mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 09.doc

رابعاً: الدفاع عن الكيان الإسلامي

عمل الإمام علي (عليه السلام) على المحافظة على الروح الجهادية في المجتمع الإسلامي فقد كان الجهاد هو القوة المحركة للمجتمع الإسلامي والذي دفع بهذا المجتمع إلى السمو والرفعة والتطلع إلى مستقبل أفضل لأبنائه.

إن ترك الجهاد سيؤدي حتماً إلى الجمود وإلى التراجع عن الأهداف السامية للرسالة الإسلامية، وأشد ما يخشاه الإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو التوقف عن الجهاد وهذا يعني بداية التراجع في المجتمع الذي أنشأه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان عليه أن يدفع بالقيادة لكي تواصل مسيرة الجهاد حتى لا تتوقف القوة المحركة عن العمل.

وإذا عرفنا أن الحذر أخذ يدبّ في صفوف القادة العسكريين بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأدركنا أهمية الموقف الذي وقفه الإمام علي (عليه السلام)، فعندما أراد الخليفة أبو بكر أن يواصل خطة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزو الروم، أشار علي بضرورة الغزو.

ولم يكتف الإمام بهذا القدر، بل كان من المشاركين في الأعمال العسكرية، بالإضافة إلى حثه لأبنائه واصحابه على المشاركة في الجهاد.

ففي حروب الردة امتدت القلاقل لتشمل مختلف القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورة.

فقد كانت عاصمة الدولة الإسلامية مهددة وسقوطها يعني سقوط الدولة وكان أهم شيء لدى المسلمين هو الحفاظ على العاصمة من السقوط.

وكانت المدينة محاطة بالجبال من أطرافها الثلاثة ويوصل بين الخارج والداخل طرق جبلية تسمى بالأنقاب وهي الثغرات التي من المحتمل أن يستغلها المتآمرون وهم مجموعة فزارة وغطفان تحركوا إلى جنوب طيبة وطيء وأقامت على حدود اراضيهم وأسد بسميراء واجتمعت عبس وثعلبة ومرّه بالأبرق وارسلت القبائل بوفد مشترك التقى بابي بكر ورفض في اللقاء تقديم الصدقة فأنكر عليهم ذلك وأنذرهم الحرب فرجع الوفد فأخبروا القبائل (قلّة من في المدينة) فطمعوا بغزورها.

وهنا تحرك الإمام علي (عليه السلام) بسرعة وأوعز إلى أصحابه طلحة والزبير وابن مسعود إلى سد الثغرات والمرابطة في انقاب المدينة(1) لصد أي هجوم تتعرض إليه المدينة المنورة. فرابط هو و أصحابه على الانقاب وبعد ثلاثة أيام وقع الهجوم ليلاً فتصدى لهم المرابطون في الثغور فمنعوهم من دخول المدينة إلا أن وجودهم بالقرب من المدينة كان يشكل خطراً دائماً وكان لابدّ من دفعهم وكسر شوكتهم فجهزّ ابو بكر قوة من المسلمين استطاعت أن تطاردهم إلى المناطق البعيدة من المدينة المنورة.

هذا موقف للإمام وهناك مواقف ومواقف.

كان يقدم أولاده وابناء عمومته واصحابه التابعين له للجهاد.

فالحسن والحسين شاركا في غزو طبرستان تحت قيادة سعيد بن العاص(2) وقد حدثت الغزوة في عام 30 للهجرة في عهد الخليفة عثمان.

وقبل ذلك بعشر سنوات في 19 للهجرة شارك الحسن في وقعة نهاوند في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حيث بعث محمد بن مسلمة لقتال الفرس وكان للحسن في هذه المعركة دور هام فقد بادر إلى تصفية الجراح بن سنان الأسدي أحد الملوك المتمردين على الدولة الإسلامية والمتحالفين مع الفرس.

عبد الله بن عباس شارك في غزو طبرستان عام 30 للهجرة مع بقية بني هاشم، وفي السنة 27 للهجرة أرسل الخليفة عثمان إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يطلب منه غزو افريقيا وكان ملكها يوذاك جرجير ويمتد ملكه من طرابلس إلى طنجة وكان يؤازره في الحكم هرقل ملك الروم لأنه كان يدفع إليه الخراج كل سنة.

وحسب الخليفة عثمان حساب القوة العسكري التي ستأتي لدعم جرجير فرأى من الضروري جداً إرسال قوة من المدينة لدعم وتقوية المسلمين الذاهبين إلى حرب جرجير فجهز جيشاً من أهل المدينة، كان فيهم عدد من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان على رأسهم عبد الله بن عباس(3).

هاشم بن عتبة و كان احد القادة العسكريين في الجيش الإسلامي، أمّره أبو عبيدة الجراح على جند العراق، كان له دوراً بارزاً في معركة القادسية.

وبشجاعته في الحرب وحنكته استطاع أن يكسب ثقة القادة العسكريين أمثال سعد بن أبي وقاص حيث كان معه في اغلب حروبه في معركة بُهرسير.

كان لهاشم المرقال موقفا شجاعا حيث تقدم نحو المقرّط وهو أسد كان لكسرى يأخذه الفرس معهم في الحرب فقتله هاشم فأقبل عليه القادة يقبّلون رأسه للشجاعة التي ابداها في تلك المعركة ونصبه سعد قائداً للجيش الذاهب إلى بهرسير. وكان على رأس الجيش الذي زحف نحو جلولاء واشترك في فتح المدن التابعة لفارس. واشتهر هاشم المرقال بحسن اختياره لضباطه وأناطتهم المسؤوليات الهامة في الجيش فمن القادة العسكريين الذين تربوا على يديه كان لهم دوراً بارزاً في معارك فتح فارس والذي شهدت لهم ساحات الجهاد مع العدو القعقاع بن عمرو، زياد بن أبيه، مالك الأشتر.

و مالك الأشتر كان أحد قادة الجيش الذي شارك في فتح حلب وأنطاكية كما وأنه ساهم في فتح دمشق مع هاشم المرقال.

أبو ذر الغفاري، كان في الشام أحد أعمدة الجيش الإسلامي، وعندما غزا معاوية (الصائفة) عام 23 كان أبو ذر أحد المشاركين في هذه الغزوة، وفي سنة 28 للهجرة غزا معاوية قبرس وكان معه أبو ذر إلى جانب جمع من الصحابة والقادة. وإلى جانب هؤلاء الصحابة ساهم كلّ من عبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وصعصعة بن صوحان وأخيه زيد بن صوحان في المعارك الهامة التي خاضها المسلمون مع الكفار.

 

خامساً: المراقبة والمحاسبة

تعرّض المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عوامل الإنجراف عن الجادة فقد كان الدور المتكامل للقيادة الرسالية تحول دون وقوع أي انحراف، فالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصدر التشريع وكان هو المنفذ لأحكام الدين والمراقب على تطبيقها، الأمر الذي يستبعد وقوع المجتمع في انحراف كبير. أما بعد غياب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان احتمال الوقوع في الخطأ والإنحراف مسألة طبيعية، الأمر الذي دفع بالإمام علي (عليه السلام) والمجموعة التي معه إلى مراقبة تطبيق الأمة للشريعة الإسلامية. وكان موقف هؤلاء القادة الهاشميين موقفاً نابعاً من مسؤولية دينية، وقد تصور البعص هذا الموقف على أنه رغبة في السلطة أو تنافس على الحكم.

وعرف عن الإمام عدم مسامحته في قضية الدين حتى مع أقرب الناس إليه. فقصته مع عقيل حين أملق فاضطر لأن يأتي إلى الإمام يطلب منه شيئاً من المال، فلم يعطه الإمام شيئاً وهو دلالة واضحة على صرامة الإمام في الإلتزام بالشريعة الإسلامية، وكان هذا هو موقفه مع الجميع وبلا استثناء، وكانت تلك هي حياته بكل أبعادها وزواياها في كل مكان في البيت وفي المجتمع وفي الحكم.

ومارس الإمام علي (عليه السلام) عملية المراقبة لتطبيق الشريعة بمختلف الوسائل. ففي مجال القضاء كان للإمام أدواراً مهمة في تصحيح الجهاز القضائي. وفي تقسيم الغنائم كان للإمام دور بارز في تطبيق العدالة الاجتماعية. ولم يثر مداخلات الامام في مثل هذه القضايا حساسية معينة لدى رجال الدولة.. الا أن بعضها كانت تتحول إلى قضايا مثيرة. وقد وقعت أمثال هذه المداخلات عدة مرات في فترات مختلفة من حكم الخلفاء الراشدين فكان لابد من ابرازها كنموذج عن مواقف المعارضة البناءة التي كان الإمام في تلك الفترة.

1- حادثة قتل مالك بن نويرة:

زعيم من بني تميم وينتمي إلى أسرة عريقة في الشرف توارثت الحكم أباً عن جد، وقد استعمله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تقديراً لمكانته على صدقات قومة، وعندما بلغه وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واضطراب الأحوال السياسية أمسك بالصدقة وفرقها في قومه وهو يقول:

فقلت خذوا أموالكم غير خائف*****ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالدين المحوق قائـــــم*****أطعنا وقلنا الدين دين محمد(4)

والظاهر من هذين البيتين إن مالك لم يمتنع عن تقديم الصدقات بخلاً ولا طعناً بالحكم الشرعي بل كان له موقفاً من قضية الخلافة واعتقاده بأن الخليفة شخص غير أبي بكر وهو ما كان يعتقد به عدد من الأصحاب. وإيضاح هذه الحقيقة ذات أهمية في الكشف عن الجانب المخفي من ملابسات قتل مالك بن نويرة ودخول خالد بن الوليد على زوجته أم تميم بنت المنهال.

والحكاية كما ذكرها الطبري وابن الأثير على هذا النحو:

كان خالد بن الوليد يدور في البطاح بحثاً عن المرتدين عن الإسلام وقد أعطاه الخليفة أبو بكر علامة لفرز المسلم عن غير المسلم وهي الأذان والإقامة فإذا سمع صوت الأذان من الحي فعلم إن أهل الحي مسلمين فتوقف عن الغارة عليهم. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع عن عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلف السرية فيهم وفيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذّنوا وأقاموا وصلوا، فما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيئاً وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد منادياً فنادى ادفئوا اسراكم وكانت في لغة كنانة إذا قالوا دثروا الرجل فأدفئوه دفأه قتله وفي لغة غيرهم أدفه فأقتله فظن القوم وهي في لغتهم القتل إنه أراد القتل فقتلوهم(5) ويذكر ابن حجر في الإصابة عن الدلائل برواية ثابت بن قاسم إن خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لإمرأته قتلتني يعني سأقتل من أجلك(6).

وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد معتمراً بعمامة وقد غرز في عمامته أسهماً، فلما دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال ارئاء قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر منه حتى دخل على أبي بكر فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك(7).

وتشير هذه النصوص بصورة واضحة على وقوع حادثة قتل مالك بن نويرة عن عمد وسبق اصرار فقد أراد خالد أن يتخلص من مالك ليخلوا بزوجته أم تميم لما كانت عليه من جمال ورونق. ونحن لا نشك أن قول خالد: (ادفئوا اسراكم) ما هو – الا سيناريو- إما من قبل المؤرخين الذين أرادوا أن يبرءوا ساحة خالد من هذه الجريمة. أو أنها سيناريو من قبل خالد نفسه حيث كان يخطط للإستحواذ على أم تميم، وهذا ما لا يتم إلا بقتل زوجها وبطريقة تبعد عنه أية شبهة، فأطلق تلك العبارة ليمنح نفسه فرصة المناورة وفرصة الدفاع عن نفسه والإدعاء الكاذب بأنه أراد الدفء، بينما وصف الحادثة على لسان المؤرخين تؤكد بأن خالد أراد القتل  وليس الدفء، فهو على دراية بلغة كنانة وما تعنيه كلمة ادفئوا في لغتهم. وكان على علم بأن المؤكل على سجن مالك من كنانة وهو ضرار بن الأزور، ومما يؤيد قصد الجرم في عمل خالد دخوله على امرأة مالك وقول مالك لامرأته بعد أن تم أسره –قتلتني- وكان على يقين بأنه مقتول فقد قرأ في صدر خالد رغبة جامحة في الإقتران بزوجته لما كان عليها من جمال.

أما موقف الخليفة عمر بن الخطاب من خالد بعد وقوع الحادثة والطلب إلى أبي بكر بتنفيذ الحكم الشرعي عليه، على الأقل عزله عن إمارة الجيش، ويفهم من كلام المؤرخين أن دخول خالد على زوجة مالك بدون أن ينقضي عدتها، وقد ذكر اليعقوبي هذه الحقيقة من كلام لعمر بن الخطاب عندما واجه أبا بكر بحقيقة الفعلة التي فعلها خالد قائلاً له إن خالداً قتل رجلاً مسلماً وتزوج امرأته في يومها(8).

ولم يكن الفاصل الزمني بين قتل خالد لمالك وبين وصوله إلى المدينة سوى أيام معدودة وعند وصوله إلى المدينة كان قد تمت هذه الفعلة.

فإذاً هناك عملان ارتكبهما خالد على حد قول الخليفة الذي يتحمل مسؤولية حماية أرواح الناس ومسؤولية تطبيق الشريعة.

لقد تجاهل أبو بكر ما ارتكبه خالد ورفض الإصغاء لنداء عمر معللاً ذلك بقوله تأوّل فأخطأ ولا أشيم سيفاً سلّه الله على المشركين(9) وهو تعليل يرفضه المنطق والعقل والشرع حيث لا يمكن تفسير تلك الرغبة الجنسية العارمة التي دفعت بخالد إلى ارتكاب القتل ومن ثم الاستيلاء علىالمرأة المصونة بالتأويل والاجتهاد.

لقد تركت هذه الحادثة أثراً واسعاً على المجتمع الإسلامي الذي فقد لتوه نبيه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يكد ينقضي على وفاته سوى أشهر قلائل فاصطدم بتلك الحادثة التي حملت أبعاداً هامة هي تعطيل الحكم الشرعي، وانتهاك حرمة أسرة مسلمة وقتل إنسانٍ مسلم.

فقد جاءت هذه الحادثة بمثابة الخرق الصريح لقيم المجتمع، وسلبت من البعض الشعور بالأمن على النفس وعلى العيال، وأوجدت شعوراً باللاثقة نحو السلطة الحاكمة. فعندما ورد متمم بن نويرة أخو مالك على الخليفة أبي بكر ناشده في دمه وفي سبيهم فلم يجبه أبوبكر إلا برد السبي فقط.

2- حادثة زنا المغيرة بن شعبة.

المغيرة بن شعبة شخصية تأريخية لعبت أدواراً عديدة في التاريخ الإسلامي وتسليط الضوء على حياة هذا الرجل يكشف لنا عن واقع المجتمع الإسلامي، وطبيعة الحكم بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد ذكر المؤرخون في طريقة اسلامه أنه غدر برفاق تجارته وسرق منهم أموالهم، ووجد أسلم طريق لتأمين الأموال المسروقة وضمان حياته من الإنتقام هو أن يذهب إلى المدينة المنورة ويعلن إسلامه فيكون في حماية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(10).

وظلت ترافق المغيرة طيلة حياته بعد إسلامه عقدة الدونية، فهذا الشعور مسجل في التأريخ في عدة وقائع.

قدم مرة إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر وهو والي على الكوفة وهي راهبة عمياء، فاستأذن عليها، فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب قالت قولوا له من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال: لا، قالت أفمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت؟ قال لا، قالت فمن أنت؟ قال: أنا المغيرة بن شعبة الثقفي. قالت فما حاجتك؟ قال: جئت خاطباً، قالت لو كنت جئتني لجمال أو مال لأطلبنك ولكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر وإلا فأي خير في اجتماع أعور وعمياء(11).

والتشكك في نسبه متوغل إلى أعماقه مما جعل شخصيته مهزوزة همه البحث عن أي موضوع يستطيع به أن يرفع رأسه بين العرب.

كان يبحث عن أية مفخرة يفتخر بها ليسد بها نقصه في النسب وفي البدن فهو واحد العين. كان يدعي أنه آخر من رأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبره وكل من سمع بهذا الكلام خالجه الشك وبمجرد وصوله إلى المدينة كان يذهب إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) ليسأله عن قصة آخر من رأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

كانوا يأتون إلى علي(عليه السلام) فيقولون له:

يا أبا الحسن جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به.

فكان الإمام يفهم ماذا يريدون وعماذا يبحثون، فكان يسبقهم بالسؤال.

أظن المغيرة يحدّثكم أنه كان أحدث الناس عهداً برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

قالوا أجل عن ذا جئنا نسألك..

وبسرعة البرق قال الإمام: كذب، كان أحدث الناس عهداً برسول الله قُثَمَ بن العباس(12).

ويذكر ابن حجر ان المغيرة أول من قدم الرشوة في الإسلام باعترافه حيث ذكر أنا أول من رشا في الإسلام جئت إلى برقا حاجب عمر وكنت أجالسه فقلت له خذ هذه العمامة فالبسها فإن عندي أختها فكان يانس بي ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب فكنت آتي فأجلس في القائلة فيمر المار فيقول أن للمغيرة عند عمر منزلة إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها أحد.

وربما كانت هنالك غايات أخرى من هذا التظاهر (بالقرب من عمر) بالإضافة إلى سد النقص الكامن في نفسه، إن الشعور المتزايد بالنقص صنع من المغيرة شخصية تآمرية قادرة على حياكة المؤامرات والدسائس.

ولو كان الإيمان قد تغلغل إلى أعماقه لصلحت نفسه وطهر قلبه من أدران العقد النفسية إلا أن إيمانه السطحي والمصلحي لم يكن لينفعه في تغيير شخصيته الضعيفة إلى شخصية قوية بدليل أنه ظلّ يمارس عاداته التي كانت متأصلة عنده في الجاهلية وأهمها الإكثار من الزنا.

والزنا نوع من أنواع التفريغ لمشاعر النقص والدونية، عندما يكون للزاني زوجة فقد ظل المغيرة يمارس الزنا حتى في عهد الإسلام وحتى أيام ولايته في البصرة فقد ضبطه اربعة ممن يعرفونه وهو يتردد إلى بيت أم جميل وهي أمرأة من ثقيف مات زوجها وقد شاهده أربعة وهو يواقعها، وحاول أبو بكرة أحد الشهود أن يمنعه من أداء صلاة الجماعة، لكنه ظلّ لا يبالي بأقوالهم فأرسلوا إلى الخليفة عمر يخبرونه بما حدث فأرسل عمر على المغيرة وعلى الشهود واستطاع وبطريقة مفبركة أن ينقذ المغيرة من الرجم وهو يعلم أنه زانٍ وأقام الحد على الشهود الثلاثة.

وليس سراً أن يكشف المؤرخون أن الخليفة عمر كان متيقناً من وقوع جريمة الزنا فقد ذكر أبو الفرج الاصفهاني أن الخليفة عمر حج بعد تلك الحادثة فوافق الرقطاء بالموسم فرآها وكان المغيرة يومئذ هناك فقال عمر للمغيرة ويحك اتتجاهل عليّ والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتك إلا خفت أن ارمى بحجارة من السماء.

وقد شاع أمر المغيرة وأصبح سُبة بين المسلمين. فقد نال منه حسان بن ثابت بهذه الأبيات بهجوه بها.

لو أن اللوم كـــــــــان عبداً*****قبيح الوجه أعور من ثقـــــيف

تركت الدين والإسلام لهواً*****مع القينات في العمر اللطيف(13)

ولم يقنع أحد بالحكم الذي أصدره عمر في تبرئته.

وكان الإمام علي (عليه السلام) يقول إن ظفرت بالمغيرة لاتبعته الحجارة –أي لأقمت عليه الحد-.

تكشف هذه الحادثة عن عدة حقائق هامة.

1- ضعف الحركة التغييرية في المجتمع بحيث يبقى الأفراد الذين أسلموا على عاداتهم السابقة ويعود أحد أسباب ذلك إلى انشغال الدولة بأمور أخرى وعدم اعتناءها بهذا الأمر الهام.

2- إهمال الأسس التي بموجبها يتم اختيار الولاة، فقد كانت عوامل القرابة والمداهنة والقدرة والحيلة والدهاء هي الأسس التي قامت عليها قاعدة اختيار الولاة إلا ما نزر.

3- ضعف المسؤولية الاجتماعية بحيث تبخر احساس الفرد بالمسؤولية التي تفرضها العلاقات الاجتماعية والعلاقة مع السلطة.

فالذين شهدوا على المغيرة إحساساً منهم بالمسؤولية كان الثمن الذي تلقوه مقابل شهادتهم باهظاً وممن (؟) من أعلى سلطة في الدولة وممن يقع على عاتقه حماية القانون والأحكام الشرعية.

فلو أردنا أن نتصور الحادثة بلا رتوش، لكانت في الخلاصة، إن مجرماً أفلت من العقاب وإن أبرياء عوقبوا بدلاً عنه أنهم شهدوا عليه وهي صورة مؤلمة تتكرر مع الزمن.

ونحن نشك في الدوافع التي قدّمها المؤرخون للخليفة عمر في اعفائه وتبرئته لساحة المغيرة من جريمة وجدوه متلبساً بها، ولعل السبب في ذلك هو ما تشكله هذه القضية من حرج للخليفة باعتباره كان والياً له على البصرة بعد أن رفضه أهل البحرين قبل أن يذهب إلى البصرة.

على أي حال كان الإمام علي (عليه السلام) هو الشاهد الوحيد على هذا التجاوز لحدود الشرعية وقد أعلنها صراحة إن ظفرت بالمغيرة لاتّبعته بالحجارة(14) واكتفى بهذا القدر فهو لم يرد تفجير القضية وإثارة زوبعة ضد الخليفة حفظاً على سلامة الدولة الإسلامية وسمعتها بين الأمم.

 

موقف الإمام في عهد الخليفة عثمان

اشتد الإنحراف في عهد الخليفة عثمان بن عفان الأمر الذي أوجب على الإمام علي (عليه السلام) أن يقف موقفاً أكثر صرامة وأكثر حنكة، ولكنه في جميع مواقفه في عهد الخليفة عثمان الذي استمر اثنا عشر عاماً كان أشد رغبة في الإصلاح ومواجهة الإنحراف بكل الوسائل المتاحة، ويعود أسباب تزايد الإنحراف في عهد الخليفة عثمان إلى العوامل التالية.

1- استلم الخليفة عثمان بن عفان مسؤولية الخلافة وعمره يوذاك سبعون عاماً وكانت شخصيته تميل إلى الدعة واللين فهو غنيّ من الأغنياء قبل الإسلام وظلّ على غناه في الإسلام أيضاً، والأغنياء مهما كانوا على تقوى فهم لا يقدرون أن يشعروا بما يشعره المحروم، فكانت دائرة المحرومين تتسع مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وإذا أضيف للحرمان الإقتصادي ظلم الولاة فقد تكامل عاملان مهمان من عوامل التمرد والثورة.

وبسبب كبر سنه ووداعته فقد ترك الخليفة أمور البلاد إلى أقربائه الذين يطمئن إليهم ويثق بولائهم له.

وقدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهما من بني أمية. والحكم هو طريد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي غربه عن المدينة ونفاه عن جوره وكان عماله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي المعيط على الكوفة، وهو ممن أخبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من أهل النار وعبد الله بن أبي سرح على مصر ومعاوية بن أبي سفيان على الشام وعبد الله بن عامر على البصرة وصرف عن الكوفة الوليد بن عقبة وولاّها سعيد بن العاص(15).

وكان الخليفة ضعيفاً أمام مروان بن الحكم يفعل ما يأمره به فقد وصف الطبري كيف استطاع الإمام علي (عليه السلام) أن يُهدأ الأوضاع وأن يرجع الثائرين إلى بلدانهم وأخذ من عثمان شرطاً أن لا يطيع مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية فأجابه إلى ذلك(16).

لكن بمجرد أن هدأت الأوضاع عاد مروان بن الحكم واقترح على الخليفة أن يخرج ويتكلم بما ينال به من الثوار ففعل الخليفة فانتهره عمرو بن العاص فرجع علي (عليه السلام) إلى عثمان معضباً حتى دخل عليه فقال أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يسار به والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه.. الخ.

فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت أتكلم أو أسكت؟ فقال تكلمي، فقالت: قد سمعت قول علي لك وإنه ليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء، قال فما أصنع؟ قالت تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبك من قبلك فإنك متى أطعت مروان قتلك، وفي كل مرة يحاول الصحابة أن يصلحوا الأمر يأتي مروان إلى عثمان فيغر به أن يفعل ما يُثير الوضع ضده من جديد.

ولو قدّر للخليفة أن يقف الموقف الصارم من أقربائه من بني أمية ويحاسبه على كل معصية لما كان يحدث ما حدث.

 

الهوامش:

1- الطبري 2/468 والكامل لابن الأثير 2/344.

2- الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/109

3- الكامل في التاريخ ابن الأثير 3/85.

4- الإصابة لابن حجر 6/36.

5- تاريخ الطبري 2/502.

6- الاصابة 6/37.

7- تاريخ الطبري 2/504.

8- تاريخ اليعقوبي 2/132.

9- الاصابة 6/37.

10- انظر الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني في إسلامه ص81 ج16.

11- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 8/ 305.

12- ذكرها الطبري في تأريخه 4/69 –72 والأغاني 16/79 –101.

13- ذكرت الأبيات في الأغاني بشكل آخر فراجع ص100 ج16.

14- أبو الفرج الاصفهاني الأغاني 16/ 100.

15- المسعودي مروج الذهب 2/ 343- 344.

16- انظر الطبري 4/ 358.