المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 48.doc

وقال المحدّث البحراني في (الحدائق)(1): ثمّ انّه يجب أن يعلم أنّ الأصل بمعنى النفي والعدم إنّما يصحّ الإستدلال به - على تقديره - على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته، ولهذا لم يذكر الاُصوليون البراءة الأصليّة في مدارك الأحكام الشرعيّة.

وهما لا يعنيان بالنفي إلغاء الحكم، وإنّما يعيّنان به النفي في حقّ المكلّف بمعنى عدم مؤاخذته على مخالفته، وهو ما عبّرت عنه بالإعفاء.

وفي ضوء هذا يمكننا أن نعرّف البراءة - اُصوليا - بأنّها الأصل العملي الذي يعيّن للمكلّف وظيفته العمليّة عند يأسه من العثور على الحكم المطلوب منه إمتثاله.

وقديما رادف المحقّق الحلّي بينها وبين الإستصحاب، قال في (المعارج)(2): أطبق العلماء على أنّه مع عدم الدلالة الشرعيّة يجب إبقاء الحكم على ما تقتضيه البراءة الأصليّة، ولا معنى للإستصحاب إلا هذا.

وربّما أخذ هذا من قولهم (أصل البراءة) ذلك أنّ الأصل في إصطلاح الفقهاء - على ما قاله الشهيد الثاني - يطلق على معان أربعة: الدليل والراجح، والإستصحاب، والقاعدة(3)... حيث إختار المحقّق الإستصحاب معنى للأصل، فصارت عبارة (أصل البراءة) تعني - عنده - إستصحاب مقتضى البراءة.

إلا أنّ الذين جاءوا بعده فسّروا الأصل بالقاعدة، فصار (أصل البراءة) يعني - عندهم - قاعدة البراءة.

وكما رادف المحقّق بين البراءة والإستصحاب، رادف بعضهم بين قاعدة البراءة وقاعدة الإباحة.

وجاء هذا من انّ كلا منهما ترخيص شرعي مجعول من قبل المشرّع بصفته مشرّعا، وعدم الإلتفات إلى أنّ معطى قاعدة الإباحة حكم شرعي ومعطى قاعدة البراءة وظيفة عمليّة.

ولإيضاح هذا، وبيان الفرق بينهما نقول: تقسّم الإباحة إلى قسمين: مالكيّة وشرعيّة.

1- الإباحة المالكيّة:

وتعني أنّ أفعال الإنسان لأنّه مملوك للَّه تعالى وتحت طائلة سلطانه هي مملوكة للَّه أيضا.

وباعتبار انّها مملوكة له تعالى أباح تعالى للإنسان التصرّف فيها رفعا للحرج.

وهذه الإباحة من المولى بما انّه مولى ومالك لا بما انّه مشرّع ومقنّن.

ولهذا تسمّى: الإباحة قبل الشرع.

ومرجعها إلى عدم الحرج - عقلا - في الفعل والترك في مورد إحتمال الحرمة.

2- الإباحة الشرعيّة:

وتعني التشريع الذي يجعل من قبل اللَّه تعالى بما انّه مشرّع لتنظيم أفعال الإنسان، مشتملا على عنصر الترخيص.

أو كما عرّفت بانّها: الترخيص المجعول من قبل الشارع بما هو شارع.

وتقسّم هذه الإباحة الشرعيّة إلى قسمين أيضا: الإباحة الواقعيّة والإباحة الظاهريّة.

أ- الإباحة الواقعيّة:

وهي حكم شرعي يخيّر المكلّف في السلوك بين الفعل والترك، وذلك لإنعدام المصلحة والمفسدة أو تساويهما في متعلّقه.

ب- الإباحة الظاهرية:

وتعرّف - اُصوليا - بالبراءة الشرعيّة، وهي وظيفة شرعيّة تنفي الحكم الشرعي عند شكّ المكلّف به وعدم معرفته له.

والفارق الأساسي بين الإباحتين الواقعيّة والظاهريّة من حيث المفهوم.

- أنّ دليل الاُولى ناظر إلى الواقع.

وفي ضوئه: يكون الحكم فيها قائما على أساس المصلحة والمفسدة في ذلكم الواقع.

- بخلاف الثانية - أعني الظاهرية - فإن دليلها لا نظر فيه للواقع، وإنّما هي وظيفة شرعيّة عمليّة جعلت لرفع حيرة المكلّف الناشئة من شكّه في الحكم الشرعي وجهله له.

امّا من حيث التطبيق:

- فإنّ أصالة البراءة الشرعيّة (الإباحة الظاهريّة) يرجع إليها عند الشكّ في الحكم، أو قل: عند الجهل به، لمعرفة وظيفة المكلّف العمليّة شرعا، في مثل هذه الحالة، باعتبارها عموما أو إطلاقا مرخّصا.

- وبعكسها أصالة الإباحة الواقعيّة، فيرجع إليها لمعرفة الحكم إبتداءً باعتبارها عموما أو إطلاقا مشرّعا(4).

أدلّتها:

تقدّم أن أوضحنا أنّ ما يعرف بالاُصول العمليّة هي في واقعها ظواهر إجتماعيّة - إجتماعيّة.

ويرجع في تعرّف مفهومها وتقدير مدى الإعتماد عليها في الوصول لمعرفة ما هو المطلوب من المكلّف إلى بناء العقلاء.

وهذا يدعونا إلى تعرّف تباني العقلاء على أي شي‏ء هو في مثل موضوعنا الذي هو الشكّ في الحكم الواقعي والجهل به لعدم وصول بيانه إلينا.

وذلك عن طريق معرفة موقف الأسياد من مخالفات مواليهم، والرؤوساء من عدم إطاعة مرؤوسيهم للأحكام غير الواصلة إليهم.

هل يؤاخذونهم على المخالفة ويعاقبونهم على عدم الطاعة، أو أنّهم يعتبرون عدم وصول الحكم مبرّرا لعدم المؤاخذة؟؟

 وهذا يدعونا - أيضا - إلى أن نحدّد نقطة البحث في ضوء تفرقتنا بين أصل الإباحة الذي يجري عند الشكّ في أصل التكليف بمعنى:

الشكّ في انّ المشرّع المقدّس هل جعل حكما في هذا الموضوع وشرعه له أو لا ؟؟

وهو مفاد قوله(عليه السلام): كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي.

وبين أصل البراءة (موضوع البحث) الذي يتعلّق - بعد الفراغ من أنّ التشريع قد جعل وشرّع - بوصول التشريع إلينا، بمعنى: أنّ الشكّ في التشريع المجعول هل وصل إلينا أو لم يصل؟؟.. ذلك أنّ التكليف فرع التبليغ.

وهو مفاد قوله تعالى: (واُوحي إليّ هذا القرآن لاُنذركم به ومن بلغ)، أي ومن بلغه هذا القرآن بمعنى وصل إليه.

أو قل: الإلزام بإمتثال التشريع لا يتمّ إلا بعد إبلاغ المكلّف به وبيانه إليه.

وقد نسمّي هذا بقاعدة الإلزام بالتشريع، وهو معنى التكليف، ولعلّ أسلم صياغة لها من حيث المعنى هو قول صاحب القوانين: لا تكليف إلا بعد البيان أو وصول البيان إلينا.

ذلك أنّ التكليف يمرّ بمرحلتين:

الاُولى: مرحلة التشريع:

وهي مرحلة جعل الحكم من قبل المشرّع وصدوره عنه.

الثانية: مرحلة التبليغ:

وهي مرحلة إيصال الحكم إلى المكلّف.

فلا يلزم المكلّف بإمتثال التشريع إلا بعد تبليغه به ووصول بيانه إليه.

وعلى هذا درجت القوانين البشريّة، فلا إلزام بتشريع، ولا مؤاخذة على عدم إمتثال إلا بعد البلاغ.

وهذا هو ما تبانى عليه العقلاء وقامت سيرتهم به.

وقد نظر إلى ما أسميناه بقاعدة الإلزام بالتشريع من قبل الاُصوليين من جانبين:

- جانب أن لا تكليف إلا بعد البيان، وهو ما أفاده المحقّق القمّي في (القوانين).

- وجانب الأثر المترتّب على مخالفة التكليف، وهو ما أفاده الشيخ الأعظم في (الرسائل): حكم العقل بقبح العقاب على شي‏ء من دون بيان التكليف.

واختصره من جاء بعده بقولهم (قاعدة قبح العقاب بلا بيان).

وبعد هذا نقول:

انّ الدليل الذي يستدلّ به على مشروعية أصل البراءة، وصحّة الاعتماد عليه في مقام معرفة وظيفة المكلّف عند عدم العثور على الدليل الشرعي المعتبر، هو المبدأ المذكور المتمثّل:

في أنّ لا تكليف بالتشريع إلا بعد تبليغه للمكلّف ووصوله إليه.

وفي قبح العقاب على عدم إمتثال التشريع المجعول إلا بعد بيانه للمكلّف وإبلاغه إليه.

هذا كلّه من حيث النظرية التي تشمل مختلف التشريعات بشريّة وإلهيّة، إسلاميّة وغير إسلاميّة.

أمّا من حيث الواقع الخارجي، فإنّ الأحكام الشرعيّة بلغت كاملة من قبل رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لمن خاطبهم وشافههم بها (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

ثمّ نقلت إلى من بعدهم بطريق الرواية، ولكن اختفى شي‏ء من هذه الروايات لأسباب تاريخيّة.

وهنا نقول:

هل يعدّ تبليغ الأحكام من رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) للمشافهين بها تبليغا لنا، بمعنى انّها وصلت إلينا، أو أنّ الأمر بالعكس، وهو أنّ طريق وصولها إلينا هو النقل والرواية عن المعصوم.

إنّ الآية الكريمة (واُوحي إليّ هذا القرآن لاُنذركم به ومن بلغ) تفيد بظاهرها انّ الإنذار لا يتمّ لغير المشافهين به إلا بعد بلوغ القرآن الكريم إليهم.

نقل السيّد الطباطبائي في تفسير (الميزان) عن تفسير (المنار):عن اُبيّ بن كعب قال: اُتي رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى، فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟، قالوا: لا، فخلّى سبيلهم، ثمّ قرأ (واُوحي إليّ هذا القرآن لاُنذركم به ومن بلغ)، ثمّ قال: خلّوا سبيلهم حتّى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا.

ونتيجة هذا: انّ البلاغ بمعنى وصول الحكم إلى المكلّف شرط أساسي في امتثال التكليف.

ووصوله إلى بعض المكلّفين ثمّ اختفاؤه عن البعض الآخر لا يعني وصوله إلى الجميع.

وهذا هو في الواقع نقطة الخلاف بين الاُصوليين والإخباريين، فالإخباريون يرون أنّ الأحكام الشرعيّة شرّعت كاملة وبلّغت كاملة.

وهذا يعني انّ شرط إمتثال التشريع قد تحقّق وهو التبليغ، وعليه تصبح ذمّة المكلّف مشغولة بالتكليف، وهو مسؤول عن الأداء، ولا يخرجه عن عهدة هذه المسؤوليّة إلا الإحتياط.

 

الهوامش:

(1)- 1/ 42.

(2)- ص 208.

(3)- الفوائد الحائري 239.

(4)- أنظر كتابنا( دروس في فقه الإمامية) قسم المعاملات المالية: بحوث تمهيدية – قاعدة.