المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 03.doc

قال: ونحن في بحثنا - هنا - للدلالة الحقيقيّة أو الدلالة المجازية لا نعرض لتلك الناحية البلاغية، فلا نسلك - مثلا - مسلك القدماء حين كانوا لا يذكرون شيئا من المجاز إلا قالوا إنّه أبلغ من الحقيقة، وحين كانوا يلتمسون في المجاز عناصر بلاغيّة أو جمالية أولى بها مجال النقد الأدبي، ولكنّا ننظر إلى ما يسمّى بالحقيقة والمجاز على أنّه مظهر للتطوّر الدلالي في كلّ لغة من اللغات.

وأبرز نواحي الضعف في علاج القدماء للحقيقة والمجاز أنّهم وجهوا كلّ عنايتهم إلى نقطة البدء في الدلالة، وركّزوا نظرتهم نحو نشأتها، فتصوّروا ماسمّوه بالوضع الأوّل، وتحدّثوا عن الوضع الأصلي، كأنّما قد تمّ هذا الوضع في زمن متعيّن، وفي عصر خاص من عصور التاريخ.

ولم يدركوا أنّ حديثهم عن نشأة الدلالات ليس - في الحقيقة - إلا خوضا في النشأة اللغوية للإنسان، تلك التي أصبحت من مباحث ما وراء الطبيعة، والتي هجرها اللغويون المحدّثون بعد أن يئسوا من امكان الوصول في شأنها إلى رأي علمي مرجّح، وأصبحوا الآن يقنعون ببحث اللغة وتطورها في العصور التاريخيّة، التي خلفت لنا آثارا لغوية مدوّنة أو منقوشة.

كذلك يبدو من بحوث القدماء من علماء العربية أنّهم نظروا إلى كلّ عصور اللغة على أنّها عصر واحد.

ومن هنا ظهرت بعض الألفاظ على أنّها حقيقة بعد أن شاع أمرها وتنوسيت مجازيتها فقال من قال: إنّ الكلام كلّه حقيقة، وتبين لآخرين من العلماء انّ معظم الألفاظ لها تاريخ مجازي، فخيّل إليهم أنّ كلّ الألفاظ تبدأ مجازية الدلالة وأنّ لا حقيقة فيها، وكان كذلك الفريق الثالث - وهم جمهور العلماء - الذين اعترفوا بكلّ من الحقيقة والمجاز على أساس الأصالة والفرعيّة في دلالة اللفظ.

وبحوث القدماء على استفاضتها ودقتها وحسن عرضها قد تجاهلت أمرا هامّا هو في الواقع الأساس الأوّل للحكم على الدلالة، ذلك هو أثرها في الفرد حين يسمع اللفظ أو يقرؤه، فهو وحده الذي يستطيع الحكم على الحقيقة والمجاز(1).

وذكرنا في الحديث عن حجيّة قول اللغوي: أنّ هناك من اللغويين أمثال الزمخشري في معجمه (أساس البلاغة)، ومجمع اللغة العربية القاهري في (المعجم الكبير) من ميّز بين الحقيقة والمجاز في الاستعمالات اللغوية العربية.

ولكن هذا قد لا يكفينا، وذلك لثبوت استمرارية التطور الدلالي وعليه لابدّ من معجم للألفاظ الشرعيّة الواردة في النصوص الشرعيّة من آيات وروايات، وضبط دلالاتها من خلال واقع اللغة الاجتماعية المعاصرة لصدورها زمانا ومكانا.

وبهذا نستطيع أن نحلّ المشكلة، فلا نحتاج إلى صرف الوقت الكثير في دراسة علامات الحقيقة، وتعرّف الأصل.

والأقوال هي:

1- كلام العرب كلّه حقيقة.

نسب الاُصوليون هذا القول لأبي إسحاق الأسفراييني حيث نصّوا على أنّه أنكر المجاز، ففي (المزهر) للسيوطي: قال ابن برهان في كتابه في الاُصول: اللغة مشتملة على الحقيقة والمجاز، وقال الاُستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: لا مجاز في لغة العرب.

ثمّ يدلّل ابن برهان على الرأي المشهور بما نصّه: وعمدتنا في ذلك النقل المتواتر عن العرب، لأنّهم يقولون: (استوى فلان على متن الطريق) ولا متن لها، و( فلان على جناح السفر) ولا جناح للسفر، و ( شابت لمة الليل) و ( قامت الحرب على ساق)، وهذه كلّها مجازات.

ومنكر المجاز في اللغة جاحد للضرورة، ومبطل محاسن لغة العرب، قال امرؤ القيس:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه***** وأردف اعجازا وناء بكلكلِ

وليس لليل صلب ولا أرادف.

وكذا سمّوا الرجل الشجاع أسدا، والكريم والعالم بحرا، والبليد حمارا لمقابلة مابينه وبين الحمار في معنى البلادة، والحمار حقيقة في البهيمة المعلومة، وكذلك الأسد حقيقة في البهيمة، ولكنّه نقل إلى هذه المستعارات تجوّزا.

وبعده يذكر ابن برهان دليل الاسفراييني على نفي المجاز فيقول:

وعمدة الاُستاذ: أنّ حدّ المجاز عند مثبتيه: أنّه كلّ كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو في المعنى.

أمّا المقارنة في المعنى فكوصف الشجاعة والبلادة.

وأمّا في الذات فكتسمية المطر سماء، وتسمية الفضلة غائطا وعذرة، والعذرة: فناء الدار، والغائط: الموضع المطمئن من الأرض كانوا يرتادونه عند قضاء الحاجة، فلمّا كثر ذلك نقل الاسم إلى الفضلة.

وهذا يستدعي منقولا عنه متقدّما، ومنقولا إليه متأخّرا، وليس في لغة العرب تقديم وتأخير، بل كلّ زمان قدر أنّ العرب قد نطقت فيه بالحقيقة فقد نطقت فيه بالمجاز، لأنّ الأسماء لا تدلّ على مدلولاتها لذاتها، إذ لا مناسبة بين الاسم والمسمّى، ولذلك يجوز اختلافهما باختلاف الاُمم، ويجوز تغييرها، والثوب يسمّى في لغة العرب باسم، وفي لغة العجم باسم آخر، ولو سمّي الثوب فرسا، والفرس ثوبا، ما كان ذلك مستحيلا، بخلاف الدلالة العقليّة، فإنّها تدلّ لذواتها، ولا يجوز اختلافها، أمّا اللغة فإنّها تدلّ بوضع واصطلاح، والعرب نطقت بالحقيقة والمجاز على وجه واحد، فجعلُ هذا حقيقة وهذا مجازا ضربٌ من التحكّم، فإنّ اسم السبع وضع للأسد كما وضع للرجل الشجاع. ثمّ يردّه فيقول: وطريق الجواب عن هذا أنّا نسلّم له أنّ الحقيقة لابدّ من تقديمها على المجاز، فإنّ المجاز لايعقل إلا إذا كانت الحقيقة موجودة، ولكن التاريخ مجهول عندنا، والجهل بالتاريخ لا يدلّ على عدم التقديم والتأخير.

وأمّا قوله: إنّ العرب وضعت الحقيقة والمجاز وضعا واحدا فباطل، بل العرب ماوضعت الأسد إسما لعين الرجل الشجاع، بل اسم العين في حقّ الرجل هو الإنسان، ولكن العرب سمّت الإنسان أسدا لمشابهته الأسد في معنى الشجاعة.

فإذا ثبت أنّ الأسامي في لغة العرب إنقسمت إنقساما معقولا إلى هذين النوعين، فسمّينا أحدهما حقيقة والآخر مجازا، فإن أنكر المعنى فقد جحد الضرورة، وان اعترف به ونازع في التسمية، فلا مشاحة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني، ولهذا لا يفهم من مطلق اسم الحمار إلا البهيمة، وإنّما ينصرف إلى الرجل بقرينة، ولو كان حقيقة فيهما لتناولهما تناولا واحدا. انتهى ما نقله السيوطي في المزهر عن ابن برهان.

2- وفي مقابل القول المنسوب للاسفراييني بأنّ اللغة العربية لا مجاز فيها، قول بأنّ لغة العرب كلّها مجاز، فقد حكي عن ابن الأثير أنّه قال: إنّ فريقا من العلماء كانوا يرون أنّ الكلام كلّه حقيقة، وأنّ آخرين كانوا يزعمون أنّه كلّه مجاز ولاحقيقة فيه(2).

وذهب ابن فارس إلى أنّ الحقيقة في اللغة العربية أكثر من المجاز، وإلى العكس ذهب ابن جنّي حيث يرى أنّ المجاز في لغة العرب أكثر من الحقيقة، قال في (الخصائص)(3): واعلم أنّ أكثر اللغة (العربية) مع تأمّله، مجاز لاحقيقة.

وذهب إليه من الاُصوليين الوحيد البهبهاني، قال في (الفوائد الحائرية)(4): ومعلوم - أيضا - أنّ العرف غالبه المجازات، وكذا اللغة، كما صرّح به المحقّقون، وظاهر للمتتبّع العارف.

ولا أرى ما يلزم بإطالة الوقوف عند هذه الأقوال لأنّ وجود الحقيقة والمجاز في لغة العرب ممّا لا غبار عليه، ولا ريب يعتريه.

وتقديرات الكثرة والقلّة تقديرات نسبيّة اعتمد فيها أصحابها الاستنتاج لا الاستقراء.

- علامات الحقيقة والمجاز:

استنادا إلى أنّ اللغة العربية كسائر اللغات الاُخرى فيها الألفاظ ذات المعاني الحقيقيّة فقط، والألفاظ ذات المعاني المجازية فقط (وهي تلك التي هجرت معانيها الحقيقيّة)، والألفاظ ذات المعاني الحقيقيّة والمعاني المجازية، لابدّ للفقيه عندما يريد أن يتعامل مع الألفاظ لاستفادة الحكم الشرعي منها، من تعيين مراد المشرّع هل هو المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي؟.

لهذا الغرض قام الاُصوليون بدراسة العلامات الفارقة بين حمل اللفظ المشكوك في معناه المراد منه للشارع المقدّس على المعنى الحقيقي أو حمله على المعنى المجازي.

كما قاموا - أيضا - وللغرض نفسه بتأصيل الأصل الذي يرجع إليه عند الشكّ.

يقول الوحيد البهبهاني في (الفوائد الحائرية)(5): أكثر ألفاظ الحديث والآية خالية من القرينة، فيجب حملها على المعاني الحقيقيّة بناءً على أنّ الأصل عدم القرينة، فلا يصلح إرادة غير المعنى الحقيقي منها. ومعلوم ان الرجوع غالبا إلى اللغة والعرف ومعلوم - أيضا - أن العرف غالبه المجازات، وكذا اللغة، كما صرّح به المحقّقون، وظاهر للمتتبّع العارف.

فلابدّ من معرفة الحقيقي عن المجازي وتمييزه منه، لأنّهما مخلوطان خلطا تامّا يصعب ( معه) التمييز، ولا يمكن إلا بالقواعد الاُصولية ألا ترى انّ صيغة إفعل تستعمل في معان مختلفة شتّى، ومن شدّة الخلط وقع النزاع بين أرباب المعرفة، فقال كلّ طائفة منهم بقول، إلى أن تحقّق أقوال كثيرة.

وهكذا بالقياس إلى كثير من الألفاظ، فلابدّ من معرفة أمارات الحقيقة والمجاز وهي متعدّدة.

اشتهر من بينها علامة واحدة هي (التبادر)، وهو علامة للحقيقة، وعدمه علامة للمجاز.

وأضاف بعضهم إليه علامتين اُخريين هما: صحّة السلب للمعنى المجازي، وعدم صحّة السلب للمعنى الحقيقي، وصحّة الحمل للمعنى الحقيقي وعدم صحّة الحمل للمعنى المجازي.

وأضاف آخر: الاطراد للحقيقة وعدمه للمجاز.

كما اتّفقوا على انّ تصريح أهل اللغة، أو نصّ الواضع - كما يعبّر بعضهم - بأنّ هذا المعنى حقيقي أو مجازي طريق سوي للوصول إلى معرفة المعنى.

يقول الوحيد البهبهاني في (الفوائد الحائرية)(6): الأولى (يعني العلامةالاُولى): نصّ الواضع - ان كان - بقوله: (هذا اللفظ) اسم لكذا فانّ الظاهر منه انّه حقيقة فيه.

وقال اُستاذنا الشيخ المظفّر في (اُصول الفقه - علامات الحقيقة والمجاز): قد يعلم الإنسان، إمّا عن طريق نصّ أهل اللغة أو لكونه نفسه من أهل اللغة أنّ لفظ كذا موضوع لمعنى كذا، ولا كلام لأحد في ذلك، فانّه من الواضح أنّ استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة وفي غيره مجاز.

وأضاف إليه الوحيد البهبهاني طريقا آخر - وهو إن لم يفد العلم بالمعنى الحقيقي فانّه يفيد الظنّ - ذلك هو ترتيب الألفاظ في معاجم الألفاظ، فالمعنى الذي يذكر في المعجم مقدّما على سواه من المعاني هو المعنى الحقيقي، لأنّها الطريقة الغالبة أو الملتزمة في ترتيب المعاجم، وسيأتي ما يوضّح هذا في مبحث حجيّة قول اللغوي.

قال في (الفوائد)(7): أو يذكره (أي المعنى الحقيقي) مقدّما على سائرالمعاني، لبعد أن يكون الجميع مجازات أو المجاز مقدّما.

وبعد هذه التوطئة الموجزة نكون مع العلامات موزّعة على الحقيقة والمجاز، وكالتالي:

أ-(علامات الحقيقة):

1- التبادر.

2- عدم صحّة السلب.

3- صحّة الحمل.

4- صحّة الاطراد.

ب- (علامات المجاز(:

1- عدم التبادر.

2- صحّة السلب.

3- عدم صحّة الحمل.

4- عدم صحّة الاطراد.

ولابدّ لها من توطئة اُخرى تضعها في موضعها كأمارات لتعيين المعنى وتحديده، وهي:

انّ الوسائل التي بواسطتها نستطيع تعيين المعنى هي:

1- الوضع:

ويراد بها العلاقة أو الارتباط بين اللفظ والمعنى الناشئة بسبب وضع اللفظ للمعنى ولو وضعا تلقائيا بناءً على أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية - كما هو رأي المحدّثين.

2- الاقتران:

ويراد به أن يقترن اللفظ بقرينة ما - خالية كانت أو مقالية - فانّ القرينة دليل المتلّقي ومرشده إلى تعيين مراد الملقي.

ومجال استخدام هذه العلامات والرجوع إليها هو مع الوسيلة الاُولى، لأنّنا عند قيام القرينة نتبّع القرينة.

وبعد لنبدأ بما بدأ به القوم، وهو:

)التبادر):

عُرّف التبادر بأنّه انسباق المعنى من نفس اللفظ مجردا من القرينة(8).

والتبادر - في هدي تعريفه المذكور - هو من ناحية نفسيّة، نوع من أنواع تداعي المعاني الناشئ من ارتباط اللفظ بالمعنى وعلاقته به، وعلم المتلّقي بذلك.

وعليه: فإذا كان للفظ معنيان يذكرهما المعجم، وتبادر أحدهما عند التلفّظ به ولم يتبادر الآخر، يكون المعنى الذي تبادر إلى الذهن هو المعنى الحقيقي والآخر هو المعنى المجازي.

ولنمثّل بكلمة ( أسد) فإنّ المعنى المتبادر منها إلى الذهن - وهو الحيوان المعروف - عند إطلاقها مجردة عن القرينة هو المعنى الحقيقي للفظ، ودليل ذلك هو التبادر.

وعدم تبادر معنى الإنسان الشجاع منه، دليل أنّه المعنى المجازي له.

والظاهر أنّ التبادر علامة الحقيقة في جميع اللغات، ورأينا شيئا من هذا في النصّ الذي نقلناه عن كتاب (البحث اللغوي عند الهنود) حيث اعتبروا التبادر علامة الحقيقة.

 

الهوامش:

(1)- م.س128.

(2)- دلالة الألفاظ127.

(3)-2/242.

(4)- ص 323.

(5)- الفوائد الحائرية ص 323.

(6)- ص 324.

(7)- ص 324.

(8)- المظفر 1/21.