mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 042.doc

الحضارة الإسلامية

أدى انتصار حركة الرسول (صلى الله عليه وآله) على الظلم والانحراف والتخلف والجهل إلى انبثاق الحضارة الإسلامية التي تولدت من رحم الأحداث ومن قلب الصراع المرير الذي خاضته جحافل الإيمان ضد الشرك والتخلف، فهي  النتاج الطبيعي الذي اسفرت عنه حركة الرسول (صلى الله عليه وآله) من يوم بدأت تصدع بالحق في مكة حتى آخر يوم من حياته صلوات الله عليه وآله وسلم، فقد بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمره في بناء صرح الحضارة الإسلامية لبنة لبنة حتى تكامل البناء في السنة العاشرة للهجرة، فكان الثمرة التي قدمها الرسول (صلى الله عليه وآله) للإنسانية ليس في ذلك الزمان وحسب بل في كل زمان ومكان حتى أصبح المسلمون اليوم يقتاتون على الإرث الكبير الذي تركته الحضارة الإسلامية لهم وليس المسلمين وحسب بل أصبح العالم كله مديناً للحضارة الإسلامية فقد أضاءت الطريق أمام كل إنسان فأينما توقدت شعلتها كان التقدم.

ففي العصور الوسطى كان الظلام ينشر بأجنحته على أوروبا كلها وما كان بقدرتها النهوض إلا بقبس من نور الحضارة الإسلامية وهي حقيقة يقرها الجميع ولا مجال لنكرانها فقد أقر بها تونبي وبرناردشو وكثير من مفكري الغرب.

وإذا ما تتبعنا المسيرة الإسلامية منذ انطلاقتها الأولى لوجدنا أن سراً عظيماً كان يكمن في خطوات الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد كانت هذه الخطوات تجري بحساب دقيق كانت تتلاحق حلقاتها لتستقر عند بناء صرح الحضارة الإسلامية.

فكل كلمة قالها وكل عمل قام به وكل صمت أو توقف أو تحرك كان من شأنه أن يضيف شيئاً إلى هذا البناء ليعلو في السنة العاشرة من الهجرة وكان كل شيء في حياة الحركة الرسالية مبرمجاً ليصل المسلمون إلى هذه النتيجة.

وهنا تكمن قوة العمل الذي قام به النبي (صلى الله عليه وآله) فقد ظل يسقي الشجرة حتى أينعت ثمارها ثم طلب من العالم أن يأتوا ليتنعموا بحلاوتها وعذوبتها.

فكل شيء كان وسيلة والهدف هو أن تنضج الثمرة لتعطي أكلها لكل إنسان في هذا الكون.

فالحضارة الإسلامية هي نقطة الهدف التي توجت بها مسيرة الإسلام وحتى الدولة الإسلامية لم تكن إلا أداة لتحقيق العدالة والحرية والمساواة ولنشر الفضيلة والقيم فهي وسيلة والحضارة هي الهدف إذ لم يكن هم النبي (صلى الله عليه وآله) هو إقامة دولة وكسب السلطة والزعامة بل الهدف هو بناء حضارة عن طريق هذه الدولة، فلقد وجدناه يتنازل عن مصالح الدولة من أجل تركيز قيم الحضارة لي عرض في تصفيته لأنه لم يكن يريد أن يقتل إنساناً يقول لا إله إلا الله فهو بذلك يريد تثبيت مبدأ.

واولئك بنو عامر أجابوا النبي (صلى الله عليه وآله) حين دعاهم إلى الإسلام أن يكون لهم الأمر من بعده فرفض النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم كان أحوج ما يكون إلى نصير واحد فكيف بعشيرة تنصره، فقد يأخذ البعض والعياذ بالله على النبي (صلى الله عليه وآله) تهاونه السياسي في مثل هذه الحالات إذ كان من المصلحة أن يوافق على طلب هذه العشيرة وتلك لكي يقوى ساعده.

لكن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يريد أن يبني صرحاً مهلهلاً بل كان يريد أن يبني صرحاً قوياً ثابتاً راسخاً من هنا اختار طريق القيم وضحى بالمصالح السياسية الوقتية.

وأمر آخر ليس هناك تضارب نجده بين مصالح تحرك النبي (صلى الله عليه وآله) وأهدافه الحضارية فمصلحة الدولة هي مصلحة الحضارة أيضا.. لكن إن بدى تناقض بين المصلحتين فإنها تبدو لمن ينظر إلى القضايا من زاوية وقتية ولا ينظر إليها آخرون من الكتاب مشكلتهم أنهم ينظرون إلى سياسة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال ما يعايشونه من سياسة راهنة فندما نعرض حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ومسيرته الشريفة عبر منظار السياسة الراهنة فإن الكثير من المواقف السلمية تبدو وكأنها مواقف خاطئة أو العكس.

فكان علينا أن نجرد أعيننا من أية نظرة مسبقة وندرس حركة الرسول (صلى الله عليه وآله) كما هي وكما أرادها الرسول نفسه، وكما رسم خطوطها العامة القرآن الكريم.

عند ذلك فقط نستطيع أن نّقيم العمل الجبار الذي قام به النبي (صلى الله عليه وآله) في ردح من الزمن لا يتجاوز ثلاث وعشرون سنة.

فخلال هذه الفترة حظى النبي (صلى الله عليه وآله) خطوات متدرجة نحو بناء حضارة إنسانية رسالية تسعد فيها البشرية ويجد فيها الإنسان إنسانيته وخلال العامين الأخيرين من عمره الشريف أخذ يضع اللمسات الأخيرة للإطار العام لهذه الحضارة، فبعد أن حقق الانتصار على الأعداء وصفت جزيرة العرب خالصة للإسلام والمسلمين كان على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعلن نهاية الشرك وانقشاع تلك السحابة المظلمة.

فكان أن أرسل علي بن أبي طالب (عليهما السلام) إلى مكة ومعه سورة البراءة وعندما اجتمع الناس بمنى ليؤدوا مناسك الحج وقف الإمام علي ليقرأ هذا البيان الهام الذي تضمنته سورة براءة والتي جاء في مطلعها:

 (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين).

وبعد تلاوة البراءة وقف الإمام علي (عليه السلام) ليقول للناس وفيهم مسلمين وغير مسلمين:

 (أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد فهو إلى مدته).

وكانت تلك آخر سنة حج فيها المشركون على طريقتهم الخاصة ومع سورة البراءة اختتمت مرحلة وبدأت أخرى.

وبالرغم من ضعف المشركين يوم أعلنت البراءة إذ لم يكن لهم كيان سياسي ولم يكونوا مبعث خوف لدى المسلمين.

فما الداعي إلى اتخاذ مثل هذا الموقف؟

لا يمكن أن نحلل قرار البراءة من منظار سياسي أو عسكري أو اجتماعي فقط، فقد كان وراءه دواعي أخرى أهم من تلك الجوانب.

صحيح أن الشرك لم يعد قوة سياسية أو عسكرية ولا حتى قوة اجتماعية إلا أنه كان لا زال قائماً كمبدأ وعقيدة لدى بعض القبائل المتناثرة، فكان لابد من وضع نهاية سريعة حتى لهذا الوجود الضعيف.

فقد تعامل الإسلام مع الشرك كظاهرة غير طبيعية وحالة شاذة فلم يعد هناك أي مبرر لوجودها بعد ثلاث وعشرين عاماً من الموعظة والإرشادات.

فحركة التاريخ تجري نحو الأفضل فلم يعد مكاناً للشرك بعد أن اكتسحته عجلات التاريخ وكان لابد من إزاحة الشرك ليصبح الطريق مفتوحاً أمام التوحيد.

فمجتمع الجزيرة قد تحول برمته إلى الإسلام ولم يبق إلا النزر القليل الذين لا زالوا يمشون في الظلام تائهين عن الطريق، فلم يعد هناك مكان لهؤلاء في مجتمع يسوده النور والوعي فكان لابد من إعطاء فرصة لهؤلاء حتى يتمكنوا أن يكيفوا أنفسهم مع الوضع الجديد، إذ لم يعد بالإمكان تحمل الجهل والتخلف في وسط مجتمع متحرك نحو التقدم يستعد للانتقال إلى مرحلة أكثر دقة ومسؤولية وهي نقل الرسالة الإسلامية إلى الشعوب الأخرى خارج جزيرة العرب.

والفرصة التي منحت لهؤلاء الذين لم ينصتوا بعد لصوت الحق هي أربعة أشهر وهي كافية لإعادة التفكير واتخاذ القرار المناسب وبعدها لا حق لهم بالبقاء في مجتمع نظيف قائم على القيم وعلى العقل والمنطق وليس الخرافة والجهل.

ويشمل هذا القرار المجموعات التالية:

1- الذين لا عهد لهم مع المسلمين.

2- الذين عاهدوا ونقضوا عهدهم.

3- الذين لا يستبعد منهم نقض العهد.

4- الذين عاهدوا النبي (صلى الله عليه وآله) لكن لم يحددوا مدة العهد، فيسمح حينذاك لأحد الطرفين تحديد المدة وهي أربعة أشهر كما حددها المسلمون.

ويستثنى من هذا القرار الذين عاهدوا النبي (صلى الله عليه وآله) وظلوا أوفياء على عهدهم ولم ينقضوها وهم قلة من بني كنانة وبني ضمرة.

ويستثنى من القرار أيضاً أهل الكتاب الذين تعاقدوا مع النبي (صلى الله عليه وآله) فيظلوا على عقائدهم وتقوم الدولة بحمايتهم على أنهم مواطنون وعليهم أن يدفعوا الجزية في مقابل ما تقدمه الدولة من خدمات.

فهناك عقيدة فاسدة لابد من محوها وهناك عقيدة يحترمها الإسلام ويتعامل مع معتنقيها برفق والشرك هو أقصى درجات الحضيض، فالإيمان بالخرافة والتعصب العمى ووأد البنات وإشاعة الربا والاحتكار والاعتماد على نظام الرق هي من خصائص الشرك، فكان لابد من تصفية كل هذه السخافات التي تحد من حركة الإنسان والمجتمع وترك المجتمع لينطلق إلى مجالات التقدم.

من هذا المنظار الحضاري تعامل الإسلام مع الشرك فوجوده يحد من حركة المجتمع نحو البناء، فكان لابد من إزالته وقطع صلة المجتمع به نهائياً.

أما اللمسات الأخرى التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد جاءت في خطبته المشهورة بخطبة حجة الوداع والتي ذّكر فيها المسلمين بالقيم والأهداف التي جاء من أجلها الإسلام، ذكرهم بالوحدة والأخوة التي بها انتصر المسلمون على أعدائهم، ذكرهم بحرمة دماءهم وأموالهم وأداء الأمانة وذكرهم بحرمة الربا والظلم والتعدي على الآخر

 

  •  سمات الحضارة الإسلامية:

الحضارة التي جاء بها الإسلام تختلف عن كل الحضارات التي سبقتها بقوتها وسرعة تدفقها ومستوى تفاعلها مع قضايا الإنسان والمجتمع وقد امتازت على الحضارات الأخرى بما يلي:

1- إنها حضارة التوحيد تقوم على الإيمان العميق بوجود خالق لهذا الكون وأنه قادر على كل شيء وأنه خلق الإنسان ليعبده.

والتوحيد هو القاعدة القوية التي انطلقت منها الحضارة الإسلامية أيضاً فهي وضعت الإنسان أمام مسؤولية كبيرة وأوجدت علاقة فاعلة بين الإيمان والسلوك بين العقل والقلب فأصبح الإيمان غير منفصل عن الحياة على خلاف ما كان قائماً في العالم المسيحي من فصل بين أعمال القلب وأعمال الإنسان الأخرى والذي أدى إلى فصل الكنيسة عن الدولة.

على عكس ذلك أوجد الإيمان بالوحدانية الإلهية خط الارتباط القوي بين أجزاء الانسان وأجزاء الحياة فأصبح الكون والإنسان والمجتمع وكل شيء في الحياة يسير نحو مركز واحد هو التوحيد.

فكان التوحيد منبع للإرادة ومنبع لطاقات الإنسان وعلى هذه قامت الحضارة الإسلامية.

وعندما نقول أن الحضارة الإسلامية حضارة توحيدية يعني بذلك انسجامها مع الحياة والكون وقدرتها على بناء الإنسان والاستفادة من طاقاته لبناء الحياة.

فقد قامت الرسالة الإسلامية من أجل إعادة بناء الإنسان وصياغته صيغة جديدة على مبدأ التوحيد ونتج عن هذه الحركة التغيرية الحضارة الإسلامية، فعلاقة الحضارة بالتوحيد هي علاقة السبب بالنتيجة.

2- إنها حضارة للبشرية كلها لأنها لا تؤمن بالقبيلة ولا بالحدود ولا تفضل أمة على أمة فالجميع سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، فهي حضارة تستوعب كل البشر وتستثير كل الطاقات لبناء عالم أفضل.

ولهذا لاحظنا سرعة انتشار الإسلام بين الأمم وسرعة قيام الحضارة الإسلامية في كل البلاد الإسلامية على رغم الفوارق والحواجز.

ولو درسنا تاريخ الشعوب غير العربية التي أسلمت كشعب فارس لوجدنا كم كان للرسالة الإسلامية من تأثير في استنفار طاقات هذه الشعوب وصبها في مصب الحضارة فلو لم يكن الإسلام قد حطم كل الحواجز لما كان باستطاعته أن يصنع حضارة في بلاد فارس ما بين النهرين أو بلاد النيل، فبفضل عالمية الرسالة أصبح للحضارة الإسلامية وهد أقوى وتألق أشد لأنها أشركت كل الشعوب في عملية البناء.

3- الحضارة الإسلامية حضارة تغييرية فهي لا تتوافق مع تغير المظهر والشكل بل تعمل على تغيير الوضع القائم من جذوره واستبداله بوضع أفضل، وينتج عن هذا التحول الجذري من واقع رديء إلى واقع أفضل قيم ومثل وأفكار واستعدادات تساهم بدورها في ترسيخ الحضارة وزيادة إشعاعها.

وهي تتجانس مع المجتمع الذي تعمل على تغيير واقعه، فإذا توقف المجتمع عن التغيير فإن وهج الحضارة سيخبو ويتحول إلى قشور لا تحمل الروح مثلما حدث للحضارة الإسلامية في فترة الركود والخمول فطفح هذا الخمول حتى لامس الحارة أيضاً فغدت جسداً ميتاً لم يبق منه سوى الأشلاء.

ونجم خمول الحضارة بسبب الركود الذي شهدته حركة التغيير، فالتغيير هو روح الحضارة وقد جاء في القرآن الكريم:

 (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

4- الحضارة الإسلامية حضارة شاملة فهي لا تقتصر على الجانب الروحي وتترك الجانب المادي وهي تهتم بالآخر كاهتمامها بالدنيا، فهي تستوعب حياة الإنسان بكل أبعادها وتسوعب نشاطه بكافة ألوانها، فهي تبني للإنسان اقتصاداً متيناً وتقيم له نظاماً اجتماعياً وسياسياً بنفس الدرجة التي ترسخ فيه القيم والمثل وتبنيه بناءاً عقلياً وروحياً ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع.

فهي ليست كحضارة اليونان التي اهتمت بعقل الإنسان فقط وليست كالحضارة الغربية التي أشبعت حاجات الإنسان المادية فقط، بل هي حضارة شاملة شمول الرسالة وشمول القرآن الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وهي تدفع بالإنسان إلى العلم كما تدفعه إلى الخلق وكما تدفعه إلى عمل الخير، فهي لا تؤمن بالعلم المجرد من الخلق أو الخلق البعيد عن العلم، فكما أن هناك ترابط بين مكونات الإنسان فإن هناك أيضاً ترابط بين العناصر المكونة للحضارة، فلا يمكننا أن نفصل التقدم العلمي عن التقدم الخلقي وبالعكس كما لا يمكن أن تقوم حضارة إسلامية على طلب العلم وازدهار الحركة العلمية فقط في غياب التقدم في المجالات الأخرى، فعندما يتقدم الإنسان إلى الأمام يتقدم بكل كيانه وبكل ممارساته في الحياة والرسالة هي التي تتحمل مسؤولية إحداث هذا التحول بالتربية وبالتعليم، يقول الله سبحانه وتعالى:

 (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).

فالتزكية هي مفتاح تغيير البشر وهي مفتاح التقدم والرقي وهي الطريق إلى بناء حضارة تقوية على قواعد راسخة.