mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 009.doc

الإعلان

كان من المحتم أن تقفز حركة الرسول (صلى الله عليه وآله) يوماً من العمل السري لتنطلق في أفق أوسع. فالعمل السري إذا طال سيحرم الحركة الكثير من المكتسبات أهمها الانتشار الأفقي. لكن وجود فترة من العمل السري أمر لا بد منه تحتمه الضرورات الأمنية والتربوية ولم يك من السهل طوى هذه المرحلة والقفز عليها إلا بإيعاز إلهي.

وتجلت الحكمة في تحديد موعد إعلان الدعوة. إذ لم يكن التصريح بالرسالة مسألة زمن بل هي مسألة اكتمال الاستعدادات في الحركة وتمكين رجالها من خوض الصراع المرير والتهيؤ لمرحلة صعبة من المواجهة. فمن كل الأبعاد كانت الحركة الإسلامية مهيأة لخوض غمار الفترة الحرجة. فعلى البعد السياسي كانت الهمسات تتطاير بين القبائل وهي تحمل أنباء الرسالة الجديدة وكانت الأوضاع في الجزيرة من نواحي عديدة على استعداد لتقبل نهضة حضارية رسالية.

فالصراعات القبلية وخصوصاً في يثرب وصراع الديانات كاليهودية والنصرانية وبينهما وبين الوثنية وتوعدات اليهود لعرب بظهور الرسول وانهم سيتغلبوا على خصومهم.

ومن جانب آخر كانت استعدادات الفئة المؤمنة أذان بانتهاء المرحلة السرية. فالعدد كان يبدو كافياً لتأمين مستوى جيد من الانتشار، والمستوى الروحي الذي بلغته الجماعة المسلمة كان مؤهلاً لمواجهة التحديات التي تفرضها المرحلة العلنية.

وقد أنضم إلى الجماعة الإسلامية عناصر ذات ثقل كبير في المجتمع القرشي كحمزة بن عبد المطلب مما منح الحركة مقداراً من الحصانة والمناعة. إذ كان التصعيد في المواجهة من قبل قريش يصطدم بالحدود التي يشكلها الثقل المعنوي لتلك العناصر في المجتمع. ومن ناحية أخرى كان انتشار الدعوة بين عدد كبير من القبائل يشكل عائقاً أمام المجتمع الوثني إذا رغب في إعلان الحرب الشاملة. إذ ان وجود الاعتبارات القبلية كان يفرض نمطاً محدوداًٍ من المواجهة. فكان يتلقى إعلان الحرب من قبل قريش بمثابة إعلان حرب شاملة ضد كل القبائل العربية التي كان لها ممثلين في الصف الإسلامي. لهذا كان القسط الأوفر من التعذيب قد نال المستضعفين من المسلمين ضد العبيد ومن ليست لهم عشيرة تدافع عنهم كبلال وحباب وصهيب وآل ياسر.

فمن هنا جاء اقتران نزول الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء 214). مع بلوغ الاستعدادات مرحلة التكامل، وبها دشن المسلمون المرحلة العلنية من الدعوة.

وقامت إستراتيجية المرحلة العلنية على دعوة أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله) لعدة ضرورات هامة.

الأولى: العمل على رص البناء الداخلي أول الأمر والانطلاق منه إلى توسيع الدائرة. فالإصلاح يجب أن يبدأ أولاً من الداخل حتى يأتي البناء قوياً منيعاً.

الثانية: كانت عشيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) تضم عناصر جيدة مستعدة للانخراط في صفوف الحركة إذا ما وجدت الفرصة المناسبة. وقد آمن معظم من دعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك الاجتماع الهام ولو بصورة تدريجية متباطئة بالرغم من عدم انضمامهم للمسلمين في ذلك الاجتماع للأجواء المتشنجة التي سيطرت على المباحثات مما دفعت بالكثير من الحاضرين إلى الاقتناع عن تأييد النبي (صلى الله عليه وآله) ما عدا القلة.

الثالثة: كانت المواجهة مع قريش قضية حتمية. وكان هاجس الرسول في تلك الفترة هو تعبئة قواه كافة والاستفادة من الظروف في اقتحام أسوار المواجهة المحتملة.

فإذا ما قامت المعركة فإن عشيرته ستتحمل قسطاً من أعبائها حسب العرف القبلي الذي كان سائداً يومذاك.

فقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يضع أقرباءه وأبناء عشيرته وهم أقرب الناس إليه في الصورة قبل أن يحدث شيء حتى تأتي حمايتهم له على أساس من الوعي وليس على أساس العصبية القبلية.

وتتضح هذه المعاني عند مراجعة مفردات ذلك الاجتماع كما جاء في كتب السير.

كما نزلت آية الإنذار دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) فأمره أن يصنع طعاماً ويدعو له بني عبد المطلب ليكلمهم ويبلغهم ما أمر به. فصنع علي (عليه السلام) صاعاً من طعام وجعل عليه رجل شاة وملأ عساً من لبن ثم دعاهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبي لهب فأكلوا قال علي (عليه السلام) فأكل القوم حتى مالهم بشيء من حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال:

أسق القوم ؛ فجئتهم بذلك القعب، فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلماً أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يكلمهم بادره أبو لهب فقال لهدما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم الرسول (صلى الله عليه وآله) فأمر علياً في اليوم الثاني أن يفعل كما فعل آنفاً وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه أفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم، قال فأحجم القوم عنها جميعاً وقال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمر أن تسمع لابنك وتطيع (1).

وجاء في بعض التواريخ، لما رأى أبو طالب موقف أبي لهب وكيف كان يحاول إفشال الاجتماع وإنهائه بلا نتيجة توجه إليه قائلاً (يا عورة والله لننصرنه ثم لنعيننه. ثم ألتفت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلاً له يا أبن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا، حتى نخرج معك بالسلاح) (2) ومقولة أبي طالب تبين طبيعة اهداف الاجتماع الهاشمي فقد كانت الغاية بالإضافة إلى دعوة بني هاشم إلى الإسلام هي الحصول على تعهد من أبناء العشيرة للوقوف إلى جانبه عند وقوع المواجهة بينه وبين قريش. وكان للاجتماع أثر كبير على بني هاشم، فعلى رغم محاولات أبي لهب لإفشال الاجتماع فقد أدى غرضه من الانعقاد فأغلب الذين شاركوا وحضروا فيه تأثروا بكلام النبي (صلى الله عليه وآله) واتخذوا مواقف مشرفة عندما وقع الصدام بين النبي (صلى الله عليه وآله) وقريش على رغم كفرهم وهذا خلاف ما حاول البعض ان يظهر الاجتماع وكأنه فاشل بالمرة وكان من نتائج الاجتماع انتشار خبر الدعوة، فأقبل أصحاب القلوب والعقول النيرة من كل حدب وصوب وشهروا إيمانهم. أما المعاندون فازدادوا غيظاً على غيظهم فشرعوا حرباً لا هوادة فيها مستخدمين كل السبل المتاحة لتضعيف الشلال المتدفق. وفي مثل هذه الأجواء تنضج الشائعات وتصطخب الدعايات المغرضة فكان لا بد من موقف فجاءه الأمر الإلهي بإعلان الدعوة.

 {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}.  

 (الحجر 94/95). فالآية حددت مهمات المرحلة:

الإسراع في إبلاغ الدعوة. وخطوط عامة للمرحلة الجديدة.

الأعراض عن المشركين وغض الطرف عنهم.

أما المستهزئون مثيروا الدعايات المضللة. فان لهم ربهم بالمرصاد فهو سيكفل الرد عليهم فلا بأس على الدعوة. فأمضي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن الطريق سالك وإن لا خوف من أحد طالما كان الله معك.

ذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقلب راسخ ونفس مطمئنة بوعد الله وبروح عالية بالإصرار والعزيمة وقام على الصفا ونادى قريشاً من كل ناحية، فجاؤوا يتزاحمون لسماع مقالته فقال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل قد طلعت عليكم، أكنتم مصدقي فقالوا بأجمعهم: نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذباً قط، قال: أني نذير لكم من عذاب شديد، يا بني عبد المطلب ويا بني عبد مناف ويا بني زهرة ويا بني تميم، ويا بني مخزوم وأسد ومضى يعدد أسماء القبائل ثم قال: إن الله أمرني ان أنذركم من عقابه وأني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا اله إلا الله فنهض أبو لهب وكان رجلاً بديناً سريع الغضب وصاح به تياً لك سائر اليوم ألهذا جمعت الناس فنزلت في حقه سورة {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}

وبذلك الإعلان حسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر بينه وبين قريش. فقد اتضح أمر الدين الجديد لأهل مكة وعرف القاصي والداني ما جاء محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ليس من قبيل ما كانوا يسمعونه ردحاً من الزمن على لسان نوفل بن عمرو وعثمان ابن الحويرت، أدركوا بعد البيان الذي أدلى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنهم أمام دين جديد مناهض للوثنية يدعو إلى المساواة بين السيد والعبد وبين الرجل والمرأة. والى نبذ العصبيات القبلية ، يدعو العبيد الى الانفكاك من قيود العبودية .

وأخذت آيات القرآن الكريم تتلى في العلن بعد أن كانت تقرأ همساً.. ومنها عرف الجميع ماذا يقول الدين الجديد..

 {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

فكشفت هذه الآيات لأهل مكة معالم الدين الإسلامي فهو دين لا يرضى بعبادة الأصنام ويعتبر ذلك شرك ويدعو إلى احترام الوالدين والاحسان إليهم ويحرم قتل الأطفال بسبب الفقر ويحرم التعدي على الآخرين. وهو دين يعمل على إصلاح الإنسان من الداخل فإذا صلح الإنسان وزكي عمله أصبح عنصراً نافعاً في المجتمع يحترم أموال اليتامي ويوفي الكيل والميزان ويدعو إلى التمسك بالعدل والأنصاف في كل مناحي الحياة وحتى في حديثه يجب عليه أن يصدق في القول ويعتبر ما تقدم من إلتزامات ميثاقاً بينه وبين ربه قبل أن يكون ميثاقاً بين الفرد والفرد الآخر فعليه أن يفي بعهد الله.

ففي هذه المرحلة لم يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً مبهماً بعد أن أوضح كل ما يتعلق برسالته وبات كل فرد في قريش وهو يعرف ما كان يجهله بالأمس عن الدين الجديد فلا حجة بعد ذلك أذا ما أبطأ في الاستجابة ولا حجة لمن وضع نفسه قبال الرسالة بعد أن عرف أهدافها الإنسانية.

لقد حدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المستقبل بعين واعية فوجد إن المواجهة بينه وبين أسياد قريش مسألة حتمية، فكان عليه أن يوقظ الناس ويدلي لهم بمعالم الرسالة حتى إذا ما أعلنت قريش حربها سيعرف الجميع خلفياتها. اذ لم  يبق شيئاً مخفياً فهذا هو الإسلام وهذه مبادؤه وتلك أهدافه. فلم يتوان البعض ان يسرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليعلن عن إسلامه بقلب مطمئن بالإيمان والإخلاص وكذلك لم يتخلف البعض الآخر عن إظهار ضغائن قلبه بضرب الرسالة في الصميم وهي في المهد بعد أن أدلى النبي (صلى الله عليه وآله) بكل شيء ولم يخفي موقفه من الوثنية والمتعبدين بها.

وهنا بدأ فصل جديد من معركة الإسلام مع الشرك الجاهلي.

المواجهة

أدرك قادة الشرك في مكة مخاطر الدين الجديد على عباداتهم وعلى مكانتهم الدينية في الجزيرة العربية والذي سيكون له عواقب وخيمة على مركزهم التجاري بين القبائل.

ورسم هذا الهاجس خريطة العلاقة المتوترة بين قادة الشرك والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

ففي بداية الأمر أخذت المواجهة النمط السلمي، إذ لم يكن هيناًَ على سادة قريش أن يقوموا بتصفية الحركة تصفية جسدية لانحدار المسلمين من أصلاب عشائرية مختلفة ومراعاة للمواقف المحتملة التي ستقفه عشيرة النبي (صلى الله عليه وآله).

وبسبب هذه المحاذير فضل قادة قريش المواجهة السياسية على المواجهة الساخنة في بداية الصراع الذي نشب بينهم وبين رسول الله فكان أول ما قاموا به هو تشكيل وفد للتفاوض مع رسول الله عبر عمه أبي طالب. اشترك في الوفد عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، جاؤوا إلى أبي طالب قائلين له: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا فانك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً وردهم رداً رقيقاًًً فانصرفوا عنه.

وفي رواية انهم قالوا له إن لك سناً وشرفاً وأنا قد استنهيناك ان تنهي ابن أخيك فلم تفعل وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه آرائنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً وردهم (3).

وواصل النبي طريقه واتسع نشاطه وامتد جمعه وانضمت إليه عناصر جديدة وتوتر الوضع من جديد فعادوا مرة أخرى إلى أبي طالب بصفقة مغرية هي تنصيبه ملكاً عليهم ومشاركته أموالهم ويقدموا له ما يشاء إذا تراجع عن دينه.

فجاءه أبو طالب وحدثه بعروض القوم ثم قال له: إبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

فأجابه الرسول بذلك الجواب الذي ظل خالداً في التاريخ والذي نم عن صمود واستقامة لا مثيل لها.

قال النبي (صلى الله عليه وآله) رداً على عروض قريش..

 (يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته) ثم بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام من مجلس عمه.

فتأثر عمه من هذا الموقف فناداه قائلاً له:

ادن يا بن أخي مني ، فأقبل عليه رسول الله قال له:

اذهب يا ابن أخي وقل ما شئت فو الله لا أسلمك لشيء أبداً وأنشد:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم      ***      حتى أوسد في التراب دفينا (4).

وبهذا الموقف أحبط النبي (صلى الله عليه وآله) خطط قادة الشرك ولم يترك أمامهم طريقاً للتفاوض بعد ان رفض كل العروض المغرية التي قدموها.

وعند ذاك فكروا بأن يرسلوا أحدهم ليتفاوض مباشرة مع النبي (صلى الله عليه وآله) دون واسطة بعد الذي سمعوه من أبي طالب.

فأرسلوا عتبة بن ربيعة وكان سيداً من سادات قريش فقال لقريش وقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً في جوار البيت وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم لمحمد وأعرض عليه أموراً لعله يقبل ببعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا قالوا بلى قم إليه يا أبا الوليد، فقام إليه عتبة وجلس إلى جنبه وقال له: يا ابن أخي انك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً ننظر فيها لعلك تقبل منها.

يا ابن أخي ان كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وان كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وان كان هذا الأمر الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ويذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. ومضى عتبة بن ربيعة يتحدث إلى النبي بأسلوب هادئ لين محاولاً بذلك إغراءه وإقناعه بالعدول والتراجع عن دعوته، والنبي (صلى الله عليه وآله) يستمع إليه، فلما انتهى من حديثه، قال له النبي: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم: قال اسمع مني فأصغى إليه وهو يطمع أن يجد عنده ما يرضي قريشاً وأطماعها وكبريائها، فقال:

 {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ} ومضى رسول يتلو عليه ما بقي من السورة حتى انتهى من السجدة فخر لله ساجداً ورفع رأسه واتجه إلى عتبة وقال أسمعت يا أبا الوليد فلم يدري بما يجيب، وقام عنه ورجع إلى أصحابه مأخوذاً بجمال ما رأى وما سمع مدهوشاً بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه. فأدرك ان محمداً رجل من نوع آخر من الرجال الذين عرفتهم مكة وعرفهم العالم. لكن قريش لم تهدأ وهي ترى سرعة انتشار الإسلام وانضمام شبابهم إلى تجمع المسلمين ففكروا بأن يعودوا إلى أبي طالب ويغروه بعروضهم السخية بعد أن فشلوا في إقناع النبي بتلك العروض. جاؤوا إلى أبي طالب للمرة الثالثة ومعهم عمارة بن الوليد أخو خالد بن الوليد فقالوا له هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك نقتله فإنما رجل برجل فأجاب أبو طالب.والله لبئس ما تسومونني اتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني لتقتلوه، هذا والله لا يكون أبداً.

فقال أحد الجالسين وهو المطعم بن عدي بن نوفل.

والله لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم فقال أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك وامتعضت قريش من هذا الفشل فرأت أن تشكل وفداً من زعمائها للتفاوض مع النبي (صلى الله عليه وآله) بصورة مباشرة عله تأخذه هيبتهم ويتأثر لكلامهم فيستجيب لهم.

فانطلق أبو جهل وأبو سفيان بن حرب والأسود بن المطلب والعاص بن وائل إلى النبي وقالوا له يا محمد فان كنت غير قابل منا شيئاً عرضناه عليك فانك تعلم إنه ليس من الناس أحد أضيق منا بلداً ولا اقل ماء ولا أشد عيشاً فسل ربك الذي يفتيك بما تدعيه ليكشف عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها انهاراً كأنهار الشام والعراق. وليعبث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعثه قصي بن كلاب فانه رجل صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وإنك رسوله كما تقول.

وربما اعتقدوا ان النبي (صلى الله عليه وآله) سيضعف في الرد عليهم وانه سيترك دينه إذا ما عجز عن الآيتان بتلك الأمور. وان المسلمين سيضعفوا أيضاً في إيمانهم بأحقية الرسالة وانهم سيزدادون قوة ومنعة بعد إرغام خصمهم للاعتراف بالعجز.

لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المطمئن من رسالته والواثق بأنه على الحق لم يتردد لحظة واحدة في الرد عليهم قائلاً لهم:

ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن قبلتموه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم بالحق وهو خير الحاكمين.

وجاء الوحي ليؤكد على هذا الموقف.

 {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5).

وفشلت خطة قريش في بعث الوهن في نفس القائد كما كانت حصيلة المحاولات السابقة. لكن قريش مصممة على مواجهة المد العقائدي الذي أخذ يسرى إلى أبناء التجار وعبيدهم.

فكيف السبيل وقد فشلت كل المفاوضات المباشرة وغير المباشرة.

  •   خطط جديدة لضرب الرسالة:

فكرت قريش بحلول أخرى لضرب الرسالة بعد أن فشل أسلوب التفاوض. فشهروا سلاح الحرب النفسية فأوعزوا إلى شعرائهم بأن يهجوا النبي (صلى الله عليه وآله) فشرع  فريق منهم فيهم أبو سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وعبدالله الزبعري بنظم القصائد والنيل من النبي (صلى الله عليه وآله) وفي المقابل قام فريق من الشعراء المسلمين بالرد عليهم.

ثم سارعوا أيضاً بالضغط على أصهار النبي (صلى الله عليه وآله) عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب لتطليق زوجاتهم وهن أم كلثوم ورقية وزينب تنكيلاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) فعدن بنات محمد (صلى الله عليه وآله) إلى بيت الأب وهن يلعن ذلك المجتمع القاسي الذي حرمهن من أزواجهن، ولم يك سهلاً على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يشاهد بناته وهن مطلقات تركهن أزواجهن بسببه.. لكن ما الذي يستطيع أن يفعله إذا كان المجتمع الجاهلي قاسياً بتلك الدرجة. لكن ما كان بمقدور هذا العمل الدنيء أن يضعف من عضده ويوهن من عزيمته على مواصلة الدعوة حتى شوطها الأخير.

لم تكتف قريش بهذا القدر من التنكيل فقد أوعزت إلى الحاقدين من أبنائها بالاستخفاف بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعلى رأسهم أبي لهب وزوجته أم جميل فكانا من أشد المشركين عليه. كان أبو لهب يطرح القذرة والنتن على باب النبي (صلى الله عليه وآله) إذ كان بيته بجوار بيته.

وممن استخدم سلاح الحرب النفسية ضد النبي (صلى الله عليه وآله) الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي (صلى الله عليه وآله) وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه:

هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى.

وكان يقف قبال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقول بطريقة ساخرة.

أما كلمت اليوم من السماء يا محمد.

ومن أعضاء فريق الحرب النفسية الحارث بن قيس بن عدي السهمي وكان يقول: قد غر محمد أصحابه ووعدهم ان يحيوا بعد الموت، وكان الحارث يأخذ حجراً فيعبده فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، حتى نزلت فيه.

 {أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ}.

ومن أعضاء هذا الفريق الوليد بن المغيرة وهو الذي جمع قريشاً وقال إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد فتختلف أقوالكم فيه فيقول هذا ساحر ويقول هذا كاهن ويقول هذا شاعر ويقول هذا مجنون وليس يشبه واحداً مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه ساحر لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته.

ومنهم أبي بن خلف ومن نشاطاته في الحرب النفسية أنه أخذ عظم فخذ بال ففتته في يده وقال للنبي (صلى الله عليه وآله) وهو في جمع من أصحابه:

زعمت ان ربك يحي هذا العظم فنزلت..

 {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.

ومنهم العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص وهو الذي كان يشيع على النبي (صلى الله عليه وآله) إن محمداً أبتر ولا يعيش له ولد ذكر وذلك بعد أن مات القاسم فنزلت في حقه.

 {إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}.

ومنهم أيضاً النضر بن الحارث بن علقمة الذي كان يعقد الحلقات بجوار اجتماعات النبي (صلى الله عليه وآله) ويتحدث عن قصص الفرس والروم لجذب الأنظار إليه وكان يشيع بين الناس إن ما يأتي به النبي (صلى الله عليه وآله) ما هو إلا أساطير الأولين.

ومن أعضاء هذا الفريق نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان فكانا يلقيان النبي فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك! إن ها هنا من هو أحسن منك وايسر. ومنهم عقبة بن أبي معيط فكان يأخذ العذرة ويضعها على باب بيت النبي (ص) ومنهم الأسود بن المطلب وكان يتغامز بالنبي (صلى الله عليه وآله) ومعه أصحابه فيقول جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر فيصفر أصحابه ويصفقون.

ــــــــــــ

الهامش

1)- ذكر هذا الطبري في تاريخه: ج2 ص 63. ومختصر تاريخ أبي الفداء: ج2 ص 14. وشواهد التنزيل: ج1 ص 372 الكامل لابن الأثير: ج2 ص 62-63 السيرة الحلبية: ج1 ص 286. ومسند أحمد: ج1 ص 159. وكثير من كتب التاريخ.

2)- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص 27.

3)- الكامل: ج 2 ص 63.

4)- الحسني : سيرة المصطفى: ص 149.

5)- سورة الأعراف، الآية: 188.