّة والهيئة للكلمة كوجهي العملة النقدية لابدّ منها، فلا تكون الكلمة كلمة بدونهما أو بفقدان أحدهما.

ومادّة الكلم هي التي تحمل المعنى، والهيئة هي الوسيلة لإبراز ذلك المعنى.

ومن الكلم ما تكون قوى هذه الوسيلة مكتملة فيها، وبهذا الاكتمال تكون قادرة على أن تستقلّ بنفسها عن غيرها في إبراز المعنى.

وحصرها الاُصوليون في الأسماء الجوامد ومواد الأفعال ومواد الأسماء المشتقة.

وقد تكون الكلمة غير قادرة على أن تعطي المعنى الذي وظفت له بنفسها، بل لابدّ من أن تنضمّ إلى غيرها من الكلم تستعين به للقيام بوظيفتها أو إبراز معناها، ومثّلوا لها بالحروف والأدوات.وتنقسم هذه الألفاظ على أساس من واقع استعمالها إلى:

أ- ألفاظ لها معان لكن لا تقدّر على إبرازها إلا إذا انضمّت إلى الجملة.

وهذه مثل أدوات الاستفهام والضمائر والأسماء الموصولة. والخ.

ب- ألفاظ لا تحمل معاني بنفسها، وإنّما لها وظائف فقط.

وهذه تنقسم إلى نوعين: أدوات ربط، وأدوات تعليق.

 -1أدوات الربط:

مثل أداة الربط في بعض اللغات كالفارسية والتركية، ففي (قواعد اللغة الفارسية) للدكتور حسنين(1): الرابطة: هي الكلمة التي تربط المسند بالمسند إليه مثل (عبّاس دانشمنداست): (عبّاس عالم) فـ(عبّاس) في هذه الجملة مسند إليه، و (دانشمند) مسند و (أست) رابطة.

وفي (قواعد اللغة التركية: العثمانية والحديثة) للدكتور الطرازي(2): الجملة الخبرية.

-1 تتكوّن من مبتدأ + خبر + أداة خبرية ( در).

أو

 -2تتكوّن من مسند إليه + مسند + أداة خبرية أو الرابطة (در) والرابطة هي الضمير الخبري.

مثل: (بو جاهل در) أي: هذا جاهل.

 -2أدوات التعليق:

وهي أدوات الشرط في الجملة الشرطيّة.

ولنأخذ بعض الأمثلة للتوضيح أكثر:

كتب، يكتب، اكتب، كتاب، كاتب، مكتوب، مكتب، رجل، امرأة، لسان، عين.

كل هذه وأمثالها تحمل معاني اسمية لأنّ-ها تدلّ عليها دلالة استقلالية.

مِنْ. هَلْ.

ان (مِنْ) لها وظيفة دلالية عندما تستعمل في الجملة، وهي الربط بين مدخولها والفعل أو ما في معناه الذي تتعلّق به لتظهر معنى موجودا في الفعل وتربطه بالاسم المجرور الذي هو مدخولها.

فعندما أقول: (جئت من البيت)، فإن (من) في هذه الجملة قامت بوظيفة الربط بين الفعل (جاء) والاسم (البيت) لإبراز وإظهار أنّ منطلق المجئ كان هو البيت.

فـ(من) وظّفت هنا لتقوم ببيان انّ ابتداء المجئ هو البيت.

فالابتداء - هنا - ليس في (من) وإنّما هو في (المجئ) وكان عمل (من) أن كشفت عنه عندما ربطته بالبيت.

فهي - هنا - لم تدلّ على معنى في نفسها لعدم وجود معنى فيها.

وواضح انّ استعمالها في الجملة كان آلة ووسيلة لإبراز وإظهار معنى موجود في الجملة كان مقصودا للمتكلّم، وكانت مفردات الجملة وهي الفعل( جاء) والاسم (البيت) في مثالنا غير قادرة على إبرازه وإظهاره بنفسها.

أمّا (هل) ففيها معنى وهو الاستفهام، ولها وظيفة وهي تحويل الجملة التي تدخل عليها إلى جملة استفهامية.

فعندما أقول: (جاء زيد)، فالجملة غير استفهامية وليس فيها ما يحمل معنى الاستفهام.

ولكن إذا قلت: (هل جاء زيد) تحوّلت الجملة من خبرية إلى استفهامية بسبب دخول (هل) عليها، فـ(هل) تحمّل معنى الاستفهام إلا أنّها غير قادرة على إظهاره بنفسها.

فتعريف حرف المعنى في النحو العربي بالتعريفين التاليين:

(الحرف: ما دلّ على معنى في غيره).

(الحرف: هو الذي لا يظهر معناه إلا مع غيره).

تعريف سليم إذا وزّع التعريفان على النمطين المذكورين من الحروف بحيث يكون التعريف الأوّل لحروف الجر، والتعريف الثاني لسائر الحروف والأدوات، عدا أدوات الشرط فإنّها تقوم بوظيفة التعليق بين جملتي الشرط وإحداث معنى الشرط في الجملة الكبرى.

والخلاصة:

                   الأدارة

   لها معنى                       لها وظيفة          

                           الربط                  التعليق  

ونستفيد من هذا في دراستنا للنصوص الشرعيّة المشتملة على حروف وأدوات، وبخاصة حروف الجرّ التي - غالبا - يحتمل اقتران الحرف الواحد منها بأكثر من معنى.

والتي رجّحنا فيها - في أكثر من بحث - أنّ لها وظيفة فقط، وتتمثّل وظيفتها في الربط بين مدخولها (الاسم) والفعل أو ما في معناه، وفي إبراز وإظهار معنى موجود في الجملة قصرت ألفاظ الجملة الاُخر عن إبرازه وإظهاره.

والتطبيق الآتي يبيّن شيئا من هذا.

التطبيق:

ومن أمثلة التطبيق الفقهي كلمة (إلى) في آية الوضوء (ياأيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق).

فقد اختلف في معنى (إلى):

فمن قائل هي للغاية والانتهاء، مثل (إلى) في (أتمّوا الصيام إلى الليل).

ومن قائل هي بمعنى (مع) مثلها مثل (إلى) في (لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) و (مَن أنصاري إلى اللَّه).

وربّما يقال: هي لبيان الحدّ نحو (جزيرة العرب من البحر الأحمر إلى الخليج الأخضر.(

وكلّ هذه المعاني محتملة، واحتمالاتها متكافئة.

والطريق إلى معرفة المعنى المقصود هو الرجوع إلى القرينة المعيّنة للمعنى المطلوب، وليس هي هنا إلا الوضوءات البيانيّة.

وفي ضوء ما انتهينا إليه من انّ حروف الجرّ لا تحمل معنى، ولكن لها وظيفة، يرجع لاستفادة المعنى الذي وظفّت (إلى) في الآية الكريمة لتقوم بإبرازه إلى الوضوءات البيانيّة أيضا.

ولأنّ الوضوءات البيانيّة دلّت على انّ الإبتداء في غسل اليد من المرفق لا تحمل (إلى) في الآية على الغاية والانتهاء، وإنّما تحمل على معنى (مع) أو على معنى بيان الحدّ.

ومن أمثلة التطبيق الاُصولي ما يأتي:

سرى الاُصوليون - كما رأينا - المعنى الحرفي من الحروف والأدوات إلى الهيئات (صيغ المشتقات)، وإلى النسبة في منظومة الجملة، فقالوا: هيئات المشتقات وهيئات الجمل أيضا هي معانٍ حرفية.

وذلك لأنّ الهيئة في المشتقات - بما هي صورة - لا تستطيع أن تستقل بوجودها من غير أن تكون قالبا لمادّة من المواد.

وكذلك الهيأة في الجمل - بما إنّها نسبة - لا تقوى على أن تستقلّ بوجودها من غير الاعتماد على طرفيها.

وصنّفوا الحروف والأدوات والهيئات في قائمة الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وفحواه: أن يتصور الواضع حين إرادته وضع اللفظ للمعنى، معنىً كليّا، له أفراد، ويضع اللفظ لأفراد ذلك الكلّي، ولكن عن طريق تصوره لمعنى الكلّي، أي أنّ الموضوع له جزئي غير متصور بنفسه بل بوجهه وهو الكلّي.

 

الهوامش:

(1)- ط 2/ ص 176.

(2)- ط 1/ ص 48.