المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 47.doc

ويسمّى الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهري أصلا.

وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل علما أو ظنّا معتبرا، فيختصّ باسم الدليل، وقد يقيّد بالإجتهادي.

كما انّ الأوّل قد يسمّى بالدليل مقيّدا بالفقاهتي.

وهذان القيدان إصطلاحان من الوحيد البهبهاني لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والإجتهاد.

ثمّ انّ الظنّ الغير المعتبر حكمه حكم الشكّ كما لا يخفى(1).

ويلخّص اُستاذنا السيّد الخوئي ما ذكره الشيخ الأعظم بقوله: إنّ المكلّف إذا لم يصل إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني ولا بالتعبّد الشرعي، وعجز - أيضا - عن معرفة الحكم الظاهري، تعيّن عليه الرجوع إلى ما يستقلّ به العقل من البراءة أو الاحتياط أو التخيير على إختلاف الموارد.

وتسمّى هذه القواعد بالاُصول العمليّة العقليّة(2).

والآن: ما هي الشبهة الموضوعيّة؟، وما هي الشبهة الحكميّة؟

- الشبهة الموضوعيّة:

هي أن يحصل الإلتباس والإشتباه في الموضوع.

ومثّلوا لها بالشكّ في حلية الحيوان بسبب الإلتباس في تحقق التذكيّة أي هل ذكّي تذكية جامعة لشروط التذكية الشرعيّة، أو لا.

أو بسبب الإشتباه في انّ لحم هذا الحيوان المذكّى، هل هو من حيوان محلّل الأكل كالغنم، أو من حيوان محرّم الأكل كالخنزير.

- الشبهة الحكميّة:

وهي أن يتعلّق الشكّ فيها بالحكم.

ومثّلوا لها بـ(التبغ) الذي تردّد حكمه بين الإباحة والحظر.

عوامل الشكّ:

ويراد بها تلكم الاُمور التي تسبّب الشكّ عند المكلّف، وقد وزّعت على الشبهتين الموضوعيّة والحكميّة.

وهي عند الشيخ الأنصاري على التفصيل التالي:

- عامل الشكّ في الشبهة الموضوعيّة هو اشتباه الاُمور الخارجيّة.

- وعامله في الشبهة الحكميّة هو أحد الاُمور التالية:

1- فقدان النصّ.

ويريدون بالنصّ - هنا - مطلق الدليل المعتبر - لفظيّا كان أو لبّيا (عقليّا).

ففي (القوانين): ومرادنا بالنصّ هو الدليل الشرعي، وان كان هو العقل القاطع.

2- إجمال النصّ.

3- تعارض النصّين.

قال في (الرسائل)(3) في مبحث البراءة -: ثمّ متعلّق التكليف المشكوك:

إمّا أن يكون فعلا كليّا متعلّقا للحكم الشرعي الكلّي كشرب التتن(4) المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.

 - وإمّا أن يكون فعلا جزئيا متعلّقا للحكم الجزئي كشرب هذا المايع المحتمل كونه خمرا.

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني اشتباه الاُمور الخارجيّة.

ومنشأوه في الأوّل:

1- إمّا عدم النصّ في المسألة، كمسألة شرب التتن.

2- وإمّا أن يكون إجمال النصّ، كدوران الأمر في قوله تعالى: (حتّى يَطْهرن) بين التشديد والتخفيف - مثلا -.

3- وإمّا أن يكون تعارض النصّين، ومنه الآية المذكورة، بناءً على تواتر القراءات.

وناقشه صاحب الكفاية في اعتبار (تعارض النصّين) سببا للشكّ في الشبهة الحكميّة على نحو الإطلاق بما محصلته: انّ هذا إنّما يتمّ على رأي من يقول بالتوقّف في تعارض النصّين.

أمّا من يقول بالتخيير فلا يتمّ ذلك لإعتبار أحد النصّين حجّة، ومع وجود الحجّة المعتبرة لا يصار إلى البراءة.

قال في (الكفاية)(5): لو شكّ في وجوب شي‏ء أو حرمته، ولم تنهض عليه حجّة جاز شرعا وعقلا ترك الأوّل وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح، بناءً على التوقّف في مسألة تعارض النصّين فيما لم يكن ترجيح في البين.

وأمّا بناءً على التخيير - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها، لمكان وجود الحجّة المعتبرة، وهو أحد النصّين فيها، كما لا يخفى.

كما أنّ صاحب الكفاية لم يحصر العوامل في العدد الذي ذكره الشيخ الأنصاري بل جعل ذلك عامّا لمطلق الشكّ في التكليف إلا مسألة تعارض النصّين حيث فصّل فيها بين القول بالتوقّف فيدخل التعارض عاملا من عوامل الشكّ وبين القول بالتخيير فلا يدخل في عوامل الشكّ. وقارن اُستاذنا السيّد الخوئي بين ما أفاده الشيخ الأنصاري وما لاحظه عليه الشيخ الآخوند (صاحب الكفاية)، وأيّد ما ذهب إليه صاحب الكفاية.

ففي (مصباح الاُصول)(6): جعل صاحب الكفاية(رحمه الله) البحث عامّا لمطلق الشكّ في التكليف الجامع بين جميع الأقسام المذكورة، إلا فرض تعارض النصّين فأخرجه من هذا البحث بدعوى أنّه ليس موردا للبراءة، لأنّ المتعيّن فيه الرجوع إلى المرجّحات، ومع فقدها يتخيّر، فالبحث عنه راجع إلى التعادل والترجيح لا إلى البراءة، لأنّ أصالة البراءة تكون مرجعا عند عدم الدليل، ومع وجود الدليل تعيينا - كما إذا كان أحد النصّين راجحا على الآخر - أو تخييرا كما إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر، لا تصل النوبة إلى البراءة.

 أقول: أمّا ما صنعه الشيخ(رحمه الله) من التقسيم والتعرّض للبحث عن كلّ قسم مستقلا، ففيه: انّ ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلّف.

وعمدة أدلّة القول بالبراءة - أيضا شاملة لجميع الأقسام.

 

(البراءة)

تعريفها:

ذكر في (المعجم الكبير) لمادّة (ب ر أ) معنيان أساسيّان:

أحدهما: الإنشاء والخلق.

وجاء في (معجم ألفاظ القرآن الكريم): برأ اللَّه الخلق - كفتح - يبرأوهم برءا وبروءا: خلقهم، فهو بارئ.

والبارئ من أسماء اللَّه تعالى، ومعناه: الذي خلق الخلق.

والبريّة: الخلق.

والمعنى الثاني الذي ذكره (المعجم الكبير) هو: خلوص الشي‏ء من غيره.

قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): الباء والراء والهمزة: أصلان، إليهما ترجع فروع الباب:

أحدهما الخلق.

والأصل الآخر: التباعد من الشي‏ء ومزايلته.

ومن ذلك البرء، وهو السلامة من السقم.

وفي (معجم ألفاظ القرآن‏الكريم): برئ من الشي‏ء - كعلم - قطع مابينه وبينه.

وفسّر المعجم المذكور كلمة (براءة) من قوله تعالى: (براءة من اللَّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) بقوله: أي قطع للعصمة ورفع للأمان وخروج من العهود بسبب ما وقع للكفّار من نقض للعهد.

وفسّرت في (المعجم الكبير) بالإعذار والإنذار، ففيه: البراءة: الإعذار والإنذار، وفي القرآن الكريم: براءة من اللَّه ورسوله.

وجاء فيه: (أبرأ اللَّه المريض: شفاه) قال تعالى: (واُبرئ الأكمه والأبرص) و (برأ نفسه تبريئا): أظهر إنقطاع صلتها بالسوء.

و (تبرأ من كذا): تخلص منه وقطع صلته به (إذ تبّرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا).

وفي كليّات أبي البقاء: وأصل البرء: خلوص الشي‏ء عن غيره.

ومن غير شكّ، انّ مصطلح (البراءة) الاُصولي مأخوذ من المعنى الثاني من المعنيين الأساسيين للكلمة، ذلك أنّ المكلّف المتمسّك بالبراءة يخلص ذمّته ممّا يمكن أن تشغل به من الحكم لو وصل إليه، بمعنى أنّه يخلص نفسه من المؤاخذة المترتبة عليه.

فهي - هنا - تعني الإعفاء من التكليف وليس إلغاء التكليف، كما قد يظهر من عبائر بعضهم - كما سيأتي -.

أي انّ البراءة - هنا - بمعنى الإبراء الذي هو الإعفاء، تقول: أبرأ ذمّته من الدين، أي أعفاها منه.

وأيضا هي تحدّد للمكلّف موقفه بتعيين الوظيفة العمليّة التي ينبغي أن يقوم بها، فهي لا ترفع حكما وتثبّت آخر مكانه، وإنّما تحدّد الوظيفة العمليّة التي على المكلّف أن يقوم بها.

ومن هنا صرّح غير واحد من العلماء بأنّ البراءة ليس دليلا شرعيّا يثبت حكما شرعيا، وإنّما هي قاعدة وأصل ينفي المؤاخذة المترتبة على ترك إمتثال الحكم الواقعي.

يقول المحقّق القمّي في (القوانين): انّ نفس البراءة الثابتة لا يمكن أن تصير من الأدلّة الشرعيّة بمعنى أن تثبت حكما شرعيّا فينسب عدم الوجوب أو عدم الحرمة من جهتها إلى الشارع فيقال: حكم الشارع في المتنازع هو نفي الحرمة - مثلا - في الواقع، أو في ظنّنا، إذ غاية الأمر حينئذ عدم ثبوت حكم الشارع بالحرمة - مثلا -، أمّا نفيه فلا.

 

 

الهوامش:

(1)- الرسائل 1/ 308- 309.

(2)- مصباح الأصول 2/ 248.

(3)- 1/ 314.

(4)- التتن: (معرّب دوتن بالتركيّة، ومعناه دخّان - محيط المحيط: مادّة تتن -.

ومثله (التنباك) ولكنه من الفارسي المعرّب، ويطلق على ما يدخن بواسطة النارجيلة، وهي وعاء يستعمل لشرب التنباك، ولأنّه اتّخذ - في الأصل - من قشر جوز الهند المعروف بالنارجيل وواحدته بالنارجيلة سمّي بالنارجيلة.

 والتتن - في لغتنا العربية، التبغ.

وفي الانجليزية.Tobaco

وهو نبات من الفصيلة الباذنجانية، يستعمل تدخينا وسعوطا ومضغا، ومنه نوع يزرع للزينة - المعجم الوسيط: مادّة: تبغ -.

وأوّل من دخّن التبغ هنود امريكا الحمر.. ثمّ جاء كولومبس وغيره من المستكشفين فنقلوا التبغ إلى اسبانيا، ومن ثمّ انتشرت عادة التدخين في مختلف بلدان العالم - موسوعة المورد -. ويبدو أنّ دخول التبغ إلى البلاد الإسلامية أثار الخلاف بين الفقهاء المسلمين في حكمه، ومنهم الفقهاء الإماميون، فأُلّفت لذلك أكثر من رسالة، ومنها: الرسالة (التنباكية) للميرزا محمّد الاخباري (ت 1232هـ) ورسالة (نشوة الاُخوان في مسألة الغليان) له أيضا، والغليان فارسية تلفظ قليان: هي النارجيلة.

والميرزا الإخباري من أشهر من يقولون بحرمة شرب التنباك.

ومنها (رسالة في تحليل التتن والقهوة) للشيخ سليمان بن أبي ظبية الأصبعي الشاخوري (ت 1101هـ) ألّفها ردّا على بعض علماء الإخباريين القائلين بتحريمهما - لؤلؤة البحرين ص 13.

ولعلّ وجود أمثال هذه الرسائل كان السبب في إختيار الشيخ الأنصاري التتن مثالا للشكّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة.

(5)- ص 338.

(6)- 2/252.