المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 56.doc

وعمدة ما استدلّ به للترجيح بهذين المرجّحين هو مقبولة عمر بن حنظلة: قال: سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟

قال(عليه السلام): من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وان كان حقّه ثابتا لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، وإنّما أمر اللَّه أن يكفر به، قال اللَّه تعالى: (ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به).

قلت: فكيف يصنعان؟

قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللَّه استخفّ وعلينا قد ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على اللَّه، وهو على حدّ الشرك باللَّه.

قلت: فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟. قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قلت: فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال: ينظر إلى ما كان روايتهم عنّا في ذلك الذي حكم به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة:

- أمر بيّن رشده فيتّبع.

- وأمر بيّن غيّه فيجتنب.

- وأمر مشكل يرد حكمه إلى اللَّه.

قال رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم): حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

ورواية المشايخ الثلاثة(1) لهذه المقبولة، والنصّ على قبولها عند الأصحاب حتّى سمّيت بالمقبولة ممّا يورث الإطمئنان بصدورها عن المعصوم، ويعفينا من مناقشة سندها.

وصفات الراوي التي ذكرتها هذه المقبولة بالأمر بالتفاضل بينهما هي:

- العدالة.

- الفقاهة.

- الصدق في الحديث.

- الورع في السلوك.

وهي بهذا تحيل إلى تطبيق ظاهرة إجتماعيّة عند الإختلاف بين الأفضل والفاضل، ذلك أنّ سيرة الناس قائمة على تقديم رأي الأفضل على رأي الفاضل، فيأتي هذا من الإمام(عليه السلام) إمضاءً لهذا السلوك الإجتماعي.

أمّا الشهرة فالمراد بها الشهرة في الرواية كما هو صريح قوله(عليه السلام): (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به).

ومعنى الشهرة في الرواية: هو العمل بمضمون الرواية.

فأي الروايتين كان العمل بمضمونها أكثر، تقدّم على الاُخرى الذي يكون العمل بها على نحو الندرة والشذوذ.

وقد رتبت هذه المقبولة بين هذين المرجّحين، فيبدأ بصفات الراوي، وعندما لا يوجد تفاضل بين الروايتين بالصفات ينتقل إلى الشهرة.

(ما يرتبط بالدلالة):

وأيضا ذكر - هنا - مرجّحان، هما:

1- موافقة الكتاب والسنّة.

2- مخالفة العامّة.

ففي المقبولة - بعد الذي ذكرناه في أعلاه -: قال: قلت: فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة.

قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا الحكم من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا، بأي الخبرين يؤخذ؟

قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

فقلت: جعلت فداك، فان وافقهم الخبران جميعا.

قال: ينظر إلى ما هم أميل إليه: حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

- وفي ما رواه قطب الدين الراوندي في رسالته التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا: عن محمّد وعلي إبني علي بن عبدالصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبداللَّه عن أيّوب بن نوح عن محمّد بن أبي عمير عن عبدالرحمن ابن أبي عبداللَّه قال: قال الصادق(عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللَّه فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه، فان لم تجدوهما في كتاب اللَّه فأعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه.

والروايات في المقام غير قليلة، ومن أوضحها في ذلك ما روي عن يونس بن عبدالرحمن أنّه قال: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر(عليه السلام) ووجدت أصحاب أبي عبداللَّه(عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم، وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد علي أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبداللَّه(عليه السلام) وقال لي: إنّ أبا الخطّاب كذّب على أبي عبداللَّه(عليه السلام) لعن اللَّه أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبداللَّه(عليه السلام) فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فانّا إن حدّثنا، حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة، إنّا عن اللَّه وعن رسوله نحدّث، ولا نقول: قال فلان وفلان، فيتناقض كلامنا، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا، وكلام أوّلنا مصدّق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه، وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فانّ مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نورا، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان.

ويفسّر الفاضل الدربندي في (المنتقى النفيس من درر القواميس)(2) من مجلّة (تراثنا) العدد 24السنة السادسة 1411هـ - موافقة الكتاب والسنّة بقوله: إنّ مقصود المعصوم من قوله(عليه السلام) في خبر يونس من موافقة الكتاب والسنّة النبويّة أو وجود شاهد من الأحاديث المتقدّمة، ليس اشتراط العمل به والإعتماد عليه بوقوعه في الكتاب الكريم أو السنّة النبوية أو الأحاديث المرويّة عن الإمام السابق.

لأنّ ذلك لا يعقل بوجه من الوجوه.

بل المقصود من ذلك وجود ما في هذا الحديث في الكتاب أو السنّة أو الأحاديث المرويّة عن الإمام السابق وجودا على الإجمال والأصليّة، ولو كان على وجه الاستنباط الدقيق الرقيق أو الرمزية والتأويل المقبول.

وهكذا من السنّة النبوية، ولكن على وجه أجلى وأفصح ممّا في الكتاب الكريم.

وممّا لا يكون موافقا للكتاب ولا للسنّة، فامّا أن يكون بنحو المخالفة لهما أو على نهج لا يكون فيهما أصلا.

وبعبارة جامعة: كلّ ما ينافي الاُصول والقواعد الإماميّة التي اتّفقوا عليها، سواء في مقامات الإثبات أو النفي، وسواء كانت من الاُصول أو الفروع.

ومحصّلته: أن يكون الحديث في محتواه موافقا لمضامين الشريعة الإسلاميّة في مبادئها وقواعدها الأساسيّة ومقاصدها العامّة، غير مخالف لشي‏ء منها.

ويوجّه الشيخ الأنصاري موافقة الكتاب والسنّة بأنّه من باب إعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور، ولا إشكال في وجوب الأخذ به.

والذي يفهم من المقبولة أنّ المقصود بـ(العامّة) - هنا - حكّام الدولة غير الشرعيّة كالاُمويّة والعبّاسية وقضاتها المنصوبين من قبلهم، وذلك من قوله(عليه السلام): ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم.

ذلك أنّ التاريخ قد أثبت أنّ اُولئكم الحكّام يحرّكون دائرة الإفتاء حول محور مصالحهم، ويتّخذون من القضاة الواجهة التي تظهر ذلك بلباس الشرعيّة.

ومن هنا قد يكون أحد الحديثين قد صدر موافقا لما يفتون به من باب التقيّة.

وقد يراد بالعامّة فقهاء أهل السنّة على نحو العموم، ولكن في خصوص ما يتبنّى السلطان من فتاواهم ويعاقب على مخالفتها.

فيكون الحديث الصادر عن الإمام موافقا لهذا المذهب تقيّةً مخالفا لما عليه مذهبنا.

وقد يكون للرأي العامّ في تبّنيه لفتوى معيّنة دور في صدور الحديث تقيّة.

وقد يكون لأسباب اُخرى ممّا تقدّم ذكره في عامل التقيّة.

(ما يرتبط بالتاريخ):

ويراد به أن يختلف الخبران في تاريخ صدورهما من الإمام، مع العلم بالمتقدّم منهما من المتأخّر.

والذي تفيده الروايات في هذه المسألة هو الأخذ بالمتأخّر منهما من حيث التاريخ، والذي عبّر عنه في إحدى الروايتين الواردتين في المقام بـ(الأحدث).

والروايتان هما:

- رواية هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال: قال أبو عبداللَّه(عليه السلام): ياعمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك، بأيّهما كنت تأخذ؟

قلت: بأحدثهما وأدع الآخر.

فقال: قد أصبت ياأبا عمرو، أبى اللَّه إلا أن يعبد سرّا... أما واللَّه لأن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، وأبى اللَّه عزّوجلّ لنا ولكم في دينه إلا التقيّة.

- رواية الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): قال: أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه، بأيّهما كنت تأخذ؟.

قال: قلت: كنت آخذ بالأخير.

فقال: رحمك اللَّه.

والخلاصة:

انّ المرجّحات، هي:

1- صفات الراوي:

وتتمثّل في التفاضل بالعدالة والفقاهة والصدق والورع.

2- شهرة الرواية:

التي تعني عمل الأكثر بمؤدّاها.

3- موافقة الكتاب والسنّة:

ويراد به عدم مخالفة الحديث لصريح القرآن الكريم أو صريح السنّة القطعيّة، بمعنى أن لا يخرج في معناه عن إطار الشريعة الإسلامية المقدّسة وخطوطها العامّة ومقاصدها الملتزم بها في التشريعات.

4- مخالفة العامّة:

وهم حكّام وقضاة الدولة غير الشرعيّة فيما يصدرونه من فتاوي وما يتبّنونه من فتاوى الآخرين ممّا لا يلتقي مع خطّ مذهبنا في التأصيل والتفريع.

5- الأحدثيّة في التاريخ:

وهو أن يؤخذ بأحدث الحديثين تاريخا.

هذا كلّه إذا كان الحديثان متفاضلين، في أحدهما مزيّة من المزيّات المذكورة. يمكن الإستناد إليها في ترجيحه على الآخر.

أمّا إذا كان الحديثان متعادلين لا يمكن الترجيح والتفضيل بينهما فالموقف منهما يختلف باختلاف العصر وكالتالي:

أ- إذا كان ذلك في عصر الحضور فالموقف هو الإرجاء والتأجيل حتّى لقيا الإمام والسؤال منه، وقد مرّ بيانه.

ب- وإذا كان ذلك في عصر الغيبة الكبرى فالحلّ هو التخيير.

وقد ورد في هذا أخبار، منها:

- ما رواه الطبرسي في (الإحتجاج) مرسلا عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه.

- وما رواه أيضا مرسلا عن الحسن بن الجهم عن الرضا(عليه السلام): قال: قلت للرضا تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟

قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب اللَّه عزّوجلّ وأحاديثنا فان كان يشبهها فهو منّا، وان لم يشبهها فليس منّا.

قلت: يجيئنا الرجلان، وكلاهما ثقة، بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟

فقال: إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت.

والحمد للَّه الذي وسّع علينا بفواضل خيره، وشوامل توفيقه بإتمام هذا الكتاب في اُصول فقه آل محمّد الأطياب.

وإليه نبتهل بأن ينفع به ويثيب عليه، إنّه تعالى ولي التوفيق وهو الغاية.

 

الهوامش:

(1)- الشيخ الكليني والصدوق والطوسي.

(2)- ص 234.