المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 18.doc

- وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّه لا يدخل ما بعدها فيما قبلها إلا بقرينة من عرف أو عادة، وإلا فلا.

قال:

فإذا قلت:(ضربت القوم إلى زيد) فإنّ زيدا يدخل في الضرب مع القوم.

وإذا قلت:(اشتريت الشقّة إلى طرفها) دخل الطرف في الشراء لأنّ العرف والعادّة يقضيان بذلك.

ومن عرّف الشرع يحمل قوله تعالى: (ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل) لأنّ الصوم الشرعي إنّما يكون إلى غروب الشمس خاصة يتبيّن ذلك من قواعده.

وهذا هو الظاهر منها حيث وقعت في الكلام إن شاء اللَّه.

وعلى هذا الأصل والخلاف (يعني الخلاف النحوي) ينبني خلاف الفقهاء في دخول المرافق في غسل الأيدي والكعبين في غسل الأرجل من قوله تعالى(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين).

فمن يرى أنّ ما بعدها فيما قبلها داخل، أوجب الغسل في المرافق والكعبين.

ومن لم ير ذلك لم يوجبه.

وقال ابن هشام في (المغني): وإذا دلّت قرينة على دخول ما بعدها عمل بها.

وإلا:

فقيل: يدخل إن كان من الجنس.

وقيل: يدخل مطلقا.

وقيل: لا يدخل مطلقا، وهو الصحيح لأنّ الأكثر مع القرينة عدم الدخول، فيجب الحمل عليه عند التردّد.

وقال المرادي في (الجنى الداني):وفي دخول ما بعدها في حكم ما قبلها أقوال ثالثها(1): إن كان من جنس الأوّل دخل، وإلا فلا.

وهذا الخلاف عند عدم القرينة.

والصحيح أنّه لا يدخل، وهو قول أكثر المحقّقين، لأنّ الأكثر مع القرينة أن لا يدخل، فيحمل عند عدمها على الأكثر.

وأيضا فإنّ الشي‏ء لا ينتهي ما بقي منه شي‏ء إلا أن يتجوّز فيجعل القريب الانتهاء انتهاء، ولا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة، فهو - إذا - غير داخل.

هذه هي أقوال نحّاة العرب في المسألة، فما هي أقوال الاُصوليين فيها؟

1- قول بالنفي مطلقا.

أي أنّ جملة الغاية لا مفهوم لها.

وأقدم من قال به السيّد المرتضى، كما مرّ قوله في المسألة عن معالم العاملي، وهو: أنّ تعليق الحكم بغاية إنّما يدلّ على ثبوته إلى تلك الغاية.

وما بعدها يعلم انتفاؤه أو إثباته بدليل آخر.

2- قولان بالتفصيل، وهما:

أ- التفصيل بين كونها (أي الغاية) من جنس المغيّا فتدخل فيه نحو:(صمت النهار إلى الليل)، وكونها من غير جنسه فلا تدخل كمثال: (كلّ شي‏ء حلال حتّى تعرف أنّه حرام).

ب- التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد (إلى) فلا تدخل فيه، وكونها واقعة بعد (حتّى) فتدخل(2).

والذي أنتهي إليه مؤخّرا هو اتّخاذ التقييد (التعليق) ضابطة للتفرقة بين الجملة ذات المفهوم والجملة التي لا مفهوم لها، وهو:

1- إذا كانت الغاية قيدا للحكم كانت الجملة ظاهرة في المفهوم.

2- وإذا كانت الغاية قيدا للموضوع لا مفهوم للجملة.

يقول الشيخ الخراساني في (الكفاية):والتحقيق: أنّه إذا كانت الغاية - بحسب القواعد العربية - قيدا للحكم كما في قوله: (كلّ شي‏ء حلال حتّى تعرف أنّه حرام) و(كلّ شي‏ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر).

كانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك منها - كما لا يخفى – و(ل) كونه قضيّة تقييده بها، وإلا لما كان ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النهاية.

وأمّا إذا كانت بحسبها (أي بحسب القواعد النحوية) قيدا للموضوع مثل (سر من البصرة إلى الكوفة) فحالها حال الوصف في عدم الدلالة.

النتيجة:

الواقع أنّ المسألة لا ترتبط بقواعد اللغة العربية النحوية بقدر ارتباطها بالفهم العرفي.

ذلك أنّ في جمل الغاية ما يدلّ على المفهوم وفيها ما لا يدلّ، ولأنّنا هنا (أعني في اُصول الفقه) نبحث في المسألة نظريا بما يعمّ جميع اللغات وفي جميع المجتمعات، وتطبيقيّا في اللغة العربية خاصة، وفي النصوص الشرعيّة بشكل أخصّ.

وهذا لا يتمّ إلا إذا اتّخذنا ضابطا في هذا نظرية التوقّف (التعليق) الذي يفهمه العرف، فمتى كانت الغاية قيدا يتوقف عليه حكم المغيّا كان للجملة مفهوم، وإلا فلا، نظير ما تقدّم في الوصف والشرط.

 

مفهوم الاستثناء

العنوان:

من مفردات مفهوم المخالفة:

- مفهوم الاستثناء.

- ومفهوم الحصر.

ولكلّ واحد منهما اُسلوبه الخاصّ به في لغتنا العربيّة، وقد يلتقيان عند غرض بلاغي واحد هو (الحصر).

ودلالة جملة (الحصر) النحويّة، وهي ما يصطلح عليه بلاغيا بـ(القصر) على إفادة قصر الصفة على الموصوف، أو قصر الموصوف على الصفة شي‏ء واضح.

واُشير في بعض البحوث النحويّة والاُخرى الاُصوليّة إلى دلالة الاستثناء على الحصر أيضا.

ففي (الكوكب الدرّي)(3) للأسنوي: إلا، تدلّ على الحصر قطعا، وكذلك (إنّما)، على ما اختاره ابن عصفور وابن مالك وجمهور المتأخّرين.

وفي (تهذيب الأصول)(4) للسبزواري: مقتضى المحاورات المتعارفة في كلّ لغة إنّ الاستثناء من الإيجاب سلب، ومن السلب إيجاب، وانّه يدلّ على الحصر.

إنّ هذا الإلتقاء بين هذين الاُسلوبين (اُسلوب الاستثناء واُسلوب القصر) جعل الكثير من الاُصوليين يدرجهما تحت عنوان واحد: عنوان (مفهوم الحصر) كما فعل اُستاذنا الشيخ المظفّر في كتابه الاُصولي، أو عنوان (مفهوم الاستثناء) كما في (تهذيب الاُصول) للسيّد السبزواري.

وجمع بعضهم بين العنوانين بعنوان واحد هو (مفهوم الاستثناء والحصر) كما في كتاب (قواعد إستنباط الأحكام) للسيّد حسين مكّي العاملي وأفرد بعضهم كلّ واحد منهما بمبحث وعنوان فسمّي مبحث الاستثناء بمفهوم الاستثناء ومبحث القصر بمفهوم الحصر، كما جاء هذا في كتاب (دروس في علم الاُصول) المعروف بـ(الحلقات) لاُستاذنا الشهيد الصدر.

ولأنّ الإلتقاء في الغرض لا يجعل من الإثنين واحدا رأيت أن أسير بسيرة سيّدنا الشهيد الصدر بالإفراد والإنفراد فاجعلهما موضوعين مستقلّين تحت عنوان (مفهوم الاستثناء) و (مفهوم الحصر).

المصطلح:

الاستثناء مصطلح نحوي، ويطلق نحويا على نوعيه الرئيسيين:

- المتصل الذي يكون فيه المستثنى من نوع المستثنى منه.

- والمنفصل، وهو بخلاف المتصل.

 يقول المالقي في(الرصف)(5): وهي (يعني إلا الاستثنائية) تنقسم قسمين:

قسم يخرج بعض الشي‏ء من كلّه، وهو الذي يسمّى الاستثناء المتّصل.

- وقسم بمعنى (لكن)، ويسمّى ما يكون كذلك الاستثناء المنفصل، والاستثناء المنقطع.

وقد استعار الاُصوليون هذا المصطلح بما له من مدلول، ولكن في حدود الاستثناء المتصل.

واستقلّ بعضهم بمصطلح (الحصر)، ولكن بما يشمل الاستثناء النحوي والقصر البلاغي.

ومن أفرد كلا منهما بمبحث، استعار مصطلح الاستثناء النحوي للاستثناء الاُصولي، واستعار مصطلح الحصر النحوي للقصر البلاغي. وشي‏ء طبيعي أن تتقارض العلوم مصطلحاتها، وشي‏ء طبيعي أيضا أن يضيّق أو يوسّع في شمولية مصطلح علم عند علماء علم آخر.

التعريف:

ولهذا التقارض بين اُصول الفقه والنحو العربي في المصطلح قام تفاعل علمي بينهما في تعريف الاستثناء، فرأينا الاُصولي يعرف الاستثناء بما يعرف به النحوي، ورأينا النحوي يستخدم المصطلحين الاُصوليين الصريحين في نسبهما الاُصولي، وهما المنطوق والمفهوم.

ونلمس هذا واضحا في (شرح ألفيّة ابن مالك) لإبنه بدر الدين محمّد بن محمّد بن مالك المعروف بابن الناظم وابن المصنّف، وهو من الشروح التي تأثّرت إلى حدّ بعيد بالنظريات والمفاهيم المنطقيّة والفلسفيّة والكلامية والاُصولية.

فقد جاء فيه تحت عنوان (الاستثناء):الاستثناء نوعان: متّصل ومنقطع.

فالاستثناء المتصل: إخراج مذكور بـ(إلا) أو(ما في معناها)، من حكم شامل له، ملفوظ به أو مقدّر.

وقلت: (بالا أو ما في معناها) ليخرج التخصيص بالوصف ونحوه، ويدخل الاستثناء بغير وسوى وحاشا وخلا وعدا وليس ولا يكون.

وقلت: (من حكم شامل له) ليخرج الاستثناء المنقطع.

وأمّا الاستثناء المنقطع: فهو الإخراج بإلا أو غير أو بيد لما دخل في حكم دلالة المفهوم.

وقولي: (في حكم دلالة المفهوم) مخرج للاستثناء المتّصل فإنّه إخراج لما دخل في حكم دلالة المنطوق.

فهو (أعني ابن الناظم) يفرّق بين نوعي الاستثناء (المتّصل والمنفصل) على هدي الفكر الاُصولي في أنّ الاستثناء المتّصل إخراج من حكم دلالة المنطوق، والاستثناء المنفصل إخراج من حكم دلالة المفهوم، وهو رأي غير واحد من الاُصوليين.

وعرّف الاستثناء ابن اُمّ قاسم المرادي في (الجنى الداني) بقول: هو إخراج بـ(إلا) أو إحدى أخواتها تحقيقا أو تقديرا.

وهذا يكفينا في القاء الضوء على معنى الاستثناء نحويا واُصوليا.

أدوات الإستثناء:

جاء في كتاب (الاستغناء في أحكام الاستثناء)(6) لشهاب الدين القرافي: قال صاحب الجزوليّة: أدواته:

- من الحروف: إلا.

- ومن الأسماء: غير وسِوى وسُوى وسواء.

- ومن الأفعال: ليس ولا يكون وعدا وخلا المقرونتان بـ(ما).

- ومن المتردّدة بين الأفعال والحروف: عدا وخلا العاريتان من(ما).

- وممّا اتّفق على انّه يكون حرفا، واختلف في أنّه هل يكون فعلا:

حاشا.

- ومن مجموع الحرف والاسم: لا سيّما.

و (إلا) هي اُمّ الباب، ولذا اختيرت مصبّ الحديث الاُصولي ومحور بحثه.

يقول الاربلي في (جواهر الأدب)(7): ولكونها (يعني إلا) من (الحروف) المحضّة، ولزومها الحرفيّة، وضعت للاستثناء وهي أصل أدواته لعموم استعمالها فيه.

وما يقال فيها ينطبق على بقيّة الأدوات باستثناء الأدوات الأسماء التي هي (غير وسوى وسواء) فإنّها - لأنّها أوصاف - تأخذ حكم الوصف عند الاُصوليين لا حكم الاستثناء، فما قيل في مبحث مفهوم الوصف ينطبق عليها.

جملة الاستثناء:

تتألّف جملة الاستثناء من العناصر التالية: المستثنى منه + أداة الاستثناء + المستثنى + الإخراج.

مثالها: قام القوم إلا زيدا.

القوم: هو المستثنى منه.

إلا: هي الأداة.

زيدا: هو المستثنى.

الإخراج: هو استثناء المستثنى من المستثنى منه بواسطة أداة الاستثناء.

ويختلف النحويون على أنّ المخَرج، بصيغة اسم المفعول - هل هو ذات المستثنى أو وصفه؟

ففي مثالنا المتقدّم: هل الذي وقع عليه الإخراج هو ذات زيد أي شخص زيد، أو وصفه، وهو - هنا - القيام؟

ويختلفون أيضا في المخرج منه هل هو الاسم أو الفعل؟

ففي المثال المذكور: هل المخرج منه هو القوم الذي هو الاسم، أو هو فعلهم وهو القيام المشار إليه بـ(قام).

قال في (الجنى الداني)(8):الخامسة: في معنى الإخراج: قال الكسائي الإخراج من الاسم وحده، فإذا قلت: (قام القوم إلا زيدا) فكأنّك قلت: (قام القوم الذين بعض منهم زيد) ولم تتعرّض للإخبار عن زيد بقيام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم.

وذهب الفراء إلى أنّ الإخراج من الفعل، فإذا قلت (قام القوم إلا زيدا) لم تخرج زيدا من القوم، وإنّما أخرجت (إلا) وصفه من القوم.

وذهب سيبويه إلى أن (إلا) أخرجت الاسم من الاسم، والفعل من الفعل، إذ لم يقم دليل على حمل الاستثناء على أحدهما دون الآخر، فإذا قلت: (قام القوم إلا زيدا) كنت قد استثنيت زيد من القوم وقيامه من قيامهم، وهذا هو الصحيح.

والخلاف في المتّصل.

أمّا الاُصوليون فيتفقون على أنّ الإخراج يكون من الحكم، وهو القيام في مثالنا المتكرّر، ففيه أنّ القوم حكم عليهم بصدور القيام منهم، واستثنى أو أخرج زيد من هذا الحكم، فلم يشمله أي أنّه لم يحكم عليه بصدور القيام منه.

وهنا يأتي دور الخلاف في المفهوم، وهو أنّ المستثنى الذي لم يشمله حكم المستثنى منه هل يحكم عليه بنقيض حكم المستثنى منه، فيكون للجملة ظهور في المفهوم، أو لا يحكم عليه فلا يكون للجملة ظهور في المفهوم؟

هذا ما سنتبيّنه فيما بعد.

دلالة الجملة:

اختلف النحّاة العرب في دلالة جملة الاستثناء: هل تفيد أكثر من دلالتها على حكم المستثنى منه، فتتعدّاه إلى حكم المستثنى؟

في المسألة قولان:

قال الأسنوي في (الكوكب الدرّي(9)-:  الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات.

هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين.

وقال الكسائي: إنّ المستثنى مسكوت عنه، فإذا قلت: (قام القوم إلا زيدا) فهو إخبار عن غير زيد بالقيام، وأمّا زيد فيحتمل قيامه وعدم قيامه.

وقال في ص 359: إلا، تدلّ الحصر قطعا، وكذلك (إنّما) على ما اختاره ابن عصفور وابن مالك وجمهور المتأخّرين.

ونقل شيخنا أبو حيّان عن (بعض) البصريين أنّها لا تدلّ عليه بل تفيد تأكيد الإثبات.

وإلى هنا ننتهي إلى أنّ المقولة بأنّ الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات، هي الرأي المشهور بين النحّاة، وفيهم من خالف في ذلك كالكسائي الكوفي وبعض البصريين.

وسرى هذا الخلاف - ولكن بضعف - إلى الفكر الاُصولي فقد نقل القرافي في (الاستغناء) عن فهرسة الشيخ سيف الدين الآمدي (يعني كتابه الاُصولي إحكام الأحكام) أنّه قال: الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات خلافا لأبي حنيفة.

وهذا يعني أنّ النافي لهذه المقولة ينفي دلالة جملة الاستثناء على إثبات أو نفي الحكم عن المستثنى منطوقا ومفهوما.

وعلى أساس من الإيمان بالمقولة المذكورة اختلف النحّاة في أنّ دلالة جملة الاستثناء على الإثبات في النفي، وعلى النفي في الإثبات: هل هذه الدلالة بالمنطوق أو بالمفهوم؟

فابن الناظم بعد أن عرف الاستثناء المنفصل بانّه: الإخراج بإلا أو غير أو بيد لما دخل في حكم دلالة المفهوم ، قال في شرح تعريفه المذكور: وقولي (في حكم دلالة المفهوم) مخرج للاستثناء المتّصل فانّه إخراج لما دخل في حكم دلالة المنطوق.

والذي يظهر أنّ هذا الرأي الذي ذهب إليه ابن الناظم هو رأي المحقّقين من النحّاة، فقد جاء في (الكوكب الدرّي) للأسنوي بعد قوله: (إلا، تدلّ على الحصر قطعا، وكذلك (إنّما):وإذا قلنا بدلالتها عليه فقد ذكر أبو علي الفارسي في (الشيرازيات) ما حاصله: أنّها تدلّ بالمنطوق لا بالمفهوم.

وأيضا سرى هذا الخلاف النحوي إلى الرأي الاُصولي في المسألة، قال الشوكاني في (الإرشاد)(10) -:  وقد وقع الخلاف فيه: هل هو من قبيل المنطوق أو المفهوم؟

وبكونه منطوقا جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (الملخّص) ورجّحه القرافي في (القواعد).

وذهب الجمهور إلى أنّه من قبيل المفهوم.

ثمّ رجّح رأي الجمهور بقوله: وهو الراجح، والعمل به معلوم من لغة العرب، ولم يأت من لم يعمل به بحجّة مقبولة.

وممّن استظهر واستقرب أنّ الدلالة - هنا - بالمنطوق لا بالمفهوم السيّد السبزواري في (تهذيب الأصول)(11) قال: والمشهور أنّ انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى إنّما هو المفهوم، فإن أرادوا ذلك في الجملة وفي بعض الموارد الخاصّة لمناسبات مخصوصة فلا إشكال فيه، وإلا فالظاهر أنّه في مثل (ليس) و (لا يكون) بالمنطوق لا بالمفهوم، لتبادر ذلك منهما في المحاورات.

ولا يبعد ذلك في مثل (إلا) أيضا إذا كان من حدود الحكم ومتعلّقاته.

وأمّا إذا كان من قيود الموضوع فمرجعه إلى الوصف، وتقدّم عدم المفهوم له.

فيصحّ أن يقال: إنّ الأدوات الاستثنائية تدلّ على انتفاء حكم ما قبلها عمّا بعدها بالمنطوق لا بالمفهوم إلا في بعض الموارد لقرائن خاصّة.

وممّن ذهب إلى أنّها بالمفهوم لا بالمنطوق شيخنا المظفّر قال في (اُصول الفقه)(12): وأمّا (إلا الاستثنائية) فلا ينبغي الشكّ في دلالتها على المفهوم،

وهو انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، لأنّ (إلا) موضوعة للإخراج وهو الاستثناء، ولازم هذا الإخراج باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أن يكون المستثنى محكوما بنقيض حكم المستثنى منه.

ولما كان هذا اللزوم بيّنا ظنّ بعضهم أنّ هذا المفهوم من باب المنطوق.

وكذلك ذهب إلى أنّها من باب المفهوم لا المنطوق السيّد حسين مكّي العاملي في (قواعد استنباط الأحكام)(13) قال: الاستثناء بكلمة (إلا) يدلّ على المفهوم، وهو انتفاء سنخ الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى، وعلى انّه محكوم بنقيض حكم المستثنى منه.

لأنّ كلمة (إلا) التي قيدت بها الجملة تقتضي تضييق دائرة موضوع حكم المستثنى منه وثبوت نقيضه له، أي للمستثنى، فالانتفاء المذكور هو من باب المفهوم، لما ذكرنا من أنّه لازم للتضييق، وليس من باب المنطوق، لأنّ كلمة (إلا) ليس مفادها نفس نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى لتكون الدلالة من باب المنطوق، بل مفادها التضييق، والانتفاء المذكور كان لازما له.

والذي يبدو أنّ الخلاف الاُصولي يعود - في واقعه - للفرق الذي ذكروه بين المنطوق في أنّه حكم مذكور، والمفهوم في أنّه حكم غير مذكور.

ذلك أنّ حكم المستثنى منه مذكور بينما حكم المستثنى غير مذكور، وإنّما استفيد بمعونة أداة الاستثناء.

لكن الواقع غير هذا، لأنّ الاستثناء من القضايا العرفيّة، والعرف يفهم من هيئة تركيب الجملة الاستثنائية وحاق ألفاظها أنّها تدلّ على حكمين متلازمين هما حكم المستثنى منه وحكم المستثنى المخالف له.

وهذا يعني أنّ الدلالة منطوقيّة لا مفهومية.

والدليل: هو التبادر الذي عبّرت عنه بالفهم العرفي.

أو قل: هو الاستقراء للاستعمالات الاجتماعية، فإنّه - أعني الاستقراء - الصق بطبيعة المنهج العلمي.

وما ذكر من مثبتات أنّها مفهوميّة هو من التعليل للفهم الشخصي من إطار الاستنتاجات العقليّة بعيدا عن الاستقراء لواقع الاستعمال الاجتماعي.

فالطريق إلى ذلك هو استقراء الاستعمالات الاجتماعية واستنطاق أبناء اللغة من خلال تفاهماتهم وحواراتهم.

والناس في مختلف ألسنهم يدركون أنّ الجملة الاستثنائية ذات دلالتين متلازمتين تفهمان من منطوقها:

أُولاهما: تدلّ على حكم المستثنى منه.

والاُخرى: تدلّ على حكم المستثنى.

وهما متخالفتان في الإثبات والنفي.

 

الهوامش:

(1)- والقولان الأول والثاني هم:

- النفي مطلقاً.

- الثبوت مطلقاً.

(2)- اُصول المظفر 1/110.

(3)- ص 274.

(4)- 1/117.

(5)- ص 171.

(6)- ص 103.

(7)- ص 475.

(8)- ص 513.

(9)- ص 274.

(10)- ص 309.

(11)- 1/117.

(12)- 1/133.

(13)- ص 261.