المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 15.doc

 -قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك).

وهو من التنبيه بالأعلى على الأدنى بتقريب أنّ الذي يؤدّي الأعلى وهو القنطار فمن طريق أولى يؤدّي الأدنى وهو الذرّة.

دلالته:

المقصود بالدلالة - هنا - الطريقة التي يستند إليها في معرفة حكم المفهوم.

هل هي العرف واللغة فتكون النتيجة تنقيحا لصغرى من صغريات كبرى الظهور.

أو هي محاولة معرفة علّة الحكم المشترك بين المنطوق والمفهوم.

فان كان الأوّل فهو مفردة من مفردات الظهور.

وإن كان الثاني فهو من القياس المعروف بالقياس الجلي.

وهنا يثار التساؤل التالي: إذا كان هذا المفهوم من القياس والثابت انّ الإمامية لايأخذون بالقياس فكيف أخذوا به، هل لأنّه ليس بقياس أو لأنّه استثناء من القياس المحظور ؟!

وللإجابة عن هذا التساؤل نستعرض الرأي السنّي في المسألة ثمّ الرأي الإمامي، ومن خلاله نتعرّف الجواب.

يقول الشوكاني في (الإرشاد ‑: (303وقد اختلفوا في دلالة النصّ (يعني المنطوق) على مفهوم الموافقة: هل هي لفظية أو قياسية ؟ على قولين، حكاهما الشافعي في (الاُمّ)، وظاهر كلامه ترجيح أنّه قياس، ونقله الهندي في (النهاية) عن الأكثرين .

قال الصيرفي: ذهبت طائفة جلّة سيّدهم الشافعي إلى أنّ هذا هو القياس الجلي.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (شرح اللمع): إنّه الصحيح، وجرى عليه القفال الشاشي فذكره في أنواع القياس.

قال سليم الرازي: الشافعي يومئ إلى أنّه قياس جلي لا يجوز ورود الشرع بخلافه.

قال: وذهب المتكلّمون بأسرهم الأشعرية والمعتزلة إلى أنّه مستفاد من النطق، وليس بقياس.

قال الشيخ أبو حامد الاسفرائيني: الصحيح من المذاهب أنّه جار مجرى النطق لا مجرى دلالة النصّ، لكن دلالته لفظيّة.

والقائلون منهم بأنّ الدلالة لفظيّة، لأنّها تفهم من السياق والقرائن.

أمّا القائلون بأنّها قياسيّة، ومن نوع القياس الجلي فـ لأنّه لم يلفظ به، وإنّما حكم بالمعنى المشترك، فهو من باب القياس، قيس المسكوت (أي المفهوم) على المذكور (أي المنطوق) قياسا جليّا - شرح الكوكب المنير(1).

ويقابل القياس الجلي في الاُصول السنّي القياس الخفي.

والفرق بينهما هو في نوعية العلّة، فإن كانت منصوصا عليها فهو الجلي، وإن كانت مستنبطة فهو الخفي.

يقول الشيخ ابن عثيمين في مختصره (الاُصول من علم الاُصول) تحت عنوان (أقسام القياس): ينقسم القياس إلى: جلي وخفي.

1- فالجلي: ما ثبتت علّته بنصّ أو إجماع أو كان مقطوعا فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.

2- والخفي: ما ثبتت علّته باستنباط ولم يجزم فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.

وكما يوجد فارق بين القسمين المذكورين في نوعية العلّة يوجد فارق آخر في مستوى الدلالة، ففي الأوّل (الجلي) هي قطعيّة، وفي الثاني (الخفي) هي ظنّية.

وفارق ثالث هو أنّ العلّة المنصوصة:

 -قد تكون عامّة، لها شموليّة لأوسع من حكم المنطوق، بمعنى أنّ الحكم في الأصل ليس لخصوص موضوعه، وإنّما هو لكلّ موضوع ثبتت له العلّة.

 -وقد تكون خاصّة لا شموليّة فيها لغير الموضوع المذكور في المنطوق.

فمثلا لو أخذنا المثال المشهور، وهو (حرّمت الخمر لإسكارها)، فإنّ موضوع الحكم:

 -قد يكون الخمر المسكرة بخصوصها، فالعلّة - وهي الإسكار - لا شموليّة فيها لما عدا الخمر.

 -وقد يكون هو الإسكار مطلقا، والخمر ذكرت على نحو التمثيل، فالعلّة - على هذا - لها من الشموليّة بما تعمّ كلّ مسكر.

وللإماميّة في المسألة أقوال هي:

 -قول بأنّ مفهوم الموافقة استثناء من القياس المحظور وهو مذهب العلّامة الحلّي، قال في (مبادئ الوصول: مبحث القياس): الحاق المسكوت عنه بالمنطوق قد يكون جليّا كتحريم الضرب المستفاد من تحريم التأفيف (في الآية المتقدّمة).

وذلك ليس من باب القياس، لأنّ شرط هذا (يعني مفهوم الموافقة) كون المعنى المسكوت عنه أولى بالحكم من المنصوص عليه، بخلاف القياس، بل هو من باب المفهوم.

يريد بذلك أنّ حدّ القياس المحظور الذي هو (حمل فرع على أصل في حكم جامع بينهما) لا ينطبق على مفهوم الموافقة، لأنّ المحكوم عليه في المفهوم والمنطوق هو موضوع واحد - وهو الذي ثبتت له العلّة - له مصاديق وأفراد متعدّدة متفاوتة في المستوى تدرّجا من الأدنى إلى الأعلى أو بالعكس من الأعلى إلى الأدنى.

والمنطوق أولى مصاديقه دنوا أو علوا، والمفهوم أحد مصاديقه بين الأدنى والأعلى.

أي أنّ مصاديق الموضوع تبدأ بالأدنى (وهو المنطوق) وتنتهي بالأعلى في حالة السلب، ومن الأعلى (وهو المنطوق) إلى الأدنى في حالة الإيجاب.

والمفهوم في حالة السلب يكون ما بعد الأدنى حتّى الأعلى، وفي حالة الإيجاب ما بعد الأعلى حتّى الأدنى.

فلا يوجد في البين موضوع هو الأصل سرينا الحكم منه إلى موضوع آخر هو الفرع لعلّة جامعة بينهما كما هو الشأن في القياس.

وببيان آخر: إنّ العلّة المنصوصة تتنوّع إلى نوعين:

 -خاصّة بموضوع الحكم في الملفوظ ولا شموليّة فيها لسواه.

 -وعامّة تشمل بحكمها كلّ فرد ثبتت له هذه العلّة.

فالأولى هي محور القياس، لأنّ الحكم في النصّ يسري من موضوعه لموضوع آخر للعلّة الجامعة بينهما.

والثانية هي محور مفهوم المخالفة لأنّ الحكم وجه لفرد من أفراد الموضوع ومنه يسري إلى سائر الأفراد، فلم يحمل من موضوع إلى آخر، وإنّما تطبيق موضوع على أفراده من باب متى وجد الموضوع وجد حكمه معه.

 -وقول آخر أشار إليه شيخنا المظفّر في اُصوله - بعد إشارته إلى قول العلّامة الحلّي - بقوله: وبعض قال: لا، إنّ الدليل الدالّ على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين، وليس هناك ما يوجب استناؤهما يعني منصوص العلّة وقياس الأولوية.

 -وقول ثالث للمحدّث البحراني ذكره في المقدّمة الثالثة من (الحدائق) فصّل فيه بين مقطوع العلّة ومظنونها، وفي حدود اعتباره مفهوم الموافقة قسما من القياس كما يظهر من عبارته، قال: وهو (يعني مفهوم الموافقة) حجّة إذا كان قطعيّا، بمعنى قطعيّة العلّة في الأصل كالإكرام في منع التأفيف (في الآية) وعدم تضييع الإحسان، والإساءة في الجزاء، وكون العلّة أشدّ مناسبة في الفرع.

وأمّا إذا كان ظنّيا فيدخل في باب القياس المنهي عنه، كما يقال: (يكره جلوس الصائم المجبوب في الماء) لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة، لعدم علم كون علّة الكراهة للمرأة هو جذب الفرج للماء.

 -وقول رابع لاُستاذنا المظفّر يعتمد حجيّة منصوص العلّه وقياس الأولوية لأنّهما من الظواهر، ذكره في اُصوله (2) وما بعدها، قال: والصحيح أن يقال: إنّ منصوص العلّة وقياس الأولوية هما حجّة، ولكن لا استثناءا من القياس، لأنّهما - في الحقيقة - ليسا من نوع القياس، بل هما من نوع الظواهر، فحجيّتهما من باب حجيّة الظهور.

أمّا منصوص العلّة فان فهم من النصّ على العلّة انّ العلّة عامّة على وجه لا اختصاص بها بالمعلّل (الذي هو كالأصل في القياس)، فلا شكّ في أنّ الحكم يكون عامّا شاملا للفرع، مثل ما لو قال: (حرّم الخمر لأنّه مسكر) فيفهم منه حرمة النبيذ لأنّه مسكر أيضا.

وأمّا إذا لم يفهم منه ذلك، فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلا بنوع من القياس الباطل، مثل ما لو قيل: (هذا العنب حلو لأنّه أسود) فإنّه لا يفهم منه أنّ كلّ ما لونه أسود حلو، بل العنب الأسود خاصّة حلو.

ومن هنا يتضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلّة والأخذ بالقياس، فلابدّ من التفرقة بينهما في كلّ علّة منصوصة لئلّا يقع الخلط بينهما.

ومن أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار في تعرّف الموضوع للحكم.

وبهذا البيان والتفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجيّة منصوص العلّة، فمن يراه حجّة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلّة، ومن لايرى حجيّته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذا به على نهج القياس.

والحقّ في دلالة مفهوم الموافقة ومستندها هو ما أبان عنه شيخنا المظفّر، لأنّ اُسلوب التعبير بذكر الأدنى لسريان الحكم على جميع الأفراد منه حتّى الأعلى، وبالعكس هو من الأساليب المعروفة عند العرف وفي اللغة الاجتماعية، ولم يعهد من المشرّع الإسلامي إنفراده باُسلوب خاصّ، بل الأمر بالعكس إذ المعهود منه أنّه سار اُسلوب الناس في الخطاب والحوار.

فالمستند في الدلالة المذكورة هو الفهم العرفي، وعن طريقه يعيّن المفهوم ويشخّص الظهور.

 

مفهوم المخالفة

مفهوم المخالفة من أساليب الإيجاز والإختصار في التعبير العربي يجمع بين مؤدّى جملتين مختلفتين في الإثبات والنفي، ومن هنا سمّي بمفهوم المخالفة لأنّ جملته تفيد نوعين من الحكم متخالفين في الإيجاب والسلب.

ولتوضيح هذا بالمثال نقول:

إذا قلت: (صَلَّ في أرض مباحة)، فإنّ هذه الجملة تفيد حكما إيجابيّا هو إباحة الصلاة في الأرض المباحة.

وإذا قلت: (لا تصلّ في أرض مغصوبة)، فإنّ هذه الجملة تفيد حكما سلبيّا هو حظر الصلاة في الأرض المغصوبة.

واستعمال الجملتين المذكورتين لتؤدّي كلّ جملة منهما حكما يختلف عن حكم الاُخرى في الكيف وهو الإيجاب والسلب (النفي والإثبات) يسمّى في البلاغة العربية باُسلوب الاطناب.

ويقابل هذا الاُسلوب (أعني الاطناب) اُسلوب الإيجاز، وهو أن تختصر الجملتان في جملة واحدة تعطينا الحكمين المتخالفين بتعبير واحد، وذلك بأن يقال: (لا تصلّ إلا في أرض مباحة).

ومعناه أنّ الصلاة في الأرض المباحة مباحة، وفي الأرض غير المباحة (وهي المغصوبة) محظورة.

وجاء هذا الإيجاز، وهذه الإفادة من استعمال الأداتين (لا) الناهية، و (إلا) الإستثنائية.

والاُولى أفادت حظر الصلاة في الأرض غير المباحة (المغصوبة) والثانية أفادت إباحة الصلاة في الأرض المباحة.

وجاء هذا لأنّ الناس يدركون أنّ الشي‏ء إذا كان له أقسام وأجزاء وأثبتنا الحكم لقسم أو جزء منها بـ(إلا) بعد النهي بـ(لا) فإنّ للجزء أو القسم المذكور خلاف الحكم المذكور وللقسم أو الجزء المحذوف لأجل الإيجاز الحكم المذكور.

فـ(لا تصلّ) حكم مذكور (وهو الحظر).

و (الصلاة في الأرض المباحة) موضوع مذكور.

وإباحة الصلاة حكم غير مذكور.

والصلاة في الأرض المغصوبة موضوع غير مذكور.

تتحقّق المخالفة بين الحكمين المستفاد من الجملة بـ:

 -ان يكون الحكم المذكور (الحظر) للموضوع غير المذكور وهو (الصلاة في الأرض المغصوبة).

 -وان يكون الحكم غير المذكور (الإباحة) للموضوع المذكور وهو (الصلاة في الأرض المباحة).

مثال آخر:

(في الغنم السائمة الزكاة).

نحن نعلم انّ من أساليب القصر (الحصر) في اللغة العربية تعريف المسند إليه بأل الجنسية.

وفي مثالنا هذا:

-(الزكاة) هي المسند إليه.

وهذا يعني أنّ الزكاة مقصورة على الغنم السائمة ومحصورة فيها، وهو بدوره يعني انّ المعلوفة لا زكاة عليها أو فيها.

 -فالحكم المذكور: (وجوب الزكاة).

 -والموضوع المذكور: (الغنم السائمة).

ولأنّ الغنم تنقسم من حيث التغذية إلى (سائمة) وهي التي ترسل للرعي ولا تعلف، و (معلوفة) وهي التي تعلف ولا ترسل للرعي، يكون مقتضى المخالفة في الحكم انّ الحكم المذكور وهو (وجوب الزكاة) للموضوع المذكور (وهو الغنم السائمة) والحكم غير المذكور (وهو عدم وجوب الزكاة) للموضوع غير المذكور (وهو الغنم غير السائمة) أي المعلوفة.

فنحن هنا نستطيع أن نطنب فنقول: (تجب الزكاة في الغنم السائمة ولا تجب في الغنم المعلوفة)، ونستطيع أن نوجز باستعمال اُسلوب القصر فنقول:(في الغنم السائمة الزكاة) أو (الزكاة في الغنم السائمة).

 

الهوامش:

(1)- 3/ 485.

(2)- 2/174.