mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 036.doc

3- المواجهة العسكرية:

وبلغت أزمة العلاقة بين اليهود والمسلمين إلى حد المواجهة المباشرة فبينما كانت امرأة مسلمة تتجوّل في سوق بني قينقاع ومعها بضاعة تريد بيعها لدى الصاغة عَمَدَ بعض اليهود إلى الاستهزاء بها والتحرش بها طالبين منها الكشف عن وجهها فأبت وتجمع اليهود حولها وكل واحد يكيل اليها ويسخر منها ويضحك فصاحت المرأة فسمعها رجل مسلم فوثب للصائغ اليهودي فقتله شر قتلة فرد اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهلُ المسلم أتباعهم. فلم يقف النبي (صلى الله عليه وآله) مكتوف الايدي حيال هذا التحدي الصارخ فقرر فرض الحصار على حصونهم الواقعة داخل المدينة لأنهم نكثوا العهد ولم يعد لهم الحق في البقاء خصوصاً وأنهم كانوا يعيشون بين المسلمين فكان شرهم أقوى وأشد واستمر حصار النبي (صلى الله عليه وآله) لهم خمسة عشر يوماً حتى قبلوا الخضوع لحكم النبي (صلى الله عليه وآله) الذي قضى عليهم بالجلاء من يثرب إلى أيّ مكان آخر. فمنذ ذلك الوقت أصبح الرسول (صلى الله عليه وآله) جاداً في مواجهة تحدياتهم ومؤامرتهم فأرسل فريقاً فدائياً لتصفية كعب بن الأشرف الذي حرض قريش وحشدهم لقتال المسلمين في أحد وكان يقول الشعر ضد المسلمين ويشبب بنساء المسلمين كأم الفضل بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب وهي من النساء الأوائل اللاتي آمن بالرسول (صلى الله عليه وآله) ثم يرسل فريقاً آخر للقضاء على سلام بن أبي الحقيق وهو من زعماء بني النضير ولعب دوراً خطيراً في تحشيد الأحزاب ضد المسلمين.

وعلى أثر محاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها بنو النضير ضد الرسول (صلى الله عليه وآله) أثناء مجيئه إلى حصنهم أمر رسول الله أصحابه بأن يتقدموا نحو معاقل هذه القبيلة، وفَرَضَ حصاراً على حصونهم وأصبح يضيّق الحصار عليهم حتى دبّ الذعر والخوف في نفوسهم فوجدوا إن من الأفضل لهم أن يختاروا الطريق الذي اختاره بنو قينقاع بالجلاء عن أماكنهم حقناً لدمائهم وطلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يسمح لهم بحمل ما تقدر عليه ابلهم فيما عدا السلاح فأذن لهم فخرجوا من المدينة باتجاه الشمال فاستقروا في خيبر. ولم يفلت عمرو بن جحاش من العقاب الرادع لمحاولته قتل النبي (صلى الله عليه وآله) فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) من يتعهد بقتله كي يصبح عبرة للآخرين. وهكذا تخلص المسلمون من تجمع آخر من تجمعات اليهود التي كان وجودها في المدينة يشكل خطراً على المسلمين وبالرغم من تعاقب حصار بني النضير بعد محاولة الاغتيال الأثيمة ضد حياة النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن دواعي هذا القرار يتسع لأكثر من هذه الحادثة على رغم خطورتها فقد كان وجود هؤلاء مضر بحركة المسلمين نحو التطور وكسب وضع أفضل. فهم عقبة في طريق تقدم المسلمين بالاضافة إلى أعمالهم المشينة التي قال عنها القرآن الكريم: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله).

وواصل زعماء بني النضير تآمرهم على الدولة الإسلامية متخذين من خيبر مكاناً مناسباً للتحرك السياسي فقد شكلوا حلفاً وسيعاً من القبائل العربية غطفان وقريش وجمعوا قوة عسكرية هائلة جاءت إلى محاصرة المدينة فكانت أصعب تحدي يواجهه النبي (صلى الله عليه وآله) طيلة صراعه المرير كل ذلك من تدبير زعماء بني النضير الذين لم يكتفوا بالقوة التي جلبوها لمحاصرة المدينة بل رأوا من الأفضل أيضاً أن تتحرك المجموعة اليهودية المتبقية في المدينة وهي بني قريظة ليوجهوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ضربة قاضية يشترك فيها الداخل والخارج.

ولم يكن هيناً على حيّ بن أخطب اقناع كعب بن اسد زعيم بني قريظة بالغاء المعاهدة المبرمة بينه وبين المسلمين فقد كان مصير بني قينقاع وبني النضير عبرة لا يمكن أن ينساه. لكن اقتضاء الخطة مشاركة بني قريظة في المعركة أجبرته أن يصّر على طلبه مستخدماً المراوغة والخداع مؤملاً كعب بأن القوة التي تحاصر المدينة لا تبرح حتى تستأصل محمداً ومن معه، فلا داعي للخوف إذا كان كل شيء سينتهي لصالحهم وأن المسلمين سيقضى عليهم.

فوافق كعب بن أسد أن يشترك في المعركة وأن يشنّ هجوماً في الليل على دور المسلمين لخلق البلبلة في صفوف مقاتليهم واشترط على تنفيذ ذلك الاستعانة بألفي مقاتل.

ولم يكن هيناً على المسلمين أن يسمعوا أنباء خيانة بني قريظة فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) سعد بن معاذ زعيم أوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج من أجل تغيير موقفهم لكنهم استقبلوا وفد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشتم والسب. فسلّم النبي (صلى الله عليه وآله) أمره إلى الله وأخذ الحيطة داخل المدينة للرد على أية محاولة للخرق يقوم بها الاعداء الداخليين.

وأنقذ الله نبيه وعباده المؤمنين من الموقف الحرج بالريح التي شتت جمع المحاصرين وجعلتهم يفرون من مواقعهم. فلم يبق أمام النبي (صلى الله عليه وآله) سوى أن يقرر مصير بني قريظة فجمع أصحابه بعد فرار الاحزاب ليقول لهم

 (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة) (1).

وبفضل سرعته في اتخاذ القرار والتعجيل بالهجوم تم احباط أية محاولة لوصول الامدادات إلى بني قريظة. فقد تفاجأوا بالمسلمين وهم يحاصرون حصونهم إذ لم يكن يتوقعون ذلك بهذه السرعة واستمر الحصار لخمس وعشرين يوماً ضاق فيه اليهود ذرعاً فقرروا التسليم بعد أن لم يجدوا حلاً آخر وتركوا مصيرهم لمن يختاره النبي (صلى الله عليه وآله) فاختار سعد بن معاذ زعيم أوس وكان بين قبيلة أوس وبني قريظة عهد وميثاق وحلف قبل الاسلام وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد احترم المواثيق المبرمة في عهد الجاهلية واستفاد منها في بعض الموارد.

وجيء بسعد بن معاذ وكان مستلقياً على سرير من جُرح أصابه في المعركة فالتف حوله اليهود وهم يقولون يا أبي عمرو أحسن في مواليك فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) انما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما الحوا عليه قال لهم:

لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومة لائم، ثم أصدر حكمه بقتل الرجال المحاربين وتقسيم الأموال وسبي النساء فما كان من النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أن قال له: (لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله) (2).وكان لدى النبي (صلى الله عليه وآله) المبرر الكافي لتنفيذ هذا الحكم فقد كانت جريمة بني قريظة أكبر من جريمة بني النضير وبني قينقاع وكان لا بد لليهود أن يأخذوا درساً لن ينسوه بعد اليوم. فقد وجد النبي (صلى الله عليه وآله) أن الرحمة ببني النضير لم تزدهم إلا ايغالاً في الجريمة. فزعماء هذه القبيلة الذين عفى عنهم النبي (صلى الله عليه وآله) هم الذين جيشوا الجيوش وجاؤوا بها لمحاصرة المدينة فكان لا بد أن لا تأخذه الرأفة بهم بعد اليوم لأنهم سيعودوا إلى الخيانة لأن التآمر يجري في عروقهم فكان قرار القتل هو القرار الصائب والمطابق لقانون الحروب والمطابق للوضع السياسي الذي كان يعيشه المسلمون. فالذي ارتكبه بنو قريظة كان أشد من القتال وتكفي جريمة الخيانة وحدها بأن يصدر عليهم قرار الموت فكيف وانهم حملوا السلاح بوجه المسلمين في الليل البهيم.

ولم يبق أمام المسلمين إلا القضاء على الوكر الاخير لليهود في خيبر حيث كانوا يستفيدون من موقعه في حياكة المؤامرات فكل مؤامرة انطلقت من خيبر إذ أصبحت ملجأً لليهود الهاربين من العدالة فكان لا بد من القضاء على هذا الوكر قبل أن يستشري امره ويتفاقم شره سيما وأن أنباءاً وصلت إلى المدينة تشير إلى وجود تحرك جديد يقوم به سلام بن مشكم زعيم خيبر لاعادة بناء القوة اليهودية ثم الهجوم على المسلمين. وعلى رغم معارضة بعض الزعماء لهذه الفكرة إلا انها لقيت تأييداً واسعاً من قبل اليهود شجعت سلام بن مشكم على المضي في تنفيذ الخطة وقامت جهود لتعبئة اليهود فقد ارتأى سلام أن لا يستعينوا بالعرب بل يكتفوا في تشكيل القوة على اليهود فقط، وقال واصفاً خطته: نسير إلى محمد بما معنا من يهود خيبر فلهم عدد ونستجلب يهود تيماء وفدك ووادي القرى ثم نسير اليه في عقر داره.

وبلغت أخبارهم النبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان في وقته يتوجّه إلى مكة عاقداً مع قريش صلح الحديبية الذي منح النبي (صلى الله عليه وآله) فرصة ذهبية للانقضاض على يهود خيبر فتحرك المسلمون وكان عددهم ألف وأربعمائة و200فارس وأول ما قاموا به هو السيطرة على طريق خيبر غطفان لمنع وصول الأمدادات من غطفان وأوهم اليهود بأنه يريد الهجوم على غطفان لكنه عدل في طريقه فباغت يهود خيبر فجرا في وقت كانوا فيه مشغولين بالزراعه. ووضع الرسول (صلى الله عليه وآله) خطة حربية دقيقة للسيطرة على الحصون الكثيرة والمنقسمة إلى ثلاث مناطق النطاة والشق والكتيبة وكان عدد المدافعين عن هذه الحصون زهاء عشرة آلاف مقاتل. فكان ميزان القوة لصالح اليهود وهذا ما جعل البعض يعتقد بأن الدائرة ستدور هذه المرة على المسلمين لكن بالخطة العسكرية الحكيمة التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله) على أساسها قسم الحصون إلى صغيرة وكبيرة فكان بعض المجاهدين يشاغلون القوات المعادية بينما كانت القوة الرئيسية تتركز حول الحصون الكبيرة.

كما انه قسم قواته إلى أقسام على أساس القبائل وبطونها، وجعل لكل قسم قائداً حتى يشتد التنافس بين القوات فأخذت الحصون تسقط واحدة بعد أخرى ولم يبق إلا حصن واحد منيع وقد سقط على يدّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي أبدى شجاعة فائقة في ذلك اليوم قتل مرحب احد ابطال اليهود فأدخل الرعب في قلوبهم فاضطروا لمصالحة النبي (صلى الله عليه وآله) على حقن دمائهم في قبال دفعهم للمسلمين نصف حاصلاتهم فوافق النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك، واشترط عليهم إن شاء اخراجهم فعليهم الخروج وذلك لكي يأمن شرهم بهذا الشرط.

وتتجلى حكمة النبي (صلى الله عليه وآله) في الابقاء عليهم في أراضيهم انها كانت واسعة ومزروعة بكاملها وأن العمل عليها بحاجة إلى عدد كبير من المزارعين المهرة ولم يكن لدى المسلمين المقدرة على توفير العدد اللازم والقدرة على استثمار كل تلك الأراضي فقد كان يهود خيبر أكفأ في الزراعة من الأنصار. كما وأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يستفيد من القوة البشرية في الأعمال الحربية ولم تكن أمام المسلمين يومذاك فرصة للقيام بأعمال واسعة وطويلة المدى كزراعة أراضي خيبر فلم يكن أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن يقبل ببقاء اليهود على أراضيهم في مقابل نصف ثمر الأراضي فالرابح في هذه بالطبع كان المسلمون.

وبعد خيبر لم يعد النبي (صلى الله عليه وآله) يخشى اليهود فقد أخذ يتعامل معهم بصورة أخرى فقد اعتبرهم مواطنين للدولة الإسلامية يدافع عنهم كما يدافع عن المسلم. إذ بفقد اليهود لآخر مركز لهم في خيبر لم يعودوا قوة سياسية في جزيرة العرب.

ويستطيع المراقب لتطور العلاقة بين اليهود والمسلمين أن يلاحظ نقطة هامة جديرة بالإلتفات وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد تعرض لحياة بعض اليهود في صراعه المسلح وتعرض بعض اليهود للأسر وتعرضن نسائهم للسبي وممتلكاتهم للمصادرة لكنه لم يتعرض أبداً وطيلة فترة صراعه معهم إلى مقدساتهم.

كان مما غنمه المسلمون في خيبر صحائف متعددة من التوراة فجاء اليهود يطلبونها فأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بتسلميها اليهم كما وأوصى عامله معاذ بن جبل (بالا يفتن اليهود عن يهوديتهم) واليهود الذين دفعوا الجزية كيهود البحرين لم يجبرهم أحد على ترك دينهم بل ظلوا متمسكين باليهودية ويستنتج من ذلك أن صراع النبي (صلى الله عليه وآله) مع اليهود لم يكن من أجل معتقداتهم أو من أجل تغيير عقيدتهم إلى الاسلام بل كان سبب هذا الصراع هو العداء المستحكم الذي قابلوا به النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين دون مبرر وأعمالهم المنافية للقانون وللاتفاقيات المبرمة بين الطرفين. فكان كل الذي عمله الرسول (صلى الله عليه وآله) هو انه ردّ على أعمالهم الشنيعة وهو في نفس الوقت الذي كان يخوض صراعاً مريراً مع ألدّ اعدائه كان يضمن لهم حرية المعتقد ويحافظ على كتابهم المقدس بخلاف ما يحدث عادة في الغزوات وحتى بخلاف ما فعله اليهود بالنصارى. وهذا يكشف لنا جانباً من طبيعة الصراع الذي كان يخوضه المسلمون مع اليهود.

 

العلاقة مع النصارى

كان النصارى أكثر وداً مع النبي (صلى الله عليه وآله) من غيرهم فهم أول من استقبل رسالته بالترحيب البالغ بعد أهل بيته فكان ورقة بن نوفل ابن عم خديجة وهو نصراني قد قرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وهو من شدّ على يد النبي (صلى الله عليه وآله) وقوّى من عزيمته في تبليغ الرسالة.

وقد تلقى المسيحيون أنباء الدين الجديد بصدر رحب وشعروا بالقوة لأنهم كانوا أقلية مضطهدة في جزيرة العرب. فأرسل أهل نجران وفداً من عشرين رجلاً من أهل الرأي والعلم فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في مكة فكان اللقاء في الحرم فسألوه عن الاسلام فحدثهم عنه وتلا عليهم بعض آيات القرآن. ففاضت أعينهم من الدمع خشوعاً فاستجابوا لله وكانت قريش تراقب هذا الاجتماع وقام الوفد من مكانه اعترضهم أبي جهل ومعه قادة قريش فقالوا لهم:

خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخير الرجل، فلم يطمئن مجلسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم.

فرّد أعضاء الوفد مبتدئين بتحية الاسلام:

سلام عليكم.. لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا (3).

وفي عين الحال كانت الآيات تترى وهي تحكي للمسلمين قصة عيسى (عليه السلام) مع اليهود وما عاناه المؤمنون من ألوان العذاب وجاء القرآن على ذكر أصحاب الأخدود وهم مسيحيون مؤمنون قتلوا حرقا فقد مجدّ القرآن ذكرهم وثمّن صمودهم وعَرَضَهم للمسلمين كأبطال صمدوا أمام العذاب واستقاموا على مبدئهم.

ضحايا الأخدود لم يكونوا سوى نصارى نجران الذين قتلوا على أيدي (ذو نواس) بتحريض من يهود اليمن وظل أهل نجران يستعيدون تلك الحادثة الأليمة التي لقي عشرون ألفاً من الرجال والنساء مصرعهم حرقاً حتى زمن البعثة وكان لتكريم القرآن الكريم لهم في سورة البروج أثر كبير على نفوس أولئك المضطهدين من نصارى نجران.

ولا ريب كل هذه الأحداث كانت تؤشر للنبي (صلى الله عليه وآله) بأن النصارى سيقفون إلى جانبه في صراعه المرير مع الوثنية فعمل على ايجاد خط ارتباط مع هؤلاء النصارى. ففكر بأن يرسل عدداً من المسلمين إلى الحبشة لتبليغ الرسالة وللتخلص من أذى قريش. وبعد أن جمع الوفد المقرر ارساله إلى الحبشة وقف فيهم (صلى الله عليه وآله) قائلاً... (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه). وحدث أن وصلت المسلمين انباء عن انتصار الفرس على الروم فاغتموا كثيراً لكن نزلت آيات من القرآن الكريم تشير إلى هزيمة الفرس أمام جيش روما في القريب العاجل فهّدأ من خواطر المسلمين هذا التنبؤ.

وكانت علاقة النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصارى على ما يرام في الفترة التي مكث فيها في مكة وعند قدومه إلى المدينة أعاد اتصاله بنصارى نجران فأرسل اليهم برسالة يطلب منهم مؤازرته والايمان به وسارع النصارى بارسال 60 عالماً من علمائهم وعندما وصلوا المدينة وجدوا حواراً على أشده قائم بين المسلمين واليهود فأرادوا أن يشتركوا في النقاش أيضاً فأخذوا يسألون النبي (صلى الله عليه وآله) أسئلة تأريخية وعقائدية وغيبية من أجل التأكد من نبوته فأجابهم النبي (صلى الله عليه وآله) عن كل ما سألوه عن عيسى بن مريم فقال لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. ثم ذكر لهم النبي (صلى الله عليه وآله) بعض الوقائع في حياة عيسى (عليه السلام) لكن بعض أعضاء الوفد ظل مصراً على النقاش بقصد الفرار من الحقيقة الصارخة فلم يكن بداً من ايقاف النقاش إلا باسلوب المباهلة الذي اشار اليه القرآن الكريم إلا أن الوفد لم يجد ضرورة للمباهلة فهم واثقون من صحة ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) وخشوا من نتائج المباهلة لأنها ستنقلب عليهم فقبل اجراء المباهلة انسحب الوفد من الميدان راضياً بالجزية. ثم كتب كتاباً يرسم العلاقة بين المسلمين ونصارى نجران والكتاب هو..

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم. وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليهم دية ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ولا يأخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم.

كما وكتب أيضاً إلى أبي الحارث بن علقمة أسقف نجران كتاباً يتضمن هذا المعنى.

وفي هذه الوثيقة يتعهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنصارى نجران توفير الحماية وضمان حرية العبادة والتأكيد على استقلالية المنطقة وانها ستكون منزوعة السلاح كما لا يحق لهم أخذ العُشر.

ويظهر من هذه اللهجة أن المسلمين كانوا ينظرون إلى النصارى بنظرة تختلف عن نظرتهم إلى اليهود فكانوا يتعاملون معهم دون وجل أو حذر، وقد نزل القرآن الكريم ليضع أمام المسلمين حقيقة هامة هي:

 (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى) (4) فرسمت هذه الآية آفاقاً وسيعة في العلاقة مع النصارى وفضلهم على غيرهم. فقامت سياسة النبي (صلى الله عليه وآله) على أساس التحرك نحو القبائل المسيحية في شمال جزيرة العرب وفي الجنوب.  

ــــــــــــ

الهامش           

1)- سيرة ابن هشام: ص223.

2)- سيرة ابن هشام: ص228.

3)- سيرة ابن هشام: ج2 ص32.

4)- سورة المائدة، الآية: 82.