المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 52.doc

علاقة التعارض:

(تعريف التعارض):

جاء في معجم (لاروس): تعارض تعارضا الرجلان: عارض أحدهما الآخر.

وفي (محيط المحيط): وعارض فلانا: ناقض كلامه وقاومه.

وفي صحاح المرعشليين: المعارضة: الممانعة والمقاومة:  oppositionفالتعارض - لغةً - يعني التناقض والتضادّ.

وفي الفكر اليوناني يراد به ما يعرف بـ(منطق المعارضة) antilogie ويعنون به: إمكان معارضة كلّ حكم أو قول أو دعوى بحكم أو قول يساويه في القيمة، ممّا يجعل الشاكّ لا يسلم لا بالحكم ولا بنقيضه(1).

ومنه أخذ (التعارض بين الدليلين) الذي يعني الإختلاف بينهما بحيث انّ أحدهما يثبت والآخر ينفي(2).

وفي تعريفه اُصوليا يقول الشيخ الأنصاري في (الرسائل) -:- 2/ 750- وهو - لغة - من العرض بمعنى الإظهار.

وغلب في الإصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما.

ولذا ذكروا: أنّ التعارض: تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ.

وعرّفه الآخوند في (الكفاية)(3) - بقوله: التعارض: هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ.

ونستخلص من التعريفين المذكورين:

1- انّ التعارض - اُصوليا - يعني التضادّ والتناقض المنطقيين، وبما لهما من شروط منطقيّة.

2- انّ موضوعه الأدلّة الفقهيّة بما لها من شمولية.

3- انّ محطّ التعارض هو الدلالة، أو قل: بين مداليل الأدلّة.

وسنقتصر - هنا - على البحث عن تعارض الخبرين لأنّهم الأهمّ ولأنّ ما سواه يعرف من خلال البحوث التي له علاقة بموضوعاتها.

(عوامل التعارض):

انّ الأحاديث المروية التي بين أيدينا يوجد في جملة منها تعارض واضح، يشكل المشكلة المشار إليها.

فما هي أسباب هذا؟

تتلخّص هذه الأسباب استنتاجا من واقع الأحاديث، واستقراء لتاريخها وملابساتها بما يلي:

1- وجود النسخ في الأحاديث، وعدم التمييز بين الحديث الناسخ والآخر المنسوخ.

2- اختلاط أحاديث التشريع بالاُخرى الإدارية (الولايتية)، وعدم التمييز بين التشريعي منها والآخر الإداري.

3- الإختلاف في اُسلوب السؤال.

4- الوضع (افتراء الأحاديث ودسّها في كتب الحديث).

5- التصرّف في الحديث بأحد التصرّفات التالية:

أ- نقل الحديث بالمعنى.

ب- الإدراج في الحديث.

ج- تقطيع الحديث.

6- التقيّة.

7- حال السائل.

8- فقدان القرائن.

9- تفاوت مستويات فهم وثقافة ومناهج الفقهاء في تعاملهم مع الأدلّة.

وسنتحدّث عن كلّ واحد من هذه العوامل في حدود ما يوضّح تأثيره وأثره في حدوث هذه المشكلة.

(النسخ):

تستعمل هذه الكلمة في لغتنا العربية في معنيين، هما: (الإزالة) و (النقل).

وقد نصّ على هذا الشريف الجرجاني في (التعريفات) بقوله: النسخ - في اللغة - الإزالة والنقل.

قال الراغب الإصفهاني في (المفردات): النسخ: إزالة شي‏ء بشي‏ء يتعقّبه، كنسخ الشمس الظلّ، والظلّ الشمس، والشيب الشباب.

وجاء في (المعجم الوسيط): نسخ الشي‏ء نسخا: أزاله، يقال: نسخت الريح آثار الدار، ونسخت الشمس الظلّ، ونسخ الشيب الشباب.

ويقال: نسخ اللَّه الآية: أزال حكمها، وفي التنزيل العزيز (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها).

ويقال: نسخ الحاكم الحكم أو القانون: أبطله.

ونسخ الكتاب: نقله وكتبه حرفا بحرف.

واختلف في هذين المعنيين (الإزالة والنقل) من حيث الحقيقة والتجوّز: والذي يظهر من الزمخشري في (أساس البلاغة) أنّ النقل هو الحقيقة، والإزالة مجاز، قال: نسخت كتابي من كتاب فلان وانتسخته، واستنسخته، بمعنى.

ومن المجاز: نسخت الشمس الظلّ، والشيب الشباب.

وفي (معارج المحقّق)(4): وقيل: هو حقيقة في النقل، ومجاز في غيره، وقيل: بل هو مشترك.

وشرعا عرّفه الجرجاني بقوله: هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه.

فهو تبديل بالنظر إلى علمنا، وبيان لمدّة الحكم بالنظر إلى علم اللَّه تعالى.

وقال المحقّق في (المعارج)(5) -: وفي الشرع: عبارة عن الإعلام بزوال مثل الحكم الثابت بالدليل الشرعي بدليل شرعي متراخ عنه، على وجه لولاه لكان الحكم الأوّل ثابتا.

ومن الناس من يجعل النسخ رفعا، ومنهم من يجعله بيانا لانتهاء مدّة الحكم الأوّل.

ويلاحظ على ما أشار إليه المحقّق من أنّ حقيقة النسخ في الواقع الخارجي ليس التردّد بين الرفع والبيان، وإنّما الرفع أحد نوعي النسخ، والبيان نوعه الآخر، ذلك أنّ النسخ يأتي على نوعين:

1- رفع الحكم المشرَّع بمعنى إلغائه وإبطاله.

وهذا واقع في السنن العرفيّة والقوانين الوضعيّة وادعى وقوعه في الأحكام الشرعيّة من قبل بعض الاُصوليين(6).

وضع الحكم لمدّة معيّنة، وعند إنتهاء مدّته بوضع حكم آخر محلّه يستكشف منه إنتهاء مدّة الحكم السابق.

وقد وقع النسخ من النوع الثاني في القرآن الكريم، ومن شواهده ما جاء في الاستقبال في الصلاة حيث نسخ التوجّه إلى بيت المقدّس باستقبال الكعبة المشرّفة، قال تعالى: (قد نرى تقلّب وجهك في السماء فَلَنولينّك قبلةً ترضاها فَولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين اُوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللَّه بغافل عمّا يعملون).

وفي الحديث الشريف المعتبر المروي عن أهل البيت(عليهم السلام): ما يصرّح بوقوع النسخ في الحديث نظير وقوعه في القرآن، أمثال:

- معتبرة محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال: قلت: ما بال أقوام يروون (عن) فلان وفلان عن رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتهمّون بالكذب فيجئ منكم خلافه؟

قال: إنّ الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن.

- معتبرة منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثمّ يجيئك غيري فتجيبه بجواب آخر؟!

 فقال: إنّا نجيب الناس على الزيادة والنقصان.

قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) صدقوا على محمّد أم كذبوا؟

قال: بل صدقوا.

قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟

فقال: أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثمّ يجيئه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضا(7).

ونستفيد من هاتين الروايتين:

1- انّ النسخ كما وقع في القرآن وقع في الحديث.

2- انّ هذا كان على عهد رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا ما استفاده وأفاده علماؤنا، يقول الشيخ المامقاني في (مقباس الهداية)(8): فإنّ من الأحاديث ما ينسخ بعضها بعضا، كالقرآن المجيد، لكن يختصّ ذلك بالأخبار النبويّة إذ لا نسخ بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) كما برهن عليه في محلّه.

3- انّ الرواة لم يميّزوا الحديث الناسخ من الحديث المنسوخ.. ولهذا كان النسخ من أسباب وقوع التعارض بين الأحاديث.

يقول اُستاذنا الشهيد الصدر: وهكذا يتّضح: أنّ تغيّر أحكام الشريعة عن طريق النسخ يكون أيضا أحد العوامل المستوجبة للتعارض بين الأحاديث والنصوص.

ولكن التعارض على أساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تعمّ النصوص الصادرة عن الأئمّة(عليهم السلام): لما ثبت في محلّه من انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ الأحاديث الصادرة عن الأئمّة المعصومين ليست إلا بيانا لما شرّعه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحكام وتفاصيلها(9).

وفي (المقباس)(10): وقال فخر المحقّقين (رحمه الله) - فيما حكي عنه -: (ورود السنّة على معنيين:

أحدهما: على إبتداء الشريعة.

وثانيهما: الإخبار عن ثبوت حكمها فيما تقدّم.

وأخبار أئمتنا(عليهم السلام): من القسم الثاني، فهي سليمة من النسخ وسائر وجوه التأويلات، لأنّها في الحقيقة إخبار عن حكمه(عليه السلام).

قال: (وبهذا يندفع جميع ما يريد من معارضة عموم القرآن لأخبار أئمتنا(عليهم السلام): إذا وردت بتخصيصه، وإندفع أيضا عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، كما هو المشهور، فإنّها ليست واردة بعد حضور وقت العمل، بل مقارنة، فتكون مخصّصة لا ناسخة).

ولقد أجاد فيما أفاد، وأتى بما هو الحقّ المراد.

(عدم التفرقة بين الحديث التشريعي والحديث الإداري):

كان رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم بوظيفتين:

- وظيفة تبليغ الأحكام إلى الناس، وذلك عن طريق القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

- ووظيفة رئاسة دولة المسلمين، يدير شؤونهم ويسوس اُمورهم. فما صدر منه من حديث بصفته مبلغا هي أحاديث تشريعيّة. وما صدر منه بصفته رئيس الدولة وحاكما يتمتّع بالولاية العامّة هي أحاديث إدارية.

ويتميّز الحكم التشريعي من الحكم الإداري في أنّ الأوّل هو الحكم الشرعي الثابت الدائم (حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة).

بينما الثاني (الإداري) يأتي على أنحاء، وكلّها مؤقتة ترتبط بأسبابها وظروفها، وهي أمثال:

1- إيقاف العمل بحكم تشريعي موقتا لظرف طارئ يوجب ذلك، يستمرّ باستمرار الظرف الطارئ ويزول بزواله، ويعاد بعد ذلك إلى الحكم التشريعي.

والظرف الطارئ هو ما يقال له في لغتنا الفقهيّة (العنوان الثانوي).

وهذا مثل تعطيل حدّ السرقة عامّ الرمادة بسبب المجاعة، والمنع من زواج المتعة من قبل عمر بن الخطاب بصفته حاكما، بسبب حادثة عمرو بن حريث.

2- إصدار أمر بفعل شي‏ء أو تركه لغرض سياسي أو غيره، بعنوان ثانوي يستمرّ مع دوامه، ثمّ يزول بزواله، كما في قول رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم): حفّوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تشبّهوا باليهود(وفي رواية اُخرى: ولا تشبّهوا بالمجوس) فإنّ الأمر - هنا - إداري بسبب ما علّل به من التشبّه باليهود أو المجوس حيث كان التشبّه بهؤلاء قد يُدخل على المسلمين ما يضرّهم في سلوكهم الخاصّ أو في سياسة الدولة العامّة لأنّ المسلمين قليلون آنذاك.

جاء في (نهج البلاغة): انّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): سئل عن قول رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم): (غيّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود)، فقال: إنّما قال ذلك والدين قُلٌّ، وإمّا الآن وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامروء وما اختار(11).

3- فرض الضرائب من قبل الحاكم لحاجة قائمة تتطلّب ذلك.

كالذي ألمح إليه الشيخ المنتظري في كتاب (الخمس) من أنّ خمس فاضل المؤونة ضريبة فرضت من قبل الأئمّة المتأخّرين(عليهم السلام): بصفتهم حكّاما لحاجة الشيعة لذلك، قال في الكتاب المذكور: ويمكن أن يقال - أيضا - إنّ هذا القسم من الخمس وظيفة وميزانية حكومية جعلت من قبل الأئمّة المتأخّرين(عليهم السلام): حسب الإحتياج حيث كانت الزكوات ونحوها في إختيار خلفاء الجور، ولذلك ترى الأئمّة(عليهم السلام) محلّلين له تارةً، ومطالبين اُخرى، وللحكومة الحقّة هذا النحو من الإختيار.

وهذا الذي اُشير إليه من عدم التفرقة بين الحديث التشريعي والحديث الإداري قد يوقّع في الإعتقاد بأنّ هناك تضاربا بين الحديثين اللذين وردا على موضوع واحد أوّلهما تشريعي والآخر إداري، واختلفا في الحكم عليه كأحاديث المتعة حيث التشريعيّة منها تحلّلها والإدارية تحرّمها.

وكأحاديث حدّ السرقة فالتشريعيّة توجبه والإدارية تسقطه.

وعند علمنا بأنّ أحدهما المعيّن تشريعي والآخر إداري يرتفع التعارض الموهوم.

انّ عدم التفرقة بين الحديث التشريعي والآخر الإداري جرّ إلى إيجاد تعارض لا أساس له.

والذي ينبغي أن يعمل لحلّ هذه المشكلة هو تدوين قوائم كاملة للأحاديث الإدارية المنبثّة في كتب الحديث وموسوعاته من خلال إحصائيات وافية، لتكون تلكم القوائم المرجع في هذا المجال.

 

الهوامش:

(1)- الصحاح للمرعشليين: مادة عرض.

(2)- الهادي إلى لغة العرب: مادة عرض.

(3)- ص 437.

(4)- ص 161.

(5)- ص 161.

(6)- تعارض الأدلة الشرعية 29.

(7)- تعارض الأدل للهاشمي: تقريرات السيد السيستاني.

(8)- 1/ 275.

(9)- تعارض الأدلة الشرعية ص 30.

(10)- 1/ 278- 279.

(11)- في( المعجم الوسيط) ضرب الإسلام بجرائنه: ثبت وأستقرّ.